الفصل الثامن

***

كان الجارحي هو أول مَن عرفناه مِن الرجال، وكان نموذجًا للريفي الطيب الساذج الخجول. كان يحن إلى أيامه في القرية، وكان يحكي كثيرًا عن ليالي الهنا القصيرة، التي شهدها هناك.

وأحيانًا كان يدندن بصوت خفيض لحنًا غاية في الحزن، غاية في الشجن: ع الزُّراعية، أنا نفسي أقابل حبيبي، وكانت كلمة الزراعية على لسانه دائمًا، يا سلام يا عيال ع المشي عَ الزراعية ساعة العصاري، تعرفوا الزراعية دلوقت، ولو أكلة فسيخ ع الزراعية في القمراية. كان يتكلم عن الزراعية بوجد وشغف وكأنه يتحدث عن أجمل مكان في الأرض! ورغم حلاوة المدينة وجمالها فإنها لم ترقه كثيرًا.

وحياة سيدنا النبي دي بلد جاحدة إللي يموت فيها ما يلاقي إللي يشيلوا، دي العالم هنا يابا ما يعرفوش بعض، طب دا أجدع تخين تايه هنا في البلد دي، أحمد زي الحاج أحمد!

وكان الجارحي إذا صادف بعض الفلاحين في المغرب يخترقون شوارع الجيزة مع قطيع من الجاموس، يقف على الرصيف وقد بدأ الأسى على وجهه، وراح ينظر إلى الفلاحين وقطيع الجاموس نظرات حادة، ثم يستنشق ملء رئتيه هواء يعبق برائحة الجاموس ورائحة روثه، وكان يتنهد ارتياحًا بعد ذلك، ويقول في أسف عميق: يا سلام يا جدعان، زي ما كون في بلدنا!

ولكن مسلك الجارحي هذا لم يدم طويلًا فسرعان ما أكلته المدينة وبلعته في أحشائها، ولقد تسللت المدينة إلى قلب الجارحي عن طريق العيش السخن والطعمية، كان يحب الطعمية حب عاشق ولهان، وكان العيش السخن يذكره بأمه التي ماتت منذ زمن بعيد! والتي من بعدها لم يقدر له أن يذوق العيش السخن أبدًا.

وعندما ذهب الجارحي إلى القهوة أول مرة كاد يجن، فلم يكن في قريته قهاوي، ولم يكن يتصور أن في إمكان الإنسان أن يجلس في مكان ويطلب أي شيء ثم يجاب طلبه على الفور، وفي القهوة تعلم الجارحي لعب الكوتشينة، وعندما خسر نص فرنك كان معه أول مرة، قضى الليل بطوله ينفخ من شدة الغيظ، ومن النجمة كان في القهوة مرة أخرى يحاول بما بقي من قروش أن يعوض خسارة الأمس!

وظل الجارحي يغوص شيئًا فشيئًا في أعماق المدينة حتى وصل إلى الوحل، خلع الجارحي في النهاية ملابسه الرسمية وخلع معها ما كان يؤمن به من قيم، وارتدى الجلابية السكروتة، والجزمة الكاوتش. ولمع فمه بأسنان ذهبية، وتحول الجارحي إلى قوَّاد كانت له شهرة مدوية في نهاية الحرب، وعندما انتهت الحرب واختفى الإنجليز من الجيزة، لم يفكر الجارحي لحظة في العودة إلى القرية، ولما سرحوه من الجيش المرابط ظل في شوارع الجيزة يتسول أحيانًا ويشتغل أحيانًا، ولكنه لم يعد أبدًا إلى مسقط رأسه في الصعيد … وكان عَلِي أبو مركب هو الرجل الثاني في حياة شلتنا، وكان أبو مركب على عكس الجارحي تمامًا، كان ابن بلد حقيقيًّا، جعجاعًا يتظاهر بالفهلوة، ويحكي قصصًا خرافية عن مدى فهلوته وعينيه المفتوحة ولا بوابة المتولي، وكان طويلًا ونحيفًا ووسيمًا على نحو ما. وكان يشتغل بوابًا لبيت عبد المنعم رغم عدم احتياج البيت إلى بواب. وكان يخلع جلبابه أحيانًا وينزل معنا إلى الشارع يلعب الكورة بالفانلة واللباس، وكان له صوت حسن، فإذا انفرد بنا أحيانًا جلس على التراب وتربع وراح يقرأ آية واحدة كان يحفظها من القرآن.

