نظرة عامة
-
الاتجاهات الرئيسية في حركة الفكر الاجتماعي: فكرة التحرُّر الوطني، العلاقة بالغرب.
-
الصراع بين القديم والجديد.
-
الأزمة الأيديولوجية في مصر في الثلاثينيات.
-
الروح الوطنية. المزاج النفسي للشباب.
-
نشاط الطليعة التقدمية.
تحدَّد تطوُّر الاتجاهات الرئيسية للوعي الاجتماعي في العالم العربي بحاجاتِ نضال التحرُّر القومي والنمو الاجتماعي الاقتصادي والسياسي والثقافي التقدُّمي، في هذه الظروف تشكَّل فهمُ كل فئة اجتماعيًّا لمصالحها وأهدافها الشخصية، واتَّضحَت نتائج الصراع بين القديم والجديد، واستقرَّت تقديرات ومعايير جديدة، وحدَث تحوُّل في الفهم التقليدي للعالم.
لقد أدَّت المشاكل الجذرية العامة التي توارثها العرب إلى واقع أن الفكر الاجتماعي قد تغير لا بقدر ظهور تيارات جديدة داخله، وإنما بقدر التغير والاتساع والعمق في الأفكار والنظريات (أيديولوجيو الاتجاه الليبرالي الوطني والليبرالي التنويري، والاتجاهات التجديدية الدينية في الإسلام، والموقف من مشكلة استيعاب والاستفادة من المنجزات العلمية والصناعية للغرب، ومفاهيم بعث القيم الروحية والثقافات التقليدية). وفي هذه الظروف أضفَت كل أو بعض مظاهر الفكر الاجتماعي، على نفسها، طابعًا قوميًّا.
ساعد المناخ السياسي الذي ساد بعد الحرب العالمية، والذي أعلن أن الديمقراطية هي روح العصر على تنامٍ لم يَسبق له مثيل في السعي من أجل الاستقلال والنهضة القومية عند الشعوب المحتلة والتابعة. إنَّ استبدال العالم العربي السيطرة الأنجلوفرنسية بالنظام التركي الإقطاعي المستبد قد نتَج عنه مشروع النضال التحرُّري الوطني الذي دفع الفكر العربي نحو صياغة الأسس النظرية لهذا النضال وفقًا لما أملَته الظروف الجديدة، كانت قضية خلق قومية محلية وجامعة عربية تَعكسان تناولًا مختلفًا لمشكلة مستقبل العالم العربي وتشغلان المكانة الرئيسية في الفكر السياسي. وقد أكَّد أنصار القومية المحلية أن أمة مستقلة قد تكونت في كل دولة عربية، ويجب أن تنمو هذه الأمة حرة مستقلَّة، بينما تبنَّى أنصار الجامعة العربية الرأي القائل بأنه نظرًا للوضع الدولي القائم فإنَّ من مصلحة العرب جميعهم نصرة ودعم استقلال الحكومات والسيادة الوطنية، وتوطيد الروابط بين الدول عن طريق عقد اتفاقيات بينها. أما أنصار الجامعة العربية المُتشدِّدون فقد عبروا بحزمٍ عن ضرورة التكامل المُطلَق بين البلدان العربية على أي صورةٍ من الصور وتحت أية ظروف.
كان لفِكرة الجامعة العربية جذور بعيدة في التاريخ العربي. وقد لاقت انتشارًا واسعًا بعد الحرب العالمية الثانية وحتى مطلع العشرينيات من القرن كان لها أنصار كثيرون، مما حدا بالأديب المصري المشهور سلامة موسى (١٨٨٧–١٩٥٨م) إلى أن يُبدي بشأنها في عام ١٩٢٣م ملحوظةً مفادها أن «فكرة قيام ولايات متَّحدة عربية فكرة كانت تدور بخلد الكثيرين» (١٠٠، ص٧١).
وفي نهاية العشرينيات كان تأثير فكرة الجامعة الإسلامية قد أخذ في التنامي، وكثيرًا ما اعتُمدت الجامعة الإسلامية كمبدأ أكثر شمولية على الخصوصية القومية وبالذات على الجامعة العربية.
