القديم والجديد (تكملة)
-
تطوُّر الفكر الإسلامي: الإسلام والمعاصرة.
-
حركة الإصلاح الإسلامي في المرحلة الجديدة.
-
رشيد رضا أو «الطريق الوسط».
-
مشكلة الترابط بين النقل والوحي.
علينا ونحن نُلخِّص تطور الإسلام في العصر الحديث بصورةٍ مجملة أن نلاحظ ما يلي:
هناك حقيقة لا تقبل الجدل وهي أن الإسلام باعتباره مجموعة من القيم الروحية والوضعيات السياسية والمعايير القانونية، قد دخل منذ القرن الثامن عشر في نطاق الأزمات المميزة للعصر الحديث.
ونتيجة للنجاح الباهر الذي حقَّقته الحركة الوهابية، فقد تعرَّض الإسلام السلفي كنسقٍ عقائدي لهزةٍ عنيفة.
كما كان لاندماج البلاد الإسلامية السريع في القرن التاسع عشر في مجال السوق العالمي، واتِّساع علاقتها بالغرب، نتائج ثورية بالنسبة للعالم الإسلامي كله: فقد بدأت عملية التأثر بأوروبا، وبدا أن الشريعة غير مؤهَّلة لأن تكون النظام القانوني الوحيد المعمول به لتنظيم العلاقات بين المسلمين والأوروبيِّين؛ ومن ثَم أخذت في التراجع أمام القوانين ذات النمط الأوروبي.
ومنذ نهاية القرن التاسع عشر، ظهر بين رجال الدين الإسلامي اتجاه يسعى لخلق التوازن بين النقل والعقل: «تحرير» العقل من جانب، ومن الجانب الآخر التفسير «العقلاني» وللمنقول. لقد كان ذلك محاولة لإقرار المنقول بالحُجج العقلية وإثبات ملاءمتها والدفاع عن الإسلام من الضربات القاصمة من جانب العلوم الطبيعية. وقد نشأت في مصر حركة الإسلام الإصلاحي كمخرج للإسلام الرسمي. وكانت هذه الحركة تعكس بصورةٍ واضحة ثنائية الوعي الاجتماعي الذي تكوَّن على أساس ثنائية العلاقات الاجتماعية في فترة الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية.
جلب القرن العشرين معه تعميقًا مُتواصلًا للأزمة ومِحَنًا جديدة للإسلام الرسمي؛ فقد ساهم تغيُّر الوضع التاريخي ونجاح الفكر العلمي التكنولوجي في توسيع قاعدة اللامبالاة بالدين، بل وحتى إلى نشأة الإلحاد. وفي استمرار وجود اتجاه تحديث الإسلام وتحويل مواقف الإسلام الإصلاحي إلى جزءٍ لا يتجزَّأ من فكر القطاع المؤشِّر بين المثقفين المسلمين.
فقدت المفاهيم التقليدية لسلطة الدولة حتميتَها، وانعكس ذلك بصورةٍ واضحة في قيام المجلس التركي عام ١٩٢٤م، بإلغاء نظام الخلافة وإدخال الدساتير الحديثة في العديد من البلاد الإسلامية.
وقد طرأت بعض التغيرات على كثيرٍ من ظواهر الفكر السياسي الإسلامي مثل الجامعة الإسلامية، وهذه الجامعة التي ظهَرت في الربع الأخير من القرن الماضي لتكون سلاحًا رئيسيًّا ضد الاستعمار تحوَّلت بعد الحرب العالمية الأولى، وبشكلٍ خاص بعد ثورة أكتوبر في روسيا، إلى سلاحٍ «لتوطيد مواقع الخانات وكبار الملاك والأئمة وغيرهم»، واتخذت توجهًا مناهضًا للاتحاد السوفيتي كنتيجة لمحاولات الاستعمار الإنجليزي التي أحرزت بعض النجاح في إخضاع حركة الجامعة الإسلامية للسياسة الاستعمارية، وتضاءلت أهمية الجامعة الإسلامية كأداةٍ أيديولوجية لتماسك الشعوب العربية في نضالها ضد الاستعمار أيضًا، كنتيجةٍ لتعاظم رد الفعل اليَقِظ للمثقفين الليبراليين القوميِّين والدوائر العربية المتنورة، التي راهنت على المؤسسات العلمانية والمذهب العقلاني في سعيها للإصلاح، خوفًا من عودة السيطرة للمذهب الديني المُطلَق المعادي للفكر الحر.
