الطريق إلى الديمقراطية
-
العالم العربي ومبادئ الديمقراطية البورجوازية.
-
مشكلة الديمقراطية في مصر؛ العلاقة بالخلافة كعلاقة بنظام سياسي (رشيد رضا، علي عبد الرازق).
-
موقف المثقَّفين الليبراليين. العقاد.
عمل شعار الثورة الفرنسية الكبرى «الحرية، المساواة، الإخاء»، الذي ظلَّ مصدرًا لإلهام الثوريِّين على مدى قرن ونصف على توحيد أنشطة قوى التجديد والتقدم الاجتماعي السياسي في تيارٍ واحد بدءًا من الربع الأخير من القرن الماضي. على أن مكونات هذا الشعار التقليدي اتخذت لنفسها صيغًا مختلفة تبعًا للموقف، فعندما أصبحت مشكلة الاستقلال السياسي هي محور الحياة القومية (في ظروف السيطرة الأجنبية المباشرة)، انحصر المظهر السياسي لهذا الشعار في كلمة «الحرية»، كما لو كانت هي المتحكمة في باقي مُكونات الشعار، كما طغت ضرورة النضال من أجل الحرية بعض الشيء على حدة المطالبة بالمساواة (المظهر المدني) والإخاء (المظهر الاجتماعي).
وفي موقفٍ تاريخي آخر، موقف التعدُّد القومي داخل الإمبراطورية العثمانية في ظروف استبداد الحكام الأجانب، انصبَّ اهتمام الرأي العام التقدمي على مشكلات الحقوق الديمقراطية والحريات، آنذاك بدا أن الديمقراطية هي الأداة الضرورية للنضال من أجل السيادة والتقدم. وكانت مصر والعراق تتمتَّعان في فترة ما بين الحربَين بوضعهما الرسمي كدولٍ مستقلة. غير أن هذا الوضع كان بمثابة المخدِّر الذي يُهدئ من ألم الإحساس بالإذلال القومي. وظلَّت مشكلتا زيادة سيادة الدولة والحصول على الاستقلال الحقيقي مطروحتَين أمام شعوب هذه البلاد. على أن وهم الاستقلال الذي ظهر نتيجةً لحيل إنجلترا قد حال بين هذه الشعوب وبين رؤية القدر الحقيقي لما حصلوا عليه من استقلالٍ عن الإنجليز. في هذه الظروف، احتلَّت مشكلات السياسة الداخلية المرتبطة بقضايا إضفاء الصبغة الديمقراطية على جميع المؤسسات، وكذلك مُشكلات مكافحة الجهل وتجاوز التخلف المزمن وغيرها، مقدمة الحياة القومية.
وفي سوريا ولبنان — وهي مناطق تقع تحت الانتداب الفرنسي — كانت هناك دوائر عريضة من الرأي العام، بعد هزيمة ثورة ١٩٢٥–١٩٢٧م، تعي مطالب العصر في السيادة القومية (بالرغم من أن القوى التي كانت على رأس الحركة القومية سعَت آنذاك لا نحو الاستقلال والسيادة الحقيقيتَين والتامتين، وإنما نحو عقد اتفاق مع فرنسا)، واعتبرت هذه الدوائر أن الحصول على حرياتٍ وحقوق ديمقراطية واسعة هو أداة فعَّالة لتحقيق أهدافها بطريقةٍ سليمة، عن طريق المنظمات الشرعية وظروف التقدم.
وفي الجزائر وتونس، حقَّقت العناصر القومية التقدُّمية المساواة مع الفرنسيين في الحقوق والواجبات فقط، وأعلنت عن احتجاجها ضد قهر الكرامة الشخصية والقومية. ولم يَطلب أحدٌ تقريبًا بالاستقلال. على أن مشكلة سلطة الشعب أصبحت واحدة من أهمِّ المشكلات السياسية في كل أنحاء العالم العربي؛ لأنَّ الحركة القومية ذاتها كانت في جوهرها حركة ديمقراطية، كما كان التحرُّر القومي الخطوة الأولى نحو التحرير الشامل للشعب بصفةٍ عامة وللشخصية بصفةٍ خاصة.
وفي كتابَيه «حقوق الإنسان» (١٩٣٨م) و«الفكر العربي الحديث» (١٩٤٣م) يخلص المناضل اللبناني البارز من أجل الديمقراطية رائف الخوري، وهو يَبحث تطور مفهوم حقوق الإنسان منذ عصر الثورة الفرنسية، إلى استِنتاجٍ مؤدَّاه أنه من الخير للعرب لو أنهم أخذوا عن العرب كل ما هو قائم على الاعتراف بالحقوق الطبيعية والحرية الشخصية للإنسان، بشرط أن تكون الدولة أساس الديمقراطية.
وقد دعت القوى التقدمية باستمرار، بدايةً من التنويريِّين العرب في القرن التاسع عشر، إلى تقسيم السلطة وإلى الحكم وفقًا للمبادئ الدستورية وإرساء قواعد الحياة النيابية، وإقامة نظام شرعي يُوفر المساواة بين الجميع في الحقوق والإمكانات، وإلى الحريات الديمقراطية (حرية الرأي والكلمة وإنشاء الجمعيات إلى آخره)، ورأت هذه القوى في النظام السياسي أهم عناصر التعجيل أو كبح التطور الاجتماعي.
