الفصل السادس
ثم تطورت المسائل بعد ذلك، فأصبحت الحرب التي كنا نسمع بها ونسمع عنها حقيقة واقعة، فقد انتشر عمال البلدية ذات صباح في الشوارع ودهنوا مصابيح النور بلون أزرق كالح، وأصبحت شوارع الجيزة مظلمة سوداء أشد سوادًا من قلب الكافر!
***
أحببت الحرَّ وعشقته، وأول بلد تمنيت على الله أن أزورها هي الهند، أحببت الهند من كتب الجغرافيا، أحببت غاباتها، وأنهارها، وأبقارها المقدسة. وكرهت الشتاء كره العمى، وكرهت معه البلاد الباردة، كان الشتاء كارثة عظمى للولد الشقي، النهار قصير لا يسمح بلعب الكورة، والليل طويل بارد ومظلم وممطر، وحارتنا في الشتا تتحول إلى بركة، وفي هذه البركة كنت أغمس سنارتي طول النهار وكأنني أصطاد، وكنت أشد السنارة أحيانًا وأقوم بنفس حركات الصياد وهو يتناول السمكة، وكنت أحيانًا أشعل نارًا في حزمة ورق، وأشوي عليها سمكًا وهميًّا، ثم أجلس بعد ذلك ألتهم السمك الذي لم يكن له وجود قط برغيف عيش مفقع، ثم أحمد الله، وأقبل يدي ظهرًا وبطنًا وكأنني صياد حقيقي غلبان، وكفران يعيش على شاطئ النهر.
وكم أحببت الجغرافيا وهي تتحدث عن صفات الناس، وعن الغابات والوديان والأنهار، ولكن كرهت الجغرافيا حين تتحدث عن الوديان وكم هي عميقة، وعن الهضاب وكيف هي مرتفعة، عن إقليم التندورا وغلاته، وإقليم السافانا وأنواع الحشائش التي تنبت فيه. وكنت أتحسر على هذا الوقت الضائع الذي نقضيه في حفظ أشياء لن نكون في حاجة إليها بعد ذلك يومًا ما. وكان مدرس الجغرافيا سمينًا كالعجل، أصلع كأن رأسه شطفت بمحراث، أعمش لا يكاد يرى أبعد من خطوتين، وكان شديد الاهتمام بالتفاصيل، شديد الإهمال للموضوع ذاته، وكان كريهًا لم يعرف امرأة قط ولم تعرفه امرأة على الإطلاق؛ لذلك ظل أعزب لم يتزوج، وحين تقدم به العمر لم يكن يبدي اهتمامًا على أي نحو بمظهره كرجل، ولكنه كان شديد الحرص، يدخن السيجارة على مرتين، ويسعى على قدميه من بيته إلى المدرسة، وكان كل اهتماماته في الحياة تتركز في بيت يملكه في مصر القديمة، ويسعى بجد شديد؛ ليقيم فوق طوابقه الثلاثة طابقًا رابعًا جديدًا.
وذات حصة ضبطني أضحك ضحكة عميقة، فأقسم أنني حشاش وطردني شر طردة، وخرجت من المدرسة مطرودًا إلى أرض ماتوسيان، وكانت أرض ماتوسيان قطعة أرض خلاء إلى الجانب الأيسر من نفق الهرم، وكان يتخللها مستنقعات وتنمو بها أعشاب طويلة كأنها إقليم السافانا، وتسعى في جنباتها حشرات وزواحف من كل لون. ورغم ذلك استطاع بعض الصبية أن يقيموا في وسطها ملعبًا للكرة، وخططوا الملعب بالجير، ونصبوا أهدافًا من خشب الصناديق، وسرعان ما تكونت فِرق، ولمع منها لعيبة طافت شهرتهم بالجيزة كلها، وأصبحت أرض ماتوسيان أشهر من الاستاد هذه الأيام، وفي أي وقت بالليل أو بالنهار تذهب فيه إلى أرض ماتوسيان ستجد حتمًا من تلاعبه الكرة، قد لا تكون هناك كرة ولكنك ستجد على الدوام لعيبة في الانتظار، وفي الإمكان أن تلعب معهم بطوبة، أو كوز صفيح، أو برتقالة قديمة ومعفنة، ولكنك ستلعب على أية حال.