ولم تَعُد ظاهرة الجامعة العربية لتكتسب أهمية متزايدة من جديد إلا في الثلاثينيات بقدر إدراك الشعوب العربية لضرورة العمل المشترك ضد الاستعمار. وعلاوة على ذلك، فإن فعاليات الجامعة الإسلامية ذات القُدرة على التوحيد، قد استخدمت بشكلٍ رئيسي من قبل الدوائر الرجعية والمحافظة.
ومع ذلك، فقد احتفظ الإسلام بقيمته كأهم عنصرٍ عقائدي، وحدَّد على نحوٍ كبير التصورات الأخلاقية فضلًا عن تحديده للوعي الاجتماعي السياسي لقطاعٍ عريض من المسلمين. لم يكن الشعور الديني المطلق هو وحده الذي خلَق المناخ الذي تمَّت فيه عملية تطور الفكر العربي، وإنما الخضوع التام غير الواعي للناس لنسق العادات ونمط الحياة خصوصًا في الريف، والذي تشكَّل في الجزء الأكبر منه بتأثير الإسلام. يرى العقاد في كتابه «الإسلام في القرن العشرين» أن من المُمكن الإشارة، دون تقيُّد، إلى الطابع العام لتأثير الإسلام على كل أشكال الحياة الفردية والجماعية المعاصرة للمسلمين. على أن هناك — كما يبدو — تصورًا أفضل يطرحه الفيلسوف اللبناني رينيه خباشي الذي لاحظ «أنَّ الدين، سواء بالنسبة إلى المسلمين أو بالنسبة إلى المسيحيين، يستند إلى أقصى درجة على عقيدةٍ مُبهَمة وإيمانٍ غَيبي أكثر من الاعتماد على العقلانية في زمن النضج الفكري» (١٣٢، ٣٦).
على أنَّ هذا المناخ قد تغيَّر بتغيُّر وضعيات الحياة نفسها التي ساعدت، كما ذكرنا، على انتشار روح التسامح الديني وتضاؤل مجال التأثير الديني (انظر على سبيل المثال ١٧٢، عام ١٩٣٦م، ع٨، ص٦٣٠)، ولكن بشكلٍ أكثر بُطئًا من تلك الوضعيات: كان الاندفاع في إيقاعات تطور الحياة الاجتماعية للعرب، وفي وَعيهم الاجتماعي، يتطلَّب إلى حدٍّ كبير، وجود مثل هذا المناخ الذي فُرضت عليه ظروف التبعية السياسية أو عدم المساواة القومية طابعًا محافظًا: بقيَ الدور التاريخي الهام للجماهير: الفلاحين، والبورجوازية الصغيرة في المدن، والبروليتاريا وشبه البروليتاريا. على أن مطالب هذه الجماهير بالذات كانت لها منطلقات دينية؛ إذ تشكلت مثلها العليا في ظل التربية التقليدية والجهل. ليس هذا فحسب؛ فالإسلام الذي كان بالنسبة للجماهير تجسيدًا للوجود القومي، ساعَدَ بشكلٍ كبير، في خلق أمزجة قومية ومعادية للغرب، ظهرت كرد فعل للتحكم السياسي والاقتصادي، وقمع الثقافة القومية وتدخل العناصر الخارجية في حياة المجتمع الإسلامي.
