«الحركة الإنسانية العربية» ومشكلة العدالة الاجتماعية
مرحلتان من مراحل تطور الفكر الفلسفي والاجتماعي العربي – «الحركة الإنسانية العربية» الجديدة – قضية الفلاحين – الاهتمام بوضع الطبقة العاملة – المصلحون الاجتماعيون – عناصر الاشتراكية الإصلاحية الطوباوية؛ الريحاني، سلامة موسى، نيقولا حداد – الشيوعيون.
مرَّ الفكر الفلسفي والاجتماعي العربي في العصر الحديث بمرحلتين عامتين إبان تطوره؛ ففي القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين تشكَّلت العلاقة بين غزو الثقافة المادية والروحية وحياة الغرب، وأخذ الأيديولوجيون العرب يَبحثون عن حلٍّ وسط بين العصور الوسطى والعصر الحديث.
كانت الاتجاهات الرئيسية لتطور الفكر الاجتماعي والفلسفة الدينية العربية في هذه المرحلة تتلخَّص في حركتَي التنوير والإصلاح الإسلامي، استيعاب وانتشار وجهات النظر السياسية والفلسفية والاجتماعية البورجوازية الغربية، بما في ذلك فكرة الاتجاه القومي على نحو معتدل يلائم الظروف المحلية. وجديرٌ بالملاحظة هنا أن الأيديولوجيِّين العرب استخلصوا من النظريات الفلسفية والاجتماعية السياسية الغربية منظومةً من الآراء والتصورات، التي كانت تُلبي حاجات الحياة الاجتماعية والسياسية للمجتمع العربي؛ مثال ذلك: الفلسفة الوضعية الاجتماعية لأوجست كونت، نظرية التطور لسبنسر، فكرة لوبون التي تدور حول كون الإيمان وقوة الشعور هما محرك التاريخ إلى آخره، والأهم من هذا فكرة الدور العظيم للمعرفة والعقل في التطور الاجتماعي، وكذلك أفكار الحياة البرلمانية والتمسُّك بالدستور إلى آخره؛ أي كل ما ينتمي أساسًا للتراث التنويري الفرنسي.
وفي المرحلة الثانية فترة ما بين الحربَين، حدث إسراع وتعميق انحلال القاعدة الفلسفية الدينية والأخلاقية للمجتمع القديم، تحت تأثير قُوى الأممية ومنجزات العلم العالمي، وتطور التكنولوجيا والدعاية للمعارف العلمية، وبخاصة نظرية التطور وانتشار المفاهيم العلمانية للقومية، كما لوحظت العودة الجزئية للقيم الروحية للإسلام والمواقف الاجتماعية للقرآن، باعتباره تعميمًا للتراث الثقافي للعرب في بحثهم عن وسائل للتعبير الذاتي باعتباره عنصرًا حتميًّا لتطور الوعي القومي. وقد عكست هذه الانعطافة بقدرٍ ما الدورَ المتصاعد للبورجوازية الصغيرة في الصراع السياسي والأيديولوجي، وخصوصًا أن هذه البورجوازية كانت صاحبة فكر ديني.
كانت التغيُّرات الثورية في مجال الوعي تكاد لا تذكر. على أن ظروف الوجود الجديدة دفعت العقول إلى التطور، وأحدثت خلطًا في مستويات إدراك الحياة، حتى إنَّ المعتقدات، المحافظ منها والتقدمي، التي تشكَّلت على نحوٍ جديد لدى الناس، تعايشت مع بعضها البعض كما تعايشَت الأنماط المختلفة داخل البناء العضوي الاقتصادي للمجتمع.
وقد احتفظ الفكر الفلسفي الديني والفكر الاجتماعي بخطين من العلاقات المشتركة المتشابكة والواعية، والتي أضاف من خلالها كل منهما للآخر: استيعاب القيم الرُّوحية والثقافية الأوروبية وإعادة تقدير للقيم الروحية والثقافية الخاصة بكلٍّ منهما، إلا أنَّ الحياة أبرزت الأمور على نحوٍ مختلف.
قبل النهضة الثقافية العربية في القرن الماضي كان العرب يُدركون العالم الخارجي، ووجودهم الخاص، من خلال العقيدة الدينية، لكن النصف الثاني من القرن التاسع عشر اضطرهم إلى إعادة النظر في القيم التقليدية، على ضوء ما استوعبته الصفوة المثقَّفة من قيمٍ وتوجهات الغرب.
ذكرنا آنفًا أنه قد لُوحظت في فترة ما بين الحربَين، وخاصةً بدءًا من النصف الثاني من الثلاثينيات، العودة جزئيًّا إلى التراث الرُّوحي والثقافي (على ضوء مُنجَزات الحضارة الغربية) وإعادة النظر إليه، كقاعدة، من مواقف معاصرة.
تميَّزت المرحلة الأولى بتماسُك المسلمين على اختلاف مذاهبهم وتسليمهم التام بالدور الحاسم للقدر، وأدخلت النهضة الثقافية العربية في الإسلام بنية عقلانية فريدة، تميزت بمحاولة الجمع بين الوحي والعقل، وتشكَّلت أنواعٌ نمطية جديدة للتفكير تميزت بالاعتراف بأهمية العقل البشري والإيمان بالتقدم وتأكيد الذات كمُنطلقٍ إبداعي. على أنَّ المشكلة الرئيسية للفكر العربي في فترة ما بين الحربَين أصبحت هي مشكلة الإنسان الاجتماعي، واجتذب وضع الإسلام ودوره في المجتمع المعاصر مزيدًا من الانتباه، فضلًا عن مشكلات البرنامج الاجتماعي الأخلاقي؛ اختيار الإنسان ووضعه في مكانه الملائم في المجتمع، مغزى الحياة، الإنسان في الطبيعة والمجتمع.
ويرى المستشرق السوفيتي كراتشكوفسكي «أنَّ اتجاه المؤسَّسة الدينية قد ساد» الرأي العام العربي حتى في العشرينيات، وخير شهادة على ذلك رد الفعل المحافظ على ظهور الأعمال الشهيرة لطه حسين وعلي عبد الرازق، اللذَين هزا رجال الدين العرب، فضلًا عن الآخرين. لكن النضال من أجل التطور الشامل كان يعني البحث عن طرق ووسائل تغيير الأشكال الجامدة للمذهب الديني المهين للشخصية الإنسانية الخاضعة تمامًا «لحرفة الدين».
آنَذاك لم يستطع، حتى أشد الناس تقدُّمية، الاعتماد كليةً على الفلسفة العلمية المادية، ولم يتسنَّ للإلحاد أن يَنال أيَّ قدرٍ من الانتشار. كما شغلت المظاهر المُختلفة للإسلام، كنظامٍ شامل لكلِّ ميادين حياة المسلمين الرُّوحية والثقافية والاجتماعية، اهتمام رجال الدين وغيرهم، إلا أن المعاصرة أخذت دورها. أصبحت الدعاية للإصلاح الإسلامي اتجاهًا ثابتًا. أدخلت المقالات العلمية المبسَّطة المأخوذة عن المطبوعات الغربية الشك في وجود الحياة الآخرة، وبدأت في تعريف القارئ بمبادئ النظريات المادية والمذاهب العلمية، وطرحت مفهوم حرية العقيدة. ظهر بين المثقفين المتأثرين بالفكر الأوروبي أنصار نظرية الشك الديني الحذر. ويُعتبر ظهور كتاب طه حسين «قادة الفكر» الصادر عام ١٩٢٥م دليلًا مبكرًا على ذلك، وفيه يعرض الكاتب تاريخ البشرية كتاريخ للصراع بين الدين والعقل، ويصل إلى أن الفلسفة أخذت بمرور الوقت تحتل بصورةٍ أكبر مكان الدين؛ ومن ثَم تلعب دور المرشد الروحي للناس. كانت التكملة المنطقية لهذا الكتاب هو البحث الذي قدَّمه طه حسين عن الشعر الجاهلي، استخدم فيه مناهج البحث الأوروبي، وللمرة الأولى يقوم كاتب في العالم العربي بتطبيق منهج الشك الفلسفي مُعلنًا نفسه تلميذًا لديكارت: «إنَّ المنهج الديكارتي مفيد لا في العلم والفلسفة والأدب فحسب، وإنما أيضًا في مجال الأخلاق والحياة الاجتماعية» (١٢٦، ١٣٧). وأعلن طه حسين، كما كتب كراتشكوفسكي «أنَّ الشعر الجاهلي الذي كان يُعتبر على مدى قرون طويلة أساسًا لغويًّا عند تفسير القرآن والأحاديث لم يكن سوى انتحال تمَّ في القرون الأولى للإسلام، وأكَّد أنَّ القرآن ليس عملًا إلهيًّا مُقدسًا، وإنما عملٌ قام بتأليفه محمد نفسه، وأن الرسول سياسي بارع وليس صحابتُه سوى أناسٍ عاديين.» وأعرب طه حسين بصراحةٍ عن شكِّه في مدى صحة وجود إبراهيم وإسماعيل تاريخيًّا مُعتديًا بذلك على أسس الإسلام ذاتها. وفيما بعدُ قارنَ طه حسين في مقدمته لكتاب «على هامش السيرة» الصادر عام ١٩٣٣م بين سيرة محمد وقصص وأساطير وخرافات الشعوب الأخرى، متطاولًا بذلك على مؤسس العقيدة الإسلامية وعلى ألوهية القرآن (٢٢، ج٣، ص١٩٧–٢٠٠)، وكان لتمجيد العقل البشري من خلال فلسفة الشك أن وضعت طه حسين فوق المفاهيم «العقلانية» لأصحاب الاتجاه الإصلاحي المسلمين بخصوص الجمع بين العلم والقرآن، الوحي والعقل.
كان الكُتاب، مع بعض الاستثناءات القليلة، هم قادة الفكر الفلسفي والاجتماعي، لا الفلاسفة وعلماء الاجتماع. ومن هؤلاء «المفكِّرين الأحرار» ومجموعة الطليعة: محمد هيكل، عباس العقاد، طه حسين، جبران خليل جبران، أمين الريحاني، سلامة موسى، وغيرهم. وهؤلاء سادت بينهم لأمدٍ بعيد النظرة التنويرية للأمور. كتب أمين الريحاني «إنني أدعو لثورة العقول … حتى تتحقَّق الثورة السياسية، وأدعو لثورة روحية حتى تتحقق الثورة الاجتماعية … إن من يثور على نفسه ضد البشاعات الموروثة عن الأجداد … له الحق، إذا تطلَّب الأمر، أن يقف ضد الحكومة نفسها» (٨٠، ٣٤). ويرى معروف الرصافي «أن الأفكار وحدها هي التي ستصلح الأمة» (٨٣، ٣٧٩). وأشار طه حسين إلى أن الثقافة والعلم هما أساس الحضارة والاستقلال، وأن الاستقلال والحرية وسيلة إلى الكمال وسبب من أسباب الرقي (٦١، ١). بالإضافة إلى هذا فقد أعطى الجميع للعقل البشري مكانته اللائقة، إلا أنهم حاولوا حماية العالم الرُّوحي للإنسان، مجال المشاعر والأخلاق، من تدخل العقل والعلم. كما أنهم جميعًا (أو تقريبًا الجميع) رأوا في الإيمان قوةً مُحرِّكةً عُليا، هذه القوة هي، في رأي العقاد وتوفيق الحكيم، إله القرآن. وهي، بالنسبة لجبران خليل جبران، ضمير الوجود بأقانيمه الثلاثة: الحب، التمرد، الحرية. وهي، بالنسبة لأمين الريحاني، نبض الحياة، روح الحب في الإنسان، شيء ما ذائب في الطبيعة، وبالنسبة لميخائيل نعيمة: «نسق العالم». كل هذا بالنسبة لهم جميعًا هو الله.