اتجهت البورجوازية الليبرالية والفئات الاجتماعية المُرتبطة بها، في بحثها عن نموذجٍ مثالي للبناء السياسي والاجتماعي، نحو الغرب. وقد تربَّى مُعظم قادة الرأي العام القومي والاجتماعي لهذه الفترة في تلك الأعوام التي نشط فيها كلٌّ من الشيخ محمد عبده وأحمد لطفي السيد، عندما أخذ الفكر التقدمي في النمو تحت تأثير النزعة الأوروبية والتقدم والاتجاه القومي والتمسك بالمبادئ الدستورية. وقد أضفَوا جميعهم طابعًا مثاليًّا على مؤسسات المجتمع البورجوازي والنظم الحكومية القانونية القائمة على مبادئ الديمقراطية البورجوازية، هذا الوهم العظيم للقرن التاسع عشر. إنَّ القومية البورجوازية هي الأيديولوجية البورجوازية المُستمَدة من الغرب، ونُقلت إلى الظروف المحلية فأوجدت صياغةً جديدة لنفس التصورات التي ظهرت وتطورت من قبل في الغرب. وتعكس كلمات طه حسين، الذي اعتبَر أن المساواة في الحقوق والواجبات هي أساس الحياة الاجتماعية، ودعا إلى ديمقراطيةٍ شاملة تقوم على مبادئ إنسانية على غرار الأبنية الاجتماعية الأوروبية المثالية، رأي غالبية الشخصيات الاجتماعية، يقول طه حسين: «إننا نسعى في كل أعمالنا إلى هدفٍ واحد: التوصُّل إلى تحقيق فكرة المساواة الطبيعية بين أبناء الوطن» (٦١، ٤٠).
وفي فترة ما بين الحربين سعى الكُتاب الاجتماعيون العرب وقادة الرأي كأسلافهم، نحو خبرة النظام الديمقراطي العالَمي الحكيم. وقد آمنوا في صدق الاعتقاد بأنَّ القوة وراء الحق والحق لا يموت. وقد دافع عن هذا الاعتقاد أمين الريحاني (٧٩، ٢٤). وقد جاء في قرارات المؤتمر الأول للطلاب العرب في أوروبا «إنَّ الشعب لا يمكن أن يكون حرًّا ما دام لا يمتلك القرار في يديه مباشرة عن طريق مُمثِّلين يتم اختيارهم بطريقة مباشرة من بين أوساطه» (١٠٥، ٥٢). إن هذا الاقتباس ليعود بنا إلى أقوال التنويريِّين العرب والقادة التقدميين في بداية القرن!
وبالطبع فإنَّ الحماس، الذي تملَّك الدوائر الليبرالية في بداية العشرينيات. لم تكن لتُبرِّره ظروف العالم العربي آنذاك؛ فالبورجوازية القومية كانت ضعيفة إلى أبعد الحدود، وأفكار الديمقراطية والتمسك بالدستور لم يكونا قد اكتسبا ولو جزءًا ضئيلًا من الجماهير العريضة التي كانت لا تزال غارقة في التخلف والجهل. غير أن تطور الوعي السياسي تحت تأثير القوى الخارجية قد أخذ يتمُّ بسرعة.
وقد غلب على الوعي الاجتماعي بعد الحرب موقفان بديهيان: ١ – أنَّ الأمة هي الموضوع الرئيسي للتاريخ. أما الشعب فهو مصدر التشريع. و٢ – أن الديمقراطية تُعتبر أهم أداة لتحقيق آمال الشعب.
ولم يكن للتشريعات والحريات المُعلَنة، التي تقتضي ولو على نحوٍ قاصر مسئولية الحكومة، أمام البرلمان واستقلال القضاء وكل الآليات (الميكانيزمات) المُمكنة للتأثير على الحكومة، أية ضمانات. على أنه حتى في تلك الفترات القصيرة التي كانت فيها للدساتير العربية قوة ما، كان هناك اختلاف كبير، إلى التمييز بين الديمقراطية المُعلَنة رسميًّا والديمقراطية على الصعيد العملي الذي تُحدِّده العلاقة الفعلية بين العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وكثيرًا ما وقفت حتى تلك الفئات التي كانت تشغل مكانةً اجتماعية ولها وزنها الاقتصادي، مجردة من الحقوق أمام الفئة الحاكمة والأجانب المميزين. فضلًا عن أن كل أو تقريبًا كل الأحزاب والبرلمانات كانت تُمثل أساسًا مصلحة طبقة واحدة؛ طبقة كبار الملاك الأثرياء. ونتيجة لهذه الظروف، خاصة إبان تسلُّط الرجعية الداخلية، أصبحت المطالبات بالحقوق المدنية والحريات الشخصية، والمطالبة بدستورٍ ديمقراطي أمرًا حيويًّا. وتأرجحَت الحركة من أجل الديمقراطية بين المطالبة بحقوقٍ وحرياتٍ مُنفصلة، والدعوة إلى التغيير الجذري للمجتمع على أساسٍ ديمقراطي؛ وذلك تبعًا لتوزيع القوى الطبقية ونُضجِ الحركات القومية والديمقراطية والوضع الدولي. وانتشر بين المثقفين التقدميين في الثلاثينيات والأربعينيات رأي فحواه أن كثيرًا من المشكلات القومية يُمكن حلها على أساس التقدم الشامل بقدر تطور العلم والديمقراطية.
