الفصل الثاني
«شلي»: قسوة الأفكار؟
في الخامس والعشرين من يونيو عام ١٨١١م، كتب
وريث إحدى الأسر البارونية، وكان في التاسعة عشرة
من عمره، إلى معلمة شابة في «سسكس»: أنا لا أنتمي
إلى الأرستقراط أو إلى أي «قراط» بالمرة، ولكني
أتوق بشدة إلى زمن يستطيع الإنسان أن يجرؤ فيه على
أن يعيش في وفاق مع الطبيعة والعقل، وبالتالي مع
الفضيلة.
1
كان ذلك المبدأ بالضبط هو مبدأ «روسو»، ولكن
الكاتب الذي لم يكن سوى الشاعر «بيرسي بوشي شلي»،
كان قد سار قدمًا أبعد من «روسو» في الرهان على
مزاعم الكتاب والمثقفين لهداية الإنسانية.
كان «شلي» مثل «روسو» يعتقد أن المجتمع بكامله
عفن وينبغي تغييره، وأن الإنسان المستنير، من خلال
عقله الذي لا يملك غيره، لديه الحق والواجب
الأخلاقيان لإعادة بنائه من الأساس، ولكنه كان
يعتقد أيضًا أن المثقفين، والشعراء بخاصة — الذين
كان يراهم قادة المجتمع الثقافي — في موقع الصدارة
للقيام بتلك العملية. الشعراء في الواقع «هم
مشرِّعو العالم غير المعترَف بهما».
أطلق «شلي» هذا التحدي نيابة عن رفاقه المثقفين
في عام ١٨١٢م، في مقاله الذي يبلغ عشرة آلاف كلمة
«دفاع عن الشِّعر»، والذي أصبح أكثر البيانات
المعبرة عن الهدف الاجتماعي للأدب تأثيرًا منذ
القدم.
2
والشعر، كما حاول «شلي» أن يثبت، هو أكثر من
مجرَّد إظهار البراعة اللفظية أو التسلية، بل هو
صاحب أكبر الأهداف خطرًا بين أي كتابة الشعر نبوءة
وقانون ومعرفة، ولا يمكن أن يتحقق التقدم
الاجتماعي إلا إذا كان مسترشدًا بوعي أخلاقي، وكان
يجب أن تقوم الكنائس بذلك، ولكن ثبت فشلها، كما أن
العلم عاجز عن الاضطلاع بذلك الدور أيضًا، ولا
العقلانية تستطيع أن تقوم به منفردة، وعندما يتنكر
العلم والعقل تحت أقنعة أخلاقية تكون النتيجة
كارثة، مثل الرعب الثوري الفرنسي والدكتاتورية
النابوليونية.
الشِّعر وحده هو القادر على ملء الفراغ الأخلاقي
وإعطاء دفعة خلاقة للتقدم، «الشعر يوقظ العقل
ويثريه ويجعله مستقبِلًا لآلاف الأفكار التي ما
كان من الممكن أن يدركها، الشعر يكشف النقاب عن
الجمال المستور في العالم»، وسر الأخلاق العظيم هو
الحب، أو الخروج من طبيعتنا وتوحد ذواتنا مع
الجمال الكامن في الفكر أو العمل أو الآخر، «ولكي
يكون الإنسان خيِّرًا عليه أن يتخيل بقوة وشمول،
ولا بد أن يضع نفسه مكان الآخر أو الآخرين. إن
آلام وأفراح بني جنسه يجب أن تصبح هي آلامه
وأفراحه»، والخيال هو الأداة العظمى في كل
الفضائل، كما أن الشعر يؤدِّي إلى ذلك بمحاولة
تحقيقه للهدف، وإنجاز الشعر هو أن يدفع التقدم
الأخلاقي للحضارة: وفي الواقع فإن الشعر وخياله
الذي تحت تصرفه، وحريته الموجودة في بيئة طبيعية،
يشكل القوائم الثلاث التي تعتمد عليها جميع
الحضارات وكافة القيم، «كما أن الشعر المفعم
بالخيال مطلوب من أجل إعادة بناء المجتمع بكامله».
«نريد المقدرة الخلاقة على تخيل ما نعرف، ونريد
النبض القوي لتنفيذ ما نتخيل، نريد شعر
الحياة.»
إن «شلي» لم يكن فقط يقدم لنا دعاوى الشاعر لكي
يحكم، بل إنه ولأول مرة كان يقدم نقدًا أساسيًّا
لمجتمع القرن الثامن عشر، «والشعر ومبدأ الذات
الذي يجسده هما الإله والشيطان في هذا
العالم»،
3 وكان «شلي» يقدم في شعره فعلًا ما
يبشر به، فقد كان شاعرًا عظيمًا يمكن أن نفهم
أعماله ونستمتع بها على عدَّة مستويات، ولكن على
المستوى الأعمق، المستوى الذي كان «شلي» يقصده
فعلًا، فإن شعره أخلاقي وسياسي. هو أكثر الشعراء
الإنجليز تسييسًا، وجميع قصائده الرئيسية وكثير من
قصائده القصيرة بها دعوة للعمل الاجتماعي على نحوٍ
ما، وتحمل رسالة عامة. قصيدته الأطول «ثورة
الإسلام» حوالي ٥٠٠٠ سطر، تتناول الظلم والثورة
والحرية. «ترنيمة للجمال الذهني» التي يقصد بها
روح الخير تجسد الحرية والمساواة بين البشر وتختفي
بانتصارها على الشر المسيطر.
