تكوين أيديولوجيا حركة التحرُّر القومي في المغرب العربي
ملاحظات عامة – تونس – الجزائر – المغرب.
تقاسَمت البلدان العربية الواقعة شمالي أفريقيا مصيرًا واحدًا بالرغم من أن تاريخ كل دولةٍ منها حظيَ بنصيبٍ درامي مختلف، فالجزائر سقطت بعد مقاومةٍ بطولية في عام ١٨٤٧م ضحية للتوسع الاستعماري الفرنسي. وفي عام ١٨٨١م أُعلنت الحماية الفرنسية في تونس. وفي عام ١٩١٢م استقرَّت الحماية الفرنسية والإسبانية في المغرب واستولت إسبانيا على جزءٍ من الأراضي المغربية.
على أنه في الإطار العام، الذي وحَّد بين بلاد المغرب العربي، تكوَّن هذا الشيء الخاص الذي انعكس في تاريخهم المميز نسبيًّا. فإذا كانت المغرب في مطلع القرن العشرين قد احتفظت تقريبًا بطابع القرون الوسطى دون مساس، فإنَّ المدينة التونسية في هذا الوقت كانت قد تقدمت خطوةً كبيرة إلى الأمام على طريق تجديد حياتها، وانعكس هذا أيضًا على الوعي الاجتماعي.
تقيَّد إدراك السكان العرب، البربر الذين آمنوا بالإسلام (٩٠% من مجموع السكان)، بالقرآن كليةً. وكانت مطالب الحياة الاجتماعية لمدةٍ طويلة تَنعكِس على ضوء الإسلام والتقاليد، واستمر الأمر على هذا النحو حتى عندما أصبحَت ظروف العصر الحديث تتطلَّب حلولًا جديدة. وقد لعب مذهب المرابطين بصفةٍ خاصة (تقديس الأولياء وأحفادهم) دورًا هامًّا في الحياة الأيديولوجية لشعوب شمال أفريقيا.
قام المرابطون (رؤساء العشائر الدينية والفِرَق الصوفية) وأفراد عائلاتهم الذين تحيطهم هالة من «التقديس» بدور القضاة الذين لا يُردُّون، والزعماء الروحيِّين، مُبعدين بذلك العلماء الذين يُمثلون الإسلام الرسمي. وكان المرابطون يُجسِّدون النفوذ الديني والاجتماعي والسياسي بلا حدود. كان الإسلام بالصورة التي يتبعها المرابطون قريبًا إلى الرعاة والفلاحين بصورة خاصة وإلى طباعهم البدائية الخشنة. وعلاوةً على ذلك، كان المرابطون يستخدمون، خلافًا للعلماء، اللغة العربية العامية لا اللغة الفُصحى مُخضِعين إياها للظروف المحلية ولعاداتهم وتقاليدهم. ودون مبالغة، يُمكن أن نقول إن حركة المرابطين كانت تُجسِّد كل الإسلام الموجود في شمال أفريقيا. ويَذكر عبد الحميد بن باديس زعيم المسلمين الإصلاحيِّين في الجزائر أنه «لم يكن أحد» في الجزائر حتى الحرب العالمية الأولى «يتصوَّر أن الإسلام يُمكن أن يكون شيئًا آخر غير المرابطية» (١٥١، ٥٨).
كان موقف المرابطين قبل إقامة نظام الحماية يُعبر بدرجةٍ كبيرة عن الاتجاه السياسي للجماهير الساخطة على الاحتلال الفرنسي. وقاوم المرابطون سياسة الفرْنَسة، وإدخال النُّظم الغربية عليهم، وأعمال الإدارة الفرنسية، وقادوا الانتفاضات الشعبية، وحاربوا كل ما هو جديد، دفاعًا عن تقاليدهم التي تتمشَّى مع آرائهم القائمة والطابع المحافظ لحياتهم. وأخذ الفرنسيون، بعد أن أحكموا سيطرتهم على البلاد، في الدفاع عن المرابطين واستمالتهم للتعاون معهم، ثم جعلوا منهم نقطة ارتكازهم. وقد ضيَّق هذا إلى حدٍّ كبير من مدى الانتفاضات الشعبية.
بالإضافة إلى هذا، فإنَّ وعي المغاربة وخاصة أبناء المدن أخذ في التغير على نحوٍ سريع نسبيًّا منذ بداية القرن العشرين. كان للاحتلال الفرنسي وجهان؛ الأول: ما حمله إلى الناس من ظلمٍ وقهر. والثاني: أنه أيقظ فيهم الشعور بالاحتِجاج ودفعهم إلى المقاومة، وخلق مناخًا لتفجُّر الأيديولوجيات القومية والديمقراطية.
كان نزوح عدد كبير من سكان شمال أفريقيا إلى فرنسا عاملًا هامًّا في تأثير فرنسا ثقافيًّا وسياسيًّا على المنطقة. أضف إلى هذا أنَّ الصلات الثقافية بين فرنسا، الدولة المُستعمَرة، وبلاد المغرب العربي قد تحدَّدت إلى حدٍّ كبير بانتشار اللغة الفرنسية بين المُواطنين وخاصة بين القطاع المتعلِّم للسكان. وقد أحرزت هذه اللغة نجاحًا كبيرًا في تنافُسها مع اللغتين العربية والبربرية. ويعطينا هذا تفسيرًا لقوة الجذب التي كانت تُمثلها فرنسا بالنسبة لمثقفي المغرب العربي الذين تشبَّعوا بوهم الدور النبيل الذي تلعبه فرنسا في شمال أفريقيا.
على أنَّ واقع الاحتلال قد دفن هذا الوهم، وفتحت اللغة الفرنسية أمام أبناء المغرب العربي خزائن الأفكار الحرة التي لا تَنفصِل عن مفهوم «التراث الأوروبي» المدين بلا حدود للفكر الحر الفرنسي. لقد تأثَّر المغرب بكل صور التدخُّل المتعدِّدة للغرب في حياته. وكان الغرب نفسه بمثابة مدرسة تعلم فيها المغرب الأشكال الحديثة لرد الفعل على هذا التدخل.
كان هناك قانون واحد للتطور الفكري سواء في المشرق أو في المغرب العربي، ألا وهو الانتقال من التنوير والتحديث الديني إلى أيديولوجيا التحرر القومي. وسواء هنا أو هناك فقد تكونت ثلاثة تيارات رئيسية في الفكر الاجتماعي تمثَّلت في التقليديِّين («العمائم القديمة» المدافعين عن الأصالة الشرقية الراسخة والنظام القديم للأشياء)، ثم المشايعين للنموذج الغربي للحياة، وأخيرًا أولئك الذين رأوا ضرورة مزج بعض منجزات الحضارة الغربية بتعاليم القرآن من أجل التطور المنشور.
تبلورت الفكرة القومية في المغرب في خضمِّ صراع هذه التيارات وتباينها. كان المُثقَّفون الجدد والشباب المتنوِّر يَحلمون بنهضةٍ ثقافية واجتماعية واقتصادية في المغرب بمساعدة فرنسا، واعتبروا أن التعليم هو السلاح الرئيسي للتقدم، وبدءوا مثل مُعاصريهم في المشرق العربي، في إدراك أنَّ التقدم مرتبطٌ بحتمية إعادة النظر في الآراء والمعايير المألوفة وكذلك بإعادة تقييم الفكرة المستقرَّة تجاه الثقافة الأوروبية. وقد حدا بهم هذا إلى زيادة الاهتمام بقيمهم الثقافية الخاصة، حتى إنَّ تاريخ بلاد المغرب أخذ حثيثًا يتَّسم بالصبغة الإسلامية، بل وأيضًا بالاتجاه القومي المحلي. وظهرت في المغرب في فترة ما بين الحربَين أعمال في تاريخ المنطقة تُعدُّ استكمالًا لسلسلة الأعمال التي بدأها الأدباء والكتاب الاجتماعيون ورجال الدين في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
كتب مبارك ميلي (١٨٨٠–١٩٤٥م)، وهو أحد التنويريِّين من أنصار ابن باديس، كتابًا من ثلاثة مجلدات يحوي تاريخ الجزائر منذ أقدم العصور. وأشار أحمد توفيق في كتابه «كتاب الجزائر» (١٩٣٢م) إلى الخصائص القومية للتاريخ الجزائري، مؤكدًا أن الأمة الجزائرية موجودة منذ القدم (١٥١، ١١٧). كما نشر حسن حسني عبد الوهاب «موجز تاريخ تونس» (أعيد طبعه عام ١٩٢٥م)، ونشر عثمان الكعاك «أعلام فاس». كما ظهر في المغرب كتاب «التاريخ الأبجدي لدول ومدن مكناس» لعبد الرحمن بن زيدان. وهؤلاء الكُتاب جميعًا كانوا أبرز مُمثلي المثقفين المسلمين التقليديِّين، وكانوا على معرفةٍ جيدة بالثقافة الأوروبية.
كانت لحركة الإصلاح الإسلامي التي بدأ المغرب في التعرُّف عليها منذ نهاية القرن الماضي أهمية خاصة في التطور الفكري لمُواطني شمال أفريقيا. وقد حظيَت مجلة «العروة الوثقى» التي أصدرها في باريس الأفغاني ومحمد عبده بشهرةٍ واسعة في المغرب، وكذلك مجلة «المنار» التي أصدرها فيما بعد الإصلاحيُّون المصريون.
وفي مايو ١٨٩٨م أنشئت أول لجنة لإجراء إصلاحات على نظام التدريس بجامعة الزيتون كنتيجةٍ مباشرة لمطالب العصر، وأيضًا كمحاولةٍ مُماثلة لما قام به الإمام محمد عبده وأتباعه في إصلاح التدريس بالأزهر. وفي عام ١٩٠٣م قام محمد عبده بزيارة الجزائر وتونس. كان مناخ الحياة الاجتماعية في هذه البلاد قد بدأ في الوعي بضرورة إجراء تحوُّلاتٍ في مسارها. ودعا الإمام محمد عبده، سواء في لقاءاته الخاصة أو في المحاضرات العامة التي دارت حول موضوع «المعرفة وطرق امتلاكها»، دعا الجزائريِّين والتونسيين أن يطرحوا السياسة جانبًا ويبدءوا في الاهتمام بقضايا التعليم والثقافة، وتحقيق نهضة البلاد مُتَّبعين الوسائل السِّلمية والتفاهم التام مع الحكام (١٦١، ٦٧–٦٨).
