الفصل التاسع
وحول باجور عبده المكوجي استمعت إلى أعظم القصص والروايات. قصص أنا كارنينا، والجريمة والعقاب، وقصص أرسين لوبين كلها، قصص مختلفة، كان عبده يرويها بحماس. وذات مساء فاجأنا عبده بسر رهيب خلاصته أن عبده يقود عصابة من عتاة المجرمين وأنه سطا على أكثر من بنك، وخطف أكثر من عشرة ملايين جنيه.
***
انتقلت الشلة كلها من مخبأ الجارحي إلى دكان عبده، وكان أبرز ما يجذبنا إلى دكان عبده هو الدفء الذي كان يشيع فيه خلال ليالي الشتاء؛ حيث كان باجور الجاز المشتعل يوش باستمرار والمكاوي عليه، وفوق المكاوي كوز أسود في لون الزفت مضروب في جوانبه، ومبطوح في أكثر من موضع، وكان عبده يغلي في هذا الكوز كمية ضخمة من الشاي، وكان عبده سخيًّا علينا غاية السخاء، كان إذا انتهى من صنع الشاي اقتسمه معنا، ثم يجلس بجوار الباجور يرتشف الشاي بصوت مسموع وعلى وجهه المغضن الناشف تبدو السعادة التي ليس لها مثيل.
وعادة عند عبده أن يشعل لنفسه سيجارة أثناء شرب الشاي، ولكن هذه العادة كلفته كثيرًا، فقد كان يضطر إلى أن يشعل لنفسه سيجارة ويشعل لنا سيجارة أخرى! وعندما كانت تضيق به الحال كان يكتفي بإشعال سيجارة واحدة، ثم نمضي «نخمِّس» فيها في هدوء وانسجام!
وفي هذه القعدات حول باجور عبده المكوجي استمعت إلى أعظم القصص والروايات، قصص: أنا كارنينا، والجريمة والعقاب، وقصص أرسين لوبين كلها، قصص مختلفة، كان عبده يرويها بحماس غريب!
وذات مساء فاجأنا عبده بسر رهيب، خلاصته أن عبده يقود عصابة من عتاة المجرمين وأنه سطا على أكثر من بنك، وخطف أكثر من عشرة ملايين جنيه. ثم تنهد في عمق، وقال في منتهى الهدوء: بس مش غايظني غير أحمد عبد الرحمن.
وعندما سألناه عمن يكون أحمد عبد الرحمن هذا الذي يغيظ عبده العظيم، أجاب في هدوء أشد: دا رئيس المباحث.
ولم نكن قد سمعنا عن أحمد عبد الرحمن من قبل، رغم أنه كان أشهر رجل في مصر، وكان رجلًا شديد الذكاء شديد البأس، استطاع أن يلقي الرعب في قلوب المجرمين.
وعندما اطمأن عبده إلى أننا لا نعرفه راح يحكي لنا أنباء المعارك التي خاضها ضده، والتفاصيل التي روتها الصحف عن تلك المعارك، ثم توقف عبده فجأة عن الحديث وراح يعبث بشاربه ثم قال يسألنا: حد فيكو معاه ساعة؟
ولم يكن مع أحد منا ساعة، ومع ذلك سألناه عن سبب سؤاله، فقال وهو يهز رأسه ويجز على أسنانه: أصل النهارده إن شاء الله حتكون المعركة الفاصلة.
وعندما سألناه مزيدًا من المعلومات عن هذه المعركة الفاصلة، قال بصوت خفيض: النهارده الساعة عشرة لازم أخلَّص على أحمد عبد الرحمن وعاوز الساعة عشان كده.
وعندما استفسرت أنا عن علاقة الساعة بمسألة التخليص على أحمد عبد الرحمن، قال عبده: أصلي لازم أطفي النور الساعة عشرة إلا دقيقة، عشان كده عاوز ساعة مظبوطة أخدها معايا وأنا رايح المشوار ده.
وصمت عبده وقتًا طويلًا ثم استطرد فجأة: أي خطأ في الحساب هيسبب كارثة.
ولم نفهم نحن معنى الخطأ في الحساب إللي هيتسبب في كارثة، ولكن العبارة كما قالها عبده كانت غامضة ورهيبة ولها وقع حسن في نفوسنا؛ ولذلك سكتنا جميعًا ولم نعلق على شيء.
ولم تمض نصف ساعة حتى استطاع عبده الحصول على ساعة جديدة ومظبوطة، جاء إلى الدكان طالب جامعي يرتدي جلبابًا وجاكتة على الأكتاف ونضارة بشنبر سلك رخيص، وانتحى به عبده ركنًا بعيدًا في الدكان وراح يهمس في أذن الطالب، ووجهه المعبر يتشكل ويتلون، وكلمات متناثرة تصل إلى أسماعنا من بعيد: العصابة، والساعة، وعشرة إلا دقيقة، وأحمد عبد الرحمن.