«بروميثيوس طليقًا» تحكي عن ثورة أخرى ناجحة وعن
انتصار للشخص الأسطوري، الذي يرمز عنده (كما عند
«ماركس» وآخرين) إلى المثقف الذي يقود الإنسانية
لإقامة المدينة الفاضلة على الأرض. قصيدته
«تشينسي» تكرر موضوع التمرد على الظلم، و«الطاغية
متورم القدمين» هجوم على «جورج السادس»، و«قناع
الفوضى»، هجوم على وزرائه، ورغم أن «أورماندياس»
مجرَّد سونيتة قصيرة، إلا أنها تحتفي بخصوم
الأوتوقراطية. وفي غنائيته «أبيات كتبَت بين
التلال الإيوجانية» يشير إلى دورات الاستبداد التي
تحتوي العالم ويدعو الفقراء للانضمام إليه في
مدينته الفاضلة.
4
«أغنية للريح الغربية» دعوة أخرى للقراء لنشر
رسالته السياسية، ومن أجل «دفع أفكاري الميتة على
الكون» وهكذا «تسرع بميلاد جديد» … «انشر كلماتي
بين البشر» كما تسير قصيدته «إلى قُبَّرَة» على
نفس الخط، وتتناول الصعوبة التي يواجهها الشاعر
لكي يجعل صوته مسموعًا ورسالته واصلة.
كان «شلي» في حياته مصابًا بخيبة الأمل بسبب عدم
انتشار أعماله على نطاقٍ واسع، ويائسًا من إمكانية
مرور أفكاره السياسية والأخلاقية في المجتمع، وليس
صدفة أن قصيدتين من قصائده الأكثر عاطفة دعوة لنشر
أشعاره والانتباه إليها. وباختصار فإن «شلي» كفنان
لم يكن أنويًّا (متمركزًا حول نفسه)، وهو من أقل
الذين كتبوا من أجل رضائهم الشخصي. ولكن … ماذا عن
«شلي» الإنسان؟
كانت الفكرة الشائعة عنه حتى وقت قريب، هي تلك
التي روَّجتها زوجته الثانية، وأرملته «ماري شلي»:
أن الشاعر كان نقيًّا وبريئًا، كان روحًا سماوية
لا تشوبها رذيلة أو رياء، كان مخلصًا لفنه
ولرفاقه، رغم أنه لم يكن سياسيًّا بأي درجة، طفلًا
شديد الذكاء والحساسية. هذه النظرة كان يزكيها
مظهره الجسماني: نحيل، ضعيف، رقيق، محتفظ بريعان
المراهقة حتى وهو في العشرينيات. كان الافتتان
بالملابس البوهيمية التي دشنها «روسو» قد تواصل في
الجيلين الثاني والثالث من المثقفين الرومانسيين.
كان «بيرون» يرتدي الموديلات الشرقية، وحتى في
الملابس الغربية كان مولعًا بالملابس الفضفاضة
ويستغني عن ربطة العنق، كما كان يرتدي أحيانًا
القمصان ذات الأكمام القصيرة، هذا الترفع
الأرستقراطي عن التقاليد غير المريحة احتذاه آخرون
من شعراء العامة مثل «كيتس».
كان «شلي» هو الآخر يتبع الموضة، ولكنه كان يضيف
إليها لَمَساته الخاصة. كان مغرمًا بسترات تلاميذ
المدارس، والكاب الذي كان أحيانًا صغيرًا عليه،
ولكنه يناسب غرضه، نشاط وحيوية المراهق، الشخص
الأخرق قليلًا، ولكنه فاتن بالنسبة للنساء على
نحوٍ خاص. وقد ساعد كل ذلك على تكوين صورة قوية
وباقية، وربما أسطورية عن «شلي»، كما ظهرت في
الوصف الاحتفالي الذي وصفه به «ماثيو آرنولد»:
«ملاك جميل، ولكنه يخفق عبثًا بجناحين في الفضاء».
جاء ذلك في مقال «آرنولد» عن «بيرون» الذي يرى أن
شعره أكثر قيمة وجدية من شعر «شلي» الذي يعاني من
«عيب لا علاج له» … وهو «فقره».
ومن ناحيةٍ أخرى، فإن «شلي» كشاعر كان «روحًا
جميلة وفاتنة»، وأفضل من «بيرون» بكثير.