كان الشيخ المكي بن عزوز هو أول مَن قاد النِّضال في تونس ضد العقيدة الإسلامية الرسمية الراسخة وضد حركة المرابطين. وابن عزوز واحد من شيوخ جامعة الزيتونة. وقد تخرَّج في حلقته أحد أبرز زعماء الحركة الدينية والتحرُّرية في تونس وهو عبد العزيز الثعالبي (١٨٧٥–١٩٤٤م). وقد رأى هذان العلَمان أن انهيار العالم الإسلامي يرجع لابتعاد المؤمنين عن الإسلام الحقيقي. وأصدرت جماعة المكي بن عزوز صحف «مُستقبل تونس» باللغة الفرنسية و«حبيب الأمة» و«سبيل الرشاد» (١٨٩٥م)، والأخيرة ترأَّس الثعالبي تحريرها.
ترتبط حركة التحديث الإسلامي في المغرب باسم بوشهيد الدوكالي (١٨٧٨–١٩٣٧م) (محمد عبده المغرب)، الذي شغَل في عام ١٩١٢م منصب وزير العدل. عاد الدوكالي إلى الوطن في عام ١٩٠٧م بعد أن أنهى تعليمه في الأزهر، وسرعان ما شنَّ حملة نقد عنيفة ضد حركة المرابطين، ونادى بمبادئ محمد عبده.
لقد تلقَّى في بداية القرن في شمال أفريقيا ذلك الاتجاه الملحوظ نحو المعاصرة دفعة قوية، نتيجة نشوب الحرب العالمية، قذَفت بشمال أفريقيا من القرن الثالث عشر مرةً واحدة إلى القرن العشرين مُخلِّفة بلبلة هائلة في رءوس المسلمين. وأرسلت الحرب آلاف المغاربة إلى أوروبا الذين حملوا من هناك إلى بلادهم مفاهيمَ وطباعًا ومعلومات جديدة عن نمطٍ آخر مختلف للحياة. كان الوقت يتطلَّب من المسلمين حلولًا سياسية لم يكونوا مُستعدِّين لها بعدُ: وضَعَت الحرب أمامهم الشكل المألوف للمواجهة بين أوروبا المسيحية (بما فيها فرنسا) وتركيا المسلمة، والصراع بين العالم الجديد والقديم.
كان الوعي السياسي في المغرب في بداية القرن العشرين لا يزال مُتخلِّفًا. ولم يأخذ الاتجاه القومي هنا في التطور إلا في بداية الثلاثينيات. كان ضعف البورجوازية القومية في ظروف نشأة الطبقة المثقَّفة المغربية الجديدة التي ذكرناها آنفًا، سببًا في الاستمرار الطويل للاعتدال النِّسبي والمطلق للمطالب القومية التي عملت، من حيث الجوهر، على صياغة أشكال للتعاون، مقبولة من جانب المغاربة، مع الفرنسيِّين، في ظروف التقدم الحديث بشرط الاحتفاظ في الوقت ذاته بالطابع الإسلامي للمغرب. على أن مثل هذه المحاولات كانت عديمة الجدوى.
تقيَّدت درجة الراديكالية أو اعتدال الأهداف القومية بخصائص الظروف المحلية في كل قطر من أقطار المغرب العربي. فعلى سبيل المثال، إذا كان مفهوم الوطنية الحقيقية في بداية الثلاثينيات، بالنسبة لسكان الجزائر، يَنطبِق والمطالبة بالمساواة المدنية مع الأوروبيين، فالحال بالنسبة للمغاربة هو المطالبة بالتطبيق للمواد الواردة في وثيقة الحماية.
وفي تونس، كان قيام نظام الحماية الفرنسي نتيجةً منطقية للخضوع المالي الاقتصادي والسياسي والعسكري لبلاد المغرب للفرنسيِّين. وقد حدَّد جول فيري وزير خارجية فرنسا آنذاك سياسة فرنسا تجاه تونس في مجلس الأمة في الخامس من نوفمبر ١٨٨١م، واصفًا تونس صراحةً بأنها مفتاح أبواب فرنسا إلى شمال أفريقيا، والذي لا يجب تركه في أيدٍ غريبة.
وكان من المستحيل ألا تَنعكِس خصائص الحماية التي تركت في البلاد العديد من مؤسسات السلطة التقليدية المميزة لدولةٍ مستقلَّة (بالرغم من أنها جميعًا كانت تحت إدارة الفرنسيِّين) على تشكيل الرأي العام في تونس، وعلى الوعي السياسي للجماعات الاجتماعية النشطة من الأهالي. قامت الحركة القومية هنا مبكرة قياسًا ببلاد شمال أفريقيا الأخرى، واتخذت قبلها أيضًا أشكالًا منظَّمة، وحقَّقت قدرًا من النضج. ومع نهاية القرن الماضي، ظهرت الطبقة المثقفة في البلاد التي حملت أفكار تحويل تونس إلى دولةٍ معاصرة. وقامت بتطوير العمل التنويري الذي شمل نطاقًا واسعًا في الثلث الأول من القرن الحالي مواصلةً بذلك ما بدأه الليبرالي الإصلاحي التونسي الشهير خير الدين التونسي (١٨٢٥–١٨٩٠م). كان الجزء الأكبر من هؤلاء المثقَّفين من خريجي المعاهد الدراسية الفرنسية. وجزء آخر ممَّن تلقَّوا تعليمًا إسلاميًّا تقليديًّا، واقتنع بأفكار الإصلاح الإسلامية بفضل نشاط عبد العزيز الثعالبي.
بعث ظهور كتاب «الروح الحرة للقرآن» الذي ظهر عام ١٩٠٤م انتعاشًا وحيوية كبيرَين في أوساط الجماهير التونسية المتنوِّرة. وكان الثعالبي واحدًا من الذين شاركوا في تأليفه. طرح الكتاب محاولةً، اتَّسمت بطابع الإصلاحيِّين الإسلاميِّين، لإثبات أن الإسلام يفرض ضرورة التطور الاجتماعي الخلاق؛ لأنَّ هذا التطور، ناهيك عن العودة إلى الإسلام «الحقيقي»، يُعد ضمانًا حتميًّا لبعث مجد الشعوب الإسلامية التليد (١٦١، ١٠٠)، كانت هذه الآراء وأمثالها قريبة من المثقفين التونسيين، اللهمَّ إلا بعض المتطرِّفين أنصار الاندماج في فرنسا.
مع مطلع القرن العشرين بدأت في تونس عملية تشكيل أيديولوجية حركة التحرُّر القومي، وآنذاك كان المفهوم الذي صاغه في عام ١٩٠٤م محمد جاعيبي — أحد أنصار الزعيم الاجتماعي البارز البشير صفر (توفي ١٩١٧م) — قد حظيَ بانتشارٍ واسع، وهذا المفهوم فحواه هو: «تونس لها فردياتها. وتكمن إمكانية ظهور وتطور هذه الفردية في الإسلام، وتطوير البلاد وخاصةً عن طريق إقامة الشركات الصناعية والتجارية والمؤسسات الخيرية» (١٦١، ٧٣).
وفي الرابع والعشرين من مايو عام ١٩٠٦م أعلن البشير صفر في كلمةٍ ألقاها بمناسبة افتتاح ملجأ للمُسنِّين (وقف تكية) أن: «سياسة الاستعمار تقوم على إبقاء تونس فقيرة»، وطالب الإدارة الفرنسية أن تُقدم للشعب حقوقًا أكثر، وأن توفر لهم العمل الذي يحتاجون إليه (٤٧، ٨٥). كان هذا هو أول خطاب علَني يَعكس اتجاهات المثقفين التونسيين والبورجوازية القومية والطلاب من الشباب والعمال الساخطين على تصرُّفات الإدارة الفرنسية.
وارتبطت نهضة حركة التحرير القومي القائمة على أساس الفكرة القومية المُتبلورة بالصحيفة التي أصدرها أحد مؤسسي جماعة صادق علي باش حمبا (تُوفي ١٩١٨م) تحت اسم «التونسي» التي صدرت في البداية (١٩٠٧م) باللغة الفرنسية، ثم (بدءًا من ١٩٠٩م) باللغة العربية أيضًا. قدمت الصحيفة في عددها الأول صياغةً للمطالب السياسية والاجتماعية والاقتصادية للشعب التونسي من منظور زعماء المثقفين باش حمبا وصفر. واشتهرت هذه الجماعة باسم التونسيِّين الشبان. في البداية طرحت المطالب هذه التغييرات على مستوى البنية الإدارية، ووضعت هذه المطالب في اعتبارها مصالح تونس والتونسيين. وللمرة الأولى تضمَّنت رفضًا لسياسة الصلح مع فرنسا، وللمرة الأولى أيضًا خرجت بالدعوة إلى الجماهير للنضال من أجل حقوقها (١٦١، ٧٥). سعى الحزب التونسي إلى الإصلاح الدستوري الواسع وإلى الاستقلال باعتباره الهدف النهائي. ورفع الحزب شعار «أمة جزائرية مستقلة» وعمل على أن يكون لهذه الأمة وجود حكومي مُستقِل (٣١، ٢٥٢). وفي عام ١٩٠٩م انضم إلى هذا الحزب القوميون الذين انفصلوا عن الحزب الجمهوري الذي تأسَّس عام ١٩٠٥م احتجاجًا على موافقته على تجنيس المسلمين، وأصبح الثعالبي زعيم هؤلاء القوميِّين، رئيسًا لتحرير الطبعة العربية لصحيفة «التونسي».