وبدون أن يفتح الطالب فمه، نزع الساعة التي حول معصمه وناولها لعبده وانصرف، وعندما استقرت الساعة في جيب عبده، بدت السعادة على وجهه، وأغلق الدكان سريعًا واستأذن منا وانصرف.
وقضينا الليل بطوله نفكر في علاقة طالب الجامعة بعبده المكوجي، ثم استنتجنا في النهاية أن الطالب عضو في عصابة عبده، وغاب عبده ثلاثة أيام كاملة ودكانه مغلق، ثم ظهر بعد ذلك ومعه علبة سجاير عشرين، وتحت جلبابه بدت فانلة جديدة حمراء بكم طويل، وقد حلق شعر رأسه، فبدا أصغر خمس سنوات عما كان! وعندما سألناه عن نتيجة المعركة الفاصلة مصمص شفتيه وهز رأسه أسفًا، وقال بصوت مخنوق: باظت، لكن معلهش.
ولم يزد عبده حرفًا بعد ذلك، ولكنه عندما جلس جلسته المعتادة إلى جوار الباجور يشرب الشاي بصوت مسموع، ويشفط أنفاسًا عميقة متلاحقة من السيجارة، راح يروي لنا القصة بالتفصيل: أنا دخلت الشقة الساعة تسعة ونص، ورحت ع الشباك، ضربت الخنجر في الشيش سحبت الخنجر لبرة، وزقيت القزاز، انفتح رحت ناطط على طول!
وكنا نحبس أنفاسنا أثناء الحديث حتى لا يفوتنا حرف واحد مما يقول، وكان عبده لا يحكي طويلًا، كان يحكي فترة ويستريح فترة، يهرش فيها في شعر صدره، أو يعبث بأصبعه في أذنه، أو يلقي نظرة على المارة خارج الدكان قبل أن يعود إلى الحديث من جديد: وفضلت قاعد في الشقة من تسعة وخمسة لحد عشرة إلا دقيقة، ورحت طافي النور، عشرة بالضبط سمعت رِجل ماشية ع السلم، حطيت إيدي في جيبي حسست على مسدسي، وفجأة.
وكان عبده يتوقف عن الحديث عند فجأة هذه؛ ليعبث في شعر صدره، أو يشعل لنفسه سيجارة، أو يلقي نظرة على المارة في الطريق.
– ولقيت أحمد عبد الرحمن، والنور مولع في وشي، قاللي ارفع إيدك يا عبده، رحت رافع إيدي على طول، أقول الحق، أنا خفت. أول مرة أخاف فيها صحيح، لكن هو مين؟ فكرت بسرعة وبعدين طلبت منه أشرب سيجارة، وافق، طلَّعْت العلبة ورحت ضارب لمبة النور ورحت ضارب نار، ورحت زايغ منه.
ولكن طالب الجامعة صاحب الساعة عاد بعد أيام وعقد اجتماعًا مع عبده ثم ذهب. وعندما سألنا عبده عن سر الاجتماع قال وهو يهرش في بطنه: أصل المبلغ بقى تقيل قوي، عشرين مليون جنيه في البنك دلوقت.
وعندما قلت لعبده: طب ما تبطل شقاوة بقى يا عبده وتاخد الفلوس دي تبني بيها عمارة.
وقال عبده وهو ينظر نحوي نظرات حادة: لما أخلص من أحمد عبد الرحمن.
وذات مساء وأنا جالس مع عبده على الرصيف أمام الدكان، عرض عبده علي الدخول في العصابة.
– ما تدخل العصابة معانا، وأهي لقمة ناكلها سوا.
– بس أنا هاخش معاكو ازاي؟
– زيك زينا، حتى الفلوس إللي في البنك تبقى شركة معانا بيها.
– بس أنا ما أقدرش أهجم ع البنوك يا عبده.
– مش مهم، خد قفازًا واشتغل.
وشرح عبده لي مهمة القفاز ووظيفته، والقفاز هو حذاء طويل حتى الركبتين، إذا ارتداه إنسان استطاع أن يقفز به من فوق قمة هرم خوفو دون أن يصيبه مكروه.
ولما وافقت عبده على الدخول في العصابة، قال وهو يمد يده نحوي ويفردها: طب هات خمسة وعشرين قرش اشتراك، ولما أبديت له عدم استطاعتي دفع هذا المبلغ، قال على الفور: طب هات ريال.
– ولا أقدر أدفع ريال.
– طب هات إللي معاك.
– ما معيش غير نص فرنك.
– طب زي بعضه، روح هاتلنا أربع سجاير هلب، وبالباقي شاي.