5
ونحن من الصعب أن نتخيل حكمًا أكثر فسادًا
وخاطئًا من جميع الأوجه، فمعرفة «آرنولد» بكل من
الشاعرين كانت قليلة، ولا يمكن أن يكون قد قرأ شعر
«شلي» باهتمام، والغريب كذلك حكمه على شخصية «شلي»
الذي لم يكن يختلف عن حكم «بيرون».
فقد كتب
«بيرون» أن «شلي» «كان وبلا استثناء أفضل مَن عرفت
من الناس وأقلهم أنانية، وبالمقارنة به كان كل
الناس وحوشًا»، أو «على قدر ما أعرف فهو الأقل
أنانية والأكثر اعتدالًا بين الناس، رجل قدَّم من
ثروته ومن مشاعره الكثير للآخرين، وأكثر مما قدم
أي إنسان آخر سمعت به».
6 وقد جاءت هذه التعليقات، عندما كانت
نهاية «شلي» المأسوية ما تزال ماثلة في عقل
«بيرون»، كلام يعوزه الصدق، ولا يخلو من مجاملة
بسبب المناسبة.
معظم معرفة «بيرون» ﺑ «شلي» كانت تعتمد على ما
قاله الأخير عن نفسه، ومع ذلك كان «بيرون» واسع
الخبرة بالحياة وحكمًا داهية وناقدًا قاسيًا
للرجل، كما أن شهادته على الانطباع الذي تركه
«شلي» على معاصريه البوهيميين الأكثر تحررًا لها
قوة على الإقناع.
إلا أن الحقيقة مختلفة تمامًا ومزعجة جدًّا لكل
مَن يحترم «شلي» — مثلي — كشاعر، وهي نابعة من
مصادر متنوعة، وأحد أهم تلك المصادر رسائل «شلي»
الخاصة.
7 حيث تظهره بمظهر الإنسان شديد الدأب
في متابعة أهدافه، وقاسيًا، وربما لدرجة الوحشية،
في التخلص من أي شخص قد يقف في طريقه لذلك. كان
مثل «روسو» يحب الإنسانية بشكلٍ عام، ولكنه كان
شديد القسوة مع الأفراد.
كان يحترق بحب عنيف، ولكنه كان لهبًا نظريًّا
غالبًا ما كان يلسع كل مَن يقترب منه، يعطي
الأفكار أولوية على البشر، وحياته هي أكبر دليل
على كيفية إمكان أن تكون الأفكار قاسية عديمة
الرحمة.
وُلد «شلي» في الرابع من أغسطس عام ١٧٩٢م في
«فيلد بليس»، في منزل كبير من الطراز الجيورجي
بالقرب من «هورشام» في «سسكس»، وعلى خلاف عدد كبير
من المثقفين الكبار لم يكن طفلًا وحيدًا، ولكنه
كان يشغل موقعًا أكثر فسادًا من جوانب كثيرة:
الابن الوحيد والوريث الوحيد لثروة كبيرة، والأخ
الأكبر لأربع شقيقات كلهن أصغر منه؛ الكبرى
بعامين، والصغرى بتسعة أعوام. ومن الصعب أن نقول
الآن ماذا كان يعني بالنسبة لوالديه، وبدرجةٍ أكبر
بالنسبة لأخواته: سيد البشر!
كانت عائلة «شلي» الفرع الأصغر لأسرة عريقة ذات
صلة قرابة بدوق «نورفولك»، الإقطاعي الكبير، كانت
ثروتهم الكبيرة حديثة العهد، جمعها «سيربيشي»، جد
«شلي» — أول بارون — والمولود في «نيوآرك-نيو
جيرسي»، مغامر من مغامري العالم الجديد، وكان
نشطًا وقاسيًا وخشن الطباع، وواضح أن «شلي» قد ورث
عنه اندفاعه وقسوته. أما والده «سير تيموثي»، الذي
وصل إليه اللقب عن طريقه في عام ١٨١٥م فكان —
مقارنة بجده — رجلًا معتدلًا، لا ضرر منه، عاش
حياة طويلة بريئة، يؤدِّي واجبه كعضو في برلمان
«شوريهام».
8 وقد عاش «شلي» طفولة هادئة مستقر في
الضيعة، محاطًا بشغف والديه، وفتنة شقيقاته به.
وقد أظهر في مرحلةٍ باكرة حبًّا للعلم الطبيعي
وللطبيعة والتجريب بالمواد الكيماوية والمنطاد،
حيث ظل يميل إليها طوال حياته.
وفي عام ١٨٠٤م — وكان في الثانية عشرة — أرسل
إلى مدرسة «إيتون» التي قضى بها ست سنوات، ولا بد
أنه كان مجتهدًا؛ لأنه حقق طلاقة في اللاتينية
واليونانية، ومعرفة واسعة بالأدب القديم، ظل
محتفظًا بها طوال حياته.
كان قارئًا نهمًا للأعمال الجادة وللروايات، ولم
يتفوق عليه من شعراء زمنه في سعة الاطلاع سوى
«كوليردج»، كما كان طالبًا معجزة في المدرسة. في
عام ١٨٠٩م، وكان في السادسة عشرة، عرَّفه أستاذه
دكتور جيمس لند — طبيب ملكي سابق وأستاذ مشارك في
«إيتون، ومحب للعلوم وراديكالي — على كتاب «العدل
السياسي» من تأليف «وليم جودوين»، والذي كان النص
الأساسي للجناح اليساري في تلك الأيام.