عندما أخذ في تطبيق معايير المجتمع البورجوازي (المجتمع «المُغترب عن عمله ذاته») (٣، ٢٦٨)، تلك المعايير التي اتخذت طابع الأوامر وشكل القوانين، بدأت القواعد السائدة التي أرساها الإسلام قبل البورجوازية، والتي كانت تُنظم العلاقات الاجتماعية وتتَّخذ طابع العرف العام، في التراجع، ورأى الوعي الجماهيري في ذلك شرًّا باعتباره اعتداء على الإسلام؛ ومن ثَم هبَّ للدفاع عن دينه، ويُعطينا هذا تفسيرًا للسبب الذي اتَّخذت من أجله النظريات والأفكار الاجتماعية السياسية، في العالم العربي، طابعًا إسلاميًّا. وتبعًا لهذا فإن الباحث لا يمكنه ألا ينظر باهتمامٍ خاص إلى تلك الظواهر مثل الإسلام الإصلاحي والسلفية. لقد سعى السلفيُّون إلى إثبات التطابق التام بين الوحي والعقل (مُعطين الوحي الأولوية)، بأن تركوا كل، أو تقريبًا كل، تراث الإسلام القديم على مرِّ القرون (التقليد)، مؤكدين على حق التفسير الحر للقرآن (الاجتهاد)، مدافعين عن القيم الروحية للإسلام ومقيمين في الوقت نفسه بصورةٍ واعية جسرًا بين الماضي والحاضر. وفي رأي السلفيِّين أن الشريعة (وهي القانون الذي أرسله الله للناس في صورةٍ عامة صالحة لكل مجتمع في أي مرحلةٍ من مراحل تطوره) يجب أن تكون على نحوٍ يصلح لكل مكانٍ وزمان. وكما ذكرنا آنفًا فقد رأى كثيرٌ من المسلمين أنَّ الطريق الوحيد للنهضة والتطور هو العودة إلى أسَّس الإسلام في صدره الأول؛ وذلك خلافًا لأصحاب النزعة الغربية التحديثية، الذين رأوا أن الوصول إلى النهضة الأخلاقية والعقلية للمواطنين، وتطورهم يجب أن يتم على أساسٍ علماني، كان هدف المسلمين هو إعادة انسجام دولة الإسلام في «عصره الذهبي»، مع مراعاة حاجات التطور والانسجام بين أصالة المسلمين والمعاصرة.
في عام ١٩٣٣م نشَر علي عبد الرازق مقالًا بعنوان «الدين وأثره في حضارة مصر الحديثة»، تحدث فيه عن الصراع بين الجديد والقديم الذي بدأ بوصول الأوروبيِّين. ويؤكد الكاتب على أن هذا الصراع لم يَنعكِس على أسس الإسلام، بل على العكس من ذلك كان يعدُّ مظهرًا لروح التجديد الحية، وقوة فعالة موجهة نحو تحرير الدين من كل ما يعوق تطوره» (١١٤، ج٢، ص٩٠).
لقد قام المسلمون التحديثيون بصياغة حلول للمشكلات الأخلاقية والاجتماعية والروحية والسياسية لأبناء دينِهم وفقًا للقرآن، كتبت صحيفة «الشهاب» لسان حال السلفيِّين في الجزائر: «إنَّ واجبنا الأكبر هو الحفاظ على المزايا العلمية والثقافية لماضينا دون أن نرفض في الوقت نفسه ما هو إيجابي في تلك الحضارة الحديثة» (١٥١، ٣٠٨)، ويُمكننا أن نُوافق على رأي الباحث الجزائري علي مراد الذي يَعتقِد أن مفهوم «التجديد» عند السلفيِّين يختص بشكلٍ استثنائي تقريبًا بالجانب المادي من الحياة. فالمشكلات الأخلاقية تُمثِّل العنصر العضوي للمذهب الديني، كما يمثل السلوك الطيب للإنسان تجاه الله مقياسًا للأخلاق الحميدة في الإسلام، وتمثل القيم الأخلاقية للمسلمين أيام الصحابة والخلفاء المثل الأعلى.