لم يَعُد الدين، في عصرنا الحالي في العالم بأسره تقريبًا، أساسًا للمعايير الاجتماعية والسياسية والأخلاقية، والإيمان بالله بالنِّسبة للمثقفين العرب تمثل بالدرجة الأولى إيمانًا بجوهرٍ ما لا مثيلَ له إذا ما قورن بالحياة العِلمية، ولكنه هو الذي يُحدد ماهية الأخيرة، وكثيرًا ما كان الدين والعقل أمرين مُتوازيَين يكمل بعضهما الآخر، بهذه الروح كتب العقاد مقالته المنشورة عام ١٩٢٤م. أما طه حسين الذي وضع العقل والإيمان في تعارضٍ أعطى الأول أفضلية واضحة، فيقول إنَّ العقل وحده لا يمكن أن يكون أداة الإدراك. وفي كتابه «على هامش السيرة» يكتب أن العقل لا يمكنه استيعاب كل ما هو في داخل النفس البشرية. إنَّ الشعور هو أداة إدراك الروح، والبشرية بحاجةٍ ليس فقط إلى حكمة العقل، وإنما أيضًا إلى حكمة القصة والأسطورة. ويُؤكد توفيق الحكيم أيضًا أن «عالم الواقع وحده غير كافٍ لحياة الإنسان … إنه أضيق إطار للحياة الإنسانية الكاملة» (٦٨، ١٠٥)، فالإنسان بحاجةٍ إلى «روحانية الشرق التي وضَعها الأنبياء الذين أعطوا الناس مفهوم مملكة السماء. والمعارف الحديثة تفتح أمام الناس ظواهر منفصلة جوهرها مُستغلق على فهمهم» (٦٨، ١٩٠). نفس الفِكرة يطرحها اللبناني عبد الله العلايلي؛ يفترض العلايلي أنَّ الإنسان المعاصر أصبح براجماتيًّا، يسيطر عقله على مشاعره. وهو أمرٌ كريه لأنَّ الإنسان تلزمه المُثُل الروحية إلى جانب المثل العقلية (٩٦، ٤٢). ونقرأ ما كتبه محمد هيكل عن «الضوء القادم من الشرق» والذي سيقود الإنسانية على طريق الوجود، تلك الوحدة التي ستظهر في مجموعة ظواهر نَعتبرها بفضل نسبية معارفنا مستقاة: «إنني أعتبر أن دراسة السيرة والقرآن هي أفضل مُرشد للإنسانية على طريق الحقيقة والخير والجمال؛ فهي التي ستسمو بالإنسانية من المرحلة المادية إلى أعلى مراحل الروح … وعندها سوف تعيش الإنسانية في إخاء وحب ساعية لإدراك الوجود …» (١٢١، ٦٧٢–٦٧٤)، ويفترض المفكر فاضل الجمالي، هو الآخر، أن على الدين أن يُحدد حياة الأمة (١٠١، ٥٢١). ويرى أحمد أمين أن التطور الاجتماعي يتم من خلال التفاعل الدائم المبادئ الإيجابية والسلبية تبعًا للقانون الإلهي (١٠٢، ٥٢)؛ فالدين يرسي أسس الطابع الإنساني، أسس كل صفاته النبيلة (١٥٠، ٦٢).
كان أهم ما يُميز الأيديولوجيين العرب اهتمامهم الزائد بالمشكلات الأخلاقية ومشكلة تكوين الشخصية، بل ويُمكن أن يؤكد بكل ثقة أن الكفر العربي كان يميل إلى الاتجاهات الإنسانية. وقد اعتبر الطهطاوي، وهو أحد أوائل التنويريين العرب، أن الإنسان هو القوة الرئيسية المحركة للتطور الاجتماعي؛ فالناس هم الذين يُكوِّنون البناء العضوي للمجتمع؛ ولهذا فقد ارتكز الطهطاوي على انتشار التعليم وتربية الشخصية (١٠١، ٤١٥)، وكان طه حسين والعقاد والمازني ومطران وجبران والرصافي والزهاوي وغيرهم، وقد نالوا إعجاب المجتمع العربي في فترة ما بين الحربَين، يبحثون عن نموذجٍ لحركةٍ إنسانية «عربية»، تختلف عن الحركة الإنسانية البورجوازية في تفسيرها الأوروبي. اعتبر جبران أن الحركة الإنسانية هي «روح الله على الأرض». أما أحمد أمين فقد كان مؤمنًا بأنها يجب أن تكون هذا الدين الذي يلزمه ويستحق الدعاية التبشيرية، وأصبح مبدأ الحرية الشخصية والاستقلال الفردي طاغيًا، وخلق رفض المجتمع للنفاق والكذب والعنف وقمع الشخصية تيارًا رومانسيًّا في الشعر والنثر العربيَّين في مطلع الثلاثينيات. وكانت الأفكار الإنسانية تتمتع بالقوة والتأثير وخاصةً في أعمال كُتاب المهجر: جبران وعبد المسيح وميخائيل نعيمة والريحاني، الذين كانت فكرة سعادة الإنسان وانسجام الشخصية تربط بينهم جميعًا. واعتبروا أن التحرُّر من أعباء التقاليد البالية سيُؤدِّي بالضرورة إلى تحسين العلاقات بين الناس وإلى إقامة المجتمع المثالي، مجتمع الفرد الذي نال «حقوقه الطبيعية» المتحرِّر من كل أنواع القيود التي تعوقه عن التطور المُنسجم (سواء كانت قيودًا عرقية أو قومية أو عقائدية أو اجتماعية إلى آخره) ومن أثقال الجهل والخرافات والتعصُّب، وأن هذا هو الطريق الرئيسي نحو تحقيق السعادة وانسجام وتكامل الفرد. وقد اتضحت الدعوة إلى تحرير الإنسان من الاستبداد ومن القهر النفسي والإذلال الاجتماعي في مؤلَّفات جبران خليل جبران. كتب جبران: «أنا قلبٌ إنساني، أسرَتني ظلمات قوانين المجتمع، وها قد اعتراني الضعف، وقيَّدتني الخرافات في الأغلال، وأخذتني سكرة الموت واحتواني النسيان في ضلالات الحضارة، ثم وافتني المنية …» (٣٦، ٢٨).
بلغ الإيمان في إمكانية إعادة بناء العالم من خلال الوصول بالشخصية الإنسانية إلى درجة الكمال ذروته في اعتراف سلامة موسى الذي يقول فيه: «إنني أشعر بالخجل، ولكنَّني سأقول إنني أحب كل هؤلاء الاستعماريِّين الإنجليز والحكام المصريين المستبدِّين، ولكنني في قرارة نفسي أودُّ لو تغيروا وتبنَّوا وجهات نظري، وتخلَّوا عن مُناصرتهم للاستعمار والاستبداد بعد أن يستوعبوا الثقافة الجديدة» (١٨٧، ٢٣٧).
فكثيرًا ما غلب الطابع التجريدي على تأملات معظم المفكرين العرب بشأن الإنسان. ولكن أمين الريحاني أحد أبرز حملة الفكرة الإنسانية في الفترة المعنية، كانت نقطة الانطلاق في أفكاره هي الاعتراف باستقلال ووجود الروح والجسد الإنسانيَّين في خطين متوازيَين. وعلى هذا، فإن جوهر الإنسان الروحي يعلو على قشرته المادية. وفي أعمال الريحاني نجد أن فكرة إصلاح النفس وكمال الشخصية هي الفكرة السائدة.
وحتى مطلع القرن، طرح الريحاني فكرة «المدينة الفاضلة»، الخالية من كل عيوب المجتمع الحديث، التي يلزمها الشخصية المثالية؛ ولهذا السبب بالتحديد رأى الريحاني أن الثورة السياسية والاجتماعية التي دعا إليها سوف تكون غير ذات جدوى ما لم تحدث ثورة روحية سلاحها المعرفة والعدالة، وأصبح تحقيق الحرية الروحية هو الهدف الرئيسي؛ إذ إنها في رأي أمين الريحاني، هي الحرية الحقيقية. أما الوصول إلى الحرية المدنية والاجتماعية فأمر ثانوي. إن مهمة هذه الثورة الروحية يتلخَّص في الوصول بالفرد إلى الكمال، ما دام «إصلاح الفرد هو الطريق إلى إصلاح الأمة، وإصلاح الأمة هو الطريق إلى إصلاح قادتهم وحكامهم» (٨١، ج١ ص١١٩). إن قوة الكلمة والعقيدة والتعليم هي الرافعة الحقيقية لتحويل المجتمع الإنساني إلى مجتمعٍ مثالي، متحرِّر من قيود الجهل والخوف والتعصب والأوهام والضلال السياسي والاجتماعي والديني، التي تمثل على وجه الخصوص سببًا لتخلف الشرق. وكان الريحاني من المفكرين العرب القلائل الذين أقروا حتمية استخدام العنف، باعتباره ردًّا على «الظلم بالتمرُّد» من أجل الحصول على الحرية وإرساء القوانين. رأى الريحاني في الثورة قوة عفوية مُدمرة قادرة برغم هذا في ظروفٍ محددة، على المساهمة في إبراز التغيرات الخفية المتراكمة في المجتمع بصورةٍ مؤقَّتة (٢٦ ص٤٣–٤٦: ٨١ ج١ ص١٧٩)، وخلاصة القول إنَّ التنويريِّين في القرن الماضي قد اتفقوا تمامًا على فكرة الثورة الروحية، باعتبارها شرطًا أساسيًّا حتميًّا لإعادة بناء المجتمع، كما كانت هذه الفكرة دافعًا مستمرًّا لهم. من هنا جاء الاهتمام الكبير بقضايا الأخلاق وتربية الجيل الشاب، وكذلك الاهتمام بمشكلة العلاقات الأسرية وتحرير الناس من أعباء الجهل والخرافات إلى آخره. وبناءً على هذا أصبح احترام العقل، والتأكيد على مبادئ المساواة والأخوة والعدالة والإيمان بالضرورة المُطلَقة لنشر التعليم بين أبناء الشعب، أمرًا عامًّا بين الأغلبية، وذلك بالإضافة إلى الاعتراف بالدور الحاسم للمبدأ الديني في تشكيل المعايير الأخلاقية الجديدة، وحرية الإرادة في إطار الإيمان بالقدر الإلهي.