لقد أضفى ذلك طابعًا «إسلاميًّا» على الجامعة الشرقية، وعلى الحركة الثقافية التي كانت بوادرها قد ظهرت في مصر ولم يكتمل نموها بعد. لقد قامت هذه الحركة على أساس الحاجة إلى تدعيم الروابط بين شعوب الشرق في مجال الأيديولوجيا والثقافة الشرقية ودراسة الشرق، وقضية ضرورة الاقتباس من الغرب من أجل نهضة الشرق (انظر بيان الجامعة الشرقية الذي جرَت صياغته في القاهرة عام ١٩٢٢م، والذي استمر قائمًا حتى عام ١٩٣١م) (٦٣، ج٢، ص١١٤)، وهكذا أصبحت حركتا الجامعة العربية والجامعة الإسلامية ينظر إليهما كمُنطلَقٍ أيديولوجي لحركة الجامعة الشرقية، والجامعة الإسلامية والجامعة الشرقية كمنطلقٍ للجامعة العربية (٦٣، ج٢، ص١٠٠–١٠١).
وقد استغلَّت الشعوب العربية خصوصية القومية والجامعة العربية والجامعة الإسلامية في نضالها من أجل الاستقلال والسيادة الوطنية، وألَّف الاتجاه العام نحو مناهضة الاستعمار بين هذه العناصر جميعها، بالرغم مما يبدو شكليًّا بين هذه العناصر من التناقض؛ فالجامعة الإسلامية التي تقوم على فكرة الدين تُعارض محدودية الاتجاه القومي، على حين أن فكرة الجامعة العربية تبدو غير متلائمة مع خصوصية القومية، ولم يكن الصراع المستمر بين كل هذه الاتجاهات الأيديولوجية سوى محاولات للفصل أو التقريب بينها، أو السعي نحو إيجاد صيغة مشتركة وتقديم فكرة محدَّدة يُمكن أن تصبح أكثر اتساعًا أو تكاملًا أو على النقيض من ذلك، يُمكن إثبات بطلان مثل هذه الفكرة، كل هذا كان يُمثِّل جانبًا جوهريًّا في تطور الفكر الاجتماعي.
عمل القائمون على النضال التحرُّري الوطني والقوى النشطة من أصحاب النزعة التغريبية، وخاصة في مجال الثقافة، على حفز العرب للبحث عن شخصيتهم المستقلة وإعادة تشكيل علاقتهم بالغرب تبعًا لذلك. لقد دخلت الحداثة بشكلٍ قاطع في حياة المجتمع الشرقي، وأعرضت الأجيال الجديدة عن كثيرٍ من العادات البائدة التي كانت مُحاطة بهالةٍ من القدسية؛ وذلك لما لم يجدوا في محتواها ما يُمكن أن يكون ذا قيمة لهم في حلِّ مشكلات حياتهم، مشكلات القرن العشرين.
كان هذا الأمر أحد المظاهر الحادَّة لأزمة العالم الإسلامي التقليدي، وتكوَّنت لدى الناس مفاهيم جديدة عن الإنسان والمجتمَع والأمة، ونمَت لديهم الرغبة القوية لتجديد الحياة، ممَّا عجَّل بإعادة النظر في العلاقات القائمة مع القيَم الثقافية والأخلاقية التقليدية والقيَم الأوروبية.
ارتفعت حدَّة الصراع بين القديم والجديد، وارتبط مفهوم القديم بنظام الحياة التقليدي، وبنمط الأفكار الاجتماعية الأخلاقية القانونية التي يتمُّ تفسيرها من منظورٍ إسلامي سلفي، بينما كان الجديد يعني تلك التغيُّرات التي طرأت بتأثير عوامل النموِّ التقدُّمي.
في نهاية العشرينيات (وفي الثلاثينيات أيضًا) «كان الحديث في أكثر البلدان العربية تقدمًا يدُور دائمًا حول الشرق والغرب، القديم والجديد، أصحاب الميول المحافظة والحديثة» (١٧٦، ج٧٧، ص٢٥٧). كانت مشكلات التعليم وحرية المرأة والأخلاق والاطِّلاع على مُنجَزات الغرب هي محور المناقشات الدائرة آنذاك، وكان كبار الكتاب: طه حسين وعباس العقاد والمازني والريحاني ومطران وجبران والرصافي والزهاوي؛ يُناقشون القيم الإنسانية وأفكار الخير والحق، ومشكلات الأخلاق الاجتماعية وبالأخص الروابط العائلية … إلخ.