وفي نهاية القرن التاسع عشر، كانت حركة الإصلاح الإسلامي تُعتبَر حركة ضيقة تضم صفوة رجال الدين، التفَّ حولها عددٌ قليل من الأنصار الذين خرجوا من أوساط المثقفين المسلمين الجدد. وفي منتصَف القرن العشرين ذاعت أفكارها بين أبناء المدن. وفي بعض البلاد (مصر وتونس) ارتفعت لتُصبح ضمن سياسة الحكومة. وتعرَّضت حركة الإصلاح الإسلامي، في الربع الأخير من القرن الماضي، إلى تحولاتٍ كردِّ فعل للتحولات التي طرأت على المجتمع الإسلامي. فإذا كان زعماؤها في الماضي يسعون عن وعيٍ إلى إثبات أن الإسلام يُلبي حاجات التطوُّر الاجتماعي، فإنهم يَطرحون الآن، في المقدمة، اتفاق الإسلام مع مواقف الحياة الجديدة ومع الشخصية الإسلامية المتغيرة. وإذا كان الشيخ محمد عبده قد أكَّد أن الحضارة الحقيقية تتَّفق مع الإسلام؛ بمعنى أن الإسلام يمتلك الأسس الحقيقة للحضارة، فإن الكاتب الاجتماعي المصري البارز محمد فريد وجدي، وهو من أنصار محمد عبده، يحاول في كتابه «المدنية والإسلام»، الصادر في القاهرة عام ١٩٣٣م، الربط بين القرآن ومنجزات الثقافة الغربية، عندما يقول: إنَّ الإسلام «الصحيح» «الخالص» من الخلط يتفق تمامًا والمدنية الحديثة بما فيها من مفاهيم المساواة والدستورية، وسيادة العقل والعلم ومبادئ حرية الإرادة والآراء إلى آخره.
وعندما نعود لتاريخ النزعة التحديثية للإسلام، في فترة ما بين الحربَين، يُمكننا أن نلحظ أن الصياغات المبهمة للأفكار العامة التي طرحها روادها، الأفغاني ومحمد عبده، تمثل طابعًا عامًّا للقرن الماضي. وقد أعطت هذه الصياغات دافعًا لمختلف التفاسير وأدت إلى نشوب الخلافات بين أتباعها. بل إنَّ علي عبد الرازق قد فاقَ أستاذه محمد عبده في التفسير الحر للقرآن والسنة. ونادى رشيد رضا خلافًا لمحمد عبده بالعودة إلى التقليد. وكان رشيد رضا ذا تأثير شديد على الفكر الإسلامي المعاصر؛ فقد كان على رأس التيار التقليدي المعتدل في الحركة الإصلاحية الإسلامية في فترة ما بين الحربين، والتي انتشرت على نطاقٍ كبير في كثيرٍ من البلاد الإسلامية وخاصة في البلاد العربية في شمال أفريقيا، وعرفت في العالم الإسلامي باسم «الطريق الوسط». وقد وقَف أتباعه ضد المحافظين مُمثِّلي الإسلام الرسمي وضد كل أشكال الطوائف الموجودة بصورتها الدينية المقنَّنة. كتب شكيب أرسلان يقول: «إنَّ المحافظين والسلبيين هم بالذات الذين يضرُّون بالإسلام (١٥١، ٢٩٣). كما وقفوا أيضًا ضد أصحاب النزعة الغربية التحديثية في مجال الثقافة، وكانوا يؤمنون بأنَّ الثقافة الأوروبية تترك تأثيرًا ضارًّا على الأخلاق وتفسد المسلمين وتجلب كل ما يمكن من مصائب اجتماعية. هذا «الطريق الوسط» يقوم على الإيمان الخاص والصفاء المطلق للقرآن، الذي جاء للناس عن طريق الوحي بالرغم من اتفاقه مع منطق البشر وتأكيده لمنجزات المدنية. وقد كتب رشيد رضا بهذا الصدد يقول: «أرسل الله لكل أمة، لكل شعب، وحيًا يقودُها في كل مرحلةٍ من مراحل تطورها الاجتماعي، تبعًا لإمكاناتها ووفقًا لحاجات العصر؛ لأنَّ البشرية ككلٍّ لم تكن مستعدة لاستيعاب القيادة الإلهية العليا في شكل الإسلام، ثم أصبح على البشرية أن تعمل بعد الإسلام، وفي كل مكان، طبقًا لهذه القيادة؛ الإسلام. لقد أرسل الله قيادته إلى الناس في القرآن الذي جاء خاتمةً لبعثات الرسل ببعثة محمد» (١٤٥، ١٧٠).