كانت جماعة باش حمبا وصفر والثعالبي التي أُطلق عليها اسم الحزب التطوري أو التونسي تُشبه إلى حدٍّ كبير الحزبَ الوطني الذي أسَّسه مصطفى كامل. كانت المطالب ومناهج النضال واحدة عند الاثنين. كان التونسيُّون الشبان الذين تربوا على الأدب الفرنسي، واستوعبوا الأفكار التحررية للتنويريين والليبراليين الفرنسيين يُعوِّلون في البداية على فرنسا، مؤمِّلين على إعطائها التونسيِّين حقوقًا مساوية للتي يَحصُل عليها الفرنسيون في إطار الحماية، وتمنَّى هؤلاء الشبان دستورًا قد يحدُّ من سلطات البايات والمشاريع الفرنسية في البلاد. لكنهم لم يَنبَروا لمعارضة الحماية واحتلال تونس وإنما عملُوا فقط على أن يمتلك التونسيون أيضًا، لا المحتلون وحدهم، الأراضي، كما أرادوا أن تمدَّ فرنسا لهم يد المساعدة في تنمية الاقتصاد القومي، وأن تسمح للتونسيين بشغل المناصب الرسمية على قدم المساواة مع الفرنسيين، طالب التونسيون الشبان بالمساواة مع الفرنسيين في الضرائب والحقوق السياسية (المؤسسات النيابية وانتخابات المجالس البلدية والتنمية الحرة للثقافة القومية). وقامت «مجلة المغرب» بالفرنسية، التي كانت تصدر في المغرب، بتعميم هذه المطالب في صيغةٍ فحواها: «إننا نطالب بحقوقٍ مشتركة للجميع وبالعدالة والحرية» (١٥١، ٥٢)، ولما أدرَكُوا أن فرنسا ليس بنيتها قبول مطالب القوميِّين، راهنوا عندئذٍ على مساعَدة سلطان تركيا، وأعلنوا أنفسهم أنصارًا للجامعة الإسلامية، «كل مسلم يعمل من أجل وحدة المسلمين، كل التونسيِّين مُتمسِّكون بالاتجاه نحو الجامعة الإسلامية، ويُعتبَرون مؤيدين للدولة العثمانية.» كان هذا ما كتبه باش حمبا في صحيفة «التونسي» عام ١٩١٠م. وقد قوي هذا الاتجاه بشكلٍ خاص إبان الحربَين الإيطالية التركية والعالمية الأولى. وفي عام ١٩١٧م جاء في بيان لجنة تحرير تونس والجزائر التي عُقدت في برلين وشارك فيها بجهدٍ فعال محمد باش حمبا، شقيق علي باش حمبا، فيما يتعلَّق بسعي شعوب المغرب للحصول على الحرية والاستقلال. إن شعب تونس والجزائر لم يقطع علاقته في أي وقتٍ مع الخلافة (١٥٨، ٢٣).
بعثت الحرب العالمية بالقوة في التيار المناهض لفرنسا في شمال أفريقيا. واعتمد الفرنسيون الشبان على هزيمة فرنسا في الحرب، ووضعوا آمالهم في الحصول على الحرية بمساعدة تركيا وألمانيا، إلا أنَّ آمالهم لم تتحقَّق، ورأوا حينذاك أن الطريق الوحيد للتحرُّر والتطور الخلَّاق لتونس في التعاون مع فرنسا. كان هذا هو فحوى المذكرة التي تقدَّم بها التونسيون الشبان إلى ويلسون. وفي الكتيب الذي أصدره عبد العزيز الثعالبي في باريس عام ١٩١٨م بعنوان «تونس المعذَّبة» يُلخص الكاتب مطالب القوميِّين في: إعادة دستور ١٨٨١م، المساواة أمام القانون، إعطاء الحقوق الأساسية والحريات لأهل البلاد التونسيين، إعادة صلاحيات أسر البايات في نشاط المؤسسات الدستورية، إلغاء امتيازات المستعمرات (قرى فرنسية في شمال أفريقيا) إلى آخره. وبالرغم من أن الكتيب لم يتعرَّض لإلغاء الحماية أو للاستقلال، فإنه لم يكن يحمل طابعًا استسلاميًّا (١٦١، ١٠٣–١٠٨). نفس هذه المواقف أدرجها في برنامجه حزب الدستور التونسي وهو حزب ليبرالي دستوري تأسس عام ١٩٢٠م، وكان الثعالبي واحدًا من زعمائه (٩٩، ٥٩). كان هذا الحزب ذا نزعة إسلامية على الطراز السَّلفي ذات توجُّه إلى المشرق العربي، واتخذ موقفًا معاديًا لفرنسا. إلا أنَّ برنامجه الذي تضمَّن في جوهره تلك النزعة الإسلامية لم يلقَ استجابةً لدى الشباب التونسي الذي تبنَّى وجهات نظر مُعاصِرة بصدد المشكلات الاجتماعية والسياسية. ومع نهاية العشرينيات طرحت جماعة من الشباب التونسي مفهوم الأمة التونسية، باعتبار أنها مجتمعٌ خاص من الناس لهم أصالتهم وأرضهم وماضيهم التاريخي وحقُّهم في دولة مستقلة (١٧، ١١٠). وانفصلت هذه الجماعة عن تيارات الفكر السياسي التقليدي في تونس: الاندماجية والتوفيقية والإسلامية. كان التيار الأول لا يرى بأسًا في اندماج تونس والتونسيِّين مع فرنسا والفرنسيين، بينما رأى الثاني تطوُّر البلاد تحت رعاية فرنسا، وانطلق التيار الثالث من كون التونسيِّين جزءًا من الأمة. غير أن هذه الجماعة من المثقفين بقيادة الحبيب بورقيبة (ولد عام ١٩٠٣م)، الذي أصبح فيما بعد رئيسًا لتونس بعد الاستقلال، قصَرَت نشاطها على سكان المدن، وخاصة المتعلِّمين منهم. وكان ظهورها قد أعدَّ له جزئيًّا برنامج رابطة «نجمة شمال أفريقيا» التي أقيمت في باريس عام ١٩٢٦م واشترك فيها الشيوعيون أيضًا. كان جزءٌ كبير من برنامج المطالب السياسية للرابطة يخص تونس وينظر في: استقلال البلاد وخروج القوات الفرنسية، إقامة جيش تونسي، الاعتراف باللغة العربية كلغةٍ رسمية، مصادرة البنوك التي يملكها الأجانب، وكذلك السكك الحديدية والموانئ … إلى آخره، ومصادرة الأراضي الزراعية الضخمة وإعادة الأراضي إلى الفلاحين … إلى آخره.
أصبح بورقيبة منذ منتصف الثلاثينيات الزعيم الأوحد للقوميِّين التونسيِّين؛ حيث ترأس منذ عام ١٩٣٤م حزب الدستور الجديد (هكذا سُمي حزب الدستور بعد عام ١٩٣٤م). وفشَلَ الثعالبي بعد عودته من القاهرة ١٩٣٧م في صراعه على الزعامة. وقد أيَّد «الدستور الجديد» كل المطالب القومية للدستور القديم، إلا أنه وقف ضد «الديماجوجية العقيمة» لزعمائه، وسعى نحو العمل المؤثر الفعال. وتبنى الحزب آراء الأحزاب اليسارية الفرنسية مُضيفًا إليها «المثل القومية التونسية». كان أعضاء حزب الدستور الجديد من أنصار النزعة الغربية «ولم تتَّفق آراؤهم إطلاقًا مع المفهوم الإسلامي على طريقة الثعالبي. وقد أحبُّوا باريس وفرنسا وهم يحاربون الفرنسيين» (١٧، ١٣٣–١٣٤). وكان لحزبَي الدستور الجديد والقديم هدف واحد ولكنهما كانا في الواقع حزبَين مُختلفَين تمامًا من ناحية التركيب الطبقي لكلٍّ منهما، ومن ناحية تناولهما لقضايا حركة التحرر القومي والأسس النظرية لبرنامجيهما. كان رجال الدين المسلمون وكبار الملَّاك وسُكان المدن وصفوة المسلمين القُدامى وأصحاب النزعة الإسلامية والمُحافظون يُمثلون جميعًا نقطة ارتكاز حزب الدستور القديم، على حين استند حزب الدستور الجديد على طبقة المثقَّفين المُتأَورِبة والبورجوازية الصغيرة وفئات البروليتاريا في المدن والريف وصغار الموظَّفين و«الشباب المتمرد» (١٧، ١٦٠)، وكذلك على الجماعات التي وقفت من منطقٍ موضوعي إلى جانب التطور على أساسٍ دنيوي وأيدت الراديكالية الاجتماعية النسبية. وخلافًا لحزب الدستور القديم الذي استند إلى حركة الإصلاح الإسلامية، انطلق الدستوريون الجدد من حكم العقل باعتباره المقياس الأعلى لكل شيءٍ، بما في ذلك جميع مظاهر النشاط الإنساني (١٤١، ٣٦٥).
يصف ن. إيفانوف في كتابه «أزمة الحماية الفرنسية في تونس» الاتجاه العقلي للدستوريِّين الجدد على النحو التالي: كانوا يتميَّزون بالسعي نحو تحقيق وظيفة الوسطاء بين فرنسا وتونس، بين الرأي العام الفرنسي ونظيره التونسي. دافعوا عن الانتقال السِّلمي لنظام الحماية الاستعمارية نحو «نظام طبيعي يستمدُّ قوَّته من مفهوم المصلحة المشتركة على أساس الوضوح وحرية الإرادة» (١٧، ١٣٤)، كما دافعوا عن الأصالة القومية لتونس ووجوده المستقل وتطوره الخلاق على أساس مُنجزات الغرب. إنَّ الدستوريِّين الجدد اشتراكيون وفقًا للمفاهيم الاشتراكية لدى البورجوازية الصغيرة، إلا أنَّهم قد رأوا أن الحرية الاجتماعية أمرٌ ممكن «كنتيجةٍ وفي إطار الحرية السياسية للوطن»؛ ولهذا فإنهم، كما أشار إيفانوف، تحفَّظوا في رفع الشعارات الاشتراكية، و«باختصارٍ فإنهم تناوَلوا كل مشكلات النظام الأخلاقي والاجتماعي والسياسي من وجهة نظر الضرورة القومية» (١٧، ١٣٥). كان الدستوريُّون الجدد يرون أن الخط الرئيسي بالنسبة للتونسيين يتمثَّل لا في الاحتلال أو الفقر أو جهل الشعب، وإنما في الفرنسية. وفي «فقدان تونس لطابعها القومي»، بالرغم من أن شباب الدستوريِّين الجدد تلقى تعليمًا فرنسيًّا وتشبَّع بفكر الثورة الفرنسية الكبرى؛ ولهذا كانت الخطوة الأولى التي رأى الدستوريُّون الجدد ضرورة اتخاذها من أجل الاستقلال تقوم على الدعاية للفكرة القومية، وسط الشعب الذي يُعدُّ المنبع الوحيد للسيادة والأساس الذي ينهض عليه بعث البلاد (١٧، ١٣٦).