9
كان «لند» مهتمًا أيضًا بدراسة المعتقدات
المتعلقة بالعفاريت والشياطين، وأيقظ ذلك في «شلي»
هواية عالم السحر والغموض، وليس فقط القصص القوطي،
الذين كان حديثًا حينذاك ومستهجنًا بشدة في رواية
«جين أوستن» «نورثانجر آبي»، وإنما أيضًا في
النشاطات الحياتية الحقيقية للطبقة المستنيرة
والمجتمعات الثورية السرية الأخرى. وكانت الطبقة
المستنيرة قد تأسست في عام ١٧٧٦م على يد «آدم
ويشوبت» في الجامعة الألمانية في «إنجولد شتات»،
كأوصياء على التنوير العقلاني. وكان هدفهم تنوير
العالم كما يزعم «إلى أن تختفي الدول والأمراء،
دون عنف من على وجه الأرض، ويصبح الجنس البشري
أسرة واحدة والعالم مقامًا للبشر
العقلاء»،
10 وأصبح ذلك هدف «شلي» المقيم على نحوٍ
ما، ولكنه استغرق في مادة التنوير في اقترانها
بالدعاية العدوانية التي قام بها أعداؤهم، وعلى
الأخص كراسة الدعاية المغالية في الحسية للراهب
«باريل»: «مذكرات تصور تاريخ اليعقوبية» (لندن،
١٧٩٧-١٧٩٨م) التي هاجمت الماسون؟ والروزيكروشيين
١
⋆
واليهود. وظل «شلي» لعدَّة سنوات مفتونًا بذلك
الكتاب البغيض، وكان كثيرًا ما يوصي به أصدقاءه
(كما استخدمته زوجته الثانية «ماري» عندما كانت
تكتب «فرانكشتاين» في سنة ١٨١٨م)، وقد اختلط في
ذهن «شلي» مع كثير من الروايات القوطية التي كان
يقرؤها آنذاك وبعد ذلك.
وهكذا كان يلون اقتراب «شلي» من السياسة ميل
للتجمعات السرية، ونظرية المؤامرة في التاريخ التي
كان يقول بها الراهب وأضرابه، ولم يستطع أبدًا أن
يتخلص منها، وقد منعنه بالفعل من فهم السياسة
البريطانية أو السياسات ودوافع رجال، مثل
«ليفربول» و«كاستليريغ» اللذين كان يعتبرهما
تجسيدًا للشر.
11 وكان أول عمل سياسي له تقريبًا هو أن
يقترح على الكاتب السياسي «لي هنت» تكوين مجتمع
سري من «الأعضاء المستنيرين المنزهين عن الغرض»،
لمقاومة «تحالف أعداء الحرية»،
12 وفي الواقع فإن بعضًا من معارف «شلي»
لم يروا في اهتماماته السياسية أكثر من نكتة
أدبية، أو مجرَّد تصور للرومانسية القوطية في
الحياة العملية. وفي روايته «دير الكابوس» (١٨١٨م)
يسخر «توماس لاف بيكوك» من هوس المجتمع السري،
ويصور «شلي» على أنه «أصبح مشغولًا بالرغبة في
إصلاح العالم، كان يبني قلاعًا كثيرة في الهواء،
ويسكنها بمحاكم سرية وعصابات من المستنيرين، وكانت
تلك دائمًا هي المكونات الخيالية لما كان يتصوره
تجديدًا للجنس البشري». و«شلي» مسئول إلى حدٍّ ما
عن تلك النظرة اليوتوبية الطائشة. وكما يقول صديقه
«توماس جيفرسون هوج» إنه لم يصِر فقط على قراءة
كتاب اسمه «أسرار رهيبة» بصوتٍ عالٍ، و«حماس جذل»
لأي شخص كان يمكن أن يستمع إليه، وإنما كتب أيضًا
روايتين قوطيتين، الأولى «زاستروتزي» التي نشرت في
آخر فصل دراسي له في «إيتون»، والثانية «سان
إيرفاين» أو «الروزيكروشيان» في فصله الأول في
«أكسفورد»، والتي رفضَتها: «إليزابيث باريت
براوننج»، واعتبرتها حماقة «من حماقات المدارس
الداخلية».