ويرى الباحث الأمريكي ناداف سوفران، وهو مُحقٌّ في ذلك، أن موقف رشيد رضا يعني تراجعه عن الاتجاه العقلاني الرائد لمحمد عبده والعودة إلى العاطفة والإيمان الأعمى. فإذا كان محمد عبده وأتباعه قد رأوا أن الأخلاق في القرآن تقوم على أساسٍ أخلاقي نفعي، مما فتح الطريق للدعاية للعِلم الحديث بين المسلمين، فإن رشيد رضا بدفاعه عن وضع الإسلام والسنة باعتبارهما القانون الوحيد للأخلاق والضمان الذي لا يتغيَّر للمصالح العامة والمجتمع الإسلامي (١٥٦، ٧٧)، قد حاول معارضة المسيحية بالإسلام، والثقافةَ الأوروبية بالثقافة الإسلامية، الأمر الذي وضع بلا شكٍّ حدودًا معروفة أمام إمكانيات العقل البشري، وأعاق التطور الخلاق للإسلام.
لقد اجتَذبَت النزعة الحديثية للإسلام أنصارًا لها في كل البلاد العربية الذين أخذوا في السير على طُرقِ التطور المعاصر، ومن هؤلاء الجزائري ابن باديس الذي لعبَ دورًا بارزًا في النهضة القومية للجزائر، والشيخ عبد العزيز الباوندي، والثعالبي زعيم القوميين التونسيين، ومن الأدباء السوريين والشخصيات السياسية والاجتماعية: فخري البوروندي، ومحمد كُرد علي، والمغربي الشيخ بوشايب الدوكالي (١٨٧٨–١٩٣٧م) وغيرهم.
إنَّ الفكر الاجتماعي لحركة الإصلاح الإسلامي التي رفضت مذهب الجبرية المطلقة، وهو حسب تعبير ماركس، «محور المجتمع الإسلامي، قدَّم تفسيرًا مقبولًا للمؤمنين للتحولات الاجتماعية والسياسية في المجتمع الإسلامي.»
ويجب أن نتوقف، دون أن ندخل في تفصيلات المظهر الفلسفي الديني لحركة الإصلاح الإسلامي التي تخرج عن إطار المشكلات التي تُهمُّنا، عند قضية لها الأهمية الأولى بالنسبة لمصير الإسلام كأيديولوجية في الفترة التي ندرسها؛ وهي بالتحديد قضية العلاقة بين الوحي والعقل. في البداية ارتكز الإصلاحيون على محاولة إثبات أن القرآن أدرك مسبقًا حتى أحدث الاكتشافات العلمية، وبهذا يتمُّ التأكيد على أسبقية الوحي. وفي نفس الوقت التصديق على تطور العلوم الدنيوية، والآن تتَّجه الجهود على الإثبات «العلمي» لحقيقة المعجزات القرآنية، وتحويلها إلى حقائق علمية مؤكَّدة أي إلى إضفاء صيغة عقلانية للوحي.
وكان طنطاوي جوهري (١٨٧٠–١٩٤٠م) أنشط دعاة العلوم الطبيعية في مصر، عمل أستاذًا للفقه بكلية دار العلوم ثم أستاذًا بجامعة القاهرة. حاول الجوهري في رسالته للمسلمين «القرآن والعلوم العصرية» الصادرة عام ١٩٢٣م في القاهرة، وفي كتابه «الجواهر في تفسير القرآن الكريم» الجزء الأول، الصادر في عام ١٩٢٢م، حاول أن يثبت للمسلمين ضرورة دراسة العلوم الطبيعية، الأمر الذي يفتح، في رأيه، إمكانياتٍ عظيمة لتأكيد حقيقة المعجزات القرآنية؛ إذ إن القرآن يحتوي على إشاراتٍ لكل الاكتشافات العلمية، ومن بينها ما سيُكتشَف مستقبلًا. وكتب الجوهري أن العلم الأوروبي لا يتَّفق فقط مع القرآن، فالمعارف العلمية الطبيعية مذكورة في القرآن على نحوٍ مسبق، والدراسة المتعمقة للعلوم الطبيعية تُقرب الإنسان من الوصول إلى جوهر حقيقة «القرآن الكريم»، وتعمل على دعم الإيمان بين المسلمين. إنَّ منهج التفكير عند الجوهري ليس معقدًا؛ فالمسلمون لا يُمكنهم الاختلاف في الرأي