وكان رزة من أبرز الذين اشتهروا في أرض ماتوسيان، كان عاملًا في شركة ماتوسيان، ثم فصلوه لسبب لا أدريه، فخرج من الشركة إلى أرض ماتوسيان، وخلع ملابسه، وكون فرقة الوحوش المفترسة، وراح يلاعب بها الفرق الأخرى وعلى رهان، ولم يكن الرهان يزيد عن دستة كازوزة، أو بشلن برتقال، وأحيانًا علبة سجاير.
وبرع رزة في اللعب فراح يقدم عرضًا منفردًا، فيلعب بالكرة خمسين مرة بقدمه دون أن تسقط على الأرض، ثم تطورت المسألة أكثر فراح يلعب بطوبة وعلى رهان، ولم يكن الرهان يزيد على سيجارة، وأحيانًا قرش صاغ، وفي سبيل السيجارة كان رزة ينطط الطوبة خمسين مرة على قدمه العارية حتى تدمى، وحين كان يندمج في اللعبة المهببة كان يبدو مطهومًا، ومشغولًا وكأنه طيار.
ولمع في أرض ماتوسيان رجل آخر اسمه غريب، وكان غريب في الخمسين من عمره أشيب الشعر يرتدي جلبابًا وبالطو أصفر قديمًا، وفي قدميه صندل مقطوع على الدوام. وكان غريب حارسًا على مزلقان، ثم نام ففات القطار على عربة كارو، ومات العربجي والحمار، ودخل غريب السجن، ومن السجن خرج إلى الشارع، ومن الشارع إلى أرض ماتوسيان! ووقف في أرض ماتوسيان يقطع وقته الطويل الفارغ ويتفرج، فلم يكن سنه يسمح له باللعب، ولم يكن مركزه كغفير مزلقان سابق يسمح له حتى بالحديث مع العيال الذين يلعبون في أرض ماتوسيان. ولكن عم غريب اشترك بعد ذلك في اللعب رغم أنفه؛ لأن الكرة في أرض ماتوسيان كانت كالقمار بالفلوس؛ ولأنها بالفلوس فقد كانت المعارك تنشب فور انتهاء المباراة، ويتحول اللعيبة إلى بوكسيرة ومصارعين، وتتحول أرض ماتوسيان إلى ساحة قتال، وتتحطم أخشاب المرمى على رءوس الكباتن، وتهدأ الحركة أيامًا في أرض ماتوسيان؛ لأن الإسعاف نقلت بعض اللعيبة وتولى البوليس نقل الباقين إلى التخشيبة!
ولم تكن خناقات أرض ماتوسيان تقوم إلا لسبب واحد هو أن الحكم كان غشاشًا في نظر الفريق المغلوب، ثم ولأن المعارك أصبحت كالرز، ولأن المصابين والمسجونين أصبحوا على قفا من يشيل، فقد رأت الفرق المتنافسة أن تعقد اتفاقًا وديًّا، خلاصته أن يقوم عم غريب بمهمة التحكيم، وهكذا نزل عم غريب إلى اللعب وفي يده صفارة، وكان يتقاضى لقاء ذلك من الفريق الفائر قرشًا إذا كان اللعب على فلوس، أو سيجارتين إذا كان اللعب على سجاير، واندمج عم غريب في مهنته الغريبة اندماجًا تامًّا، يبدو شديد الحزم أثناء اللعب ويبدو بعد اللعب منطويًا على نفسه، يتكلم مع اللعيبة بحساب، ويستخدم الإشارة في أغلب الأحيان بدل الكلام. وكان عم غريب يرفض التحكيم في مباراة على غير رهان، فإذا توسلوا إليه، وقف على خط التماس ومعه الصفارة يحكم بلا مبالاة!