13
وهكذا كان «شلي» مشهورًا شهرة جيدة أو شهرة
سيئة، وهو ما يزال طالبًا في المدرسة، وكان يُعرف
باسم «ملحد إيتون»، ومن المهم أن نشير إلى ذلك في
ضوء الاتهامات التي وُجهت إليه فيما بعدُ بأنه كان
متعصبًا ضد أسرته ولم يكن متسامحًا. إن جده ووالده
وبصرف النظر عن محاولاتهم كبح كتاباته الباكرة بما
فيها الشعر، شجعاه على تلك الأفكار ومولا عملية
نشرها. وكما تقول «هيلين» شقيقته فإن جده السير
«بيشي» هو الذي تحمل نفقات نشر قصائده المدرسية،
وفي سنة ١٨١٠م وقبل ذهابه إلى «أكسفورد» مباشرة،
تحمل السير «بيشي» طباعة ١٥٠٠ نسخة من كتاب له
بعنوان «شعر أصيل بقلم «فيكتور»
و«كازاير»»،
14 وعندما ذهب «شلي» إلى «أكسفورد» في
الخريف أخذه والده إلى «سلاتر» أشهر ناشر كُتب
وقال: «ابني هذا له توجه أدبي، وهو مؤلف بالفعل،
أرجو أن تطلق العنان لرغبته في الكتابة». وشجعه
«تيموثي» حقيقة لكتابة قصيدة عن «البارثينون» في
مسابقة وأرسل إليه المادة.
15 كان من الواضح أنه يريد أن يوجه «شلي»
بعيدًا عما كان يراه أعمال مراهقة، ويدفعه نحو
الأدب الجاد، وتمويله لكتابات ابنه كان تحت فَهْم
أنه لا بد أن يعبر عن آرائه المعارضة للدين بين
أصدقائه، ولكن لا يجب نشرها حتى لا يقضي على
مستقبله الجامعي. ولا شك أن «شلي» قد وافق على ذلك
كما يتضح من أحد الخطابات التي بقيت بعد
رحيله.
16 ثم بدأ في إعلان كلمته بوضوح وشمولية،
ففي شهر مارس ١٨١١م وهو ما يزال في السنة الأولى
في «أكسفورد» كتب كراسة عدوانية عن آرائه الدينية،
ولم تكن حججه جديدة ولا عنيفة على نحوٍ خاص، بل
كانت مستمدة من الحواس، و«الله» لا يمكن أن يستمد
من الانطباعات الحسية، فإن الإيمان ليس عملًا
طوعيًّا، وبالتالي فإن عدم الإيمان لا يمكن أن
يجرم. ووضع لهذه القطعة من السفسطة عنوانًا لاهبًا
هو «ضرورة الإلحاد»، وطبعها ووزعها على محال بيع
الكتب في أكسفورد، وأرسل نسخًا لجميع القساوسة
ورؤساء الكليات.
وباختصار … كان سلوكه مستفزًّا، وحقق رد الفعل
المتوقع من قِبل السلطات الجامعية، فقد طردوه
منها.
غضب «تيموثي شلي»، وعلى نحوٍ خاص عندما تلقى
رسالة من ابنه، ينكر فيها أنه يمكن أن يقوم بعمل
هذا النوع، وحدث بينهما لقاء مؤلم في أحد فنادق
لندن: الأب يرجو الابن أن يتخلى عن أفكاره على
الأقل إلى أن يكبر، والابن يقول إنها كانت أعز
لديه من راحة بال الأسرة. الأب «يوبخ ويصرخ ويهدد،
ثم يبكي مرة أخرى»، و«شلي» يطلق ضحكاته الشيطانية
عاليًا ثم «انزلق من مقعده، وتمدد على الأرض على
ظهره وهو يقهقهه»،
17 وأسفر التفاوض بينهما عن أن يتقاضى
الابن سنويًّا من والده مبلغ مائتَي جنيه، ولكن
تبع ذلك (أغسطس ١٨١١م) مفاجأة جاءت كالقنبلة، وهي
أن الابن تزوج من «هاريت وستبروك» زميلة شقيقته
«إليزابيث»، وكانت تبلغ من العمر ١٦ سنة. بعد ذلك
انهارت علاقته بعائلته وحاول «شلي» في البداية أن
يستميل أمه إلى صفه، ثم شقيقاته ولكن محاولاته
باءت بالفشل. وفي رسالة لأحد أصدقائه راح يشجب كل
أفراد عائلته: «زمرة من الحيوانات الباردة
والأنانية الماكرة، ولا همَّ لهم على الأرض سوى
الأكل والشرب والنوم».