بشأن ضرورة دراسة العلوم الطبيعية؛ ولهذا أفرد القرآن لهذه العلوم آيات أكثر من الآيات التي تتناول المسائل الفقهية (٧٥٠ مقابل ١٥٠). ونتيجة لهذا وبقدر انتشار المعارف المتعلقة بالعلوم الطبيعية، فإن الاختلاف بين طوائف المسلمين، الذي جاء نتيجةً لتعدُّد واختلاف تفسيرهم للشريعة، سوف تقل حدته بصورةٍ جوهرية. ويدين الجوهري هؤلاء الفقهاء الذين يُحاولون العمل ضد انتشار المعرفة ويقفون ضد العلم الأوروبي؛ لأنهم بهذا يُخالفون تعاليم الإسلام ويُعدُّون لفنائه (٢٢، ٦٨٥، ٩١، ٧–٩، ٦٩) (تعتبر تعليقات الجوهري على القرآن جريئة إلى حدِّ منعها في السعودية «١٤٣، ٤٥»). رسم طنطاوي الجوهري مدينته الفاضلة في كتاب «أحلام السياسة» الصادر عام ١٩٣٥م، وتحت عنوان «كيف يمكن الوصول إلى عالمٍ واحد يقول؟» يتَّضح الإيمان العميق في إمكانيات العقل البشري والأمل المتفائل في مُستقبلٍ سعيد، يتحقَّق بفضل العلوم الغربية أو بالأصح العلوم الإنسانية عامة لا علوم علماء الفقه (٢٢، ٦٨٨). وفي النهاية يؤكد الجوهري أن على المسلمين أن يمتلكوا علوم الغرب حتى يواجهوا عدوهم (الاستعمار) بسلاحه (١٤٣، ٤٦).
وقد حاول محمد حسين هيكل في كتابه «حياة محمد» (١٩٣٥م) أن يطرح أدلةً محددة يزعم أنها تُبين الانسجام بين العقل والوحي، وتعرض أن القرآن والتقاليد يُلبيان الحاجة إلى منهجٍ علمي معاصر، ويعطي تفسيرًا عقلانيًّا لأعمال محمد ويَنفي عن القرآن أي نقد. صحيحٌ أنه يحاول هنا أن يؤكد أن العلم الحديث والعقلانية قد أوقعا البشرية في مأزق؛ إذ إنهما لم يُفلحا في إعطاء الإنسان السعادة الحقيقية. إلا أنه يرى أن الدين فقط، بل والإسلام بالذات، يفتح أمام الإنسان طريق الخروج من هذا المأزق (١٥٦، ١٦٩–١٧٣). ويذكر محمد حسين هيكل في كتابه «في منزل الوحي»: «إن التعرف على منجزات العلم الأخيرة، واستخدامها في دراسة الآيات التي أنزلها الله، هو الطريق الذي يُؤدِّي إلى الإيمان الحق. إنه الطريق إلى الحياة الروحية الصحيحة … ركود الفكر عدوه» (١١٠، ٦٧١).
ويتبنَّى المفتي المصري محمد مصطفى المراغي (تُوفي عام ١٩٤٥م) وجهة نظر أخرى؛ فقد اقترح بصفته شيخًا للأزهر، إصلاح الجامعة عن طريق إدخال تدريس العلوم الحديثة بها، ولكنَّه بعد أن أضفى على اقتراحه بشأن الإصلاح بعض المواقف الشَّهيرة لمحمد عبده، التي ترى أن الإيمان الحق لا يمكن أن يتعارض والعلم الحق، رأى، خلافًا لمحمد هيكل، أن محاولة تفسير القرآن للنظريات العلمية، التي يمكن أن تكون غير صحيحة، خطر على الإسلام (١٤٣، ٧٨). ويذكر المراغي أنَّ الخلاف الجوهري بين الدين والعلم جاء في الحقيقة نتيجة الفهم الخاطئ من جانب المسلمين لآيات القرآن والسنة؛ حيث إنها جاءت في صيغٍ مجازية، بل وباللغة العربية، وهي شديدة المرونة، وتحتمل تأويلات مختلفة للمفاهيم. يقول المراغي: «إذا آمنا بصحة استنتاج علمي يبدو للوهلة الأولى متناقضًا مع الإسلام، فإن هذا التناقض الظاهر يأتي نتيجةً لفهمنا الخاطئ للقرآن والتقاليد. إن لنا في ديننا مذهبًا عامًّا، فإذا حدث تناقض بين البرهان والنص المُنزَّل من الله، فإن علينا أن نفسر هذا النص بصورةٍ مجازية» (١٤٥، ١٨٦).