وبعد نهاية الحرب اعتنق قطاعٌ كبير من المثقَّفين العرب الأفكار الليبرالية، وهؤلاء رأوا الطريق إلى النهضة لا في العودة إلى الماضي ولا في الانفصال عنه، وإنَّما في إجراء إصلاحات تدريجية واسعة في التعليم وفي تربية الشخصية، على أسسٍ عصرية، وكانت الطبقة المثقَّفة الجديدة آنذاك ما زالت تملك عناصر التفاؤل التاريخي. لم يكن زمنًا لانطفاء جذوة الأماني والرُّؤى، بل كان زمنًا لازدهار الاتجاهات العقلية والإيمان الخالص في تقدُّم الحضارة الغربية، في ضرورة الأخذ عن الغرب. وفي ظلِّ هذه الأفكار أصبح لقضية التربية والتعليم أهمية كبرى في الفكر الاجتماعي للبلدان العربية، وأدَّى الجميع (رجال الدين السلفيون، والإصلاحيون، والأدباء من كل الاتجاهات) واجبَهم كاملًا نحوها، كما تحدَّد اتجاهان رئيسيان آخران: تمَّ اعتبار العلم الحديث سلاحًا جبارًا في التطور الاجتماعي، ومع ذلك لم يَترُك المسلمون محاولة الجمع بين العقل والوحي. وكان الهدف الرئيسي للتربية هو صياغة المشاعر الوطنية والروح الوطنية.
أصبحت حركة التنوير بدءًا من رفاعة الطهطاوي (١٨٠١–١٨٧٣م) واحدة من أقوى الحركات في تطوير الفكر الاجتماعي، بالرغم من أن طبيعة العصر قد ألقَت على عاتقها بمهمَّة التحرير الوطني وجعله أداةً لخلق «أمة متَّحدة روحيًّا وعقليًّا». وقد وجد هذا استجابةً لدى قادة التطور التاريخي في البلاد العربية، وكان نتيجةً حتمية للتحول الديمقراطي في التعليم، كما وجدت الحركة استجابة لها لدى الاتجاهات الإصلاحية من المثقفين العرب، وأصبح حدوث انتفاضة شعبية كوسيلة لتحقيق أهداف سياسية واجتماعية أمرًا غير مُستحب بالرغم من ضرورتها معيشيًّا (الكواكبي – الريحاني)، كان من المُفترض تربية الشعب على المفاهيم الجديدة، وتوعيته بحيث يعرف حقوقه ويُصبح واعيًا وهو يناضل من أجلها، إلا أنَّ غالبية المتنوِّرين كانوا في النصف الأول من القرن يُؤمنون بأنَّ الديمقراطية لشعبٍ جاهل يُمكن أن تتحوَّل إلى أسوأ أشكال الاستبداد.
كانت النزعة التحديثية في الإسلام أحد أهم الاتجاهات في الفكر الديني الفلسفي، ورفَض أصحاب الاتجاه التحديثي الإصلاحي إيمانهم المُطلَق بالقرآن والسنة، رفضوا الكثير من المواقف ذات الأهمية البالغة في نظر أصحاب الاتجاه الإسلامي الرسمي، تلك المواقف التي استتبَّت تمامًا في الحياة الاجتماعية منذ العصور الوسطى، وبذلُوا محاولاتٍ كثيرة في سبيل توسيع قاعدة التفسير العقلاني للقرآن حتى يدفعوا عن الإسلام الضربات القاصمة الآتية من جانب العلوم الطبيعية، ويضعوا جانبًا التناقُض بين العلم والدين، ويجعلوا من المرفوض ممكنًا، ومن طريقة التفكير الغريبة على الإسلام، والتي وضَّحها الإسلام تقليدًا، ويُلائموا بين الإسلام والظروف المتغيرة بعد أن حوَّلوه إلى دينٍ قادر على التكيف مع متطلبات العصر. وكان التقدم العلمي الصناعي دافعًا بلا شك للاتجاه العلماني في الفكر العربي. وبالرغم من أن المادية والإلحاد لم يكن لهما أية مكانة راسخة في البلدان العربية؛ فقد انتشَرَت إلى حدٍّ ما نظرة إيمانية يسودُها التسامح تجاه أصحاب الديانات الأخرى. أما في العشرينيات فقد ظهَرَت أول إرهاصات فلسفة الشك.
كان الاتجاه نحو تفسير الأيديولوجيا العربية الإسلامية والتراث الإسلامي في ضوء الأفكار المُعاصِرة هو أكثر الاتجاهات تمييزًا للفكر العربي في فترة ما بين الحربَين داخل وخارج إطار الأيديولوجيا الوطنية، بالرغم من أنها كانت بالضرورة مرتبطةً دائمًا مع الفكرة القومية (أحمد أمين – علي عبد الرازق). وما لبثَ أن خرج من هذا الاتجاه تدريجيًّا اتجاه يسعى إلى تفسير الفكر المعاصر في ضوء التراث العربي الإسلامي وضَع أساسه محمد عبده، وكان لتأثير الغرب من الأهمية بحيث أدَّى إلى تغيراتٍ لا رجعة فيها، وهذا ما لاحظه، في الثلاثينيات، توفيق الحكيم أحد أعمدة الأدب المصري في الثلاثينيات عندما كتب: «الآن أصبح إقناع الشرقي بعدم رسوخ عقيدته أسهل من إقناعه بأن الصناعة الضخمة هي آلة شيطانية تَقذف البشرية إلى الجحيم … كما أصبح إثبات أنَّ الإيمان «برسالة الأنبياء» مجرَّد غباء أسهل من إقناعه بأنه ليس من الحكمة الإيمان برسالة القوى المادية المعاصرة … «مثل هذه الأفكار أصبحت في الشرق راسخة رسوخ آيات القرآن» (٦٨–١٩٣).