18 كما تقدم لنا رسائله إلى عدد كبير من
أفراد أسرته أشياء غير عادية؛ أحيانًا تجده خبيثًا
ومخادعًا في محاولاته لانتزاع النقود منهم،
وأحيانًا قاسيًا وعنيفًا ومتوعدًا. رسائله إلى
والده تتصاعد من الاستجداء الكاذب إلى الإساءة
البالغة الممزوجة بالاستعلاء غير المحتمل، وهكذا
نجده في ٣٠ أغسطس ١٨١١م يتوسل: «لا أعرف أحدًا
سواك أستطيع أن ألجأ إليه في المحنة … إنك عطوف
تغفر أخطاء الصغار». وفي ١٢ أكتوبر يكتب بكل
ازدراء: «إن مؤسسات المجتمع قد صنعت منك رأسًا
للعائلة، وجعلتك عرضة للتضليل وسوء الظن مثل
الآخرين، وإني لأعترف أن من الطبيعي بالنسبة
للعقول التي ليست على مستوًى واحد أن تحسن تقييم
الأخطاء»، وبعد ذلك بثلاثة أيام يتهم «تيموثي»
بفعل جبان نفعي حقير … لقد عاملتني معاملة سيئة
وضيعة، عندما فصلوني من الجامعة لإلحادي، كنت
تتمنى قتلي في إسبانيا، إن الرغبة في استكمال
التحقيق مثل الجريمة تمامًا، ربما كان من الجيد
بالنسبة لي أن القوانين في «إنجلترا» لا تعاقب على
جريمة القتل ولكن الجبن يتوارى، سوف أنتهز أقرب
فرصة لأراك، وسوف أنطق باسمي إن لم تسمعه، ولا تظن
أنني حشرة يمكن أن يدمرها الضرر، ولو أن معي
نقودًا تكفي لالتقيتك في «لندن»، وطننت في أذنك
«بيشي … بيشي … بيشي» … حتى يصيبك الصمم». جاء ذلك
في خطاب لم يوقع.
19
وبالنسبة لأمه كان ما يزال شديد القسوة، كانت
أخته «إليزابيث» مخطوبة لصديقه «إدوارد فيرجس
جراهام»، ووافقت أمه على الخطوبة ولكنه اعترض
عليها، وفي ٢٢ أكتوبر كتب لأمه يتهمها بأنها على
علاقة ﺑ «جراهام»، وبأنها كانت ترتب عملية الزواج
لإخفاء تلك العلاقة،
20 ويبدو أنه لم تكن هناك أي حقائق يستند
إليها تجعله يكتب ذلك الخطاب، ولكنه كتب إلى
شقيقته في نفس اليوم وأخبرها به، وطلب منها أن
تريه لوالده. وفي مراسلات أخرى كان دائمًا يشير
إلى «وضاعة» أمه و«فسادها».
21
ونتيجة لذلك استدعوا محامي الأسرة «وليم ويتون»،
وطلبوا منه أن يفتح كل الخطابات التي أرسلها «شلي»
إلى عائلته ويتصرف بشأنها. كان «ويتون» رجلًا
طيبًا ويريد أن يعم السلام بين الأب وابنه، ولكن
الأمر انتهى باستبعاده نتيجة غطرسة «شلي». عندما
قال المحامي إن خطاب «شلي» لأمه «لم يكن لائقًا»
وهو وصف مهذب؛ أعيد إليه خطابه وعليه تعليق كتب
بعجلة: «خطاب السيد «ويتون» مكتوب بغرض أن يعيد
«شلي» النظر في خطابه لأمه، وعليه فإن «شلي» ينصح
السيد «ويتون» بأنه عندما يتعامل مع السادة —
الأمر الذي قد لا تجود به الظروف مرة أخرى — أن
يكف عن فتح الخطابات الخاصة، وإلا فإن الوقاحة قد
تستدعي العقاب عليها.»
22
ويبدو أن العائلة كانت تخشى عنف «شلي» فكتب
«تيموثي» إلى «ويتون»: «إنه لو استقر في «سسكس»
لكان عليَّ استدعاء قوة من الشرطة لحمايتي، إنه
يفزع أمه وأخواته لدرجةٍ كبيرة، وعندما يسمعون
نباح كلب يجرون على السلم، ولا نسمع منه شيئًا سوى
مطالبته بالمائتَي جنيه كل سنة.»
وكان هناك خوف أكبر من أن «شلي» الذي كان يعيش
الآن حياة ضياع بوهيمية قد يغري واحدة من شقيقاته
بالانضمام إليه، وفي رسالة بتاريخ ١٣ ديسمبر ١٨١١م
حاول أن يغري صيادًا بتهريب خطاب إلى «هيلين» —
كانت في الثانية عشرة — وما فيه فاسد وكفيل بأن
يوقف قلب الأم والأب.
23 كما كان شغوفًا بأن يوقع بشقيقته
الصغرى «ماري».
كان «شلي» قد أصبح بسرعةٍ عضوًا في دائرة
«جودوين»، وأصبح على صلة وارتباط بابنته المتحررة
«ماري» — ابنة زعيمة الحركة النسوية «ماري
وولستنكرافت» — وأختها غير الشقيقة «كليرمونت».
خلال حياته الراشدة كان «شلي» يحرص على إحاطة نفسه
بنساء صغيرات السن، يعِشن حياة مشاع مع أي رجال
ينتمون إلى تلك الدائرة، وبالنسبة له كانت شقيقاته
مرشحات طبيعيات لمثل ذلك «البيت»، خاصة أنه كان
يتصور أن واجبه الأخلاقي مساعدتهن على الهروب من
المادية القبيحة في البيت الأبوي. كانت لديه خطة
لاختطاف «إليزابيث» و«هيلين» من مدرستهما الداخلية
في «هاكني»، وكان قد أرسل «ماري» و«كلير» للتغطية
على الخطة،
24 ولكنها فشلت لحُسن الحظ، إلا أن «شلي»
لم يكن يرسم مخططًا؛ ليصل إلى سفاح القربى. صحيح
أن الموضوع كان يستهويه مثل «بيرون»، ولكنه لم
يتمادَ فيه مثله.