بعد أن اختير المراغي شيخًا للأزهر للمرة الثانية عام ١٩٣٥م، شرع في العام التالي في إعداد مشروع جديد لإصلاح الأزهر يتوخَّى إدخال اللغتين الإنجليزية والفرنسية في برنامجه. وفي المُذكرة التفسيرية التي أرفقها بالمشروع، أشار المراغي بصورةٍ خاصة، إلى أنه «أصبح من الضروري الآن أن يُدرك العلماء أي هجوم تتعرَّض له الأديان وبخاصة الإسلام. يجب أن نتعلم اللغات الأجنبية حتى نردَّ على هذا. على العلماء أن يعرفوا حتى يُضيفوا إلى إيمانهم قوة الحجة المُقنعة إلى جانب المنهج المقنع» (٥٢، ٧٤). وجديرٌ بالذكر أن جامعة دينية أخرى لها مكانتها وهي جامعة الزيتونة في تونس، أدخلت في عام ١٩٣٣م تدريس التاريخ والجبر والجغرافيا والفيزياء والكيمياء والمعارف الطبيعية.
يتَّضح مما سبق أن مجموع الأفكار والتفسيرات التي طرَحها التحديثيون الإسلاميون المعاصرون، لم تخرج عن إطار المفاهيم التي طرحها الإصلاحيون المسلمون الأوائل؛ الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي. وإذا كان نشاط هؤلاء الإصلاحيِّين في مجال الدعاية لمنجزات الثقافة الغربية على أساس حركة الإصلاح الإسلامي، قد ساعد المسلمين إلى حدٍّ كبير في الاتصال بالمعاصرة والإحساس بإيقاع التطور الخلاق، فإن التركيز في الثلاثينيات على قضية الدفاع عن الإسلام ذاته كان سببًا، بشكلٍ أو بآخر، في إعاقة عملية تحديث المجتمع العربي.
كان الصراع المُحتدم في الثلاثينيات بين العقلانية والفكر السياسي من جانب، ونموذج الفكر الشرقي التقليدي من جانبٍ آخر، يعكس واحدًا من مظاهر الصراع بين القديم والجديد، وكذلك ضرورة البحث عن صياغة لوجود الشعوب الإسلامية التي اصطدمت بعدوانية الاحتلال، كان عددٌ كبير من أنصار التوجه الإسلامي يرون أن المسلمين قد توقَّفوا عن أداء دور بارز في العالم، كما أشار إلى هذا حفيد عبد القادر الجزائري، على سبيل المثال، في رسالته إلى مسلمي العالم في أواسط العشرينيات (٧٧، ١٩٠). كان هؤلاء جميعًا يَفترضون أن حياة المجتمع العربي يجب أن تُنظمها الشريعة والتقاليد، إلا أنهم مع ذلك قرروا، كما فعل المؤتمر الأول للطلاب العرب في أوروبا، أن «الدين قد توقَّف عن القيام بوظائفه كمنظم بالقدر اللازم». غير أنَّ الأمة العربية «يجب أن تستخدم الدين كوسيلةٍ للتربية الاجتماعية، وتشكيل الأخلاق الحميدة» (١٠٥، ١١٩).
ما إن رفع رشيد رضا راية «نهضة» العقيدة الحقة حتى أخذتها، في نهاية العشرينيات، المنظمات الإسلامية في كلٍّ من سوريا ومصر لترفَعَها شعارًا لها، وعلى رأس هذه المنظمات جمعية الشبان المسلمين، جمعية الفضائل الإسلامية، الجمعية السلفية، وجمعية إحياء السنة وغيرها.