ويَكفي أن نذكر هنا أنَّ المؤتمر الأول للطلاب العرب الدارسين في أوروبا قد اعتبروا الدين أساسًا للتربية الاجتماعية وتشكيل الأخلاق (١٠٥، ١١٧).
وهناك تحديدٌ واضح لهذا الاتجاه المعني بالبحث عن حركةٍ إنسانية عربية جديدة، في إطارٍ سلفي، نجده عند ابن باديس قائد الإصلاحيِّين الجزائريين، والذي طرح موقفَين أساسيَّين: الإسلام هو الإيمان بالله، الإسلام هو الإيمان بالإنسانية التي ستصل إلى السعادة من خلال الإيمان فقط. إنَّ الكفاح من أجل تأكيد الإسلام يعني الكفاح من أجل الجميع ومن أجل الفرد؛ لأن الإسلام ينظر باحترامٍ إلى كل الناس منطلقًا من مبدأ تضامن الجميع … إلى آخره (١٥١، ٢٨٢-٢٨٣).
إن إيمان المُفكرين العرب بالاتجاه الإسلامي قد سما ببعضهم فوق التقيد بالقومية. كتب الريحاني: «إنَّني لبناني، متطوع لخدمة الأمة العربية التي نُعدُّ جزءًا منها. إنني عربي، متطوعٌ لخدمة الإنسانية التي نُعدُّ جزءًا منها» (٨٠، ٥٩)، وربما يُعبر ما كتبه عمر فاخوري عن مواقفهم جميعًا بشكلٍ أفضل: «عندما نُفكر في لبنان، عن البلاد المجاورة، عن الشرق بصفةٍ عامة، فإننا لا نُفكِّر بالطريقة اللبنانية ولا بالطريقة العربية أو الشرقية، وإنما نفكر بطريقةٍ إنسانية عامة» (٩٨، ١٣٢).
أدَّى هذا الموقف في صورته النهائية إلى حدود (العالمية): «لا أعرف أين ولدت، بل إن هذا الأمر لا يُهمني؛ ولهذا فليس لي وطن، ولو كان لي وطنٌ ما فربما تبرأتُ منه؛ لأن العالم من وجهة نظري واحد لا يَنفصم. وإذا كان من الضروري أن يكون للإنسان وطن، فإن وطني هو هذا العالم الذي لا يتجزَّأ» (٩٠، ١٢١).
بفضل التفكير في المظاهر الاجتماعية لحياة الإنسان ظهرت في الأدب، في مصر بصفة خاصة، موضوعات: حرمان المرأة من الحقوق، عدم الانسجام النفسي للإنسان، موضوع الضعفاء. كما دفع هذا التفكير إلى ظهور دراما الواقع. لقد شدَّت مصائر البسطاء انتباه الكتاب، وأصبحت مسألة العدالة الاجتماعية، أكثر فأكثر، موضوعًا لا للكتابة الاجتماعية فحسب، بل كذلك موضوعًا للوصف الفني التقليدي. علاوة على الموقف الأبوي الذي انطلقت منه.
لم يكن لبنية العلاقات الاجتماعية، أو لظهور الصراع الطبقي على نحوٍ خافت، أو للسلبية النسبية للفلاحين والعمال، تأثيرٌ كبير في حفز الاهتمام بقضايا عدم المساواة الاجتماعية. على أنَّ اندماج قطاعات عريضة من العمال في حركة التحرُّر القومي، والنشاط السياسي للشرائح الوسطى، جعَل من الدعاية للفكرة القومية في ذاتها أمرًا غير مؤثر. كان الوقت يتطلب طرح المفهوم الاجتماعي ضمن هذه الدعاية، ومن هنا جاءت الديماجوجية الاجتماعية للأحزاب البورجوازية الإقطاعية في فترة ما بين الحربَين، وخصوصًا أن الجميع أدركوا آنذاك، على ما يبدو، أن المشكلة الاجتماعية الأساسية هي مشكلة الفلاحين، بالرغم من أن هذا لم يكن ليعني أن الجميع بصدد السعي نحو حلِّها. ظلت أغلبية كبيرة تحتفظ بعلاقتها المألوفة بالفلاح، باعتباره مخلوقًا ضعيفًا من مخلوقات الطبيعة يحصده الجهل والمرض، أو باعتباره مخلوقًا كسولًا مسئولًا عن تعاسته الشخصية.
بلغَت حدَّة المسألة الزراعية ذروتها في مصر. ولا يقتصر الحديث هنا عن بؤس القرية المصرية. كان الفلاح المصري هو العمود الفقري للاقتصاد، وأصبحت المودة أن تَنسب الصفوة نفسها إلى الفلَّاحين، حتى إنَّ الملك فاروق أطلق على نفسه اسم «الفلاح الشريف». وساد النقاش حول الوضع الصعب للفلاح أوساط المثقفين، وتركزت هذه المناقشات حول ما يعانيه من فاقةٍ وجهل وما يُحيطه من أوضاعٍ غير صحية في القرية، وارتفَعَت الأصوات مطالبة بالعدالة الاجتماعية، وضرورة القضاء على أسباب الفقر.
وتأكَّدت النظرة إلى هذا البؤس لا على أنه مجرَّد قدَرٍ إلهي مكتوب لا تَملك الأمة له تغييرًا، وإنما كنتيجةٍ لضعف التطور الاقتصادي والتجاري في الأطر القومية العامة (انظر على سبيل المثال ١١٤، ج٢، ص٢٤).
اعتبر البعض أنَّ التطور الاقتصادي للبلاد لا معنى له دون تحسين أحوال القرية. كتب سلامة موسى: «حتى الآن لم نَرتفِع بمستوى معيشة الفلاحين؛ ولذلك لن يحدث رواج في السوق المصرية على منتجات الصناعة المصرية. إن الفلاح الذي يمثل الطبقة الأساسية للمجتمع المصري لا يقبل على المنتجات الصناعية … ومن هنا كانت العقبة الرئيسية أمام تطور الصناعة المصرية التي لا تجد لنفسها مُستهلكين من بين أبناء الطبقة الوسطى لقلَّة عددهم» (٤٠، ٥٤).
وعلى العكس من هؤلاء، رأى آخرون أن ضمان القضاء على التخلف مرهون بعمليتَي التصنيع ومحو الأمية. وقد انضم الوفديون بصفةٍ خاصة لأصحاب هذا الموقف. وقد ركَّز التقرير الذي صدر عن مؤتمر الحزب عام ١٩٣٥م بعنوان «وضع الفلاحين وإصلاح القرية» بالذات على ضرورة تصنيع البلاد ومحو الأمية (كوسيلةٍ راديكالية لحل المشكلة الزراعية)، كما أكد على تطور الحركة التعاونية على النمط الرأسمالي الإقطاعي … إلى آخره (١٤، ١٠٢–١١٠).
كان المستقبل يبدو غير واضح المعالم تمامًا، وكانت الرغبة سائدة في العالم العربي لرؤية مجتمع ديناميكي مُتطور، يملؤه العدل وتتعايش فيه كل الطبقات والفئات في سلام (انظر على سبيل المثال: ١٠٥ ص١١٩، ١٤، ١٠٥). على أنه لم تكن هناك حركة جادَّة في صفوف الفلاحين أو المثقَّفين تعمل بالفعل من أجل إجراء إصلاحات على نحوٍ مُعين. وبالرغم من أن مستوى معيشة شعوب البلاد العربية كان آخذًا في الهبوط بشكلٍ مطَّرد، خاصةً في مصر، فإن مشروعات الإصلاح الزراعي البناءة كانت تكاد لا تُذكر. ولم يجرؤ أحدٌ في مصر على التطاول على الحيازات الملكية أو على أراضي الأوقاف، حتى الأوقاف الشخصية (إذ إن الاعتداء عليها كان يعدُّ اعتداءً على قواعد الإسلام نفسه)، أو على أصحاب الإقطاعيات الضخمة. لقد طرحت قضية الإصلاح حتى على مستوى الحكومة، إلا أنها لم تجد ترحيبًا، وكذلك لم تتضمن البرامج السياسية للأحزاب أية مقترحات إيجابية بشأن إيجاد حلٍّ لقضية الفلاحين، كما لم تمسَّ مسألة إعادة توزيع الأرض على الإطلاق، قام القوميون الليبراليون المصريون بإعطاء الوعود بتجفيف المستنقعات وتوفير مياه الشرب للقرى وكذلك للمُستشفيات والمدارس، واكتفى البرنامج الاقتصادي للوفد، الذي وضع القضية الزراعية على رأس برنامجه، ببحث تنظيم اتحادات للفلاحين وإلغاء نظام العزب وإلغاء الديون على الملاك الذين تقلُّ مساحة أراضيهم عن ثلاثين فدانًا، وإعفاء من تقلُّ ملكياتهم عن عشرة أفدنة من الضرائب، وفرض ضرائب خاصة على من تزيد ملكياتهم على مائة فدان … إلى آخره (١٢٧، ٦٩). لكن لم يمس الوفديُّون الأسس التي تقوم عليها الملكيات الإقطاعية الضخمة أو أُسُس استغلال الفلاحين.
كتبت الباحثة الإنجليزية الشهيرة أ. ورانر في مطلع الخمسينيات «إن الإصلاح الزراعي كان يُشكل منذ زمنٍ طويل ضرورة اجتماعية، غير أنه لم تُتخذ، على مدى ثلاثين عامًا من الحكم البرلماني، أية إجراءات لصالح الفلاح الذي يتوقَّف عليه الاقتصاد المصري بأكمله (٤١، ٣٩) (بشأن هذا الموضوع أيضًا راجع ١١٧، ٢٤٣).
وفي عام ١٩٤٤م فقط طُرح في مصر أول مشروع للإصلاح رُوعي فيه تحديد مِلكية كبار الإقطاعيِّين، إلا أنه قُوبل بعداوةٍ شديدة (١٣١، ٦٧٥). كان المشروع يَقضي بمنع من تزيد ملكيته على خمسين فدانًا من الأراضي الزراعية امتلاكَ أراضٍ جديدة إلى جانب ما يَمتلكه (٩٧، ٦٢).