تميَّزت نهاية العشرينيات ومُنتصَف الثلاثينيات بأزمةٍ فكرية ظهرت سماتها الحادة خصوصًا في مصر.
فقد عانى المثقَّفون العرب الذين خابت آمالهم في الحرية والديمقراطية وطأة الانفصام بين الحلم والواقع، وزادت أزمة الليبرالية الغربية، كما زاد اكتشاف أنَّ الدستور والبرلمان لا يُقدمان لقوى التقدم الديمقراطي أية ضمانات في ظروف الاستقلال الشَّكلي (مصر والعراق)، وذلك إلى جانب نتائج الأزمة الاقتصادية من الإحباط وعدم الثِّقة، والشك في وجود نيات طيبة لدى الغرب.
وقد صوَّر المُراقبون في النصف الثاني من الثلاثينيات الوضع في مصر بألوانٍ قاتمة، فكتب أحدهم في عام ١٩٣٨م يقول: «إنَّ الوضع في مصر لا يطمئن، فالاضطراب الدائم للحياة الوطنية والأزمة الحقيقية التي تمرُّ بها الأخلاق الاجتماعية والأزمة الاجتماعية والاقتصادية التي تُهدِّد باتخاذ أبعادٍ خطيرة، كلُّها أمور يعرفها الجميع. وهناك كثيرون ينظرون إلى المستقبل دون أدنى أمل. ويسود الشعبَ شعورٌ بالقلق تملَّك كل فئاته من الفلاحين، الذين يملؤهم رعب لا يعرفون سببه إلى المثقَّفين إلى المتنورين، الذين يَرون الخطر جليًّا وينتظرون تصاعُده» (١٧٣، ١٩٧٥م، م٧، ص٢٢).
وكان الأدب العربي خير تعبير عن هذه الأزمة؛ فقد كان مُنعزلًا عن الحياة الواقعية، وأصبحت المُثُل العليا (في كمالها الأخلاقي والفِكري) شُغله الشاغل، واقترب من عالم الجمال والأحلام والعدالة. أما الشِّعر الذي ظلَّ حتى تلك الفترة الشكل الرئيسي للإبداع الفني في البلدان العربية، والذي كانت له شعبية مطلقة فقد وقَع في أسر الأنماط الهابطة. وربما كان أمين الريحاني الكاتب الوحيد الذي أصدر في بيروت في عام ١٩٣٣م مجموعة مقالات بعنوان «أنتم الشعراء»، تُعدُّ الشهادة الوحيدة آنذاك على الاحتجاج ضد نزعة التشاؤم الشديدة التي سادت نتيجة السياسة الاستعمارية (٧٨، ص٨٦)، دعا فيها الشعراء «أن يروا الشمس وراء السحب، والواحة الخضراء وسط الصحراء القاحلة» (٧٨، ص٤٣١)، كما دعاهم إلى استنفار حماستهم … والدعوة إلى العمل وإلى الحرب المقدَّسة.» في سبيل الحرية والاستقلال والسيادة الوطنية (٧٨، ص٣٦).
وبدأ الشاعر التقدُّمي البارز عمر فاخوري (١٨٩٦–١٩٤٦م) الذي كان يحلم بوطنٍ حرٍّ ناضَلَ من أجل استقلاله، وبحَث عن حقيقة «المسلم الديمقراطي» (هكذا وقَّع ذات مرة على مقالاتٍ له) واقفًا أمام «الباب المرصود» (مجموعة مقالات منشورة عام ١٩٣٨م). وفي مقالاته التي اتَّخذت هذا العنوان والمكتوبة عام ١٩٢٦م أكَّد في يأسٍ لا براء منه «أن كلَّ من يمشون على الأرض … يذهبون إلى غايةٍ وحيدة: السكر والنسيان وإلقاء كل الهموم والمخاوف اليومية من على كواهلهم … إنَّ طوابير البشر الذاهبة من الخواء إلى الخلود … يقفُون أمام الباب المرصود الذي يأمُلون أن يَجدُوا السعادة والهدوء خلفه وهم يتساءلون في حيرةٍ واشتياق «من» من يا تُرى يفكُّ رصده؟» (٩٨، ص٤٠–٤٢). وعندما يبحث الكاتب الذي يُعاني مرارة الوحدة واليأس عن إجابةٍ لسؤاله: «هل تعرف ما هو المطلوب منَّا في هذا العالم، وهل هناك غاية من وجودنا؟» يكون قد ابتعد عن عواصِفِ الحياة ودخل عالم الأحلام.