وهكذا، بأربع سجاير هلب، وباكو شاي، أصبحت عضوًا في عصابة عبده المكوجي. وذات مساء وأنا جالس مع عبده على الرصيف نكتب كشفًا بالثروة التي أصبحت لنا في البنوك. جاء طالب الجامعة فجأة، وطلب من عبده أن يرد الساعة أو يرد ثمنها على الفور، وحاول عبده أن يعتذر عن التأخير، ولكن صوت الطالب ارتفع فجأة أثار عبده فنشبت معركة بين الاثنين جذبت إلينا عددًا من الناس وسكان شارع عباس، وانتهت المعركة بهزيمة الطالب؛ فقد كان ضعيفًا ونحيفًا وأصفر اللون، وكأنه مريض بالسل!
وعلمت من عبده في تلك الليلة، أنه باع الساعة، وعندما سألته بسذاجة، عن السبب في بيعها، قال وشبح ابتسامة تبدو على شفتيه: عشان أحمد عبد الرحمن ما يظبطهاش.
ولقد ظللت مؤمنًا بعبده وبكل ما يحكيه من قصص وروايات وكنت أقنع عددًا من أصدقائي بضرورة دخول العصابة ودفع الاشتراك، ولقد دخل بعضهم فعلًا ودفعوا الاشتراك فعلًا، وكان عبده يأخذنا كل صباح إلى المخبأ لنقوم بتدريبات على القفز من فوق المخبأ، وكنا نقفز حتى تدمى وجوهنا بينما عبده يجلس في الشمس يدخن في هدوء ويشفط بصوت مسموع من كوز الشاي.
ولكن الحكيم كشف عبده وفضحه، وتبينت أخيرًا أنه نصاب، وكان محمود الحكيم شديد القصر كلما رأيته حسبت أنه رجل يجلس على كرسي. وكان يحمل معه دائمًا عصا طويلة يشوح بها في وجوه الناس، وكان جعجاعًا له صوت رفيع مسلوخ، وكان عبده يخشاه ويهابه ويعمل له ألف حساب، وذات صباح جاء الحكيم إلى المخبأ وجلس يشاهد تدريباتنا العنيفة. ثم همس في أذن عبده بشيء، وارتبك عبده وأخرج من جيبه علبة سجاير وأعطاها للحكيم، ولكن الحكيم ألقى بها على الأرض احتقارًا لشأنها، وقال بصوت مسموع: أنا عاوز حقي، أنا مش هندي.
وقال عبده بصوت ذليل: طب مش دلوقت يا حكيم.
ولكن الحكيم لم يسكت، شخر، ونخر، وسب الدين والدنيا، وعرفنا من خلال الخناقة أن الخلاف كان علينا، وأن الحكيم عرف أن عبده نصب علينا؛ ولذلك لا بد أن يأخذ حقه، وانزوى عبده بعد ذلك وقاطعناه، ولكن بعد فترة ترددت على دكان عبده كالعادة، وتوطدت صلتي به أكثر بعد أن انكشف أمامي، بل تعمقت هذه الصلة فأصبحت أشاركه الطعام أحيانًا وأقتسم معه ما يحصل عليه من سجاير، وكان أكثر ضحاياه من طلبة الجامعة ومن خدم المنازل. ولكن ذات يوم جاء عبده إلى الدكان ومعه جندي أفريكي اسمه ماير. وكان ماير طويلًا، وبلا أسنان يحمل معه مطوة حادة لامعة، وكان لصًّا عريقًا في الإجرام، كان يستولي على كميات هائلة من الشاي والبطاطين من مخازل الجيش، وكان عبده يتولى مهمة تخزينها وبيعها للتجار، ثم اقتسام ثمنها مع ماير، وكانت صداقتهما من نوع غريب، فلا عبده يعرف حرفًا من لغة الأفريكي، ولا الأفريكي يعرف حرفًا من لغة عبده. ومع ذلك كانت المصلحة المشتركة تربط بينهما أوثق رباط. ولكن هذه الصداقة سرعان ما انحلت عراها؛ فقد هجمت قوات البوليس الحربي على دكان عبده ذات مساء وعثرت بداخله على صندوق شاي وحملت العسكري ماير معها، وذهب عبده إلى السجن، وكانت الحرب قد اقتربت من حدود مصر الغربية، والغارات الجوية أصبحت كالرز، والمهاجرون يملئون الشوارع، وموعد امتحان الابتدائية يقترب. ولا أحد منا يذاكر ولا أحد منا يستعد، الاستعداد الوحيد كان لاستقبال الطليان عندما يدخلون مصر ولم يكن هناك أسعد من المعلم قطب، كان يسأل كل يوم عن الأخبار، وكان يرقص من شدة الفرحة كلما سمع عن أنباء انتصار الطليان، وذات صباح أعلن المعلم قطب موقفه بصراحة، فقد اشترى صورة لموسوليني ووضعها على باب الدكان.