ومن الأمور البالغة الدلالة بالنسبة للمناخ السائد بين المثقفين البورجوازيين المصريين مشروع الإصلاح الزراعي الذي طرحه إبان الحرب م. غالي باسم جمعية النهضة القومية، أعلن غالي مستعرضًا بعض المسائل العامة، أن الجمعية المذكورة لا تنتمي لأيٍّ من العقائد الاجتماعية الاقتصادية، وأنها تَنطلق من حقيقة أن رفع المستوى المادي والروحي للشعب، وكذلك إقامة العدالة الاجتماعية، يُؤديان إلى الارتفاع الحقيقي بالأمة، ومن هنا فإن هدف الإصلاح الزراعي هو زيادة الثروة القومية وتوجيهها لصالح الأغلبية إنَّ أمكن، ويُشير المؤلف، موجهًا الانتباه إلى صعوبة تحقيق الإصلاح الزراعي، إلى أنه من العسير أن نطلب من ملايين الفقراء فهم أهمية هذه العملية في الوقت الذي لا يُبدي فيه الأغنياء أي تعاطف مع الفلاحين إلا فيما ندر، يقوم المشروع المُقترح للإصلاح على مبدأ توسيع وحماية المِلكيات الضخمة الخاصة الصغيرة. وفي الوقت نفسه تُحدد الملكية الخاصة الضخمة للإقطاعيِّين، وتنظيم عمليات المؤاجَرة، والحفاظ على مصالح صغار الملاك، ويَطرح المشروع حدود الملكية على أساس أن يكون الحد الأدنى ثلاثة فدادين، والمتوسِّط عشرة فدادين، والحد الأعلى للمِلكية لا يتجاوز مائة فدان. على أن تستخدم الأرض الحكومية والأوقاف الخاصة كرصيدٍ لتوسيع الملكيات الصغيرة.
ويُعارض الكاتب الرأي الشائع بأن حجم الملكية لا يجب أن يزيد على خمسين فدانًا؛ فإن هذا سوف يُحدُّ من إمكانيات الفلاح الغني الذي يعدُّه عاملًا هامًّا في تطور القرية (٩٧، ٦٠). إن الكاتب يَعي جيدًا أهمية الإصلاح الزراعي لمصر، لكنه لا يقدم اقتراحاتٍ جوهرية على المستوى العلمي لتحقيقه؛ ففي رأيه أن الإصلاحات المقترحة يمكن أن تتحقق فقط في وجود رأي عام قوي يجب العمل على تشكيله أولًا وقبل كل شيء.
لقد أثار موضوع تحسين وضع الفلاحين جدلًا واسعًا بالرغم من أنه لم تُتَّخذ أية خطوات لرفع مستوى حياته وثقافته. وفي الوقت نفسه فقد كان الجدل بشأن وضع الطبقة العاملة أقل حدة بالرغم من الاتفاق على ضرورة النهضة الاقتصادية وخاصة تصنيع البلاد العربية وعلى رأسها مصر. غالبًا ما كانت مشكلة الطبقة العاملة، شأنها في ذلك شأن قضية الفلاحين، وخاصة في مصر حيث كانت البروليتاريا أكثر عددًا ونضجًا، مجرَّد «ورقة» في اللعبة السياسية، قدم الليبراليون والدستوريون في خطبهم وعدًا بتشريعٍ عمالي، كما وعدوا بإقامة مساكن ومدارس ومستشفيات للعمال. ودافع الوفديون عن مصالح العمال وطالبوا بالعدالة من أجلهم (ظهرت المقالات التي تضم هذه المطالب في كلِّ عدد تقريبًا من صحيفة «السياسة» الوفدية عامَي ١٩٣٨م و١٩٣٩م) (١٣١، ٥٧٥)، وساهم ازدياد دور البروليتاريا في الحياة الاقتصادية للمجتمع العربي، واشتداد الحركة العمالية، على دعم نقابات العمال وظهور قانون العمل (تونس، مصر). على أنه لم تطرح برغم هذا برامج إيجابية لها طابع راديكالي، فالأحزاب البورجوازية الإقطاعية كانت مؤهَّلة لتقديم بعض التنازلات المُتواضعة فقط.
يعدُّ كتاب مصطفى محمود فهمي «الحياة الاجتماعية في مصر» الصادر عام ١٩٤٠م واحدًا من أهم الأعمال التي تناوَلت الطبقة العاملة في مصر، ومع أن الكاتب على ولاء واضح لنظام الإنتاج الرأسمالي إلا أنه يَعترف بوجود فوارق طبقية في البلاد، ويَكتب عن الحياة الصعبة للبروليتاريا المصرية، ويقترح بعض الإجراءات لتخفيف الوضع عن العُمال وتحسين التشريعات العمالية.
رأت الأغلبية أن تقسيم المجتمع إلى أغنياء وفقراء أمرٌ طبيعي. كتب علي أن التقسيم المتساوي للثروة أمرٌ طبيعي، وهو أمرٌ يمكن حدوثه: «عندما يتساوى الناس عقليًّا، عندما تختفي الاختلافات التي بينهم في المواهب، ويتحقق العقل والعلم والتعليم ويختفي الغباء ويكون العمل وحب العمل ظواهر عامة، أضف إلى هذا أننا لو كفلنا لكل إنسان السعادة لاختفت أي رغبة في العمل» (١٠٨، ٢٢٥). ويؤكد العقاد أن الشيوعية شر؛ خصوصًا لأنَّ الشيوعيِّين يريدون مساواة الأغنياء بالفقراء (١٧٠، عام ١٩٤٥م، ع ١٢). ويقول توفيق الحكيم: «إن أنبياء الشرق قد فهموا أن المساواة لا يُمكن أن تقوم على هذه الأرض، وأنه ليس في مقدورهم تقسيم «مملكة الأرض» بين الأغنياء والفقراء، فأدخلوا في القسمة «مملكة السماء»» (٦٨، ٨٨)؛ ولهذا فإن محاولة إيجاد وسيلة للشفاء من الأمراض الاجتماعية كانت تنتهي عادةً بقدرٍ معين من التوصيات الطوباوية بالسمو بالعلاقات الإنسانية، وأحيانًا ببعض أشكال المضاربة ببناءٍ اجتماعي «مثالي»، وكلها في نفس أطر العلاقات البورجوازية. عكست كل هذه التوصيات والصيغ النزعة الإنسانية للأيديولوجيين العرب، التي تشكَّلت بفضل تفاعل حركات التحرر القومية العالمية والحركات الديمقراطية، والأفكار التنويرية والتقاليد الإنسانية العالمية والثقافة العربية، بالإضافة إلى أنها كثيرًا ما كانت تحمل آثار التعاليم الإسلامية أو المسيحية. وقد أشار المؤتمر الأول للطلاب العرب في أوروبا إلى أهمية البحث عن أفضل النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مع الأخذ في الاعتبار أحوال المجتمع العربي والظروف الخاصة للعالم العربي، والاعتماد على تجربة الغرب أيضًا: التجارب الشيوعية والديمقراطية والفاشية (١٠١، ١٣٩).
وبشأن عدم المساواة في المِلكية، كثيرًا ما أشير إلى بناءٍ اجتماعي لا مكان فيه للتناقضات الحادة، تقوم فيه الدولة بتنظيم التعاون بين السكان للصالح العام. كان الأيديولوجيون ذوو الأفكار الحرة يَحلمون بالرفاهية المشتركة في مجتمعٍ حر ينعم بالرشد والعدالة. وقد سعى الكُتاب الاجتماعيون العرب إلى إثبات أن من الممكن والضروري القضاء على الفوارق في الملكية على أساس علاقات الإنتاج البورجوازية. وقد وضعوا الشعب بأسره في مواجهة الصفوة الإقطاعية الأرستقراطية في حلِّهم لمشكلة «الإنسان والمجتمع». ومع ذلك فإنهم (في كل الأحوال بعضهم) لم يستطيعوا أن يغضُّوا البصر عن الحقيقة، وخاصة ذلك الوضع القاسي للفلاحين، والفئات الدنيا في المدن، وإنما حاولوا أن يجدوا حلًّا للتناقضات بين الأغنياء والفقراء في إطارٍ ليبرالي متحفِّظ. وبقدر ما كان أكثر الناس تقدمية ينظرون إلى أشد فئات السكان فقرًا على أنهم مجرد بؤساء، فإنهم كانوا يَرون أن من واجبهم الأخلاقي والاجتماعي إظهار التعاطف مع الفقراء. على أنه هناك استثناء ربما كان يمثله فقط شبلي شميل الذي اعتبر أن الإنسان ليس بحاجةٍ إلى الرأفة والشفقة.
لم يدرك الرأي العام، حتى في أكثر البلاد العربية تقدمًا، ضرورة إقامة العدالة الاجتماعية إلا بعد الحرب العالمية الأولى؛ فقد ظهر كما أشار الكاتب التونسي الظهار الحداد «الشعور المُشترك بالمعاناة»، والوعي بضرورة النضال ضد هذه المعاناة بالجهود المشتركة (٥٩، ١٣٩). وكما حدث في القرن الماضي؛ فقد ناشد الكتاب الاجتماعيون أرباب الأعمال أن يُظهروا الطيبة نحو الفقراء مُعتمدين على إحسانهم، (كتب كُرد، على سبيل المثال: «لو أن أصحاب رءوس الأموال فكروا في واجبهم نحو المعدمين فإن أعباء الحياة بالنسبة لهم ربما تقل بشدة») (١٠٨، ٢٢٥). وفي نهاية الثلاثينيات رأى، مثله في ذلك مثل غالبية المثقَّفين العرب الآخرين آنذاك، أن إمكانية القضاء على الشرور الاجتماعية في تعاون الأغنياء والفقراء» (١٧٠، ١٢٥).
لقد كانت مي زيادة (١٨٩٥–١٩٤١م) الكاتبة العربية الشهيرة نموذجية في هذا المجال، رأت الكاتبة: ضرورة إنشاء مطاعم عامة وبيوت للنوم حتى لا يُعاني الناس من الجوع والبرد؛ من ثم لا يُضطر للجوء إلى السرقة، توفير العمل لكلِّ مَن يقدر عليه، وإنشاء مؤسسة للعجزة والأطفال من زيجاتٍ فاشلة، إدخال نظام التعليم الأولي المجاني، ولكنها كانت ترى الاكتفاء بذلك القدر من التعليم الضروري للإنسان لإدارة أموره بنجاحٍ (فلا حاجة للنجار إلى فلسفة!)، تنظيم الخدمة الطبية وتوفيرها للجميع، الاعتماد على الحكومات أو المجتمع في نفقات الإجراءات القضائية حتى لا تكون هناك ثغرة للرشوة (١٧٦، م٦١، ص١٣٤–١٣٦).