وقد كتب الكاتب المسرحي المصري الكبير توفيق الحكيم مسرحية «أهل الكهف» (١٩٣٣م) الذين اختبأ أبطالها عن واقع الحياة في أحد الكهوف، تقوم هذه الدراما أساسًا على الأسطورة الهندية الشهيرة عن سبعة فتيانٍ ناموا في كهفٍ وعاد أحدهم إلى العالم بعد أن استغرق في النوم عشرات السنين. وفي هذا العالم الذي أصبح الآن بالنِّسبة له غريبًا يُقابل فتاة تبعث فيه حبًّا جديدًا، لكن الواقع الذي يُحيطه غامض وغريب، فيَقفل البطل عائدًا ليختبئ من جديد في الكهف حيث يَنتظرُه الهدوء.
وفي عام ١٩٤١م صدر في القاهرة كتاب «من البرج العاجي» ضمَّنه توفيق الحكيم عددًا من المقالات. وقد وصل فيه الكاتب المصري، إلى رأي مفادُه أنَّ الأدب الشرقي يعاني من مأساة العُزلة، وأن الكاتب بعيد عن الشعب الأمي. ويرى الحكيم أن المفكر يجب أن يعمل على خدمة الشعب والتخفيف من معاناته (٦٩، ص٣٢–٣٣).
لكن بالرغم من نُبل الهدف، كان هناك طريق آخر للعزلة الذاتية؛ فقد ظهر في الأدب العربي اتجاه قوي يَعتمِد على مفهوم «الفن للفن».
ورأى كثيرون من مُمثلي الرأي العام العربي أنَّ المخرَج من الوضع الراهن هو في تأكيد النظرة المُتكامِلة غير العقلانية للعالم، وفي المؤسسات ذات الصبغة المثالية، وفي المواقف الإسلامية؛ وذلك في مُواجهة العقلانية البورجوازية والمؤسسات العلمانية ومعايير المجتمع البورجوازي الغربي، وانتشر فهم الإسلام ليس فقط كدِين جاء به الوحي، وإنما كحضارة حية. جيلٌ كامل من المثقَّفين العرب — الذين توجهوا إلى الغرب بحثًا عن المثل الأعلى للحرية والعدالة والتقدم — خابت آمالهم وآمنوا بعدم قُدرة الغرب الرأسمالي حتَّى على حلِّ مشكلاته الاجتماعية والسياسية، عادوا مرةً أخرى، بعد أن اصطدموا بدكتاتورية الدول الغربية وسياسة التمييز في مجال الثقافة، إلى قيم الشرق الرُّوحية والثقافية دون هدفٍ واضح، ودون ثقةٍ كاملة في صحة الطريق الذي اختاروه. وقد ساعد على ذلك على وجه الخصوص ازدياد نشاط البعثات التبشيرية في البلدان العربية في بداية الثلاثينيات وخاصة مصر. وفي مايو عام ١٩٣٠م عقد في قرطاجنة المؤتمر المقدَّس الذي افتَتحَ — كما جاء على لسان مطران قرطاجنة — الحملة الصليبية التاسعة لتدخُل أفريقيا في كنف «الكنيسة المسيحية المقدسة». وأثار هذا المؤتمر وما صاحبه من مراسم احتفالية غضبًا واحتجاجًا شديدَين في أنحاء البلدان العربية، وكان أكثر ما أثار اهتمام المسلمين هو المحاوَلة التي جرت لنشر المسيحية في جنوب السودان عام ١٩٣٦م. وقد وصَفَت الصحافة المصرية آنذاك محاولة بعثات التبشير بأنها ذات طابع سياسي، وموجَّهة نحو تمزيق الأركان الأخلاقية للإسلام.
تراجع أصحاب «النزعة الغربية» أمام المحافظين، واتَّخذَت ليبراليتهم ثوبًا إسلاميًّا، وخاصة في مصر، والآن يتكرَّر ما حدث في القرن الماضي؛ فقد حاول القادة الأيديولوجيون، وخاصة في مصر، أن يربطوا مرةً أخرى القديم بالجديد على أساس القديم، واشتد تأثير الحركات السياسية الإسلامية الصريحة العداء للغرب.