وكان دائمًا يردد بمناسبة وبلا مناسبة: بقى لو كنت دخلت الأزهر مش كان زماني بقيت ولا الشيخ رفعت، وكانت هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها عن الشيخ رفعت. وكان يقضي أيامًا طويلة يحكي لنا فيها قصصًا فاجرة عن نساء التقى بهن، وعن امرأة طويلة عريضة لها شعر مسبسب كعروس البحر، بيضاء كالقشطة الصابحة، مربربة كالرغيف القمح، وكان يحكي عن أصناف شتى من النساء، كلهن عشقوه وأحبوه وأنفقوا عليه أموالًا طائلة، وكان عندما ينجلي في الرواية يهمس لنا وكأنه يبوح لنا بسر خطير: عارفين أنا باشتغل بواب ليه؟ مش عشان محتاج يعني ولا حاجة، أنا بس باستخبا من واحدة ست حبشية عاوزة تسحرني.

ولم نكن نسأل علي أبو مركب تفاصيلَ جديدة عن هذه الست الحبشية، ولا عن السبب الذي تريد أن تسحره من أجله، ولكن صورة الست الحبشية التي تطارد علي أبو مركب لم تبارح خيالي على الإطلاق، وكنت أتخيلها امرأة كالغولة، شديدة السواد، عيناها شديدتا الاحمرار، لها مخالب ولها أسنان.

وكان يعلن دائمًا في فخر شديد أنه يأوي كل يوم إلى غرفته تحت السلم ليدخن قدرًا كبيرًا من الحشيش قبل أن ينام، وكان يقضى وقتًا طويلًا يصف لنا فيه الحشيش، لونه، وخصائصه، والأثر الجميل اللذيذ الذي يتركه في مدمنيه.

وذات مساء سألني علي أبو مركب بعد أن قص علينا قصصًا كثيرة.

– أنت مش بتتكلم إنجليزي؟

ولما أجبته بالإيجاب، قال وكأنه يأمر: طب ما تبقى تشوفلنا سيجارة حشيش مع واحد إنجليزي.

ولما أقنعته بأن الإنجليز لا يدخنون الحشيش قال على الفور: أنا قصدي واد عسكري هندي، حاكم الحشيش الهندي أجدع حشيش.

وعندما انصرف علي تلك الليلة، كنت قد عزمت على أن ألقنه درسًا لا ينساه.

جمعت الشلة في صباح اليوم التالي وأطلعتهم على تفاصيل المؤامرة التي قررت أن أدبرها ضد علي … ولما وافقت الشلة بالإجماع، قمت بتنفيذ المؤامرة على الفور … كان معي كراس رسم ثمين، وكان يفصل بين كل ورقة والورقة الأخرى ورقة ثالثة شفافة، أكثر من ورق السجاير. ونزعت ورقة من هذا النوع الشفاف ورحت أبحث في شوارع الجيزة عن فشلة حمار حتى عثرت على واحدة ثمينة وناشفة وشكلها أصفر، ولما فركتها بدت كأنها دخان سجاير أصيل!

ولففت سيجارة ضخمة مبطرخة، ونزعت ورقة مستديرة عليها رسوم من فوق بكرة خيط ماركة الخيالة ولزقتها على السيجارة. كتبت على السيجارة نفسها عدة حروف إنجليزية: صنعت في إنجلترا وذهبت إلى علي أبو مركب في المغرب، والليل يزحف على الكون، والدنيا كانت صيف، ونسمة حلوة طرية تهب على الجيزة من ناحية الصحراء، وسحبت علي أبو مركب معي إلى الأرض الخلاء حيث كانت تنتظر الشلة كلها.

وعندما أطلعت علي أبو مركب على السيجارة، وقف فترة طويلة يتفرسها ويشمها، ثم قال في زهو شديد: يا سلام! شوف الحشيش الهندي! الواحد بقاله زمان ماشربش حته نضيفة زي دي.

ووضع علي السيجارة بين شفتيه، وعبثًا حاولنا إشعالها بالكبريت فلم نفلح، وعندئذ خطفت ورقة جرنال من فوق الأرض وأشعلتها كلها، ورحت أشعل منها طرف السيجارة … بينما راح علي يشفط من الطرف الآخر أنفاسًا سريعة متلاحقة ويشفط دخانها بسرعة وينفثه من أنفه دون انقطاع.