كان مفهوم «حركة بورقيبة» هو مجموع الآراء والأفكار التي كان بورقيبة ملهمها. وتتلخص إستراتيجية النضال التحرُّري القومي في تونس كما وضعها بورقيبة في العمل على وقبول تنازلات جزئية، محولين إياها إلى نقطة انطلاق من أجل مطالب جديدة في الوقت المناسب. ويتطلب هذا تكتيكًا يقوم على المرونة السياسية والمناورة، وسياسة الأمر الواقع والحل الوسط (رفع حزب الدستور القديم، على العكس من ذلك، شعار الاستقلال الكامل والفوري، ودافع عن مُثُل الجامعتَين العربية والإسلامية). وبتعبيرٍ آخر، فإن بورقيبة في فترة ما بين الحربين حقَّق فكرة الحماية «القانونية»؛ أي الاستقلال الذاتي الحقيقي لتونس في وجود علاقاتٍ حميمة مع فرنسا (١٧، ٢١٥). وبالرغم من أن بورقيبة والدستور الجديد قد ركَّزا في بعض الأحيان على بعض المشكلات تبعًا للظروف، إلا أنَّ إستراتيجيتهما وتكتيكهما وكذلك المواقف الأساسية «لحركة بورقيبة» لم تتعرَّض لأية تغييراتٍ جوهرية.
ولكن كيف تسنَّى للدستوريين الجدد، هؤلاء القوميين «المتأوربين»، أن يحظوا بدعم الجماهير التي لم تكن تُشاركهم معتقداتهم؟ لقد توسع نشاط القوميين سواء في تونس أو في البلاد العربية الأخرى في ظروفٍ أيديولوجية جديدة، وتهاوى بشدَّة تأثير المرابطين والجمعيات الدينية في فترة ما بين الحربَين. كان هناك تنافر حادٌّ بين نزعة العداء المكثَّفة لكل ما هو أوروبي والنظرة إلى الإنسان بروح القرون الوسطى، وبين الاتجاه الأوروبي والنزعة الفردية اللذَين حقَّقا انتشارًا واسعًا في المدن، وأخذ الناس يندفعون للحصول على الحقوق والحريات الإنسانية. في هذه الظروف لعب السلفيون، الذين كان حزب الدستور القديم نقطة ارتكازهم، دورًا اجتماعيًّا هامًّا؛ فمن ناحيةٍ قاموا بمدِّ جسرٍ بين القرون الوسطى العربية وبين المعاصرة، ووقَفُوا ضد التعصب والرجعية المتطرفة اللذَين كان يُمثلهما المرابطون وموظَّفو الإسلام الرسمي، وقاوموا حركة الفَرْنَسة والاستعباد الثقافي للتونسيِّين، ومن ناحيةٍ أخرى سعوا إلى توطيد دعائم الإسلام وأكَّدوا على أولوية الدين على العقل، وأسبقية الثقافة الإسلامية العربية. أما العلماء الإصلاحيون فقد كانوا لا يزالون على ولائهم لسلطات الاحتلال؛ ولذلك فإن الشعب الذي كان متعطشًا للتغيير قد أدار ظهره للزُّعماء القدامى ليسير خلف زعماء جدد، وعَدُوه بتغييراتٍ جذرية لكل مناحي الحياة، وقاوَمُوا بكل حماسٍ المحتل الفرنسي، وعملوا للحصول على الحكم الذاتي السياسي في إطار الحماية.
وبينما كانت حركة الجامعة العربية نشطة تمامًا في النصف الثاني من الثلاثينيات في بلاد المشرق، أخذت القومية العربية في الانتشار في بلاد المغرب. وبقَدرِ اكتشاف فشل الصفقة مع فرنسا من أجل الحقوق الديمقراطية انتشرت المفاهيم الإسلامية ومفاهيم الجامعة العربية سريعًا بين المثقفين والشباب المغربي. وتحولت اللغة العربية إلى رمزٍ ذي مغزًى اجتماعي وسياسي. وأظهر القوميون على اختلافهم، بما فيهم الدستوريُّون الجدد، اهتمامًا بالغًا بالاتجاه التحديثي للإسلام وبالتاريخ العربي واللغة العربية.
واشتدَّت الدعاية لأفكار القوميِّين العرب التي وجدت تعاطفًا بصفةٍ أساسية في أوساط فقراء المدينة وفي دوائر البورجوازية الصغيرة، وخاصةً الكارهين منهم للفرنسيِّين والذين كانت لهم توجهات قبل الحرب نحو إيطاليا الفاشية باعتبارها عدوًّا طبيعيًّا لفرنسا.
وفي الجزائر، خلقَت خصائص سياسة الاحتلال الفرنسي، المُوجَّهة إلى تحويل الجزائر إلى ولايةٍ فرنسية وراء البحر، وإلى عزلها واقعيًّا بخصوصيتها المحلية عن بلاد المشرق العربي، الظاهرة الجزائرية التي حدَّدت على وجه الخصوص المعايير السلوكية ونمط التفكير لسكان الجزائر. جرت دراسة الواقع الفريد للجزائر من جميع النواحي العرقية والاجتماعية الاقتصادية والسياسية والثقافية. كان الأوروبيُّون في الجزائر (غير المسلمين) يُمثلون جزءًا لا يستهان به من السكان، وكانوا يُشكِّلون وضعًا مهيمنًا. كانوا يَملكون مناصب القيادة في أيديهم وكانت مجالات الاقتصاد المتطوِّرة تحت سيطرتهم.
لكن القهر القومي الموجود في الجزائر بصورةٍ سافرة أزال الحدود بين التناقُضات الطبقية في المجتمع التقليدي، ولولا هذا لطغَت الظواهر الحادَّة للصراع الطبقي. وهكذا ساهمت المصالح المشتركة للنضال ضد الاحتلال في تكاتُف الشعب الجزائري.
أدَّى تدخل الأوروبيِّين في شمال أفريقيا إلى ظهور نظامَين اجتماعيَّين مختلفَين، أساسًا في بلاد المغرب والجزائر، يقومان على الاختلاف العرقي والمعتقدات الدينية وعلى اختلاف الوضع الاقتصادي وآفاق المستقبل. كان هناك عالَمان، طائفتان بكل تركيباتهما الخلقية وقيمهما الرُّوحية. كان هذا العالَمان «يفصل بينهما كمٌّ من الحواجز المنظورة وغير المنظورة، الرسمية والاختيارية، التي تُنظِّم علاقات أعضاء كلٍّ من الطائفتين … فتجعل هذه العلاقة في حدها الأدنى» (١٣٣، ج٢، ص١١٦). ولما كان الجميع مُضطرِّين للعيش والتعاون على أرضٍ واحدة، فقد أصبحوا في صراعٍ دائم مُستَتِر حينًا وظاهر حينًا آخر.
كان الأوروبيون يُعاملون أهل البلاد بصلفٍ عنصري، وكان هؤلاء يردون على ذلك بازدرائهم، إلا أنه بالرغم من التداخل الواضح بين هذين العالمَين، فقد استطاعا أن يتكيَّفا في سياق عملية التعاون بينهما، ويُؤثر كلٌّ منهما على الآخر.
أنتجت السياسة الفرنسية الموجَّهة لخلق فئة «عربية مُتفرنسة مُتحضِّرة» بعض الثمار: فمع مطلع القرن العشرين ظهر قطاعٌ صغير من السكان الأصليين الذين حملوا الجنسية الفرنسية (وهم بصورةٍ أساسية من الكومبرادور، وصغار الموظَّفين، وجزء من المثقفين)، وهؤلاء ارتبطت مصالحهم بالمصالح الفرنسية على وجه العموم، وبالجاليات الفرنسية في المستعمرات على وجه الخصوص؛ إذ كانت بينهم علاقات اجتماعية وأيديولوجية معروفة.
ومنذ عام ١٨٦٥م وحتى ١٩٣٦م حصل ٦٨١٧ شخصًا على الجنسية الفرنسية، وهؤلاء أطلَق عليهم الشعب لفظ «متورني» (اسم المفعول من كلمةٍ فرنسية بمعنى أدار) (٢٥، ١٤٢).
دفع نظام العلاقات المباشرة بين المُستعمَرة والدولة المُستعمِرة إلى تيارٍ قوي من الهجرة الدائمة: ترَك الجزائريون بلادهم للعمل في فرنسا، للبحث عن السعادة والدِّراسة بمُعدلٍ من ٤٠ إلى ٥٠ ألف نسمة كل عام (١٥١، ٦٣)، وأكثر من ٧% من العائلات الجزائرية كان لها في فرنسا من واحدٍ إلى ثلاثة من الأقارب (٢٥، ١٢٦). وكانت النتيجة أن الجزء الأكبر من البروليتاريا الجزائرية (وكذلك المثقَّفون) تكوَّن في الغرب، حيث التحمُوا برفاقهم الأوروبيِّين وتعلَّموا في المدرسة الاجتماعية والسياسية. هذا الجزء من الجزائريِّين أصبح حاملًا لعناصر ثقافية وفكرية وديمقراطية وقومية جديدة، وساهم في صياغة الأشكال الحديثة للوعي الاجتماعي لدى السكان الأصليِّين. ونتيجة لذلك اكتسبت آراء الفئات الوسطى لسكان المدن المسلمين، أكثر الفئات الاجتماعية نشاطًا، طابعًا أوروبي التفكير وخبرة اجتماعية أوروبية.
وتحوَّل الوعي بالظلم لدى الجزائريين المسلمين، تدريجيًّا، إلى وعيٍ بضرورة السعي إلى تغيير الوضع، وإنهاء الظلم، وإذلال الكرامة الإنسانية، والحصول على المساواة في الحقوق مع أوروبيي المُستعمَرات والمساواة في تحسين أحوال المعيشة.