وعندما ذهبت إلى أرض ماتوسيان كنت أحسن حارس مرمى في الجيزة كلها؛ لذلك خطَبت الفرق كلها ودي، ثم انضممت في النهاية إلى فريق الأسهم النارية، وكانت تنشب بيننا معارك رهيبة في الكورة، وفي الخناق مع فريق البحر الأعظم، فقد كان في فريق البحر الأعظم ولد شيطان يلعب الكرة كما يلعب الحاوي بالبيضة، ولد شيطان أصبح فيما بعد شهيرًا ولاعبًا دوليًّا، ثم اعتزل الكرة وهو لا يزال في شرخ الشباب، الولد الساحر إياه كان اسمه فؤاد صدقي، ولا يزال! ثمة فريق آخر كانت الحرب بيننا وبينه سجالًا، فريق نسيت اسمه الآن وكان يضم صفوة أبناء الذوات في الجيزة، وفي الفريق ولد سفروت، طويل نحيف يلعب الكرة برشاقة الموسيقار، ولقد أصبح هو الآخر شهيرًا ولاعبًا دوليًّا، ثم اعتزل بعد ذلك وهو لم يزل شابًّا في عمر الوردة، وتولى الإشراف على الكرة في النادي الأهلي، الولد السفروت إياه كان اسمه محب يوسف ولا يزال! وكان فريقنا يضم عددًا من أمهر اللعيبة وعددًا آخر من الضبِّيشة يلعبون الكرة بطريقة حلَّق يا جدع أنت وهو يسترك. من هؤلاء المهرة غزالي، وعبد المنعم، وسعد كرنك، وسيد بكر شقيق على بكر حارس المرمى الشهير. أما حضرات الضبيشة فقد كان على رأسهم ولد طويل عريض يرتدي فانلة تشبه فانلة عسكري المطافي، وبنطلونًا أصفر قصيرًا، وجزمة حدَّادي تكفي لكسر أي قصبة رِجْل تنهال عليها ولو من بعيد … ولمع هذا الولد واشتهر بعد ذلك، ليس في الكورة طبعًا ولكن في الرسم، الولد إياه اسمه أحمد، واشتهر بعد ذلك في عالم الرسم باسم آخر، طوغان!
وكان طوغان مصيبة حدفها الله على حتتنا وعلى فريق الأسهم النارية … فقد كان أبوه ضابط بوليس كبيرًا، وَفَد على الجيزة ذات يوم من عام ١٩٣٨م وسكن على رأس حارتنا وفي بيت واحد مع عبد المنعم، وكان قد طاف بعدة مدن شمالًا وجنوبًا مع والده قبل أن يستقر في الجيزة … وكان قد رأى أشياء لم نرها، وعرف أشياء لم نعرفها، ومارس الحياة، ولكن كابن ضابط بوليس قليل الاختلاط، شديد الزهو ساذجًا على نحو ما … وسرعان ما توثقت الصلة بيننا وبينه … وأصبح طوغان باك لفريق الأسهم النارية … مهمته الحقيقية ليست شوط الكرة، ولكن شوط الأقدام … ولأنه طويل فقد كان يشوط الرءوس، وكانت كل الفرق تشترط علينا أن نخلعه من الفريق إذا أردنا أن نلاعبها … وكنا نزداد تمسكًا بطوغان وكأنه بوشكاش العصر والأوان.
وفي هذا العام نجحنا جميعًا إلا عبد المنعم، وبدلًا من أن يكافئني الشيخ مرسي مدرس العربي، وهو غير الشيخ الطاهر، ضربني علقة ساخنة في نهاية العام، والسبب: الجوافة! … فقد جاء سؤال في اللغة العربية يقول: ما هي أحب الفواكه إليك؟
وبصراحة وبوضوح، وبدون نفاق، وبدون خجل أحببت: الجوافة.
ولكن الشيخ مرسي المعتوه شطب على الجوافة، وكتب بدلًا منها التفاح … واقتبس مني ثلاث درجات وضربني علقة ساخنة؛ لأنني قلت: الجوافة، ولم أكن أنا حتى هذه اللحظة قد ذقت التفاح إلا مرة أو مرتين، وربما كان الشيخ مرسي مثلي تمامًا، ولكن مرسي الذي كان هجر زي المشايخ، وارتدى البدلة والقميص الإفرنجي والكرافتة والجزمة ذات اللونين، والذي كان ينتفض غضبًا كلما ناداه أحدنا بلقب شيخ؛ رأى أن ذكر كلمة جوافة عيب وخطأ لا يغتفر في ورقة الامتحان.
