الفصل الخامس
وفي هذا العام عجز أبي عن دفع القسط الأخير من مصاريف الدراسة فطردوني، ولم يكن في الوجود من هو أسعد مني عندما قذف بي عم محمود إلى خارج أسوار المدرسة، وتمنيت على الله أن يظل أبي عاجزًا عن دفع المصاريف، أو يصيبني الله بكارثة تمنعني من دخول المدرسة. ولكن أبي لسوء الحظ دفع المصاريف بعد أيام. ولم يصبني الله بكارثة فعدت حزينًا كأنني أسير عَكَمَه الأعداء بعد أن انطلق هاربًا إلى دنيا الحرية.
***
آه من الولد الشقي! يموت ولا يتعلم، ويدخل اللومان ولا يدخل المدرسة، ويتعامل مع السجان ولا يتعامل مع الزمراني أفندي. ليس في العلوم كلها ما يسر إلا القصص والشعر والتاريخ. كل القصص. أي نعم، ولكن ليس كل الشعر ولا كل التاريخ! كل شعر المدارس سيئ ورهيب يحرضك على الانتحار، وتاريخ الفراعنة مكتوب بطريقة تدعوك وترجوك ألا تفهمه، حتى الأسامي منفرة ومؤذية، مفتاح ومنفتاح وأمنحتب … لم يبق إذن إلا القصص.
والقصص تنقلني إلى جو بديع، جو أشبه بالأحلام والأنغام! بيتنا كئيب جدرانه كالحة، منظره مش ولا بد … وحارتنا مظلمة وموحلة وضيقة كأنها شق الثعبان، وأكلُنا سيئ، ولبسنا أسوأ، وكل شيء وأي شيء حولي ليس على ما يرام.
ونهشتُ القصص نهشًا، وقرقشتُ أوراقها قرقشة، واستحلبت أحداثها في بهجة وفي لذة، ولكني لم أشعر أبدًا نحوها بالتخمة.
أعظم الروايات هي رواية أطفال الغابة الجديدة … رواية مكتوبة باللغة الإنجليزية، أول سطر فيها يقول: «الشعب الإنجليزي هبَّ في عام كذا فثار وحارب الملك!» … ولكن الرواية تقف مع الملك بعد ذلك وتؤيده، وتقف إلى جوار أنصاره وتعطف عليهم عطفًا بالغًا. وكانت القصة جميلة ورقيقة ومكتوبة برشاقة. قصة أبناء أحد فرسان الملك … قُتل أبوهم في المعركة … فأخذهم العم جاكوب العجوز خدام الفارس، وفر بهم إلى الغابة الجديدة، وفي الغابة الجديدة أطيار وفواكه، اللهم صلِّ على أكرم نبي.
وخارج الغابة الحرب تدور بين أنصار الملك والشعب، وتنتهي طبعًا بانتصار الملك وعودة أطفال الغابة إلى قصرهم في لندن … ولكن جاكوب العجوز لا يعود معهم؛ لقد مات فرحًا، هزه نبأ انتصار الملك على الشعب.
وقرأت القصة عشر مرات وفي كل الحصص … وأهملت الحساب، والرسم، والجغرافيا … وأسقطتهم من الاعتبار … لم يعد في حياتي إلا أطفال الغابة الجديدة، وعم جاكوب، وانتصار الملك على الشعب.
وكانت أمي تتردد كثيرًا على المكان الذي أستذكر فيه؛ لتقوم بعمليات تفتيش مفاجئة … وكانت إذا ضبطتني بلا مذاكرة سحبت شبشبها، وانهالت به على رأسي.
ولكن منذ أن أحببت الغابة الجديدة وأطفالها استقر شبشب أمي في قدميها فلم تعد في حاجة إلى سحبه على رأسي الأقرع الصغير.
فكلما هجمت على وكري في حملة تفتيش سريعة ضبطتني وأنا أقرأ في الرواية، وكانت عندئذ تتوقف عند الباب، وتقرأ الفاتحة، وتهتف باسم الله الذي هداني إلى المذاكرة، وحماني من عيون الناس.
ولم تنقذني عشرات القصص التي قرأتها بعد ذلك من براثن الغابة وأطفالها الجديدة، فظلَّت تلح على نفسي حتى تمنيت على الله أن أعيش في غابة … ولقد تحققت أمنيتي بعد ذلك بشهور … فعلى مقربة من بيتنا كانت تترامى جنينة كثيفة الشجر اسمها جنينة عبد البر، وكانت المياه تغمرها طول العام والناموس يغطيها كأنه مظلة تحميها من شمس الصيف، وأمطار الشتاء.