فور توقيع اتفاقية ١٨٣٠م الجائرة التي سلمت البلاد إلى سلطة الفرنسيِّين، بدأت جماعةٌ صغيرة من الجزائريِّين المتعلِّمين يقودها حمدان خوجة، في مقاومة الاحتلال الفرنسي. وربما كان حمدان خوجة الذي تعلَّم بروح التنويريين الفرنسيين أول عربي يُدافع عن إحدى أفكار الثورة الفرنسية، ويطرح وضع الوطن الجزائري والدولة الجزائرية. ويُؤكد أن الجزائريين لهم الحق في الوجود باعتبارهم «أمة حرة مستقلة» (٨٧، ٤٢). وقد سعى حمدان في معرض دفاعه عن الديمقراطية والإصلاحات الليبرالية، أن يُثبت أن الإسلام يقوم على أسسٍ ديمقراطية، ونادى حمدان خوجة بجزائر حديثة مُتطوِّرة، لكنه لم يُطالب بتحويل الجزائريِّين إلى فرنسين. وعلاوة على ذلك، فقد رأى أن على الجزائريين والفرنسيين ألا يعيشوا على أرضٍ واحدة؛ فعقائدهم ولغتهم وعاداتهم مختلفة. كان حمدان واحدًا من أوائل التنويريِّين العرب ورائدًا للبعث العربي الإسلامي. وفي عام ١٨٧١م، ولا شكَّ بتاثير كومونة باريس، أسَّس شخصٌ يُدعى محمد البدوي لجنةً للدفاع عن حقوق الجزائريين (١٨٠، ج١٣، العدد ٢، ص٢٣٢).
على أنَّ الانتفاضات السياسية الراديكالية كانت جميعها ظواهر فردية، وأصبح الشكل الأمثل للنضال عند القوميِّين الجزائريين الأول هو أن يتوجه المواطنون بالعرائض إلى إدارة الاحتلال مُطالبين بمُساواتهم في الحقوق مع «الجزائريِّين الأوروبيين». كان هذا هو مطلب البورجوازية الإسلامية التي تشكَّلت من التجار وصغار رجال الصناعة؛ أصحاب معاصر الزيوت والمطاحن والمخابز إلى آخره، وكذلك مطلب مُمثلي المِهَن الحرة. كانت الطليعة تتمثَّل في الشباب، وعلى رأسهم خريجو المعاهد الدراسية الفرنسية الذين أرادوا الانضمام إلى ركب الحياة العربية، فضلًا عن سعيهم لتحويل المجتمع الجزائري إلى مجتمعٍ على طراز الأوروبي (بمساعدة وتحت رعاية فرنسا). وعلاوةً على ذلك، فقد أراد المسلمون الاحتفاظ بحقِّ كونهم مسلمين، وبتعبيرٍ آخر: إلغاء قانون التجنس الذي ينصُّ على أحقية حصول المواطن الجزائري على الجنسية الفرنسية فقط إذا تنازل عن وضعه كمسلم، وهؤلاء أطلق عليهم اسم فرانكو مسلمين. وقد كانوا بعيدين جدًّا عن الشَّعب، مثلهم في ذلك مثل الأنصار العديدين لتيار الاندماج الكامل.
ويرجع تاريخ النضال السياسي الفعال إلى بداية القرن العشرين، أصبح الفرانكو مُسلمين يُسمَّون بالجزائريين الشبان على غرار الأتراك الشبان والتونسيين الشبان. وكانت أهدافهم هي نفس الأهداف القديمة. كان الجزائريون الشبان يَحلمون بأن يستفيد مواطنوهم بفضائل الحضارة الأوروبية وأن يتَّبعوا ثقافتها، وأصبح دعاة للاتجاه القومي العلماني، وأظهروا قدرًا كبيرًا من التسامح الديني، بل إن البعض أصبح مؤيدًا للأيديولوجيا الاشتراكية. لم يكن جميعهم مؤيدين للاندماج، ولكنهم في الوقت نفسه كانوا جميعًا مُؤيِّدين لفرنسا على الإطلاق، وكانوا يَنتظرون منها العون لتطوير الجزائر اجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا (٨٧، ١٦٩).
قدم الجزائريون الشبان العديد من العرائض المليئة بالتعبيرات العامة والمبهمة، التي تناولت المُطالبة بالمساواة في الحقوق والواجبات، وباحترام العادات وإصلاح التعليم وإلغاء «قانون المواطنة» وتطوير البلاد إلى آخره، كانت كل هذه المطالب تتَّسم بالاعتدال، ولم يعمل الجزائريون الشبان على المطالبة بالاستقلال، وإنما طالبوا بمُجرَّد المساواة في الحقوق مع الفرنسيين و«الفرنسيِّين الجدد» والأوروبيِّين واليهود الذين استوطنوا الجزائر، بل إنهم حتى لم يطالبوا بالمساواة التامة، وإنما بقدر عادل من التمثيل في المؤسسات الإدارية وفي البرلمان (٦٥٢، ٣٢)، كما أرادوا توسيع التعليم الفرنسي في البلاد، وعوَّلوا كثيرًا على فرنسا.
كانت نهاية الحرب العالمية حدًّا جديدًا لتطور الفكر السياسي في الجزائر، الذي تميَّز بتفجر النشاط السياسي والاجتماعي. وقد أثارت النقاط الأربع عشرة التي أعلنها الرئيس ويلسون اهتمام الجزائريِّين، كما شدَّت انتباههم مشكلة حرية شعوب البلقان، وقيام الاتحاد السوفييتي، وعصبة الأمم، والنشاط الإصلاحي لمُصطفى كمال (أتاتورك) إلى آخره (١٢٥، ١١٧). وأصبح الأمير خالد عبد القادر (١٨٧٥–١٩٣٦م) الإصلاحي المعتدل أول مُعبِّر بارز بعد الحرب عن الأماني القومية المتواضِعة، ضم برنامجه المطالبة بالمساواة بين الجزائريِّين من سكان البلاد الأصليين ومستوطني المستعمرات، في التمثيل في البرلمان والمساواة في الخدمة العسكرية، حق التعليم والتعيين في المناصب الرسمية العليا، حق النشر والاجتماعات، فصل الكنيسة عن الدولة، تعميم قوانين العمل الاجتماعي بين الجزائريِّين … إلخ. وبداهةً فقد طالب الأمير عبد القادر بالاحتفاظ بوضعية المواطن الجزائري كمُسلمٍ عند تجنُّسه (١٢٥، ١١٦). كانت هذه المطالب تتطابق في جوهرها مع مطالب الجزائريِّين الشبان قبل الحرب، إلا أنها لم تكن هدفًا في حد ذاتها، خلافًا لما كان لدى الجزائريين الشبان، فقد رفع الأمير عبد القادر شعار الجزائر للجزائريِّين (٩٩، ١٠١). وقد سعى الأمير خالد إلى إقامة اتحاد فرنسي جزائري على أساس المساواة التامة، اعتقادًا منه أن الحصول على الاستقلال أمرٌ غير واقعي.
وفي العشرينيات تشكَّلت وتطوَّرت الجماعات الاجتماعية البورجوازية، وأيضًا البروليتاريا التي أصبح عليها عبء تقرير مصير الوطن. كان تيار الاندماج آنَذاك لا يزال قويًّا بين القطاع المُتأوِرب من المثقَّفين الجزائريين. على أن مفهوم الأصالة القومية وضرورة التطوير الاجتماعي الاقتصادي والثقافي للجزائر بمساعدة فرنسا الديمقراطية المُتنورة أصبح تدريجيًّا هو الاتجاه الرئيسي.
كان فرحات عباس (ولد عام ١٨٩٩م) واحدًا من أبرز مُمثلي الجماعات الليبرالية الجزائرية المُعتدلة المؤيدة للاندماج في العشرينيات. وقد أصبح فيما بعد رئيسًا لحكومة الجزائر الثورية المؤقَّتة. وفي عام ١٩٢٧م طرح فرحات عباس من خلال عددٍ من المقالات نشرها في صحيفة «التقدم» الأسبوعية بتوقيع «الفتى الجزائري»، موقف الشباب الليبرالي ذي التكوين الغربي الذي طالب على وجه الخصوص بالاحترام الكامل للإسلام والثقافة الإسلامية واللغة العربية، ورفض المظاهر العنصرية، وتحقيق المساواة في الحقوق إلى آخره (١٢٥، ١٢١)، كان فرحات عباس يتمنَّى بشدة تحويل الجزائر إلى دولةٍ حديثة تحت رعاية فرنسا وفي ظلال قوانينها، وكان مؤمنًا بأن مساواة الجزائريِّين لن تتحقق إلا بمساعدة فرنسا، واعتبر أن المواطنين الجزائريِّين فرنسيون يتمتعون بوضعهم كمسلمين. كان فرحات عباس قريبًا من التيار المعتدل لرابطة النخبة الإسلامية (١٩٢٧م)، التي جمعت بين مؤيِّدي فكرة التكامل على أساس المساواة التامة وأنصار الاندماج، بغضِّ النظر عن اختلاف العقائد، وخلقت الوعود التي تلقاها الجزائريون من فرنسا بمناسبة مرور مائة عام على الاحتلال وهمَ تحقُّق هذه الأهداف، غير أن الإحباط سريعًا ما تملكهم. وفي عام ١٩٣٨م أصبح فرحات عباس عنصرًا نشيطًا في اتحاد الشعب الجزائري الذي قام بتأسيسه، دعا إلى اتحاد الجزائر وفرنسا مع احتفاظ الجزائريِّين بذاتيتهم وبالمساواة الكاملة. وفي هذا الصدد كتب فرحات عباس: «إننا نُريد أن تحتفظ الجزائر بطابعها الخاص، بلغتها وبعاداتها وتقاليدها. إنَّ الانضمام لا يعني الاندماج» (٤٦، ١٦٠). لقد حدث تطوُّر في وجهات نظر فرحات عباس من فكرة الاندماج والتكامل التامَّين إلى فكرة الاتحاد دون اندماج، ثم بعد ذلك إلى الحكم الذاتي للجمهورية الجزائرية المتحدة مع فرنسا، وأخيرًا الدعم الكامل لجبهة التحرير الوطني (إبان الثورة الجزائرية).
إلى جانب حركة الإصلاح التوفيقية التي تخلَّصت ببطء من الاتجاهات الأبوية، ظهرت وسط المهاجرين الجزائريِّين في فرنسا حركةٌ راديكالية (اشترك فيها الشيوعيون بصورةٍ مباشرة). وقد تمَّت صياغتها في شكل منظمة «نجمة شمال أفريقيا» (١٩٢٦م) التي أنشئت من أجل الدفاع عن حقوق مواطني المغرب العربي، والتي نقَلَت نشاطها بعد مرور عشر سنوات إلى الأراضي الجزائرية (وقد حُلَّت هذه المنظمة في عام ١٩٣٧م). ودعا الجزء الخاص بالجزائر من برنامج «نجمة الشمال» إلى انتخاب البرلمان الجزائري تحت رعاية السلطة الفرنسية العليا، ومصادرة الملكيات الزراعية الكبيرة لسكان المستعمرات … إلخ.