وعندما جاء عام ١٩٣٩م كان يأتي لزيارتنا في منزلنا رجل عجوز طيب للغاية مُحالٌ على المعاش منذ عام ١٩٢٩م، ولم يكن له عمل في الحياة إلا النوم بعد صلاة العشاء، والنهوض في الثالثة بعد منتصف الليل، فيتوضأ ويخطف رجله إلى مسجد صغير فوق نفق الهرم اسمه مسجد سيدي نصر الدين … وفي هذا المسجد كان يقضي وقته كله يصلي جميع الفروض في أوقاتها … فإذا خرج من المسجد فإلى منزلنا حيث يجلس صامتًا أغلب الوقت، يحتسي فنجان القهوة على مهل، ويلعب بأصابعه النحيلة المرتعشة في حبات مسبحته الطويلة.
وذات مرة كان عم الشيخ محمد في زيارتنا عندما أعلن في حماس شديد أن الحرب قد نشبت فجأة، وسمعت — لأول مرة — أسماء هتلر، وموسوليني … وكان شديد الحماس لهتلر، وقال وهو يهز رأسه في ثقة بالغة: إن هتلر اسمه الحقيقي الحاج محمد، وإنه زار بيت رسول الله أكثر من مرة، وإنه يخشى أن يعلن إسلامه في الوقت الحاضر. وإنه سيُسْفر عن موقفه في الوقت المناسب بعد أن يحقق انتصاره الحاسم الساحق على الإنجليز … ولم تكن الحرب لها وجود في مصر وقتئذ، ولكن الحرب كانت تدور على لسان عم الشيخ محمد … وكان يتكلم عنها بشغف ولذة … وكان يتتبع أنباءها باهتمام زائد، ثم فجأة امتد أثر الحرب إلى مصر … فقد دخلَتِ الجيزة ذات صباح سيارة تابعة للجيش المصري واقتحمت جنينة عبد البر، وراحت تزيل أشجار الجوافة بقسوة … ثم حفرت الأرض إلى عمق كبير، وشيدت جدرانًا، وعلِمْنا بعد ذلك أنها أنشأت مخبأ لحماية الناس من أخطار الغارات الجوية، ولم تكن هناك غارات جوية، ولكن المخبأ كان مفيدًا على أية حال، فقد اتخذنا من المخبأ منتدى للجلوس، والدردشة، وحكاية القصص والروايات … وعلى هذا المخبأ تعلمنا تدخين السجاير … وكان أستاذنا الأول في هذه الميدان هو طوغان، كان يحصل كل يوم على سيجارة أو سيجارتين، ثم يهرع إلى المخبأ في ساعة العصاري فيشعلها ويقدمها لنا … فيشفط كل منا نفَسًا عميقًا ويناولها للآخر، وكنا إذا انتهينا من التدخين أخرج طوغان من جيبة طباشيرة وراح يرسم على جدران المخبأ عساكر إنجليز تتحرك … وعساكر ألمان تتقدم وعساكر تموت … وعساكر تزحف، ولكن كلهم كانوا عساكر والسلام … وتطورت المسألة مع طوغان أكثر، فاشترى غطاء رأس لنفسه شبيهًا بغطاء الرأس الذي يرتديه عساكر الجيش الإنجليزي، وسرعان ما قلدنا طوغان فأصبح لكل منا غطاء رأس من نفس النوع … ولكن المسائل تطورت كلها … فأصبحت الحرب التي كنا نسمع بها، ونسمع عنها حقيقة واقعة، فقد انتشر عمال البلدية ذات صباح في الشوارع، ودهنوا مصابيح النور بلون أزرق كالح، وأصبحت شوارع الجيزة مظلمة سوداء … أشد سوادًا من قلب الكافر!