كان «بيرون» على علاقة ﺑ «أوجستالي» أخته غير
الشقيقة. ولكن «لاون» و«سيثنا» بطلي قصيدة «شلي»
الطويلة «ثورة الإسلام»، كانا «أخًا وأختًا» إلى
أن اعترض الناشرون وأجبروا «شلي» على إجراء
تعديلات، كما كان «سليم»، و«زليخا» في «عروس
أبيدوس» عند «بيرون»،
25 وكان «شلي» مثل «بيرون» يعتبر دائمًا
أن لديه تحللًا من قواعد السلوك الجنسي
العادية.
وقد جعل ذلك الحياة صعبة بالنسبة للنساء اللائي
كن على صلة به، ولا يوجد أي دليل على أن أيًّا
منهن — مع احتمال استثناء «كلير كليرمونت» — كانت
تحب فكرة المشاركة، أو كان لديها أي درجةٍ من
الميل نحو الاتصال الجنسي غير الشرعي.
وعلى غير هَواه فقد كنَّ جميعًا (مثل أفراد
عائلته) يردن حياة عادية، ولكن الشاعر لم يكن
يستطيع أن يعيش حياة عادية. كان ينتعش بالتغيير،
بالتنويع، وبالخطر والإثارة، ويبدو أن القلق وعدم
الاستقرار كانا من ضرورات عمله، كان يمكن أن يجلس
مع أي كتاب، أو قطعة من الورق في أي مكان فتتدفق
أشعاره. قضى حياته في غرف أو مساكن مفروشة، وكان
يتنقل بينها متبوعًا مطاردًا من الدائنين، ولكنه
واصل العمل والإنتاج. كانت قراءاته واسعة، ولكن
وجوده المتحرك الذي كان يراه مثيرًا كان بمثابة
الكارثة بالنسبة لغيره، خاصة زوجته الشابة
«هاريت». كانت فتاة جميلة تنتمي لأسرة من الطبقة
المتوسطة التقليدية، وابنة تاجر ناجح، هامت
بالشاعر شبيه الإله، فخلب لبها … فهربت معه! بعد
ذلك اندفعت حياتها نحو الكارثة.
26
ولمدة أربع سنوات شاركت «شلي» حياته التي لا
تعرف الاستقرار، متنقلًا بين «لندن»، و«أدنبرة»،
و«يورك» و«كيسوك» و«نورث ويلز»، و«لينموث»، ثم
«ويلز» ثانية، و«لندن» و«دبلن» ووادي
«التيمز».
وفي بعض تلك الأماكن شارك «شلي» في بعض الأنشطة
السياسية غير القانونية، فلفت أنظار رجال القانون
والشرطة وربما الحكومة المركزية، وبوجهٍ عام كان
قد وقع في مشاكل مع التجار الذين كانوا ينتظرون
تسديد فواتيرهم. كما عادى جيرانه الذين كانت
تزعجهم تجاربه الكيماوية، وكانوا يشعرون بالإهانة
بسبب سلوكه البعيد عن الاحتشام في حياته العائلية،
حيث كان هناك دائمًا امرأتان أو أكثر!
وفي مناسبتين هاجم أهالي المنطقة منزله في منطقة
البحيرات، وفي «ويلز»، وأجبروه على ترك المكان،
كما فر كثيرًا أمام مطالبات دائنيه وأمام
الشرطة.
حاولت «هاريت» قدر استطاعتها أن تشاركه نشاطه،
ساعدت في توزيع منشوراته السرية، كانت سعيدة عندما
أهدى إليها أولى قصائده الطويلة «الملكة ماب»،
ولدت له بنتًا «إليزا إيانثي»، وحملت بطفل آخر،
ابنه «تشارلز»، ولكنها لم تكن قادرة على الاحتفاظ
بإعجابه إلى الأبد … شأن كل امرأة أخرى في
حياته.
كان حب «شلي» عميقًا ومخلصًا ومتقدًا ومستمرًّا
في الواقع، ولكنه كثيرًا ما كان يغير موضوعه! في
١٤ يوليو ١٨١٤م أخبر «هاريت» أنه وقع في غرام
«ماري» ابنة «جودوين»، وأنه تسكع معها في أوروبا
(مع «كلير كليرمونت»). نزلت الأخبار على «هاريت»
كالصاعقة، وهو رد فعل فاجأ «شلي» وأزعجه جدًّا،
كان أحد المفرطين في الأنانية، مع نزعة إلى افتراض
أن على الآخرين أن يكونوا مناسبين، وأن يستحسنوا
قراراته، وعندما لا يفعلون ذلك ينتابه الغضب،
ورسائله إلى «هاريت» بعد أن تركها على نفس نمط
رسائله إلى والده؛ كياسة ولطفًا في البداية، ثم
يتحول إلى غضب يتمسَّح بالأخلاق، وعندما لا ترى
الأشياء كما يحب. كتب إليها في ١٤ يوليو ١٨١٤م،
يقول: «لا يعيبني أنك لم تملئي قلبي أبدًا
بالعاطفة الكافية»، كان يتصرف معها دائمًا بأسلوبٍ
كريم، وظل أفضل أصدقائها، وفي الشهر التالي دعاها
إلى «ترويز» هي و«ماري كلير» … «حيث ستجدين على
الأقل صديقًا دائمًا وثابتًا، عزيزة عليه
اهتماماتك، ولن يتعمد أبدًا أن يجرح مشاعرك، ولن
تتوقَّعي ذلك أبدًا من أحد سواي. الآخرون جميعًا
إما قساة القلوب أو أنانيون.»