كان الباحث ش. جوليون على صوابٍ عندما لاحظ في عام ١٩٣١م أن «نجمة شمال أفريقيا»، قد طرحت على وجه السرعة شعار الاستقلال السياسي للجزائر ودول المغرب الأخرى في تلك الظروف، التي نما فيها شعور العرب بالكرامة والاستقلال، ونما وعيُهم بمصالحهم، وأصبحت حقوقهم أقل رخاوة وتساهلًا، على الرغم من أن مفهوم الاستقلال لم يكن قد اتخذ له شكلًا محددًا بعد.
واصل الحزب الثوري القومي، الذي تأسَّس في عام ١٩٣٧م بقيادة مصالي الحاج، ما بدأته «نجمة شمال أفريقيا» وكان الحاج، سكرتيرها السابق، يتبنَّى الرأي القائل بأن جميع شعوب شمال أفريقيا أمة واحدة، وحاول أن يَمزج فكرة الاشتراكية بالإسلام، واعتبر الثقافة الإسلامية جزءًا هامًّا من التراث القومي.
كان عدد سكان الجزائر في بداية الحرب العالمية الثانية تسعة ملايين جزائري مسلم إلى جانب مليون أوروبي، بينما كانت ٩٠% من مجموع الصناعات والتجارة في أيدي الأوروبيِّين. وعلى مستوى التدرج المهني كانت أجور الجزائريين تُمثل ٧% في الدرجات العليا و٩٥% من الدرجات الخاصة بالعمال المُساعدين (٣٨، ٦٩). وقد ساعد هذا على سرعة تحويل أكثر مؤيدي فرنسا اعتدالًا نحو الراديكالية.
وفي فبراير عام ١٩٤٣م نشرت جماعة القوميِّين الجزائريين التي كان يقودها فرحات عباس «بيان الشعب الجزائري» الذي أدان الاحتلال، وأكَّد على مبدأ حق تقرير المصير والحكم الدستوري، ونادى البيان بجمهوريةٍ جزائرية تربطها بفرنسا معاهدة.
صاحَبَ تطوُّرَ الفكر السياسي في الجزائر وأعدَّ له عملٌ تنويريٌّ واسع. كانت هناك جمعيات وأندية تنويرية متعدِّدة عملت في الفترة من ١٨٩٠م إلى ١٩١٤م. لم يكن أعضاؤها من الراديكاليين، ولم يكونوا من أصحاب التيارات المناهضة لفرنسا.
وتُعطينا نوعية المحاضرات التي أُلقيَت فيها تصورًا عن طابع نشاط هذه الأندية والجمعيات: «حول فائدة المعرفة»، «الثقافة العربية»، «العالم الحديث»، «التضامن والأخوة الإسلامية»، «الكهرباء»، «تاريخ الأدب العربي»، «البناء السياسي في فرنسا»، «التقدم ومعاصرة الإسلام» إلى آخره (٨٧، ١٥٩–١٦٣).
واحتفظَت حركة التنوير بعد انتهاء الحرب بأهميتها. وفي الثلاثينيات اتخذت مدًى أوسع من الأهمية؛ فقد ساهَمَ بشكلٍ خاصٍّ على إدراك وبلوَرة أهداف الحركة القومية. وشاع الرأي القائل بأن النَّهضة الثقافية لا يُمكن أن تتحقَّق إلا باقتباس مُنجزات العلم والتكنولوجيا الأوروبيِّين. وقد أولى الشباب اهتمامًا بالغًا بنموذج الفِكر الأوروبي. وجرى على صفحات الصحف نقاش شمل العديد من المشكلات المعاصِرة، من بينها مشكلة التربية باعتبارها مُشكلة غير عادية. وقد اضطرَّ وضع الاحتلال الذي يعيشُه الجزائريون في عالم الأمم المستقلَّة المعاصر إلى أن يُعيد الشباب النظر في قيمهم الخاصة بشأن تدرُّج قيم الثقافة الأوروبية. بدأت هذه العملية واكتسب العمل التنويري تدريجيًّا صبغة سياسية، فمن ناحية وقع الفكر الاجتماعي السياسي تحت تأثير أفكار التنوير والثورة الفرنسيين التي قوَّضت حتمًا (إلى جانب قوى التحديث الأخرى) الطابع الفكري والحياة الإسلامية القديمة لدى سكان المدن بالدرجة الأولى، ثم أصبحَت جزءًا لا يتجزَّأ من مُعتقَدات الإنسان المعاصر. ومِن الناحية الأخرى، تيقظ الاهتمام بتاريخ العرب والجزائر وطرح مطلب الاعتراف باللغة العربية كلغةٍ رسمية. وظهرت في الصحافة المقالات التي كانت تَفضح الدول الاستعمارية وفكرة الاندماج. كان هذا دليلًا على بعث الوعي القومي. ونتيجةً لهذا أصبحت التقاليد والثقافة العربية «حصنًا ضد الاندماج … بينما ساعد الوعي بالثقافة الفرنسية على تحطيم كل ما هو معادٍ للعلم. وقد كان ذلك موجودًا في تقاليدنا الثقافية.» كما أشار صادق هجرس أحد قادة الحزب الشيوعي الجزائري (٢٤، ٣٩).
وفي عام ١٩٤٤م بدأت صحيفة «إيجاليتيه» (المساواة) الناطقة باسم أصدقاء البيان والحرية، واتخذت شعارًا لها «مساواة الشعوب والناس والأجناس». كان الأمر الرئيسي بالنسبة لها هو «المساواة». وقد تبنَّى برنامج الصحيفة إقامة جمهورية جزائرية دستورية متماسكة في مقاومة الاحتلال والاستعمار الفرنسي، وبعث الوعي القومي للجزائريِّين. آنذاك ظهرت أدبيات سرية على غايةٍ من الأهمية: صحف، منشورات، كتيبات … جميعها تدعو الشعب إلى الكفاح المسلح من أجل الحرية (١٦٣، عام ١٩٦٨م، عدد ٥، ص١٥٥).
يدين تكون الوعي القومي إلى حدٍّ كبير لأنصار حركة الإصلاح الإسلامي. وقد شارك عددٌ كبير من علماء الإسلام إلى الدعوة إلى بعث الجزائر وإلى تغيير الأشكال الجامدة لحياة المجتمع الإسلامي مِن مُنطلقاتٍ سلفية محافِظة، وأدانوا من نفس هذه المنطلقات، حركة المُرابطين، ورفضوا الرجعية المتطرفة والنظرة المعادية للغرب، وطرحوا حلولًا جديدة تتماشى وروح العصر. وقد رحَّب أغلب المثقَّفين المسلمين الذين تلقَّوا تعليمًا تقليديًّا بوجهات النظر هذه. وعلى الرغم من كل المحاولات التي بذلتْها الإدارة الفرنسية نحو عزلِ الجزائر عن تأثير البلاد العربية الأخرى، فقد كان الجزائريُّون يقرءون الصحف والمجلات المصرية والتونسية. وكتب الكواكبي وقاسم أمين وجورجي زيدان والمويلحي (١٤٠، ١٢٧).
كان لرابطة العلماء الجزائريِّين التي أسَّسها ابن باديس في عام ١٩٣١م أهمية كبيرة في تطوير الحركة الفكرية والنهضة الثقافية؛ حيث قامت الرابطة إلى جانب مجلة الشهاب (١٩٢٥–١٩٣٩م) بتوحيد جهود قطاعات عريضة من المثقفين والشباب الجزائري ذي التوجهات العربية الإسلامية. كانت تعاليم الإسلام الإصلاحي هي أساس نشاط العلماء إلى جانب نضالهم ضد حركة المرابطين والتقليديِّين وأنصار الإسلام الرسمي. ونتيجة لذلك، ومن أجل هذا، كان سعيهم لنشر الثقافات الناطقة بالعربية عن طريق إنشاء شبكة واسعة من المدارس الخاصة، حتى يمكن تخليص الجزائريِّين من التأثير الروحي للإقطاعيين والدفاع عن الثقافة القومية العربية من اعتداءات سلطات الاحتلال. وقد اتَّسم نشاط رابطة العلماء الجزائريين بالطابع السياسي منذ البداية، على الرغم من أنها أعلنت أنها ستقف بعيدًا عن السياسة. وقد طرحت صحيفة «المنتقد» الدورية (١٩٢٥م) في أول أعدادها جملةً من المبادئ، كانت جميعها ذات صبغة سياسية محدَّدة: كان رأي أتباع ابن باديس أن نشر الشعور بالوحدة، والوعي بالكرامة الوطنية، وتنمية الرغبة في البحث العلمي والحياة الفعالة، أمرٌ هام يفتح أمام الشعب طريق التطور المادي والثقافي (١٥١، ٣٨٨). وفي تلك الفترة بدأ ابن باديس في الأعداد الأولى من مجلة «الشهاب»، في إطار حركة الجامعتَين العربية والإسلامية. وفي عام ١٩٣٦م كتب ابن باديس دون مواربة: «إننا نرى الأمة الجزائرية موجودة … لدينا تاريخٌ مجيد، لدينا وحدة اللغة والدين والثقافة، تقاليد حسنة (وأخرى سيئة) كما لدى كل شعوب العالم الأخرى. الجزائريون ليسوا بفرنسيِّين ولا يريدون أن يكونوا فرنسيين، بل من المستحيل عليهم أن يصبحوا فرنسيين حتى ولو دمجوهم» (٥٧، ٢٥١-٢٥٢).