رأى المُفكِّرون العرب، الذين تربوا بروح احترام مبادئ الديمقراطية والعدالة البورجوازية التي أعلنتها الثورة الفرنسية، العيوب الحقيقية للديمقراطية البورجوازية والنُّظم الاجتماعية المعاصرة لهم. لم تكن أسباب الفوارق الاجتماعية واضحًا تمامًا لأكثر هؤلاء المفكرين فطنة؛ ولهذا لم يكن من المدهش ظهور أفكار ترى أن المجتمع الصناعي يتجه نحو الدمار، وأن على الدول العربية أن تتجنَّب النمو الرأسمالي. لقد كانت رومانسية الماضي أمرًا طبيعيًّا. وليس من قبيل الصدفة أن يتحدَّث توفيق الحكيم عن الصناعة باعتبارها معجزة شطرت الغرب إلى أغنياء وفقراء، وأنها أفقدت الإنسان قربه من الطبيعة. ويؤكد الحكيم أن خلاص الغرب لن يحدث إلا عن طريق روحانية الشرق (٦٨، ١٧٥–١٨٢). ويُضفي أمين الريحاني على عمل الفلاحين والصناعة طابعًا مثاليًّا: «المغزل في البيت هو رمزٌ للعمل الحر» (٨٤، ٧٤). وكتب عبد الله العلايلي: «إن آلة الصناعة الحديثة … هي أحد العوامل التي تعوق سعادة المجتمع الإنساني، وتُمزق قوة وحدة المجتمع، وأصبحت سببًا في التفكك الاجتماعي. لقد بلغ الصراع الطبقي حدته مما يهدد بفناء الحضارة الحديثة». ويدعو العلايلي إلى التعاون الطبقي وإرساء أسس نظام المقايضة الإقطاعي في مجال الصناعة من أجل إقامة عدالة اجتماعية، عارضًا مجتمع ما قبل البورجوازية في صورةٍ بهيجة، زاعمًا أن الإنسان كان آنذاك يمتلك أسباب السعادة والراحة (٦٨، ص٥٥، ٥٨–٦١).
من البديهي أن الكُتاب الاجتماعيِّين العرب لم يستطيعوا أن يتجاهَلوا فكرة الاشتراكية في عصر ما بعد ثورة أكتوبر، بالرغم من أن تصوراتهم عنها كانت ما زالت مبهمة ومشوشة للغاية. كتب توفيق الحكيم عن هذه الفترة يقول: «إنَّ التجربة الاشتراكية موجودة في هذه المرحلة، التي لا يزال كل شيء فيها غير واضح، وليس لها نتائج بعد (٦٨، ٨). وقد نظر هؤلاء إلى الاشتراكية العامية والشيوعية نظرتهم إلى أيديولوجيةٍ هدامة، واعتبروا أن ديكتاتورية البروليتاريا شكلٌ من أشكال الحكم الاستبدادي (٦٨، ٩٠)، وأن المساواة الاجتماعية هي مساواة أفراد لم تسوِّ بينهم الطبيعة (٩٦، ٦١).
كان أكثر المواقف تميزًا هو، بداهةً، موقف العقاد الذي كان يؤيد الاشتراكيِّين في كل شيء يمسُّ تحسين أوضاع الفقراء، ولكنه يقف ضدهم في كل شيء يعتقد أنه يحدُّ من الحرية الفردية وحرية الفِكر، كما كان يقف ضد ديكتاتورية الطبقة العاملة. والاشتراكية من وجهة نظر العقاد هي ذلك النظام الذي يُخلص العامل من الخوف أمام رب العمل، ويُحوله من تابعٍ للآلة إلى عاملٍ واعٍ محب للعمل. والاشتراكية تُطالب بإعادة النظر في قانون الميراث بغرض عدم السماح بتراكم الثروات الزائدة؛ إذ من الضروري أن تُتاح للناس إمكانيات مُتساوية (ولكلٍّ بقدر مواهبه)، وأن يكون لهم الحق في الأجر العادل نظير العمل. زد على هذا أن الاشتراكية قبل أن تُصبح واقعًا يجب أن تقوم، في رأي الكاتب، بإقامة العلاقات الأخوية بين الناس والتضامن الأخوي اللذَين سوف يُساهمان في … أنسنة الإنسان (٧٥، ص١٧١–١٧٣).
إن مجتمع العقاد «الاشتراكي» هو نفسه المجتمع الرأسمالي مع بعض الطلاء في الواجهة. وجهات نظر الأيديولوجيِّين العرب، يَغلب عليها عمومًا طابع الاشتراكية الإصلاحية نفسها، مع أن بعضًا منهم بدءوا في فهم المغزى الحقيقي للاشتراكية العِلمية بالنسبة للبشرية.
يُعتبر الطاهر الحداد عضو الحزب الدستوري والشخصية السياسية والاجتماعية البارزة، والشاعر والمناصر للحركة الإسلامية الإصلاحية وحركة تحرير المرأة، والذي ترك نشاطه تأثيرًا ملموسًا في حياة المجتمع التونسي، واحدًا من روَّاد النضال الإيجابي من أجل العدالة الاجتماعية من منظورٍ اشتراكي. ومنذ عام ١٩٢٤م قام الحداد بقيادة نضال لا تنازل فيه من أجل إنشاء اتحاد عام للعُمال التونسيِّين، معتبرًا إياه أهم سلاح في النضال من أجل العدالة الاجتماعية وإضفاء النزعة الراديكالية على الحركة القومية في البلاد. كان الحداد يُؤمن بالاشتراكية ويحيي انتصار ثورة أكتوبر في روسيا. وفي كتاب «العمال التونسيون وظهور الحركات النقابية»، الصادر عام ١٩٢٧م، يشير الحداد إلى وجود تناقُضات حادة بين العمل ورأس المال في أوروبا. وأشار أيضًا إلى وجود تنافُر وصراعات طبقية فيها لا بد وأن تَنعكس آثارها على الشرق. وأكَّد أن الخصوصية التونسية تستجيب فقط للتطور الاشتراكي التدريجي أما التحوُّل الثوري فلا مُبرر له، تاريخيًّا، بالنسبة لتونس: «إنَّ مقدمات هذا التحول الاجتماعي الذي يُمكن أن يجري إعداده عن طريق نشر الرُّوح الثورية غير موجودة نهائيًّا في تونس في الوقت الحالي» (٥٩، ١٤٠)، مع الأخذ في الاعتبار تشتُّت الطبقة العاملة في مختلف المؤسسات الصغيرة والهزيلة، وكذلك تشتُّت الإنتاج الزراعي. فلا يزال النضال الجماهيري غير ذي أهمية جوهرية تذكر بالنسبة لتونس؛ إذ إنه «لا توجد لدينا أسس يُمكن أن نُبرر بها الصراع الطبقي» (٥٩، ١٤٠): «هل يُمكن أن نطلق في تونس الآن الصراع الطبقي من عقاله، من أجل أن نسبق المعارك الطبقية القادمة، آخذين في الاعتبار الوضع الحالي للبناء الطبقي، كلنا مُسلطٌ على رأسه نفس السيف؟» (٥٩، ١٤٤).
أشار الحداد إلى ضرورة تكاتُف كل القوى الاجتماعية (خارج الإطار الطبقي) مسلَّحة بالمعرفة أمام الخطر القومي العام في المرحلة الراهنة من مراحل تطوُّر المجتمع الطبقي في تونس من جانب الاستعمار ومن أجل توفير الثروات القومية. وعلى هذه القوى الجديدة أن تضع أساس الحياة السعيدة للشعب. ومن الضروري، من أجل تحقيق هذا الهدف، أن تقوم القوى المُتنورة، بادئ ذي بدء، بإيقاظ القلوب والعقول على حياةٍ فعالة وتحقيق الإصلاحات الاجتماعية. وفي هذا الإطار يجدر القيام بإنشاء النقابات المهنية، التي سوف تُساعد العمال في الحصول على حقوقهم كما فعل العمال في الغرب. (٥٩، ص١٦، ١٤١–١٤٤).
ومن الأمور الجديرة بالاهتمام ظهور راديكالية اجتماعية نسبيًّا في جماعة «الأهالي»، التي تأسَّست في العراق في نهاية ١٩٣١م. لعبت هذه الجماعة، التي أصدرت في عام ١٩٣٢م جريدةً تحمل نفس اسمها، دورًا هامًّا في تطور النضال القومي التحرُّري وفي الفكر السياسي في البلاد، بالرغم من أنها لم تتمتَّع بأي تأييدٍ جماهيري. جاء في برنامج الجماعة المنشور في العدد الأول من «الأهالي»: «جريدتنا شعبية، وهي تضع مصالح الشعب فوق كل مصلحة، والأهم هو ما يكون في صالح أغلبية الشعب، رفع مستوى المعيشة، توفير الوضع المادي الجيد والنمو الروحي، إدخال الأسس الصحية للوضع السياسي والاقتصادي، استغلال مواهب الشعب ومصادر النمو الاقتصادي والإمكانيات الأخرى على أفضل وجه» (٥٤، ٢٣).
وكما كتب كامل الجادرجي (١٨٩٧–١٩٦٨م) في مذكِّراته، وهو أحد أعضاء جماعة «الأهالي» وأصبح فيما بعدُ زعيمًا للحزب القومي الديمقراطي (الذي تسلم الراية من «الأهالي»)، فإن الجماعة كانت تتَّخذ من «الشعبية» التي تتطلَّع إلى النهضة الشاملة في البلاد مبدأ لها، كما تسعى إلى تغيير النظام الاستغلالي القائم وإقامة نظام قد يكفل تقريب الفوارق الاجتماعية بين الناس، وإلى رفاهية الشعب وحقوق الإنسان وتوفير الرعاية الصحية، وباختصار كانت الجماعة تدعو إلى الديمقراطية السياسية والاقتصادية، رافضةً مبدأ الصراع الطبقي ودون أن تُحاول المساس بأسس الإقطاع. يدلُّ على ذلك برنامج الجماعة المنشور عام ١٩٣٣م في كتيِّب يحمل اسم «الشعبية» جاء فيه: «(الشعبية) هي علاقة محدَّدة بالمشاكل الاجتماعية، وسعى نحو حلها بهدف ضمان المجاورة الاجتماعية والرفاهية والتقدم: يجب أن يكون الإنسان واثقًا من توافر حقيقة (المساواة، حق العمل وَفق كفاءته)، كما يجب إشباع الحد الأدنى من حاجاته المادية والروحية والتحسين المُستمر والمتطوِّر لمستوى معيشة المجتمع. وفي مجال المبادئ الأساسية: السيادة التامَّة للدولة، وحدة الأمة، رفض الصراع الطبقي، سيادة الشعب، دولة دستورية ديمقراطية.