كانت الديمقراطية والتعليم يُمثلان تقريبًا الدواء العام لكل أشكال الشرور الاجتماعية، وكانت دعوة فؤاد صروف المحرِّر المصري لصحيفة «المقتطف» في الإذاعة في مايو ١٩٤٥م تمثيلًا تامًّا لروح العصر التي سادَت آنذاك، أشار صروف في حديثه عن العالم العربي وعن الديمقراطية والعلم أن تحقيق مبادئ الديمقراطية والعلم الحديث يكفلان معًا نهضة شاملة وعامة (١٧١، ج١٠، ع٥، ص٤٢٩). ومن البديهي هنا أن الطريق الوحيد الحقيقي العملي لتأكيد فكرة الديمقراطية في الوعي القومي هو التعليم. وكتب طه حسين: «يجب أن يتعلم الشعب إلى أقصى حدود التعليم؛ ففي ذلك وحده الوسيلة إلى أن يعرف الشعب مواضع الظلم، وإلى أن يُحاسب الشعب هؤلاء الذين يظلمونه ويُذلونه ويستأثرون بثمرات عمله وحده، فيَردهم إلى الإنصاف والعدل، ويضطرهم إلى أن يؤمنوا بالمساواة قولًا وعملًا (٦١ ص١١٨). على أنَّ الصفوة المثقَّفة المؤمنة بإخلاصٍ بالتأثير الجبار للتعليم، لم تُقدِّم للشعب في هذا المجال سوى أقل القليل. وظلَّت هناك فجوة بينها وبين الجماهير وبقيت الطبقات الوسطى تُمثل جسورًا ضعيفة بينهما عبر هذه الفجوة. كانت الجماهير التي اشتركت في حركة التحرير تؤيد المطالبة بالحريات السياسية والحقوق الديمقراطية بصورةٍ رئيسية فقط بقدر ما كانت هذه المطالب ترتبط ارتباطًا مباشرًا بقضية التحرر القومي، وتستجيب للمشاعر الشعبية وتستطيع أن تُساعد في النضال من أجل القضاء على ظواهر الظلم الاجتماعي … إلى آخره. ولم يَستطِع الشعب أن يُناضل عن وعيٍ من أجل الحقوق الديمقراطية بحجمها الحقيقي العام؛ لأنه كان يعيش حسب الشريعة، ولم يعرف ماهية هذه الحقوق، ولم يكن معدًّا للنضال من أجل هذه الحقوق.
كانت جماهير الشعب تُقبل على حلِّ القضايا الاجتماعية والمشكلات السياسية الداخلية مُسترشدة في ذلك بالتقاليد بصورةٍ رئيسية. على أنَّ بقايا الديمقراطية المميزة للنظام الاجتماعي البدائي ظلَّت موجودة لدى القبائل الرحَّل. أما التقاليد التي تكونت على مدى قرونٍ طويلة من الخبرة المريرة فقد دفعت الشعب إلى أن يَنظر إلى الحكومة على أنها شرٌّ كبير، وتحدَّد الوعي المدني الذي ساد أغلبية الشعب بإطار علاقته بالسلطة المركزية، تعايَش الريف الفقير، الجاهل المطحون، مع السلطة باعتبارها شرًّا لا مفرَّ منه، واستوعب خضوعه لها على أنه جزءٌ لا يتجزأ من القانون الأخلاقي. كانت الصفوة الريفية وجماهير المدن يَشعُران أن بينهما وبين الحكومة علاقة حقيقيَّة، ولكنَّها علاقة بقوى عدوانية غريبة؛ ولهذا كانت مشكلات الديمقراطية والدستور والبرلمان بالنسبة للجماهير أمورًا بعيدة ودخيلة. أما البورجوازية في المدينة والريف فكانت لا تزال ضعيفة ولا تَمتلِك أيَّ قدرٍ من الوعي السياسي، مهما كانت مُهيَّأة للتنافس على زعامة دوائر الإقطاع وكبار الملاك، ثمَّة فئة صغيرة جدًّا فقط من المثقفين والشباب والبروليتاريا المتعلمة الواعية والبورجوازية القومية أدركت أهمية السلطة، وتصورت أهمية وضرورة حكومة قومية وصبغ الحياة كلها بصبغةٍ ديمقراطية. ويُعطينا هذا كله مفتاحًا لفهم المجتمع العربي التقليدي كظاهرةٍ، عندما استوعب إدخال الإجراءات القانونية على أساسٍ علماني، دون أن تأخذ مظهرًا على مسرح الأحداث أو تلقى مقاومة جوهرية.