وقد كتب الأكاديمي أجناتي كراتشكوفسكي في عام ١٩٣٦م: «في السنوات الأخيرة، لوحظ بوضوحٍ في البلدان العربية وخاصة مصر، أن بعض الدوائر الدينية عبَّرت عن سعيها نحو بعث الإسلام وأيديولوجيا كاملة، عن طريق إضفاء صورة مثالية على فترة صدر الإسلام، وكذلك على شخصية محمد الرسول بما لها من قدسيةٍ رومانسية خاصة» (٢٢ – ج٣، ص٣٤٧).
ولاقت المناهضة للغرب بأسلوبٍ سلبي مؤثِّر في الوعي الذاتي الوطني انتشارًا واسعًا ظهر على وجه الخصوص في مقاطعة الملابس والمدارس الأوروبية وحتى استخدام الترام، وحفلت الأغاني الشعبية الهجائية بعرض الطابع الهدام للحضارة البورجوازية للغرب.
وقد شجَّعت الرغبة في إيجاد انسجام اجتماعي وسياسي، والسخط على الواقع، القطاع التقدمي من المثقَّفين على البحث عن طريقٍ آخر للنضال ضد التخلُّف والأمية والقهر السياسي. وظهرت في أدب ما بين الحربَين مؤلفات تتميَّز بالروح الوطنية والسعي نحو إعادة بناء مجتمَع عربي على أساسٍ معاصر. وقد ساعد الأدب ككل، وإن لم يُجسِّد كل الأفكار، على تشكيل الرأي العام العربي بروح الديمقراطية وعلى السعي نحو توفير الحرية العامة والشخصية للإنسان، ولم يَنقطِع إطلاقًا تعاقب نشاط الشعر العربي في الدفاع عن أهداف النضال التحرري الوطني. وقد تميَّز النصف الثاني من الثلاثينيات على وجه الخصوص بهذا النشاط في سوريا ولبنان حيث ظهرت جماعة نشطة من الكُتاب تميَّزت بطابعها المُستقل وتقدمية الفكر لديها. وقد كان الأدب بالنسبة لهذه الجماعة كما أشارت آنذاك مجلة «تقويم الهلال» القاهرية تلك القوة الفنية للتعبير، التي يُمكنها أن «تؤثر بعمقٍ في الحياة وتُوجِّهَها ناحية الأفضل، على أساس رُوح الديمقراطية وتحقيق العدالة الاقتصادية» (٥٣، ص٧٦)، وإلى جانب العلَمَين الكبيرَين في الأدب العربي: ميخائيل نعيمة وأمين الريحاني، فقد دافع الأدباء الشبَّان، أمثال عمر فاخوري ورائف خوري ويوسف يزبك وغيرهم، عن فكرة تحرير الشرق من عبء التقاليد البائدة ومن نير الإمبريالية، كما دافعُوا عن فكرة العدالة من عبء التقاليد البائدة ومن نير الإمبريالية، كما دافعوا عن فكرة العدالة الاجتماعية وبعث الثقافة العربية على طريق التجديد. كان المُفكِّرون التقدميون العرب من الخليج الفارسي إلى المحيط الأطلسي يُفكِّرون دائمًا في طرق تطوير شعوبهم، وهم يُدركون كما قال عمر فاخوري أنه «لا يَكفي أن نعيش كما نَعيش الآن، وإنما يجب أن نُفكِّر كيف نعيش بصورةٍ أفضل» (٩٨، ص٧٠).
وفي مصر وسوريا ولبنان ظهرت — إبان الحرب العالمية الثانية — جماعات من المثقَّفين الشبان وأصحاب الاتجاهات الليبرالية والديمقراطية الذين بدءوا في فهم ضرورة التحرُّر الوطني الكامل وإجراء تغيرات اجتماعية، فضلًا عن وضع الجماهير، وعلى رأسهم الطبقة العاملة، في مكانهم الحقيقي من حياة المجتمع. وقد أصبح هذا الاتجاه الفكري تيارًا في الفكر الاجتماعي العربي فيما بعد.