تفترض المبادئ الديمقراطية رقابة الحكومة على الفروع الرئيسية للصناعة وتنمية رأس المال الوطني في وجود مشروعات حرة للحِرَف الصغيرة ومشروعات أصحاب المِهَن الحرة، وتأميم وسائل النقل ومصادر المياه ووسائل التعليم، وتوزيع الأراضي الحكومية على الفلاحين، وتوسيع الحركة التعاونية، وإتاحة فرص العمل التي تضمَن الحد الضروري للحياة، وإدخال نظام التعليم الأولي المجَّاني، وتطوير العناية بالصحة، ووضع تشريعات مدنية حديثة، وتحرير المرأة» (٥٤، ٤١–٥٠).
وتطوَّرت هذه المبادئ مؤخَّرًا على يد جمعية الإصلاحات الشعبية (١٩٣٦م)، التي أضافت شعارات القضاء على استغلال الإنسان للإنسان، إدخال تشريعات العُمال من أجل الدفاع عن حقوق الكادِحين، وبناء وتطوير نشاط النقابات المهنية … إلى آخره، ونشرت صحيفة «الأهالي» بضع مقالات لكتَّابٍ فضحُوا فيها التخلُّف ودافعوا عن استقلال البلاد كما نادَت الصحيفة برفع المستوى المادي والثقافي للشَّعب، وانبرَت للوقوف ضد الظلم الإقطاعي والاستعماري. وكتبَت عن أوضاع الفلاحين، وأفرَدَت عمودًا خاصًّا لأخبار العمال (١٩، ٣٥٢).
كان ظهور مجلتَي «الدهور» و«الطليعة» في سوريا ولبنان وصحيفة «الأهالي» في العراق و«المجلة الجديدة» في القاهرة، بداية لعهدٍ جديد في تطوُّر الفكر الاجتماعي العربي (فقد أصبحت المشكلات الاجتماعية منذ ذلك الحين موضوعًا دائمًا للاهتمام)، قامَت هذه الصحف والمجلات، على نحوٍ خاص، بتعريف القارئ بأُسسٍ الاشتراكية العِلمية، وبتطورات الحياة والبناء الاشتراكي في الاتحاد السوفيتي.
آنَذاك كانت إمكانية التطور الاجتماعي على أسسٍ اشتراكية قد شدَّت انتباه المثقفين التقدميين العرب. كانت تجربة روسيا السوفيتية مصدرًا للإلهام. وفي هذه التجربة وجد الطاهر الحداد «تجسيدًا لأحلام البشرية في الاشتراكية» التي صاغَها ماركس (٥٩، ٢٠). وفي عام ١٩٢٨م كتب أمين الريحاني عن الاتحاد السوفيتي بطريقته المجازية المميزة باعتباره: «… أرض الشر الأعظم (هكذا يصف الريحاني العُنف الثوري – لينين) تضع بذور الخير الأعظم» (٨٠، ١٩).
على أن تصورات المُفكِّرين والكتاب الاجتماعيِّين العرب كانت تتَّسم، كقاعدة، بطابعٍ إصلاحي طوباوي. هكذا كانت أحلام أمين الريحاني عن المساواة الاجتماعية ومجتمع العدالة. كتب الريحاني في عام ١٩١٠م: «لو أن رسالة ما نزلت، لأمر الحكام بتأييد الرسل الذين جاءوا إلى الناس برسالة الحب والأمل والإيمان مقارنًا أسس الاشتراكية بأسس عقيدته» (٨١، ج١، ص١٤٣). رسم هذا الحالم المجتمع الاشتراكي على أنه عالم العدالة الاجتماعية الذي يتمُّ بناؤه بعد أن تَنتقِل السلطة بالطرق السلمية إلى يد الأغلبية التي لا تملك سلاحًا (٨١، ج١، ص١٤٣)، هنا «سيعرض الإنسان مكانه في المجتمع وسوف يُثاب على عمله. وفي هذا، في رأيي، تتلخص المساواة التامة» (٨١، ج١، ص١٣٧). وكتب الريحاني أيضًا «يجب أن نُحدَّ من عدد الفقراء في العالم حتى يقلَّ ويَنعدم تدريجيًّا الفقر وما يرتبط به من شر. إن المُفكرين التقدميِّين وكل من ينظر من مواقف البشرية بأسرها سوف يتحقَّق لهم هذا النظام الاجتماعي الاقتصادي، هذا هو الهدف العظيم الذي ستُحقِّقه كل الشعوب المتحضِّرة» (١٧٦ م٨، ص٩٠).
تقوم اشتراكية البورجوازية الصغيرة عند الريحاني على مبدأ الاحتفاظ بالملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والمقابل العادل نظير العمل، فهو يُؤكد أن عالم «الأخوة المشتركة» الجديد سوف يحصل فيه الإنسان على الحرية الحقيقية للعقيدة، ويتسنَّى له اختيار نشاطه، وسوف يَمتلك العمال السلطة في النظام الاشتراكي، ولن تكون هناك حروب أو استعباد استعماري» (٨١، ج١، ص٢٧٣-٢٧٤).
كان الريحاني من الشخصيات العربية التي أولَت اهتمامًا كبيرًا إلى تطور المجتمع الاشتراكي في الاتحاد السوفيتي، واعتبره أهم مرحلة في التطور التاريخي للإنسانية. كتب الريحاني يقول إن «الدولة السوفيتية تمرُّ حاليًّا بتجربةٍ اجتماعية وسياسية واقتصادية ليس لها سابقة في التاريخ، وعلينا أن ننتظر نتائجها … إن المشرعين للسوفيتات يرفعون المثال الأعلى لخير الإنسان على الأرض، ويعملون من أجل تجسيده في الواقع. هناك عملٌ جبار يتمُّ ومهما كانت هناك من أخطاءٍ أو تجاوزات في هذا العمل، فإن علينا ألا ندينها ما دمنا لم نرَ بعدُ النتائج ولم نَذُق الثمار!» (٨١، ج١، ص٢٠٣).
إنَّ الريحاني (داعية مُنجَزات الحضارة الغربية، وربما، أشد مَن انتقد المجتمع البورجوازي من بين العرب الذين لا يعرفون الأسباب الحقيقية للفوارق الاجتماعية، ولا يَعرفون الأعباء الباهظة لأوهام الإصلاح) يرى أنَّ الهدف الأسمى للشعوب التي نالت حريتها … هو شيء ما بين الماركسية البلشفية في روسيا والاشتراكية الديمقراطية في أمريكا، ما دامت هذه «التجربة التي لا نظيرَ لها» لم تَنتهِ بعد (!) (٨١، ج٢، ص٣٩).
ولعب سلامة موسى دورًا بارزًا في انتشار الفكر الاشتراكي في البلاد العربية، ظلَّ سلامة موسى دائمًا نصيرًا للاشتراكية الفابية التي تعرف عليها إبان شبابه، فكان يرى أن الطريق إلى الاشتراكية هو طريق الإصلاحات التدريجية. وتأثَّر سلامة موسى بأعمال كارل ماركس كما ذكر هو نفسه ذلك في مُناسباتٍ عديدة، وكان يرى أن «المانفستو» بصفةٍ خاصة، يَسمح لأبسط الأشخاص بفهم مبدأ البناء الاجتماعي (٣٣، ١٢). على أنه بقيَ على ولائه لبرنارد شو الذي أضفى على الماركسية، حسب رأيه، رُوحًا أكثر إنسانية مع انتهاجه لها ودون أن ينفصل عنها (١١٧ ص٩١، ١٠٢).
كان سلامة موسى واحدًا من المثقفين العرب القلائل في الجيل القديم، الذين أدركوا أن مشكلة إقامة الاشتراكية العالَمية أصبحت محورًا للحياة السياسية على الأرض، بالرغم من أن أفكاره كانت تعكس بصورةٍ حاسمة الفكرة الإصلاحية القائلة بتأصيل الاشتراكية في الرأسمالية. يُؤكد سلامة موسى أن العالم قد سيطَرت عليه بعد الحرب الأزمة التي سوف تحلُّ «بالصراع، أو ربما، بالاتفاق بين الماركسيِّين، الذين يدعون إلى الإنتاج الجماعي، والديمقراطيِّين المتمسكين بمبدأ المنافسة الاقتصادية» (١١٧، ١٠٢).
ويُجيب سلامة موسى على سؤالٍ وُجِّه إليه حول الدرس الذي يُمكن الاستفادة منه في المستقبل على ضوء تجربته، فيقول: «إنَّ الحاضر يُحدد ملامح المستقبل … المستقبل هو الاشتراكية التي ستسُود العالم بأسره، لا لأنَّ الطالحين سيُصبحون صالحين، وإنما لأنَّ تطور الإنتاج ذاته والمواصلات والتجارة ستؤدِّي إلى الاشتراكية … سيُصبح العالم دولةً واحدة تعمل على الوصول إلى … لغة واحدة وثقافة واحدة … هذا البناء المشترك سيسمو بالمرأة من أنثى إلى إنسانٍ بعد أن يفتح أمامها إمكانية العمل والحصول على الخبرة والمعرفة على قدم المساواة مع الرجل، ويُحررها من قيود الأعباء المنزلية الكثيرة …» (١١٧، ٢٣٥).
ويرجع الفضل في أول محاولةٍ منظمة في العالم العربي لدراسة أسس الاشتراكية إلى اللبناني نيقولا حداد (١٨٧٠–١٩٥٤م)، ظهرت في العدد الأول من مجلة «الهلال» القاهرية عام ١٩١٨م مقالة حداد بعنوان «ما الذي تُريده وما الذي لا تريده الاشتراكية؟» ويعلن الكاتب في المقدمة أن ظهور مقالته هذه أملاه التأكيد الذي ورد في أحد مواد العدد الماضي على أن «الاشتراكيين يَعتبرون أن الطريق الوحيد لحلِّ مشكلات العمال هو طريق نزع ملكية الرأسماليِّين، ومصادرة كل ما لديهم من وسائل الإنتاج وإعطائها للعمال، الذين سيقومون بتقسيم الدخول الناتجة عن استغلال وسائل الإنتاج هذه، بدلًا من الأجور المحدَّدة الحالية» (١٧٨، ع١٢، ٤١). هذا الموقف من القضية يرفضه حداد ويرى أن من الضروري تعريف القارئ بالمفاهيم المختلفة التي كثيرًا ما تختلط بالمعنى الحقيقي للاشتراكية، ويتناول حداد النزعة النقابية بالنقد. ويرى أنه مذهبٌ لا يحل مشكلات العمل ورأس المال، ويترك الفرصة مُتاحة أمام ثراء بعض الأشخاص واستغلال الإنسان للإنسان. كما يَنتقِد أيضًا نظرية اشتراك العمال في الأرباح ونظرية الصراع الاقتصادي للطبقة العاملة من أجل تقليل ساعات العمل وزيادة الأجور، وهي أمور تعتبر انتصاراتٍ جزئية لن توقف من الصراع الطبقي. كما ينتقد فكرة نزع الملكية الشامل عند تقسيم الثروة على أساس الثروة. ثم يقدم حداد بعد ذلك عرضًا لجوهر المذاهب الاشتراكية بروح أعضاء حزب العمال ر. مكدونالد وف. سيندون وبرنامج الحزب الاشتراكي الأمريكي.