ونجد في ميثاق جمعية الإخوان المسلمين: «أُعاهد الله أن أبذل غاية جهدي لإعلاء دور الإسلام في مجال الأفكار والأخلاق … وأن أجاهد ضد الإباحية والإلحاد اللذَين يُهددان هذا الدور القيادي …» إلى آخره (٦٣، ج٢، ص٣٠٠)، والفقرة التالية من ميثاق جمعية الشبان المسلمين الصادر عام ١٩٣٠م: «أعمل جاهدًا من أجل نهضة رفعة الإسلام وقيام الشريعة الإسلامية ودورها القيادي» (٦٣، ج٢، ص٣٠٠).
تتلخَّص وجهة نظر كل هذه المنظمات والجمعيات في المقالة التي نُشرت عام ١٩٢٩م في مجلة «الشبان المسلمين» السورية: «ليس هناك دواء آخر لأمراضنا سوى دواء واحد، وهو العودة إلى القرآن … الذي يجب أن يكون بحق الأساس الأول والمصدر الرئيسي وقائدنا في النهضة الأخلاقية؛ إذ بدونه يُصبح أي إصلاحٍ اجتماعي واقتصادي آخر غير ذي جدوى» (٥٧، ٢٧٨).
ويجب ألا نتجاهل، عند محاولتنا فهم العمليات المعقدة لتطور الوعي الاجتماعي العربي، أن الإسلام ظلَّ أساسًا لوجهات النظر الرجعية والمحافظة، فضلًا عن أن الحركات التقدمية قد اتجهت هي الأخرى نحوه نسبيًّا. فمن ناحيةٍ نادَت الدعاية الإسلامية «بعزل» المسلمين، على أساس العودة إلى القرآن والسنة المنظِّمين لعلاقات المجتمع في القرون الوسطى، ومن ناحيةٍ أخرى عملت جزئيًّا على استغلال الدعوة «لتماسك» المسلمين أمام الخطر الإمبريالي لصالح النضال المناهض للاستعمار (الأفغاني). كان الاتجاه التحديثي في الإسلام مدعوًّا هو الآخر من ناحية «بالدفاع» عن القرآن ضد هجوم العلوم، ومن ناحيةٍ أخرى فقد كان يقوم «بتحطيم» البناء السلفي للإسلام باعتباره دينًا للوحي، ويُحاول بقدرٍ معين أن يفتح أمام المسلمين طريق تطور العلوم الطبيعية، ومن جانبٍ ثالث كان الإسلام يُعتبر ركيزةً للقوى المناهضة للشيوعية، ومن جانبٍ آخر استغلَّت القوى التقدمية التصورات الإسلامية لإثبات أفضلية وصحة الأفكار الاشتراكية.
في كثيرٍ من الأزمات التاريخية تعاظَمَ دور الإسلام حتى كاد أن يتَّخذ فيه شكل الوعي الاجتماعي والقومي. في مثل هذه الأوقات لُوحظت العلاقات التوليدية بين الإسلام والمُثُل القومية والاجتماعية.
وعلى الرغم من الضربات الملموسة التي تعرَّض لها الإسلام في الربع الأول من القرن، بفضل انهيار الأبنية الاجتماعية التقليدية، فإنَّ المثقفين العرب ذوي النزعة الأوروبية والزعماء القوميين الليبراليين الذين فقدوا الثقة في إمكانية الوصول إلى حلولٍ سياسية على أساس الاتجاه القومي الليبرالي في مصر، وجزئيًّا في سوريا وفي لبنان والعراق، اتجهوا في الثلاثينيات إلى الإسلام الذي أصبح عنصرًا هامًّا للفكر القومي، كما أصبح يمثل للبعض ملجأ من الظروف الصعبة التي اتَّسمت بعودة الرجعية السياسية وظهور أزمة اقتصادية عالمية. سادت هذه الفترة نزعة إضفاء المثالية على فترة صدر الإسلام وعلى شخصية محمد، كما لوحظ السعي لا للتأكيد فقط على أن الإسلام هو أساس المدنية التي احتفظت للعالم العربي بطابعه على أساسٍ من الثقافة العربية الإسلامية المميزة، وإنما السعي أيضًا نحو دعم الغيبية (فالإيمان بالمعجزات يُبرِّر العجز). كان الدين يحرز دائمًا نجاحاته في مناخ الجهل العام أو اليأس الذي يتساوى مع الضعف الحقيقي أو الوهمي مدعِّمًا الإيمان في الحياة الأخرى.