وعندما أتت النار على نصف السيجارة كان علي لا يزال منهمكًا في عملية الشفط والتدخين ونفث الدخان بلا انقطاع … وفي خلال هذا الوقت الطويل، كانت قطعة كبيرة من فشلة الحمار قد تسللت إلى فم علي أبو مركب، وزيادة في الانبساط ركن علي هذه القطعة تحت لسانه وراح يستحلبها في لذة ليس لها مثيل … وفجأة تبين علي طعمها وأدركه، فتوقف لحظة، وانتزع السيجارة من بين شفتيه وراح يلتقط من فمه هذه القطع ذات الطعم الغريب ويقربها من أنفه محاولًا استجلاء سرها … وعندما شمها أدرك كل شيء، وكنا قد سقطنا جميعًا فوق الأرض نضحك بلا انقطاع ضحكًا هستيريًّا مجلجلًا، وهم علي لحظة أن يثور وأن يعتدي علينا، ولكن يبدو أنه عدل عن ذلك فجأة، فتحول إلى ناحية الحائط وانحنى قليلًا وراح يتقيأ بصوت رهيب وكأن سمًّا زعافًا قد أصابه في الصميم!

ولزم علي أبو مركب حجرته بعد ذلك لم يغادرها أيامًا، ثم لم يلبث أن اختفى من بيت عبد المنعم ومن الجيزة كلها، ولم نعثر له على أثر بعد ذلك، ولكنه ظهر في أعقاب الحرب ويده مقطوعة؛ ضربه إنجليزي في يده بالمطوة فمزق شرايينها، وقضى شهورًا طويلة في القصر العيني بين الموت والحياة. وعندما خرج من القصر العيني بيد واحدة، ارتدى البدلة واحترف نشل الإنجليز في الملاهي والترامايات! وعندما اختفى الإنجليز من القاهرة لم يعد إلى مهنته الأولى أبدًا، بل ظل ينشل ما يصادفه من جيوب … حتى ضبطوه ذات مرة ينشل رجلًا غلبانًا في حديقة الحيوان، ويومها ثار الناس عليه وضربوه ضربًا مبرحًا حتى مات!

ولكن ثالث الرجال الذين عرفتهم وأهمهم وأعمقهم أثرًا في نفسي كان يملك دكان مكوجي في شارع عباس، وكان له شكل الديك، ونفسية فنان، وسلوك قاطع طريق، ولقد تعلمت من هذا المكوجي ما لم أتعلمه في المدارس؛ فقد رأيت روايات الجيب أول مرة في دكانه، وعرفت المسرح لأول مرة وأنا جالس أستمع إليه على عتبة بابه، فلقد كان من هواة التمثيل، ومن أنصار فرقة رمسيس وكان يعبد يوسف وهبي ويحفظ أدواره كلها عن ظهر قلب، وكان كسولًا لا يحب العمل صباحًا، فكان يشرب أحيانًا ويلعب القمار أحيانًا، ويطفش من الجيزة كلها أحيانًا ليسوح في أرض الله.

وكانت الحرب سر نعمته وسر وكسته أيضًا، فقد وجد فيها مجالًا يمتص مواهبه وإمكانياته ثم حطمته في النهاية وجرجرته إلى السجن، وكأنما كانت تجربة السجن بالنسبة إليه قاصمة قاضية؛ فقد شاخ عشرين عامًا فوق عمره، وانحنى أكثر، وشاب شعر رأسه وظل سنوات طويلة ولا حديث له إلا السجن والعذاب الرهيب الذي هناك، ولكن السجن الذي استطاع أن يمتص بدنه لم يستطع أبدًا أن يمتص حيويته ولم يتمكن أبدًا من روحه القلقة الوثابة، ولم يسحق روح المغامرة فيه، وظل عبده حتى بعد أن شاخ فعلًا وتهدم شديد الرغبة في التغيير، شديد الثورة على كل شيء، وظل دائمًا يحلم بالمسرح، وبأن الحظ سيبتسم له ذات يوم، فيقف على خشبة المسرح تحت الأضواء ينحني في رشاقة لآلاف المعجبين.