يرى حداد في كتاباته أن المذهب الاشتراكي يتسم بمعقوليةٍ شديدة؛ فهو يقوم على القوانين الاجتماعية الاقتصادية الموضوعية التي تتطلَّب القضاء على نظامٍ اقتصادي وإقامة نظام آخر جديد، وإلغاء ذلك الوضع الذي تلدُ النقود فيه النقود وتكون فيه الثروة فقط هي ناتج العمل.
ولا بدَّ أن يكون هناك أجر على كل عملٍ يُبذل. إنَّ الاشتراكيِّين يَشجُبون تركيز الثروات التي خلقها كدح العمال في أيدي القلة، ويسعون إلى أن تكون كل العقارات والمؤسسات الصناعية وغيرها تحت تصرُّف الحكومة، حتى يمكن أن تكون مصدرًا لخير الشعب كله. وفي هذه الحالة فإن «النقود ستفتقِد القدرة على الإنتاج، ستفقد خصائص رأس المال في أن يقوم بدور الاستثمار، ستبقى فقط مجرَّد ثروات يمكن إنفاقها من وقتٍ لآخر على المتعة التي لا يمكن الحصول من وراءها على أرباح» (١٧٨، ع١٢، ص٤٣)، ونيقولا حداد هو مؤلِّف كتاب «الاشتراكية» الذي صدَر عام ١٩٢٠م في القاهرة، وهو الكتاب الوحيد من نوعه في العالم العربي. يتكوَّن هذا الكتاب من ثلاثة أجزاء، يضم الجزء الأول نقدًا للرأسمالية والثاني يعرض للأوضاع الأساسية لنظرية الاشتراكية، ويختتم حداد كتابه بقسم، طريق العالم إلى الاشتراكية.»
يُشير الكاتب إلى وجود تناقضاتٍ بين العمل ورأس المال، ويشجب الرأسمالية التي تستولي على ثمار العمل الخاص بجيش العمال الضخم. وفي رأيه أن المغزى الإيجابي للاشتراكية بالنسبة للإنسانية ينبع من أن التعاون (وهو إحدى السمات المميزة للاشتراكية) هو في الوقت نفسه، إحدى خصائص الإنسان، على حين أنَّ النزاع والصراع (وهما من خصائص المجتمع البورجوازي) من سمات عالم الحيوان. ويذكر حداد أن الاشتراكية تقوم على ملكية كل الشعب للأرض ولكلِّ ثروات ومرافق البلاد، كما أن الدولة تركز في يدها وسائل النقل وموارد الغاز، وتَكفل للشعب المواد الاستهلاكية الأساسية إلى آخره؛ تَمتلك الدولة كل شيء بما في ذلك المحال والمقاهي ومن يعملون بها. وفي هذه الحالة تلتزم بمبدأ المكافأة العادلة مُقابل العمل المبذول (٦٠، ٥٨).
ويؤمن حداد، مثله في ذلك مثل الريحاني وسلامة موسى أن العدالة في المجال الاقتصادي لا يُمكن أن تتحقَّق دون ديمقراطية سياسية؛ إذ إن الاشتراكية هي الديمقراطية في المجال الاقتصادي و«إذا لم تُمثل الحكومة كل الشعب فإن من المستحيل تحقيق مبدأ الاشتراك العام في الحصول على وسائل الوجود طبقًا لنصيب اشتراك كل فرد في إنتاجها» (٦٠، ٥٥).
والسبب الرئيسي لكلِّ الشرور الاجتماعية يكمن في انقسام المجتمع إلى مُستغِلين ومستغَلين، والتأكيد على مبادئ التعاون بين الناس أمرٌ ممكن من وجهة نظر حداد «بالطريقة الديمقراطية» إبان عملية نمو النظام متعدِّد الأحزاب؛ ولهذا فهو يعارض استخدام العنف من أجل التحول الاجتماعي ولا يسلم «بالتجربة البلشفية».
يذكر نيقولا حداد عددًا من الإجراءات التي يُمكن أن تعد لإقامة المجتمع الاشتراكي من بينها، بصورةٍ خاصة، التحديد الشديد لمساحات الأراضي المملوكة، تأميم المرافق الاجتماعية وفروع الاقتصاد التي لها أهمية قومية عامة (مع التعويض)، فرض ضرائب تصاعدية، تنمية المؤسسات الاجتماعية، حرية التعليم، توفير إمكانية العمل لكلِّ شخصٍ وفقًا لمواهبه (٦٠ ص٣٤، ٣٦–٤٤، ٥٠، ٥٥، ٦٠، ٧٠).
في تلك الظروف التي كانت الصحافة تقوم فيها، في الغالب، بنشر تصورات مشوَّهة أو كاذبة عن الاشتراكية والشيوعية، ظلَّ حداد كداعية، برغم ما اتسمَت به وجهات نظره من نزعاتٍ إصلاحية، فريدًا بين الإصلاحيِّين الاجتماعيِّين العرب الذين رأوا في الإصلاح واحدة من الأفكار (وليست الفكرة الرئيسية التي تُكوِّن مفهوم أنسنة الإنسان).
وتجدر الإشارة هنا إلى بعض الانتشار الذي ربما تكون قد لاقته، قبيل الحرب العالمية الثانية، نظرية الإصلاح الاجتماعي الغربي المعدلة؛ وذلك في سوريا ومصر والعراق وتونس والجزائر. وفي الفترة ذاتها، وجدت الاشتراكية العِلمية لنفسها أنصارًا غير قليلين في العالم العربي: لم يكن الموقف يسمح بانتشار الأفكار الشيوعية وحتى الأفكار الاشتراكية ذات الصبغة الإصلاحية.
ويمكن القول إن الدعاية النشطة نسبيًّا للأفكار الاشتراكية في فترة ما بين الحربَين جرت في الجزائر وتونس، وبصورةٍ استثنائية تمامًا، بين العُمال والمثقَّفين الأوروبيين. وكان العمال المسلمون أكثر استجابة للدعاية القومية، حتى تلك المُصطبغة بالطابع المحافظ والرجعي، منها للأفكار التقدمية التي يحملها الأوروبيون. على أن التعامل الدائم مع الأوروبيِّين في مجال العمل، ويقظة الوعي الطبقي بين أبناء شمال أفريقيا الذين كانوا يعملون في فرنسا، ساهم في إيقاظ جزء ملموس من شباب البورجوازية المحلية الصغيرة ومن المثقفين الذين أبدوا اهتمامًا بالبحث عن طريقٍ لحلِّ المشكلات الاجتماعية وبخاصة الاشتراكية ذات الصبغة الإصلاحية. ويعدُّ محمد علي واحدًا من أبرز قادة شمال أفريقيا، ويَرتبط اسمه بالدعاية للاشتراكية حتى في مطلع العشرينيات، وكان شخصية ذات اتجاه قومي، ومُنظمًا للحركة النقابية في تونس. استطاع محمد علي مع مجموعةٍ من أصحابه في الرأي تحقيق فكرة الاشتراكية التعاونية، التي انتشرت آنذاك بشكلٍ واسع في أوروبا وخاصة في فرنسا، وعن طريق إنشاء جمعيات تعاونية إنتاجية ازداد أمل محمد علي في تغيير المجتمع الفرنسي (١٧، ٧١).
وظهرت في البلاد العربية في العشرينيات، جماعات شيوعية، واشتغل الشيوعيون بالدعاية لفكرة الاشتراكية العِلمية، وإليهم يعود الفضل الأول في انتشار الماركسية اللينينية في الشرق العربي.
يعود اتخاذ الأحزاب الشيوعية لشَكلِها التنظيمي الرسمي في البلاد العربية إلى النصف الأول من الثلاثينيات (باستثناء الحزب الشيوعي المصري الذي أنشئ عام ١٩٢٢م)؛ فقد تشكَّل الحزب الشيوعي في سوريا عام ١٩٣٣م وفي العراق عام ١٩٣٤م، وتحول الاتحاد الجزائري للحزب الشيوعي الفرنسي إلى حزبٍ مُستقلٍّ في عام ١٩٣٦م. وفي تونس ظهر الحزب الشيوعي في عام ١٩٣٦م، وفي المغرب في عام ١٩٤٣م.
كان أهم وسيلة للعمل الدعائي هو الصحافة الشيوعية التي ظهرت في الثلاثينيات في مطبوعاتٍ سرية بصورةٍ رئيسية. وفي عام ١٩١٩م ظهرت في تونس أول ترجمة للدستور السوفييتي. وفي مطلع العشرينيات ظهرت ترجمات عربية وفرنسية للأدبيات الماركسية. وفي عام ١٩٣٣م نُشرت في شرق العالم العربي ترجمة «بيان الحزب الشيوعي» قام بها خالد بكداش (المولود عام ١٩١٢م)، والذي تولى فيما بعدُ منصب أمين الحزب الشيوعي لسوريا ولبنان. وقد التفَّ عددٌ من الكتاب حول مجلة «الطليعة» التي كانت تصدر في دمشق، وقاموا بتأثير الشيوعيِّين بترجمة بعض من أعمال كارل ماركس وفردريك إنجلز وفلاديمير لينين وإصدارها باللغة العربية.
كان الشيوعيون دائمًا في طليعة حركة التحرُّر القومي في البلاد العربية، واشتركوا في النضال من أجل الديمقراطية، وساندوا كفاح العمال من أجل حصولهم على حقوقهم، من أجل وحدة القوى الوطنية والديمقراطية، من أجل تحرير وتنمية الاقتصاد الوطني، تمسَّك الماركسيون اللينينيون الحقيقيون بمبادئ البروليتاريا العالَمية وبفكرة ديكتاتورية البروليتاريا، ونادوا بتدعيم العلاقات مع الاتحاد السوفيتي، وبتقارب الشعوب العربية على أساسٍ ديمقراطي، وكانوا أعداء ألدَّاء ونَشِطين ضد الفاشية والنازية.