عبَّر الإصلاحيون في البداية عن ولائهم الخالص تجاه فرنسا، وتخيلوا الوطن الجزائري داخل حدود فرنسا. وكانوا يرون أن مهمَّتهم تنحصر في «تحسين التفاهم المتبادل بين الشعبين الجزائري والفرنسي، وأن يشرحوا للحكومة أماني الشعب ويدافعوا عن حقوقه (١٥١، ٣٩٢). على أنهم سرعان ما ذهبوا يُنادون بالاتحاد لا مجرَّد التكامل بين الجزائر وفرنسا. وميَّز ابن باديس بين مفهوم الجنسية القومية ومفهوم الجنسية السياسية، حيث لا يتطابقان من حيث الجوهر. وقد فهم ابن باديس الأول على أنه الاشتراك في الجوانب الاجتماعية الثقافية، وفهم الثاني على أنه الاشتراك في الناحية السياسية (١٥١، ٣٩٧)، وأشار ابن باديس أيضًا في عام ١٩٣٠م قائلًا: «عندما نتحدث عن الأمة الجزائرية فإنَّنا نعني بالدرجة الأولى الإسلام الذي يكون أساس الشخصية الجزائرية» (١٥١، ٣٦٤)، والأمة الجزائرية في رأي ابن باديس هي جزء من الأمة العربية، وابن باديس يرى أن العرب هم سكان المنطقة الممتدَّة من المحيط الهندي حتى المحيط الأطلسي … ويتحدثون … ويُفكرون باللغة العربية، وهم أفراد الأمة التي تعيش فيها روح التاريخ العربي وتتدفَّق في عروقها الدماء العربية» (١٦٩، عن عام ١٩٧١م، عدد ٢، ص٢٦)، كان ابن باديس يدعو إلى فكرة الوطن الجزائري، في الوقت الذي لم يكن المسلمون الجزائريُّون قد أدركوا بعدُ جيدًا ما هي الوطنية وما هي الأمة، بل تجنَّبوا أساسًا بحث القضايا المشابهة. لقد لاقت كلمات «الإسلام» و«العروبة» و«الجزائر» انتشارًا واسعًا، وأصبحت رمزًا للشعور القومي لدى المثقفين والشباب الجزائري في نهاية الثلاثينيات فقط، وكان للعلماء فضل كبير في هذا.
كتبت صحيفة الشهاب في عام ١٩٣٨م تقول: «من العسير أن تجد هنا (في الجزائر) شابًّا لم ينضم إلى إحدى الجماعات التي تَرفع شعار «الإسلام، العروبة، الجزائر»» (١٥١، ٣١٠).
وجديرٌ بالذكر أن تيار الجامعة العربية المناضل من أجل تحرير جميع البلاد العربية من السيطرة الأجنبية، أصبح هو الخط السياسي المحدَّد للسلفيين في النصف الثاني فقط من الثلاثينيات. وعلاوة على هذا فإنَّ ابن باديس وأتباعه تمسَّكوا بآراء شكيب أرسلان الذي كان صاحب تأثير واضح في شمال أفريقيا. وكان أرسلان يرى أن إمكانية وحدة سياسية بين بلاد المشرق والمغرب فكرة سابقة لأوانها (١٥١، ٣٧٠).
كانت الجامعة العربية بالنِّسبة لابن باديس مجرد عنصر ليست له أهمية كبرى في صياغة القومية الجزائرية التي تدخل فيها عناصر أخرى مثل الثقافة الناطقة بالعربية والمعتقدات الإسلامية ثم الأمة الجزائرية الأصيلة وهو أهم عنصر.
كانت سلطات الاحتلال الفرنسية تدرك جيدًا جوهر النشاط المناهض للاحتلال الذي تقوم به الرابطة؛ ومِن ثَم أخذت في دعم المرابطين علنًا. وفي عام ١٩٣٣م منع العلماء من الدعوة لها في المساجد، وصدرت الأوامر إلى موظَّفي إدارة الاحتلال بالدفاع عن المرابطين من هجوم العلماء الإصلاحيين، وتشديد الرقابة على المدارس التي أقامها هؤلاء في المغرب (٨٧، ٥٤٢).
وفي المغرب، ساهم تنافُس دول الاحتلال على شمال أفريقيا حتى عام ١٩١٢م في الحفاظ على استقلال المغرب، وأصبحت البلاد بعد ذلك خاضعةً لحماية كل من فرنسا وإسبانيا. وكما ذكرنا من قبل لم يتعرَّض المجتمع الغربي التقليدي حتى بداية القرن العشرين إلا لبعض التغيرات الطفيفة. أما المحاولات النشيطة التي بذَلها السلطان مولاي حسين (١٨٧٣–١٨٩٤م) لإعادة تنظيم الجيش المغربي على الطراز الأوروبي، والتي كان مِن نتيجتها التهديد المتواصل من جانب أوروبا باحتلال البلاد، فلم تؤدِّ إلا لإدخال بعض عناصر التجديد. وقد استدعى السلطان خبراء من أوروبا، بل وأنشأ معهدًا للهندسة على أحدث طراز. على أن الصلات بأوروبا لم تترك أثرًا كبيرًا حتى على حياة سكان المدن، بل ولم تظهر لها أية نتائج واضحة على الحياة الثقافية والأيديولوجية للمجتمع المغربي. لم تكن هناك بعدُ مُقدمات للتعاون الفعال للثقافات، إلا أنه قد ظهرت فئات ضئيلة من المثقفين الذين أدركوا ضرورة إعادة بناء الحياة كلها على أساسٍ حديث، وأصبح لها نشاط ملحوظ على الساحة الاجتماعية في السنوات من ١٩٠٥م إلى ١٩١٠م. وعملت الطبقة المثقَّفة الجديدة على نشر التعليم المدني وعلى إجراء إصلاحات دستورية، لكن دسائس الدول الأوروبية حول المغرب خلقت وضعًا رهيبًا. لم يكن السلطان عبد العزيز يمتلك القدرة على مواجَهة مُؤامرات المحتل الفرنسي والإسباني؛ مما أثار مشاعر السخط والغضب لدى الشعب. وفي أغسطس عام ١٩٠٦م تمَّ خلعه وتولى الحكم من بعده السلطان مولاي حافظ، الذي اضطرَّ للنزول على مطلب العلماء في أن يَحلف اليمين، التي كانت أول وثيقة في تاريخ المغرب تحدُّ من إرادة السلطان. وتنصُّ هذه الوثيقة استنادًا إلى ما جاء في كتاب علال الفاسي (١٩١٠–١٩٧٤م) زعيم حركة التحرُّر القومي المغربي «الحركة الاستقلالية في المغرب العربي» على أنَّ السلطان وعد بالعمل على إعادة المناطق التي سلخها المحتلون الأوروبيون وطردوهم منها، فضلًا عن إلغاء الامتيازات الأجنبية، والتخلُّص من المستشارين الأجانب في إدارة الشئون التي تمسُّ حياة الشعب، والالتزام بعقد المعاهدات بمُوافقة الرعايا فقط (٩٩، ١٠٨).
وفي عام ١٩٠٨م أسس شباب التيار القومي في طنجرة صحيفةً أسبوعية تحمل اسم «لسان المغرب». ويورد الفاسي في كتابه إحدى المقالات التي نشرت في هذه الصحيفة ومشروع الدستور الذي أعده ناشروها، والذي يَسمح لنا بأن نضع بعض التصورات عن آراء وأماني تلك الجماعة من الشباب.
تؤكِّد المقالة على أن الوقت قد حان لإجراء الإصلاحات التي يتعطش إليها الجيل الفتي، وعلى ضرورة إجراء التغييرات التي يعلمها السلطان ويُعوِّل الشباب عليه في تحقيقها. وترى ضرورة إدخال التعليم الأولي المجاني بصفةٍ أساسية من أجل إعادة البناء الاجتماعي، ووضع الدستور وتأسيس البرلمان، وأهمية النشاط والفكر الحر لإجراء الإصلاح. وتستهدف المقالة مباشرة بأمثلةٍ من تجارب البلاد الأخرى، بعضها إسلامية، إلا أنها تُولي أهميةً خاصة لليابان التي كانت تمثل نموذجًا بالنسبة للقوميِّين آنذاك. ونجد في مشروع الدستور الذي طرحته المقالة انعكاسًا لما طرحه هذا التيار. يرى المشروع ضرورة تأسيس برلمان (هيئة استشارية) تضمُّ مجلسَين؛ مجلسًا للأمة ومجلس إشراف يُشرف على المؤسسات الحكومية ويَمتلك حق الفيتو بموافقة السلطان. وقد أولى المشروع أهميةً خاصة لقضية تطوير التعليم؛ فالتعليم الأولي لا بد أن يكون مجانيًّا وإجباريًّا للأطفال، وهناك موادُّ عديدة تَمنع المغاربة من قبول حماية الدول الأجنبية باستثناء حالاتٍ خاصة (٩٩، ١١١–١١٦). وقد عكست المقالة ومشروع الدستور في جوهرهما المصالح الاجتماعية والسياسية للطبقة المثقفة المغربية آنذاك، التي كانت تحمل طابعًا تنويريًّا، فعملت على تقييد الملكية وإلغاء الامتيازات التي يحصل عليها الأجانب، وكذلك القضاء على النفوذ الأجنبي في البلاد، كما عكست أيضًا صورة المثقفين التي خطَت بالبلاد خطواتها الأولى نحو الديمقراطية.
وبعد إقامة نظام الحماية، وخاصةً مع بداية الحرب العالَمية الأولى، نشط القوميون المغربيون بصفةٍ أساسية خارج المغرب. ومنذ ذلك الحين الذي دخَلَت فيه تركيا الحرب، عقدوا آمالهم في التحرُّر على انتصار التحالف الألماني التركي، بعد أن تلقَّوا وعدًا من تركيا بالاستقلال. عندئذٍ اكتسب اتجاه الجامعة الإسلامية مزيدًا من المؤيِّدين، واتخذت الحركة الاجتماعية في المغرب في فترةٍ ما بين الحربَين طابعًا تنويريًّا وسلفيًّا على وجه الخصوص. وتكونت في المغرب، كما حدث في الجزائر وتونس، مُستعمَرة أوروبية كانت تستأثر بالمكاسب الاقتصادية نتيجة وضعها المسيطر، وما تحصُل عليه من تسهيلاتٍ سياسية. واحتكر الأوروبيون الرقابة على المجالات الاقتصادية والمالية والسياسية. وجرت نفس العمليات التي كانت تحدث في كل بلاد المغرب، غير أنها بدأت هنا مُتأخِّرة في ظروف الإيقاع المتسارع للتطور على مستوى العالم كله، في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؛ ولهذا كان رد الفعل على هذه العمليات أكثر حدةً، وخاصة فيما يُميز الصراع بين القديم والجديد.