ومن المسائل الحيوية التي طُرحت في العشرينيات، مسألة خلق انسجامٍ بين القواعد الإسلامية ومبادئ الديمقراطية الغربية، كما مرَّت الليبرالية العربية بعد نجاحاتها الأولى في بداية العشرينيات بأزمة، وعانَت محاولة تحقيق نظام نيابي حقيقي من الفشل في كل مكان. كانت القضية التاريخية الصعبة هي إدخال الأفكار والمعايير والمؤسسات العلمانية الغريبة على المجتمع الإسلامي ومزجها بالأفكار والمعايير والمؤسسات التقليدية، ثم تحويل هذه وتلك إلى بناءٍ عضوي واحد لمجتمعٍ حديث. كانت الدساتير القائمة على أساسٍ مدني، والتي طالبَ بها ونجح في تحقيقها التقدميون، تُخالف جوهريًّا وجهات النظر الإسلامية في القانون، ومصادره التي تقف على النقيض تمامًا من المواقف الديمقراطية الغربية، وعلى العكس من ذلك، فإن هيبة الشريعة التي تأصلت جذورها في الوعي القومي، والتصور الذي يَصعب محوه نحوها، خلفت إحساسًا عدوانيًّا نحو الأفكار الغربية المؤيدة لنظام الحكم الدستوري. وقد عمل هذا على كبح انتشار الأفكار الديمقراطية. كان الأمر يَستلزم وقتًا ومجموعةً من الظروف وعملًا لتنوير العقول، حتى يحدث داخل الاتجاهات التقليدية تغيير يقوم بانعطافه نحو المفاهيم الجديدة التي تضمُّها القوانين الدستورية. كان الأمر يستلزم تحليلًا نظريًّا لغياب الاختلافات المبدئية بين أسسِ الديمقراطية الغربية والشريعة؛ فالجديد — كما حدث في عهد رفاعة الطهطاوي — يحتاج إلى دعمه والتصديق عليه من الإسلام، وبحَثَ ممثلو الرأي العام، كما فعل أسلافهم في القرن الماضي، عن حلٍّ وسط، وسعوا إلى إلباس المجتمع التقليدي الشكل الذي اقتبسوه من الغرب، والكشف في تاريخ الإسلام عن مؤسساتٍ شبيهة بالمؤسسات المدنية والسياسية الغربية.
ظلت نظرة بعض الأيديولوجيِّين قريبة من نظرة التنويريين العرب، الذين قالوا بأن الديمقراطية يُمكن أن يكون لها معنًى إيجابي في مرحلةٍ معيَّنة فقط من مراحل النمو الاجتماعي، وأن الديمقراطية بالنسبة لقومٍ جهلاء يُمكن أن تَنقلب إلى كارثة، من هؤلاء أحمد أمين الذي رأى أن شعوب الشرق ليسَت مُستعدة بعدُ للحكم الذاتي، وأن المرحلة الراهنة من التاريخ تعد بالنسبة لهم مجرد مرحلة أولية في عصر الاستقلال؛ ولذا يلزم هذه الشعوب حكام أشداء يقومون في الوقت نفسه بخدمة الأمة، ويضعون مصالحها فوق مصالحهم الشخصية والطبقية، ويُمثلون رأي الشعب أو على الأقل رأي «الجزء الهام منه» (٥١، ج١، ص٢١٤).
وفي رأي عبد الرحمن شهبندر زعيم القوميِّين السوريِّين. وقد ذكر عام ١٩٣٥م، أن الشكل الأمثل للحكم بالنِّسبة للبلاد العربية التي حصلت على استقلالها، هو النظام المتسلِّط القادر على الخروج بها «من الفوضى التي تُميز الآن حياة معظم الأمم» (١٥٣، ١٦١). على أن الديمقراطية البورجوازية بالذات هي التي فتحت أمام الشعوب العربية إمكانية تحقيق النتائج الإيجابية الأولى على طريق الحرية، وهذا ما أدركه كل الذين اشتركوا في النشاط السياسي، وها هو شهبندر نفسه يتحدَّث عن ضرورة استخدام كل إمكانات الأوضاع الديمقراطية، التي كانت مقيَّدة في ظروف الانتداب في مرحلة النضال من أجل التحرُّر القومي، وإجراء انتخابات حرة سعيًا وراء إقامة الحكم النيابي الحقيقي، الذي سيُساعد بالضرورة على تحقيق الهدف النهائي (١٥٣، ١٦١).
لم يَعمل إدخال النظم السياسية على الطراز الغربي على إحداث تقدُّم اقتصادي أو اجتماعي بالقدر الذي يُحقِّق أماني الرأي العام التقدُّمي، وكثيرًا ما نظرت الأحزاب السياسية وقادتها، في صراعهم من أجل السُّلطة، إلى المؤسسات القانونية من وجهة نظر المصالح الشخصية مُتناسين الأهداف المنهجية. لقد أضاعت الديمقراطية الغربية هيبتها على الساحة الدولية، حيث نشطت الفاشية والنازية اللتان أصبحتا بالنسبة لبعض العناصر العربية بديلًا ملائمًا لتلك الديمقراطية. وقد فتحت التجربة العظيمة للشعب السوفيتي الذي راح يَبني مجتمعه على أسس الديمقراطية الاشتراكية آفاقًا مميزة، وإن كانت لا تزال غامضة بالنسبة لوعيٍ اجتماعي متخلف.