وعندما دخلت الحديقة تخيلت نفسي من أطفال الغابة الجديدة، وبين شجرتين عجوزتين من شجر الجوافة، صنعت لنفسي كوخًا كنت أقضي فيه أسعد أوقاتي على الإطلاق، واندمجت في الدور أكثر فكنت أقطع الوقت في الحديث مع عم جاكوب، كنت أطلب منه أحيانًا أن أرى بابًا تمامًا كما قرأت في قصة الغابة الجديدة، وكنت أحيانًا أرتمي على الحشيش الأخضر داخل الكوخ أبكي وأتشنج بكاء مزيفًا، ونشيجًا مصنوعًا على طريقة ممثلي السينما، وأظل أدعك في عيني حتى تحمر تمامًا، وتصبح في لون الدم.
وذات يوم عبقت الجنينة برائحة الجوافة … فقد طرحت الأشجار فجأة، وتدلت الثمار من الفروع، واختفى الناموس قليلًا وانزاح الماء مخلفًا طينًا لزجًا تغوص فيه الأقدام.
وكانت ثمار الجوافة مغرية فأقدمت على عمل لم أكن قد قرأته في الرواية، تشعبطت على شجرة وجمعت أكثر من أقَّة، ونزلت إلى الكوخ ومسحت الجوافة بجلبابي، وجلست ألتهم حباتها في لذة، ولا لذة الذي يسكر ويسكي.
وصنعت الجوافة الشيء الذي لم تستطع الروايات أن تصنعه، أنستني أطفال الغابة الجديدة وعم جاكوب، وتبهدلت الرواية بين أصابعي، واصفرَّت أوراقها وتمزقت، ثم قذفت بها بعد ذلك إلى الطين ودُست عليها بالأقدام، واستخدمت بعض صفحاتها في تنظيف حبات الجوافة، وتحولت أحلامي في الغابة الجديدة إلى غابة الجوافة … ونسيت ثورة الشعب الإنجليزي على الملك، فليس في جنينة عبد البر ثورات، ولكن الثورة لم تلبث أن هبت على الجنينة فحرمتني من الجنة، وطردتني إلى خارجها عريانًا بلبوصًا بلا جلباب.
ذلك أنني في عملية شعبطة على الشجرة ذات يوم أصابتني جروح، ونزفت مني دماء، وتكسرت مني أسنان، فاكتفيت بعد ذلك بقذف الشجرة بالطوب، وكان للطوب دوي ولا دوي القنابل، فجذب نحو كوخي عشرات الحراس وعشرات الصيَّاع، وعكموني وربطوني على شجرة، وهات يا ضرب أزلي حتى كدت أموت.
وعندما حل المساء قذفوا بي خارج الجنينة، وقد استولوا على جلبابي، وقبقابي، وكنز الجوافة الذي كنت قد حصلت عليه.
ولم أدخل بعد ذلك إلى جنينة عبد البر أبدًا، وعدت إلى المدرسة حزينًا مهمومًا أتمنى لو تأتي شوطة فتقتل الناظر ومعه جميع المدرسين، أو تَنْهَد المدرسة علينا جميعًا فتقتلهم وتقتلنا، وكان الله يحب المحسنين! وكنت إذا سمعت وأنا في المدرسة نداء بياع خيار يطوف حول المدرسة وهو يغني تمنيت على الله أن يخلصني من عذاب المدرسة، وأصبح بياع خيار عظيمًا مثل الرجل الذي يغني طليقًا في الخارج. وعندما كان الفراش يعكمني من جاكتتي ويسحبني إلى حجرة الناظر كنت أتمنى لحظتها لو كنت فراشًا مثل عم محمود، أعكم التلاميذ مثله، وأسحبهم إلى حجرة الناظر!
ولقد كنت أنظر بحسد وحقد شديد إلى صبي بياع الكشري عندما يرن جرس المدرسة كل صباح يدعونا للدخول، وكنت أعجب بحكمة الله التي جعلت مني تلميذًا، ومن هذا الصبي بياع كشري، ولا أدري لماذا لم أحلم أبدًا بأن أكون مدرسًا، أو ناظرًا، أو حتى صاحب دكان كشري فخيم. وكانت أحلامي متواضعة، فراش، بياع خضار، صبي كشري، حتى الأحلام حقيرة وصغيرة كأنها هي الأخرى حظوظ وُزِّعت بين الناس.
وفي هذا العام عجز أبي عن دفع القسط الأخير من مصاريف المدرسة فطردوني، ولم يكن في الوجود من هو أسعد مني عندما قذف بي عم محمود إلى خارج أسوار المدرسة، وتمنيت على الله أن يظل أبي عاجزًا عن دفع المصاريف، أو يصيبني بكارثة تمنعني من دخول المدرسة، ولكن أبي لسوء الحظ دفع المصاريف بعد أيام، ولم يصبني الله بكارثة فعدت حزينًا كأنني أسير عَكَمه الأعداء بعد أن انطلق هاربًا إلى دنيا الحرية.