كان المستمع الرئيسي للشيوعيِّين في فترة ما بين الحربَين هم العمال المتعلمون المثقَّفون من البورجوازية الصغيرة، وقبل وفي أثناء الحرب العالمية الثانية ظهرت في سوريا ولبنان ومصر والعراق وتونس الجماعات التي ربطت بين مُمثلي المثقَّفين، الذين كانوا يبحثون في الاشتراكية عن النظام الاجتماعي الأمثل الذي يضمن للعرب أن يسيروا على طريق التطور الاجتماعي، كانت غالبية «الماركسيِّين التقدميِّين» يَعترفون بصفةٍ عامة بالكثير من جوانب الماركسية باستثناء أمر واحد من أهم جوانب الماركسية؛ ألا وهو ديكتاتورية البروليتاريا. وبالرغم من أهمية هذه الجماعات في انتشار الأفكار الاشتراكية في العالم العربي، إلا أنهم كانوا يُمثلون خطورة انحراف الحركة الشيوعية العربية، وخاصةً بسبب وجود فئة على جانبٍ كبير من الأهمية من مُمثلي الفئات الوسطى في صفوف البورجوازية، وهذه الفئة كانت واقعة تحت سلطان تصورات البورجوازية الصغيرة. وأصبح النضال من أجل نقاء الأحزاب والكفاح ضد الانتهازية والانحراف هو القضية العامة للماركسيين اللينينيِّين.
في عام ١٩٣٨م نشر يوسف سلمان يوسف (فهد) أمين الحزب الشيوعي العراقي كُتيِّبًا يحمل اسم «حزب شيوعي لا اشتراكي ديمقراطي»، عدَّد فيه الأسباب التي أدَّت إلى ظهور الانتهازية، في الحركة الشيوعية، التي تميزت بالانحرافَين اليميني واليساري، مشيرًا إلى بطلان هذه الانحرافات، يذكر يوسف سليمان أن الانتهازيِّين يحاولون أن يقنعونا بأن الاشتراكية في العراق لن تكون نتيجة لنضال البروليتاريا»، وأن «الطبقة الثورية في العراق هي الفئات الوسطى التي يجب أن يفتح الحزب أبوابه على مصاريعها أمام مُمثليها.» ويرى فهد خطورة هذا الموقف من مُنطلق أن الطبقة العاملة يقودُها في العراق مُمثلو البورجوازية الصغيرة، وأن الشيوعيِّين لا يَملكون بعد خبرة النضال ضد الانتهازية، وأن عدد الكوادر الحزبية ذات الخِبرة قليلة … إلى آخره. ويرى فهد أن الانحراف اليميني في الشيوعية يتمثَّل في التراجع عن الماركسية الثورية إلى الاشتراكية الديمقراطية التي تخدم مصالح المستغلِّين. أما الانحراف اليساري فيتناوله فهد بالنقد من منظور لينين في كتابه «أمراض الطفولة اليسارية في الشيوعية». ويعرض فهد في كتيبه للهدف الرئيسي للشيوعيين وهو قلب سلطة البورجوازية وإقامة ديكتاتورية البروليتاريا (٧٢، ٣٨–٤٤). هذا، وقد كان الانحراف اليساري هو الخطر الرئيسي في الحركة الشيوعية التونسية. ونشأ الحزب اللينيني المغربي الجديد في تونس في غمار النضال ضد المُنحرفين اليساريين وضد وجهات نظر الفوضويِّين النقابيِّين.
وكانت قضية تحقيق وحدة قومية في النضال المناهض للاستعمار واحدة من أهم القضايا بالنسبة للشيوعيِّين العرب في كل البلاد. ولم يأخُذ هذا الجانب من القضية نصيبَه الوافي من الاهتمام حتى منتصف الثلاثينيات. كان إعداد الجماهير للثورة الاجتماعية يأتي في المقدمة. ونتيجة للوضع المتعاظم لتهديد الفاشية ولاندلاع الحرب، طرَح الكومينترن في عام ١٩٣٥م، ضمن الأهداف المركزية للشيوعية، قضية النضال من أجل إقامة جبهة عُمالية وشعبية موحدة ضد الفاشية. وجاء في قرار أمانة اللجنة التنفيذية للشيوعية الدولية (فبراير ١٩٣٦م)، أنه على شيوعي البلاد العربية «ضمان التعاون الوثيق مع المنظَّمات القومية الإصلاحية، ودعم مطالب هذه المنظمات الموجهة ضد المواقف الإمبريالية» (٢٠، ٤٥٣). ظلَّت هذه التعليمات موجودة في أساس عمل الشيوعيِّين العرب، وحتى في عام ١٩٣٣م طرح الشيوعيون السوريون فكرة جبهة شعبية عامة موحَّدة لمناهضة الاستعمار إلى جانب قضية الحصول على زعامة الطبقة العاملة داخل حركة التحرُّر القومي. وكتب لاربي بوخالي أن «الحزب الشيوعي الجزائري وُلد في خضمِّ النضال من أجل توحيد القوى القومية والديمقراطية» (١٥، ٢٤). وفي عام ١٩٣٦م قام الحزب الشيوعي التونسي بالتوجه «إلى كل الشغيلة بغضِّ النظر عن الجنس والدين ووجهات النظر الفلسفية» (١٧، ٢٠٥)، بعد أن جدَّد نشاطاته داعيًا إياهم إلى النضال من أجل إقامة المؤسسات الديمقراطية والجمهورية، من أجل برنامج الجبهة الشعبية وتماسك الشعب ضد الفاشية والتهديد العسكري. وإذا كانت سياسة الأحزاب الشيوعية فيما سبَقَ قد ارتبطت «بشكل رئيسي بقضية السيطرة على أغلبية الطبقة العاملة، بهدف الاستعداد المباشر للثورة الاجتماعية، فإن مضمونها الآن أصبح هو النضال ضد الفاشية بالدرجة الأولى» (٢٠، ٣٩٨). واضطرَّ الشيوعيون لإخضاع قضية الاستقلال القومي لمصالح النضال ضد الفاشية، ممَّا أدَّى بهم إلى حرجٍ بالغ؛ إذ إن النشاط الفعال ضد دول الاحتلال (إنجلترا وفرنسا) من أجل استقلال البلاد العربية شكَّلت في الحقيقة نوعًا من المساعدة لقوى الفاشية والحرب؛ ومن ثَم فإنَّ ظهور تحفظ بشأن قضايا النضال التحرُّري القومي، لم يلقَ فهمًا صحيحًا من غالبية المُواطنين ذوي الميول القومية.
أحرزت القوى الديمقراطية، إبان نهضة حركة التحرر القومي، نجاحات في النضال ضد الفاشية، واتخذت الأحزاب الشيوعية في كلٍّ من سوريا والعراق عام ١٩٤٤م وثائق برامجية جديدة: «الخريطة القومية» في سوريا و«الحلف القومي» في العراق، طالب برنامج الحزب الشيوعي السوري باستقلال سوريا وسيادتها التامَّة، وإنشاء نظام ديمقراطي جمهوري على وجهٍ صحيح، دعم تضامن الشعوب العربية لتحقيق أهدافها في التحرُّر القومي، تنمية الروابط الوثيقة بين الدول العربية في كل المجالات، وراعى البرنامج تطوير الاقتصاد القومي وتحسين ظروف معيشة العمال إلى آخره (٣١، ٦٠).
وطرحت وثيقة «الحلف القومي» التي أصدرها الحزب الشيوعي العراقي هدفَين أساسيَّين؛ وحدة الشعب العراقي (من عربٍ وأكراد وغيرهم من الأقليات القومية الأخرى)، وإقامة جبهة قومية (تعبئة الجماهير وإعدادها للمعركة من أجل الاستقلال بعد انتهاء الحرب). كما طرحت الوثيقة أيضًا قضايا الحصول على الاستقلال، تشكيل حكومة تُلبِّي مصالح الشعب، تنمية الاقتصاد القومي، التخلص من سلطة الاحتكارات. كما رُوعيَت مسألة الدفاع عن صغار الملاك من الفلاحين والكفاح من أجل الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية للطبقة العاملة … إلخ (٧٢، ٥٧-٥٨). وتعتبر تلك الوثائق مرحلة هامة في الإدراك النظري للقضايا القومية لكلٍّ من الحزبَين الشيوعيَّين في سوريا والعراق. وقد ساهمت هذه الوثائق في توسيع الكفاح المناهض للاستعمار، وفتحت المجال أمام إقامة جبهة شعبية للنضال من أجل التحرر القومي.
لم يكن الوضع في البلاد العربية آنذاك يسمح بانتشار الأيديولوجية الشيوعية؛ فقد كانت هذه الفترة التي تمَّ فيها وضع الأسس التنظيمية هي بداية الحركة الشيوعية في البلاد العربية، وهي فترة اتَّسمت ببدء تراكم خبرة العمل بين الجماهير وتراكم تجربة النضال الأيديولوجي من أجل نقاء الفكرة الماركسية اللينينية.
يتَّضح مما سبق أن هيمنة الإسلام على الفكر الإسلامي قد تعرضت للاهتزاز، فإذا كان الله هو موضوعه الرئيسي في العصور الوسطى؛ فإنها أخذت منذ نهاية القرن الماضي في الانشغال بصورةٍ متزايدة بقضية الإنسان كجزءٍ من الطبيعة، كذاتٍ لها «حقوق طبيعية» لا كمجتمعٍ بأكمله.
وصاحبت عملية إقامة وتنمية النظام الرأسمالي في البلاد العربية، وتأكيد المؤسسات البورجوازية ونمط الحياة البورجوازي، ظهور الفكر الاجتماعي ذي التوجُّه الإنساني البورجوازي في العالم العربي مع الدفاع عن مصالح «الحرية» الشخصية، وكرامتها ونموها الشامل «إنسانية العلاقات الإنسانية» بمعنى إضفاء الطابع المثالي على المجتمع البورجوازي. وعلى هذا الأساس فقد ترسخ في فترة ما بين الحربَين مفهوم النزعة الإنسانية العربية، وهي نزعة إنسانية بورجوازية ذات صبغة دينية أخلاقية، تعرَّضت للتأثير الشديد فيما بعد من قِبَل الوجودية. كان الأمر الشائع المؤكد آنذاك هو أسبقية المبدأ الروحي على التناول المادي العقلاني للدين (إلى جانب الانجذاب إلى اللاعقلانية)، الاعتراف بالدور البارز للعقل البشري والعلوم والتكنولوجيا، التفاؤل التاريخي بالرغم من عوامل الوقوع في براثن التشاؤم والإحباط، وأخيرًا التوجُّه الاجتماعي للمصالح.
إن التفكير في الإنسان ومشكلات الارتقاء به والاعتراف بالدور الخلاق للشخصية، والسعي إلى إعادة بناء المجتمع على أسسٍ صحيحة، قد أدَّيا بالأيديولوجيِّين العرب إلى إدراك ضرورة حل مشكلة الفوارق الاجتماعية. لقد رأوا إمكانية إقامة العدالة الاجتماعية عن طريق الإصلاحات التدريجيَّة برُوح مفاهيم القوانين البورجوازية المثالية «المُنقاة من التشويش»، لكن البواكير الأولى للمذهب الماركسي كانت قد أخذت في الظهور في العالم العربي.