وكانت الأزمة الأيديولوجية سببًا في يقظة اهتمام المثقَّفين العرب في الثلاثينيات بالمواقف الاجتماعية والسياسية للقرآن، ولمُحاولات العثور على قيمٍ ديمقراطية حقيقية في الخاصية الشرقية والإسلامية، وهنا تمَّ اتخاذ بقايا النظام القبَلي، من عصر الجاهلية وعلى ابن سعود ومشايخ الجزيرة العربية وهم الزعماء المعاصرون لقبائل متحدة، ركيزةً لهذه الأيديولوجية. وقد أشير إلى أن الإسلام الذي مكَّن في المجتمع الإسلامي لسيادة أفكار المساواة والإخاء والحرية، ورفض الاستبداد السياسي، قد عزَّز أيضًا أسسَ الديمقراطية التي كانت موجودة عند العرب حتى قبل الإسلام.
كتب شكيب أرسلان خاصة في مقالة «العرب الديمقراطيون» أن الإسلام عزز روح الديمقراطية «كل الحكومات الإسلامية ذات شكلٍ ثوري، وهي حكومات ديمقراطية بطبيعتها» (٤٨–١٢٣). على أنه كيفما تشكَّل تاريخ البلاد العربية في العصر الحديث، يَبقى هناك أمرٌ واحد لا يتغيَّر؛ ألا وهو السعي نحو الديمقراطية البورجوازية في أشكالها المثالية، حتى ولو تخفَّى هذا السعي وراء الرغبة في العثور على الصورة المثالية في مواقف العصور الوسطى الإسلامية.
توفَّرت أكثر الظروف ملاءمة لتحقيق الضمانات الدستورية والحرية في مصر في فترة ما بين الحربَين، حيث كانت للحركة الدستورية تاريخها الطويل وخبرتها وأبطالها، كما شهدت نجاحات كثيرة وعانت مِن الفشل على نحوٍ درامي؛ ففي أبريل عام ١٩٢٣م، وبعد نضالٍ شاق، كانت ذروته أن حصلت الثورة المصرية البورجوازية التي قامت عام ١٩١٩م على الدستور من براثن الإنجليز. وقد جاء هذا الدستور نسخة من الدستور البلجيكي، حتى إنَّ الثقة في هذا الأخير بلغت إلى حد الاستعانة بمحامٍ بلجيكي عند الجدل بشأن بعض القضايا للاستناد إلى الأصل (١٣١–٣٩٠)، ويذكر محمد هيكل عضو اللجنة الدستورية، التي كانت أغلبيتها تُمثل الدوائر البورجوازية والملاك الليبراليِّين، أن اللجنة انطلقت من موقف أن الشعب هو مصدر السلطة، وأنها استلهمت مبادئ الحرية في تفسيرها الليبرالي في القرن الماضي؛ أي بمعنى احترام حق الملكية الخاصة وحرية الرأي والحرية الشخصية إلى آخره (١٢٠، ج١، ١٣٣–١٣٨)، ولجاك بيرك ملحوظة دقيقة بهذا الصدد مفادها أن الدستور المصري لم يكن سوى مجرَّد «شكل ما زال يبحث عن المضمون» (١٣١، ٣٩٠). لقد جاء هذا الدستور مُطابقًا لمبادئ القومية الليبرالية، ولكنه لم يعكس الصورة الحقيقية للحياة الاجتماعية السياسية للبلاد، وبهذا سجَّل الرغبة لا الواقع.
على أية حال. كان الدستور ضربةً جديدة للشريعة؛ فقد جاء في المادة الأولى له أن مصر «دولة حرة مستقلة ذات سيادة»، وأن سيادتها «لا تنفصل ولا تُصادر»، وهي مفاهيم تتناقض والمفهوم الإسلامي للأمة، وتستبعد مقدمًا إمكانية تكامل مصر في المجتمع الإسلامي على حساب تقييد السيادة المصرية، وأكَّدت المادة الثالثة على المساواة بين جميع المصريين أمام القانون بغضِّ النظر عن اللغة والعرق والدين، بينما يُقسم الإسلام الناس إلى مسلمين، وهؤلاء يدخلون في حمايته، و«كفارٍ»، وعلى حين تُؤكد المادة الثانية عشرة على حرية العقيدة نجد أن الإسلام يُطارد المرتدِّين، وتعلن المادة ١٤٩ أن الإسلام هو دين الدولة، بينما تقول المادة ٢٣ أن «الشعب هو مصدر السلطة»، والمواد ٢٤–٢٨ لا تربط اتخاذ الإجراءات القانونية بالشريعة، خلاصة القول: إن الدستور في جوهره يُعلن فصل الدولة عن الإسلام، كما يُعلن فصل السلطات (السلطة الدينية عن السلطة الروحية)، الأمر الذي اعتبره التنويريون منذ زمن «واحدًا من أهم أسس الديمقراطية الحقيقية وسلامة الحياة الاجتماعية ونمو الحضارة» (١٢٢، ٢٠٧–٢١١)، بينما اعتبر المذهب الديني التقليدي أن السلطة لا تَنفصِل عن الإسلام كأساسٍ للنظام السياسي (انظر على سبيل المثال: ٦٧، ١١٤).