وفي عام ١٩٢٥م و١٩٢٦م أعلنت الدعوة للمرة الأولى في تطوان بوجود أمة مغربية، وذلك في الخطاب الذي ألقاه عبد السلام البنوني، إحدى الشخصيات الاجتماعية المعروفة (١٤٧، ١٢٨).
آنذاك أيضًا أعلن محمد العلوي أحد مُمثلي العائلات الإقطاعية الشهيرة، أنَّ استقلال المغرب وبعث عظمة الإسلام لا يَنفصلان (١٤٧، ١٢٨). حدَّدت هذه الأوضاع الخط الرئيسي للاتجاه القومي المغربي: الأمة – السلطان – الإسلام، وظهرت في المدن الكبرى للبلاد الجمعيات والحلقات الثقافية، و«المدارس الحرة» التي عملَت على نقيض المدارس الفرنسية، وفي إطار برنامج حديث، على تدريس العلوم الدينية باللغة العربية. ظهرت أول مدرسة من هذا النوع في عام ١٩٢١م، وبلغ عددها في عام ١٩٣٧م، في فاس وحدها، العشرين (١٥٩، ٦٦). كان النشاط الاجتماعي في البلاد يتركز في الإصلاحيِّين الإسلاميِّين وأتباعهم.
وكما حدث في الجزائر، حدث هنا أيضًا؛ حيث شنوا حملة دعاية نشطة ضد حركة المرابطين، الذين ساندوا سلطة الحماية الفرنسية والإسلام الرسمي … كتب علال الفاسي الزعيم المغربي القومي البارز أن السلفية في المغرب لم تُساهم فقط في النضال ضد الخرافات، وإنما شجعت على امتلاك المعرفة وإجراء الإصلاحات والنضال ضد الجمود في كل أشكال الحياة، وأعدَّت العقول لتصور كل ما هو جديد: «لا شكَّ أن السلفية قامت بواجبها في تشكيل حالتنا النفسية وتوجهاتنا العقلية نحو ما نريده من تجديدٍ في مجالات وجودنا، نحو التحرُّر الذي أصبح هدفًا نهائيًّا لحركتنا، نحو الوحدة العربية أملنا، نحو الديمقراطية التي تقودنا روحها» (٩٩، ١٥٦)، وعملت المنشورات والصحف والحلقات السَّلفية على تربية الشباب على الوطنية والروح العربية الإسلامية. وحملت الصحافة العربية والفرنسية إلى المغرب أصداء الأفكار التحرُّرية، التي وجدت لنفسها مؤيدين في الظروف التي سادها السخط الشعبي العام نحو نظام الحماية.
انتهَت حرب الريف والانتفاضة السورية بهزيمة الشعبين المغربي والسوري، إلا أن هاتين الهزيمتين كانتا بذرة الانتصار في المستقبل. وقد أظهرت هذه الأحداث التاريخية، على أي حال، أن المحتلِّين ليسوا قادرين على كل شيء. وبدأ المُثقَّفون والشباب المغربي الذي وضع ثقته بلا حدود في الفرنسيين، واعتمد على رسالتهم الثقافية، يتحرَّر تدريجيًّا من هذا التخبط الطبيعي. لم يكن هناك أي قدرٍ من الإمكانيات الجادة، في ظروف الحماية، لتطوير الاقتصاد، للنشاط التقدمي للبورجوازية المغربية. وقد عمَّق هذا الوضع من التأثير الطاغي للثقافة الفرنسية ولعلاقات اللامبالاة من جانب السلطة، نحو القيم الثقافية القومية التي بدأ الشعب في إدراكها على نحوٍ غير مُعتاد.
كان «الظهير البربري» (١٩٣٠م) نقطة تحوُّل في تطور الحركة القومية المغربية، فقد طُبق القانون الفرنسي على السكان البربر بدلًا من الشريعة، وعمل على تقوية التيار المناهض لفرنسا بين البربر وبين العرب أيضًا. وقد رأى فيه البربر تطاولًا على التقاليد، واعتبره العرب محاولةً لتمزيق الشعب المغربي، واعتبر القوميون أنَّ هذا القانون عنصر من عناصر سياسة الاندماج الفرنسية (٩٩، ١٩١). وظهر في البلاد حلفٌ ضم العناصر الوطنية، حاول هذا الحلف إعلام الرأي الفرنسي عن وضع البلاد، وإيقاظ المشاعر الوطنية والقومية في الشعب، وإعداده للنضال من أجل الحقوق الديمقراطية والحقوق القومية (٩٩، ١٧٤)، وواصلت الحركة التقدمية في المغرب الاعتماد على الديمقراطية الفرنسية، وطالبَت بالتطبيق الصحيح لمعاهدة الحماية، وسعت إلى إعطاء الحقوق القومية والسياسية لشعوب شمال أفريقيا. لقد أخذت بأفكار الجامعة العربية دفعة جديدة.
وفي عام ١٩٣٤م كون عشرةٌ من الشباب المغربي لجنة العمل المغربي، كان من بينهم علال الفاسي ومحمد العويزيني، اللذان أصبحا فيما بعد مِن أشهر الشخصيات السياسية والاجتماعية. قدمت اللجنة مشروعًا للإصلاح إلى كلٍّ من الملك الذي لم تكن له صلاحيات حقيقية آنذاك، والإدارة الفرنسية. ولم يَشتمِل هذا المشروع على ذكر إلغاء الحماية أو خروج القوات الفرنسية من البلاد، وإنما طالب بتوسيع صلاحيات ووظائف السلطة السلطانية، وزيادة الحقوق الديمقراطية والاجتماعية للمغاربة، وتطوير التعليم الشعبي، واتخاذ بعض الإجراءات الاجتماعية التقدمية. وباختصارٍ اقتصر المشروع على المطالبة بالالتزام الدقيق ببنود اتفاقية الحماية (٩٩، ١٩١).
كان لوصول حكومة الجبهة الشعبية إلى الحكم في فرنسا أثر في حيوية نشاط القوى القومية في المغرب، تمامًا كما حدث في كل أنحاء المناطق الفرنسية الواقعة فيما وراء البحار. وقد انتقد القوميون على وجه الخصوص، سياسة الاستعمار الفرنسي وسياسة التمييز تجاه السكان، وزادت الانتفاضات الشعبية العفوية من قوتهم في النضال، وخاصةً في ظروف انتصار حزب الجبهة الشعبية في فرنسا، الذي كان ينتهج سياسةً عادلة تجاه مشكلات الشعوب الواقعة تحت الحكم الفرنسي.
وفي عام ١٩٣٧م أُنشئت في المغرب أول منظمة سياسية باسم الحزب الوطني، وتلخَّص برنامج الحزب في نقطتين أساسيتين: ١ – المغرب بلد إسلامي، ويتم تجديد كل حياة الشعب على أساس الإسلام. ٢ – نظام الحكم ملكي.
تبنَّى برنامج الحزب، بالدرجة الأولى، دعم السلفيِّين والنضال ضد حركة المرابطين في كل أشكالها، ودعم «النظام» الشعبي (رفع أجور العمال، تحديد يوم العمل بثماني ساعات، تنظيم الحركة النقابية، توفير فرص العمل لمن يحتاجها، الدفاع عن مصالح الفلاحين والنضال على وجه الخصوص ضد فقدن الفلاحين أراضيهم إلى آخره) (٩٩، ٢٤٧). وعمل الحزب الوطني بشكلٍ يتطابق تمامًا ورُوح السلفيين على جذب اهتمام السلطة نحو حاجات الشعب المغربي. وفي خريف ذلك العام تمت الموافقة في مؤتمر العمل الذي ضم القوى الوطنية على «الوثيقة الوطنية»، التي حوت المطالبة بالحريات السياسية وخاصة حرية النشر ووقف أعمال القهر والاستبداد. عقد المشاركون في المؤتمر عزمَهم على النضال «بكل الوسائل المقبولة والقانونية» (٣٥، ٣١٣)، ولكن لم يَرد ذكر إلغاء الحماية في أعمال المؤتمر، على الرغم من أنَّ حزب الإصلاحات الوطنية قد طالب في المنطقة الإسبانية من المغرب في العام التالي مباشرة باستقلالها. وتميزت فترة ما بين الحربين بالنسبة للمغرب، مثلها مثل بلاد شمال أفريقيا الأخرى التابعة لفرنسا. يسعى القوميون للحصول على تنازلاتٍ من فرنسا، والحصول على مساعدة فرنسا في التطوير الخلاق للسكان الأصليِّين، في إطار العلاقات القائمة مع فرنسا.
واتَّسع نطاق النضال من أجل الاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية فقط، ساهم نزول الحلفاء في شمال أفريقيا ونجاح قواتهم في دفع النضال التحرري للشعب المغربي، الذي قاده حزب الاستقلال الذي أنشأه ممثلو البورجوازية المغربية والمثقفون. وقد تحدد برنامج الحزب إبان النضال من أجل الاستقلال بالعمل على تحقيق الاستقلال الكامل للبلاد ووحدتها وإقامة الملكية، في عام ١٩٤٤م قدَّم الحزب للسلطان «بيان الاستقلال». وقد أبرز كُتاب هذا البيان أن نظام الحماية التي دخلت المغرب في إطاره من أجل إجراء إصلاحات واسعة، قد قادت البلاد إلى السيطرة المباشرة للاحتلال الفرنسي، ثم أعلنوا ما يلي: «لما كانت الأمة المغربية تُشكِّل وحدةً منسجمة وتعي حقوقها وواجباتها، سواء داخل البلاد أو خارجها، تحت قيادة سلطانها المحبوب، ووفقًا لأهداف الحرية الديمقراطية، التي تتَّفق في جوهرها مع مبادئ ديننا الإسلامي الموجودة في أساس نظام الدولة، فقد قرَّرنا: (أ) المطالبة أولًا، في مجال السياسة الخارجية، باستقلال المغرب ووحدة أراضيه. (ب) رجاء سيادته بإجراء الإصلاحات … وإقامة نظام سياسي وبرلماني، كما في بلاد المشرق العربي الإسلامية، يحمي حقوق كل فئات وطبقات الأمة المغربية، ويُحدد واجبات مُواطِني المغرب» (٣٥، ٣١٤–٣١٦، ٩٩، ٢٨٥).