لقد رأت الدوائر التقدمية والتي سيطرت عليها النظرة الإصلاحية أن بالإمكان تحقيق تحسينات على المجتمع والإنسان عن طريق العمل الدءوب في استئصال الشر وفي مجال التعليم وعلى طريق الإصلاحات التدريجية. وقد انتشر بين أوساط المثقفين، كما ذكرنا آنفًا، اعتقاد مؤدَّاه أن انتصار العدالة ومبادئ الديمقراطية مُستحيل وسط سواد الأميِّين، وكان هناك إيمان بأن التعليم الحديث شرط حتمي للتقدم: «التعليم، والتعليم وحده، بشرط أن يكون صحيحًا وحكيمًا ومبنيًّا على أساس استغلال الوسائل المماثلة … سوف يَضمن للمصريين العدالة والمساواة في وسطهم، كما سيضمن لهم الاحتفاظ بكرامتهم وشرفهم في علاقاتهم مع الأجانب» (١٣١، ص٦٧٢)، ولكن، وفقًا لمفاهيم الخير والشر هذه، والتي تمثَّلها المجتمع الشرقي، ظلَّ الربط يتم دائمًا بين هذه المفاهيم وبين فضائل ورذائل الحضارة الغربية. كانت المجلات تُعرف القارئ بالجديد في الفكر الاجتماعي والتيارات الفلسفية والحياة الأدبية للغرب، وطرحت الصحافة أمام القارئ كل تقلبات النضال بين القديم والجديد.
وفي عام ١٩٣٦م أجريت في القاهرة مسابقة أدبية في عشرة موضوعات كان من بينها «رسالة الأزهر في القرن العشرين»، «دور اللغة والدِّين والتقاليد كعناصر أساسية للاستقلال»، «مشكلة البطالة»، «التعليم وبناء الدولة»، «الحياة الدستورية»، «تطور الفلاح»، «تحرير المرأة والصالح العام»، «النشيد الوطني».
وقد أشار جاك بيرك الخبير المعروف في الشئون المصرية إلى أنَّ «هذه الموضوعات في تتابُعها تعكس إشكالية تلك الفترة» (١٣١، ص٥٢٥)، وكان من بين الشباب الذين حصلوا على تعليمٍ حديث أنصار للأعمال الراديكالية التي تبنَّت بعضها أفكارًا متطرفة.
كان الشباب المتعلِّم يُمثل قوَّة فعالة كثيرًا ما كانت تلتحق بالطليعة السياسية أو تلك التي تدَّعي لنفسها دورًا طليعيًّا، وكانت تَضطرِم فيها شعلة الحماس المتَّقدة ورد الفعل المصاب بالإحباط؛ ففي مصر في الثلاثينيات ظهرت هذه السمات أقوى من غيرها في البلاد الأخرى. لقد مرَّت شريحة كبيرة نسبيًّا من الشباب الذي حصل على مؤهِّلٍ دراسي متوسِّط أو على شهادةٍ جامعية بمرحلة التنوير السياسي. كانت القوات الإنجليزية لا تزال تحتل مصر، وكانت البلاد في حاجةٍ ماسة إلى تغيراتٍ اجتماعية، ولنموٍّ اقتصادي واستقرار سياسي، وخصوصًا أنه مع غياب الكوادر الوطنية المؤهَّلة مِن بين أصحاب الشهادات المتخصِّصين كانت هناك بطالة، وهكذا ففي عام ١٩٣٦م عندما أنشأت حكومة الوفد مكتبًا خاصًّا لتشغيل الحاصلين على تعليمٍ متوسِّط وعالٍ، تلقى هذا المكتب في أقل من شهر ٢٧ ألف التماسٍ للعمل (١٣٦، ٢٠٩).
وقد انتقد الشباب بشدةٍ موقف الحكومة وقادة الحزب، وطالب بتوحيد الجهود لتحقيق الأهداف الوطنية العامة. وقد حجَب الجيل الذي تولى حركة التحرير بعد الحرب العالمية الثانية الثِّقة عن الليبراليين الذين قاموا بثورة ١٩١٩م، ونمَت حركة الشباب والعمال آنذاك بعيدًا عن رقابة الأحزاب التقليدية.
وقد أدَّى الأمر بجزءٍ من المثقفين والشباب العرب، نتيجة عدم معرفتِهم بالطريق الصحيح نحو الاستقلال والتقدم، إلى الرفض المباشر لكل شيءٍ حتى أكثر مُنجَزات الحضارة البورجوازية الغربية وضوحًا في التنمية الاجتماعية، بينما كان بعض الزعماء السياسيِّين وقادة الرأي العام، وخاصةً في بلدان المغرب، إلى جانب الشباب المهيأ سياسيًّا، على استعداد لأن يَعتمدوا حتى ولو على الحكومات الفاشية في سبيل تحقيق هدفهم الرئيسي، وهو الاستقلال السياسي والسيادة الوطنية والحرية والمساواة، مُعتبِرين أن الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية هما العدو الرئيسي للاستعمار الأنجلوفرنسي، وأعلن موسوليني نفسه حاميًا للإسلام مؤمِّنًا نفسه بتعضيد الصفوة الحاكمة الأرستقراطية الإقطاعية في ليبيا والصومال ومصر، والقوميِّين في شمال أفريقيا. وقد أقام البلاط الملَكي المصري والدوائر القريبة منه علاقات سرية مع الألمان، وأجرى الزعيم القومي رشيد الكيلاني مباحثات مع الألمان حول اعتراف وتأييد ألمانيا لوحدة الحكومات العربية المزعومة التي تضم سوريا ولبنان وفلسطين والأردن. وفي مصر نشط أصحاب «القمصان الزرقاء» وقادوا مظاهرات مُعادية للإنجليز ومؤيدة لرومل، و«شاع بين الشباب في البصرة إبان الحرب رأي مفاده أنَّ القوات الألمانية لو ضربت الإنجليزية فإنها بهذا سوف تُساعد على تحرُّر العراق من سيطرة الاحتلال البريطاني» (١٧١، ص٢٩، ج٣، ١٩٧٥).