وقد ازدادت حدة أزمة الإسلام من الناحية السياسية بشأن فصل السلطة (١٩٢٢م) وإلغاء الخلافة (١٩٢٤م) في تركيا الكمالية؛ فقد ظلَّت الصحافة العربية تناقش بحدةٍ بالغة مرسوم فصل السلطة لمدة عامين بعد صدوره، وذهب البعض إلى إدانة الأتراك لتقويضهم أركان الإسلام، بينما وجد الآخرون مُبررًا لهذا مُعتبِرين أن هذه الإصلاحات هي الطريق نحو تدعيم المجتمع الإسلامي ونهضة مجد الإسلام.
وأثار إلغاء الخلافة جدلًا ونقاشًا حول مستقبل العالم الإسلامي، بالرغم من أن الخلافة أصبحت منذ زمنٍ بعيد مجرَّد مؤسسة اسمية، وبرزت ضرورة أن تُحدِّد كل القوى الديمقراطية الليبرالية موقفها من الخلافة، وما إذا كانت هناك إمكانية للتوفيق بين المعايير السياسية والقانونية الحديثة من ناحية، وبين الشريعة والتقاليد من ناحيةٍ أخرى. وقفزت إلى مركز المناقشات قضية كنه الخلافة وهل هي ضرورية أم غير ضرورية للمسلمين، ومن الذي يمكنه أو يجب أن يكون هو الخليفة، وكذلك هل يُعتبر الخليفة زعيمًا روحيًّا للمسلمين فقط أم أن له صلاحيات الحاكم المدني؟
الخليفة بصورته التقليدية هو حامي الإسلام وأمير المؤمنين، وسلطته مقيدة بالتقاليد والشريعة فقط، وحدث خلافٌ في وجهات النظر حتى في صدر الإسلام بشأن طابع وظيفة وامتيازات الخليفة، وهذا الخلاف تؤكده المواقف الشديدة المناهضة للخلافة في العصور الوسطى.
وقد تخلَّف عن هذا الجدل اتجاهان رئيسيان؛ فأصحاب الاتجاه المحافظ يُصرُّون على وجهة النظر التي ترى أن الشريعة تقوم على القرآن، وهو أسمى من كل ما عداه من التشريعات، وأن إعادة الخلافة وتركيز السلطة السياسية والروحية في يد الخليفة، ربما يَسمح للمسلمين أن يُحقِّقوا مطالب الشريعة على الوجه الأكمل، بينما أصر ممثلو الاتجاه الليبرالي على مبدأ فصل السلطة كخطوةٍ هامة على طريق النمو التقدمي.
وفي الأعوام ١٩٢٢-١٩٢٣م، عندما أسقط الأتراك عن الخليفة الحق في الزعامة السياسية للمُسلمين، نشرت «المنار» كتاب رشيد رضا «الخلافة أو الإمامة الكبرى». كان الكتاب دفاعًا عن الإسلام كنظامٍ شامل يُمكن أن يكون بديلًا عن القومية ومبادئ الديمقراطية الأوروبية، يتناول الكتاب قضية الخلافة من جميع جوانبها ويُثبت ضرورتها كمؤسسة، كما يشتمل على محاولة لإثبات تفوُّق الشريعة على مجموعة القوانين الغربية؛ الأمر الذي صاحبه، بصفةٍ خاصة، نقاشٌ واسع بشأن مبدأ «الشورى» في الإسلام، الذي يعدُّ أعلى مراحل الديمقراطية. ويُؤكد المؤلف أن الخليفة، الذي يجب أن يكون عربيًّا قرشيًّا، يقوم أيضًا بدور الحاكم الملتزم بشدة بتنفيذ أوامر الشريعة والمُدافع عن العقيدة وناصرها.
ويرى رشيد رضا أن أهمية الخليفة بالنسبة للمجتمع الإسلامي، هي في جمعه الصحيح في يدَيه للسلطة الروحية والمدنية، على أساس أن وظيفة زعيم المسلمين تَقتضي تحقيق السلطة على الأرواح والعقول، أي على أجساد وتصرفات المؤمنين.
ومن وجهة نظر رشيد رضا أيضًا أن نهضة مجد وعظمة الإسلام، تعتمد على الخلافة التي يسودها الانسجام لا الانحلال الذي يُؤدي إلى انهيار العالم الإسلامي. ويدعو رضا إلى التعاون والوحدة من أجل قيام الخلافة بعد أن اعترف بصلاحيات الخليفة للزعامة الروحية.