وعندما أوشك العام على الانتهاء كانت الصلة قد توطدت بيني وبين بائع السمين الذي يقف وسط الميدان على مرمى حجر من المدرسة! وكما يحدث الحب في روايات السينما من أول نظرة، حدث الحب بيني وبين بائع السمين من أول أكلة، مددت يدي للرجل بائع السمين بقرش صاغ واحد، فمد يده نحوي برغيف كامل فيه رطل لحمة على الأقل.
ولكن هذا الشيء الذي اسمه السمين لم يكن لحمة. له طعم اللحمة ورائحة اللحمة ولكنه ليس لحمة على الإطلاق، مجرد شغت وبلاوي كقطعة الملابس المهلهلة. والفقراء منكم أيها القراء سيعرفون حتمًا ما هو السمين. ولكن القراء الآخرين لا بد من شرح الأمر لهم حتى يكونوا على علم به. فأنا آكِلُ لحوم ممتاز، كنت أتمنى منذ ثلاثين عامًا أن أعثر على كنز فيه كميات هائلة من اللحمة المحمرة، وكنت طماعًا فأتوسل إلى الله أن يجعل إلى جانب اللحم برميل طرشي بلدي معتبرًا. ولقد استجاب الله دعائي فعثرت على بائع السمين، وأصبح مصروفي كله مخصصًا لبائع السمين، ولما لم يستطع مصروفي أن يسد احتياجاتي من السمين، تقدمت بكتبي حتى نفدت فعقدت معاهدة مع تاجر السمين شبيهة بتلك المعاهدة التي عقدتها مع عم شحاتة بائع الكشري. ولكن هذا السمين اللعين أصابني بمرض قاتل في مصاريني لازمني حتى الآن … ولو أنني داومت على السمين شهرًا آخر فمن يدري؟ ربما كنت الآن طريح القبر في قرافة الغفير! فقد حدث حادث في بداية الصيف جعلني أفقد صداقة عم رضوان بائع السمين وإلى الآن.
طردني الناظر من المدرسة، وأمرني بعدم العودة إلا ومعي ولي الأمر.
وخفت أن أعود وحدي فيضربني أمام التلامذة ويجعل فضيحتي للجو. وعندما شكوت همي لعم رضوان تطوع بالذهاب معي إلى حضرة الناظر وبالقيام بدور ولي الأمر. وفعلًا سحبني عم رضوان في صباح اليوم التالي ودخلنا معًا إلى حجرة الناظر. ونظر حضرة الناظر إلى عم رضوان من فوق لتحت، ومن تحت لفوق وراح يتفرس فيه كأنه نملة يسعى على حرف مكتبه، وقال الناظر بعد عملية استعراض لهيئته استغرقت وقتًا طويلًا: أنت أبوه؟
ولم يرد عم رضوان على السؤال، ولكنه راح يتوسل لحضرة الناظر، ويطلب من الله أن يبقيه، وأن يمد في أجله وأن يجعله من السعداء المنصورين، وراح يكرر فيها وينغمها وكأنه شحات يتسول على الأبواب، وليس ولي أمر تلميذ يدفع له كل عام ستة جنيهات تساوي الآن ستين جنيهًا وربما تزيد!
وأغرى ضعف عم رضوان حضرة الناظر؛ فشتمه، وسبه، وأهانه إهانة بالغة، ثم طلب منه في عنجهية بالغة أن يلطعني قلمًا على قفاي، وعلى الفور امتدت كف عم رضوان الغليظة فلزقتني لزقًا شديدًا، وألقت بي على الأرض. وكان اللزق شديدًا ورهيبًا فنسيت نفسي، وقمت أسب الدين والدنيا، وأضرب عم رضوان بالشلوت وبالأقلام. واكتشف الناظر اللعبة على الفور، فسحبني مع عم رضوان إلى الحوش وجمع التلاميذ، ثم طرحني أرضًا، ورزعني علقة كدت أموت فيها إلى رحمة الله.
ولكن خلال العلقة الرهيبة ظللت أضحك، وأضحك حتى كدت أموت فعلًا من الضحك، ففي نفس اللحظة التي كانت العصا تمزق فيها قدمي، كان عم رضوان مطروحًا على الأرض هو الآخر ورجله إلى أعلى وصوته المبحوح يرن في حوش المدرسة وكأنه عروسة فلاحة في ليلة زفاف أسود من الكحل!