إلى جانب هذا كله، حازت الماركسية في تفسيراتها الغربية الإصلاحية على اهتمامٍ واسع في العالم العربي، وظهر هناك اهتمام حقيقي بخبرة الاتحاد السوفيتي في بناء مجتمع جديد على أسسٍ جديدة خاصة، كما كان هناك اهتمام بنجاح الجبهة الشعبية في فرنسا، وكرَّست المجلات التقدمية «الدهور» (بيروت ١٩٣٢م)، «الطليعة» (دمشق ١٩٣٤م)، «عطارد»، «فينوس» و«العقاب الأسبوعي» (بغداد ١٩٣٤م)؛ مقالاتٍ جادَّة لدراسة المُشكلات الاجتماعية ونظرية وتطبيق الاشتراكية ولنجاحات وحياة الشعب السوفيتي.
وبين هؤلاء الأدباء الذين تجمَّعوا حول هذه المجلات نشأ الأدب ذو الاتجاهات الثورية الديمقراطية، والذي ترك تأثيرًا قويًّا على نمو الفِكر الاجتماعي والأدب في كلٍّ من سوريا ولبنان. أما في مصر فقد أصبحت مجلَّة «المجلة الجديدة»، التي أسَّسها الأديب الشهير والمُساند للفكر الاشتراكي سلامة موسى (١٨٨٧–١٩٥٨م)، مركزًا لجماعة المثقَّفين المصريِّين المؤيدين لوجهات النظر الاشتراكية ذات التفسير الإصلاحي، والتي لم يكن لها في الحقيقة شكل محدَّد (١٣١، ٦٦٠–٦٦١).
وقد أظهرت الحركة المناهضة للفاشية نشاطًا فعالًا، فقدَّمت مجلَّة «الطريق» (١٩٤١م) على وجه الخصوص مآثر شهيرة في فضح النازية، وكانت هذه المجلة لسان حال منظَّمة النضال ضد الفاشية في سوريا ولبنان التي تأسَّست في عام ١٩٣٥م، ولا تزال هذه المجلة تقوم حتى الآن برسالةٍ هامة في النضال من أجل السلام، والدعوة لفِكر الاشتراكية العلمية والتراث الثقافي العربي ومُنجزات الثقافة العالمية.
وقد كتب خالد محيي الدين الشخصية الاجتماعية المصرية البارِزة عن تاريخ النضال ضد دسائس الفاشية في مصر: «في مطلع الثلاثينيات ظهر هنا عددٌ من المنظَّمات المعادية للفاشية، وقامت الصحف بشنِّ حملات مناهِضة للنازية، كما صدرت سلسلة من المقالات والكتب ضد الفاشية. وفي عام ١٩٣٣م ظهرت «جمعية النضال ضد حركة معاداة السامية»، وتلاها نادي «الإصلاحيِّين» الثقافي الذي وسع النضال ضد الفاشية وحركة معاداة السامية، وأسست حركة النضال ضد الفاشية منذ عام ١٩٣٦م جماعة «الفن والحرية»، التي جمعت في صفوفها أشهر مُمثلي المثقفين المبدعين … كما تنتمي «جمعية أنصار السلام» و«النادي الديمقراطي» اللذَين أُسسا في النصف الثاني من الثلاثينيات إلى المنظمات المناهضة للفاشية» (١٦٦، ١٩٧٥، ع٥، ص٢٦).
ثم شهد تطور الفكر السياسي الاجتماعي في البلدان العربية في فترة ما بين الحربين تغيرات جادة، تبدَّت على وجه الخصوص في تأكيد النمو الأيديولوجي للاتجاه الثوري الديمقراطي، وأفسحت القوى الدينية مكانها نهائيًّا للصفوة المثقَّفة ذات النزعة الليبرالية، بعد أن كان الفكر الديمقراطي قد بدأ في إزاحتها في ثلاثينيات القرن.