ولما كان رشيد رضا يُدرك أن الفقه والشريعة التقليديَّين، لا يستطيعان أن يكونا أساسًا لنظامٍ سياسي معاصر أو للتشريعات المدنية والمالية الأخرى، فقد أخذ يدافع عن التوسع في شرح مفهوم الاجتهاد كفكرٍ مُستقل، يتناول مسائل الفقه والشريعة وجوهر الثقافة الإسلامية. غير أن رشيد رضا، برغم ذلك، كان يؤمن بحتمية المبادئ الإسلامية، وأن المؤسسة الإلهية هي أكمل من كل ما اخترعه الإنسان، وأن تلك المبادئ وحدها كفيلة بتحقيق السعادة للبشرية، كما كان يرى أن كل المصائب التي حلَّت بالمسلمين ترجع لابتعادهم عن أركان العقيدة.
وقد أيد الإخوان المسلمين، أتباع رشيد رضا، إقامة حكومة إسلامية ثيوقراطية. وقد كتب حسن البنا: «لا يوجد في الإسلام هذا الصراع المميز لأوروبا بين المبادئ الروحية والدنيوية، بين الدين والدولة» (٣٨، ٨٣).
وللشيخ علي عبد الرازق، الشيخ الأزهري والقاضي الشرعي، رأي آخر عرَضه في كتابه الذي أثار ضجة شديدة بعنوان «الإسلام وأصول الحكم» الصادر في عام ١٩٢٥م. لم يَتناول علي عبد الرازق مسألة العقيدة الدينية في حدِّ ذاتها، ولكنه حاول فقط أن يُثبت أن بعثة الرسول محمد كانت روحية بحتة وليست سياسية، وأنها اقتصرت على الدين ومشاكل الأخلاق، وأن الرسول عمل حتى النهاية على تحقيق هذه البعثة، وأنَّ القرآن لم يتعرَّض لأية أسس للبناء السياسي والحكومي: «يجب ألا نخلط بين نوعين من أنواع السلطة العليا؛ السلطة الروحية للرسول والصحابة، والسلطة الدنيوية للملوك والأمراء» (١٢٩، ٦٩). وهكذا فتبعًا لمذهب الليبراليين فإن علي عبد الرازق قد أكَّد على أن المصدر الوحيد للسلطة هو الشعب لا القرآن.
جاء هذا الكتاب تعبيرًا عن الرغبة في وضع الأسس النظرية للاتجاهات الجديدة في مجال الفكر الاجتماعي. وأكَّد المؤلف في كتابه أنَّ الإسلام والسنة لم يَفرضا على المسلمين الإذعان للخليفة، وأن تصوُّر الخلفاء على أنهم خلفاء الرسول بزعم أنه نقل إليهم كل السلطة السياسية والروحية أمرٌ لا سند له؛ إذ إنَّ النبوة هي هبة من الله تجيء من خلال الوحي؛ ولهذا لا يُمكن أن تنتقل إلى الخلفاء. وبمعنى آخر، فإن الخلافة هي المؤسسة التي ظهرت في سياق التطور الاجتماعي ولم يَفرضه الله أو الرسول، والخليفة ليس أكثر من حاكمٍ مدني. وقد أعطى محمد نفسه مثلًا خالدًا على السلطة الرُّوحية الخالصة. علاوةً على هذا فإن كثيرًا من الخلفاء كانوا يلجئون دائمًا للقوة الغاشمة التي تتميز بالظلم والتي تستحق الإدانة. تاريخيًّا تشكَّلت وحدة الأمة في العصور الوسطى على أساسٍ ديني، ولم تكن تكوينًا سياسيًّا حقيقيًّا ولكنها كانت تحمل طابعًا روحيًّا، شأنها في ذلك شأن غيرها من المؤسسات الإسلامية بما في ذلك المحاكم الشرعية، بغضِّ النظر عن المناصب الاجتماعية والحكومية والرسمية الأخرى … «فهذه كلها مؤسسات مدنية تمامًا لا علاقة لها بالدين، الذي لا يَنفيها ولكنه لا يعترف بها» (٦٣، ج٢، ص٨٤)، ليست الشريعة إذًا سوى أداة تنظيم العلاقة بين الله والناس؛ ولهذا «فنحن لا نحتاج إلى الخلافة كجزءٍ رئيسي لحياتنا الدينية، ولا كعنصرٍ من عناصر حياتنا الدنيوية، كما أن الخلافة كانت دائمًا تعاسة على المسلمين ومصدرًا للبؤس والفساد» (١٥٣، ١٥٣). وكما سبق فإن علي عبد الرازق لم يتطاول على أسس الإسلام.
وكمُناصرٍ لتحديث الإسلام اعتبر علي عبد الرازق أنَّ الإسلام بقدر كونه لا يتعرض للتنظيم الصارم للمؤسسات وتدرج السلطة يستجيب لمطالب أي نظام للحكم يختاره المسلمون، وأنه لا يشتمل على «أي شيءٍ من شأنه أن يعوق المسلمين عن اللحاق بالشعوب الأخرى في مجال العلوم الاجتماعية والسياسية … إذا وضعت أسس السلطة وأنظمة الحكومة انطلاقًا من أحدث إنجازات العقل البشري، ومن نتائج خبرة الأمم المختلفة التي وصلت لأفضل الأسس» (٦٣، ج٢، ص٨٤).
ولكي نقوم بتصنيف وجهات نظر القطاع الليبرالي من المثقَّفين المصريِّين في الدولة والقانون، تكفي نظرة على الآراء النموذجية لطليعة الأدباء والشخصيات الاجتماعية، أمثال طه حسين، محمد هيكل وعباس محمود العقاد على وجهٍ خاص.
يعتمد العقاد على صيغةٍ فحواها أن الشعب هو المرجع الأول والأخير الذي يُحدِّد نشاط أي حكومة؛ ولهذا فليس المهم نوع الحكومة التي تكفل تطبيق القانون، وإنما الضروري هو سلطة الشعب من أجل الشعب (٧٥، ١٤٩-١٥٠).
وهناك مبدأ آخر فحواه أنَّ الخير والسعادة أمران يمكن تحقيقهما على الأرض، فقط في حالة ما إذا سادت كوكبنا الديمقراطية القائمة على التوافق والفهم المتبادَل بين الطبقات، خلافًا للديكتاتورية المعبرة عن إرادة طبقة واحدة (٧٥، ١٣٩)، ويرفض العقاد بشدة (وهو أمرٌ مميز للمثقَّفين العرب) فكرة الصراع الطبقي؛ «من الآن ليس أمام العالم طريق آخر سوى التعاون بين الشعوب الكبيرة والصغيرة، بين الطبقات الغنية والفقيرة، بين السلطة والأفراد» (١٧٠، ١٩٤٥، ع١٢).
يؤكد العقاد في معرض شرحه لأسباب ظهور الديكتاتورية التي تُساوي في رأيه الاستبداد أن الديكتاتورية (الاستبداد) تظهر فقط لدى الشعوب «الفاسدة» التي عانت مرارة الهزيمة، أو الصراعات الداخلية التي هدَّدتها بانهيار النظام القائم في وجود الجيش الذي يرغب في غسل عار الهزيمة، والذاتية الشديدة المؤهلة للاضطلاع بوظيفة حاكم البلاد (٧٥، ١٣٣-١٣٤)، وأخيرًا تظهر الديكتاتورية هناك حيث تظهر الحاجة التاريخية لها.
ويرى العقاد أن مبادئ الحكم الديمقراطي تُحقِّق فقط مصالح تلك الشعوب التي تتميَّز «بالأخلاق الرفيعة»، والتي تعيش في ظروفٍ حسنة؛ ولهذا فإنَّ الحرية التي تهبها الديمقراطية لا ينتج عنها أي ضرر (٧٥، ١٣٨)، ويعتقد العقاد أن هذه الشروط تناسب، على وجه الخصوص، بلاد الشرق الأوسط وثيقة الصلة بالديمقراطيات الغربية: هنا لا تُوجد تربة لنمو الديكتاتورية والاستبداد. ووفقًا لتصورات العقاد، فإنَّ تطور المجتمع الإنساني قاد إلى سقوط الحكومة المطلقة والشكل الاستبدادي للحكم والاحتلال. انتهى الآن تمامًا الوضع الذي كان فيه الحكام الاستبداديون يَعتقدون أن من حقهم اضطهاد الآخرين، ويظن المحتلون أنهم ينتمون إلى عنصر السادة. إنَّ الأنظمة الاستبدادية التي لا تزال باقية، وكذلك بقايا الاستعمار، سيزولان حتمًا (٧٥، ١٣١–١٣٥–١٣٨).
ومِن البديهي أن العقاد مُناصر مؤمن بأشكال الديمقراطية الغربية، وتعتبر فكرة الدفاع عن الحرية الشخصية في فهمها البورجوازي كمبدأ هي محور منطلقاته. على أنه حتى العقاد لم يستطع أن يتجاهَل وجود قصور في الديمقراطية البورجوازية، ولكن مع أنه اعتبر القصور شرًّا لا بد منه يتَّفق والطبيعة البشرية المليئة بالعيوب، فإنه يتفق مع الرأي الذي يُؤكد حتمية انهيار الأشكال الغربية للديمقراطية. وعلى أيَّة حال، فاعتراف العقاد بما هو في المؤسسات الديمقراطية الغربية من نقصانٍ، اضطرَّه وهو المدافع النشط مع كثيرٍ من أدباء الطليعة إلى التوجه للبحث عن الكمال في الإسلام.
وشغلت فكرة الدستور والحقوق الديمقراطية العقول في فترة ما بين الحربَين، إلا أن الدستور الفعلي وضمانات الحقوق الديمقراطية ظلَّت سرابًا رائعًا.
وحقَّقت الحركة الدستورية الديمقراطية في العراق وسوريا ولبنان ومصر بعض النجاح بعد أن تغلبت على الاستعمار والرجعية، وكانت هذه نقلة كبيرة من العدم السياسي إلى العالم النشط سياسيًّا. وقد انعكس في الوثائق الدستورية، ككل، ذلك التوجه العام للبلاد العربية للعبور من حالة التبعية القومية والسياسية إلى الاستقلال، إلا أنَّ الحقوق الديمقراطية والحريات ظلَّت في الواقع حقوقًا وحريات تتمتَّع بها طبقة الملاك الإقطاعية والبورجوازية الكبيرة وبعض الجماعات المميزة.