بعد شهر من ذلك، وعندما اكتشف أن ذلك الأسلوب لم
يفلح أصبح أكثر عدوانية: «أعتبر نفسي أفضل وأكثر
جدارة من أي أصدقائك الذين يعدون أصدقاء بالاسم
فقط، إن هدفي الرئيسي هو أن أغمرك بالمنافع، وإلى
الآن عندما تقودني عاطفتي نحو واحدة أخرى؛ لكي
أفضل صحبتها على صحبتك، فإنني أكون مشغولًا دائمًا
بالتفكير في كيفية أن أكون باستمرار مفيدًا لك.
وفي مقابل ذلك ليس من الصواب أن أجرح باللوم
والتوبيخ، هذه الموَدة الفريدة وغير المسبوقة
تتطلب مقابلًا جد مختلف». وفي اليوم التالي يعود
إلى نفس الموضوع … «فكري إلى أي مدًى تودين كيف
يجب أن تكون حياتك المستقبلية تحت تأثير عقلي
المدبر، وإذا ما كنت ما زلت تثقين بما فيه الكفاية
في نزاهتي الثابتة لكي تخضعي للقوانين التي قد
تخلقها أي صداقة بيننا».
27
هذه الرسائل كانت تُكتب أحيانًا لابتزاز النقود
من «هاريت» (في تلك المرحلة كان ما زال لديها
نقود، وأحيانًا للضغط عليها لتخفي مكان تواجده أو
تحركاته عن أعين الدائنين والأعداء، وأحيانًا لكي
تتوقف عن استشارة المحامين).
ورسائله مليئة بالإشارات إلى «سلامتي الشخصية»،
و«أمني وراحتي». كان «شلي» إنسانًا رقيق الإحساس
إلى حد كبير، ولكنه يبدو عديم الإحساس بالنسبة
لمشاعر الآخرين (وهي خلطة ليست غريبة). عندما
اكتشف أن «هاريت» لجأت إلى استشارة قانونية بشأن
حقوقها انفجر غضبه، «في هذه الدعوى القضائية، وإن
كان صحيحًا أن حماقاتك قد وصلت إلى هذا الحد، فإنك
تحطمين أهدافك، إن ذكرى عطفنا السابق، والأمل في
أنك لن تفقدي الفضيلة والكرم، ربما هو الذي يؤثر
عليَّ حتى الآن؛ لكي أتنازل بأكثر مما يسمح به
القانون. وإن كنت مصرة بعد استلام هذه الرسالة على
اللجوء إلى القضاء، فمن الواضح أنني لن أعتبرك سوى
عدو … عدو يمارس أوضع الخيانات وأكثرها سوادًا».
ويضيف: «كنت شخصًا أحمق عندما توقعت منك أي نبل أو
كرم.» ويتهمها ﺑ «الأنانية الحقيرة الخسيسة»،
وبأنها تحاول أن «تلحق الأذى بإنسان واقع في
محنة».
28
كان خداعه لنفسه قد اكتمل في ذلك الوقت، وكان قد
أقنع نفسه بأنه — من البداية للنهاية — كان يتصرف
دون خطأ، وأن «هاريت» تتصرف دون صفح أو
غفران.
كتب إلى صديقه «هوج» يقول: «أنا مقتنع تمامًا
بأنني من الممكن أن أظل صديقًا مخلصًا ومحبًّا
صالحًا للبشرية، ونصيرًا قويًّا للحق
والفضيلة.»
29
كان من سمات «شلي» الطفولية العديدة قدرته على
المزج بين الإساءة الشديدة وطلب الجميل، وهكذا
فإنه بعد الخطاب الذي أرسله إلى أمه يتهمها فيه
بالزنا، يتبعه بخطاب آخر يطلب فيه منها أن ترسل
إليه «الجهاز الكهربائي الخاص بالتجارب الكيماوية
والميكروسكوب»، كما أن إساءاته إلى «هاريت» كانت
كذلك مليئة بطلب النقود … بل والملابس. «أنا في
حاجة إلى جوارب وحلقات لشراع المركب وأعمال
«ووستنكرافت» التي صدرَت بعد موتها … أرسلي لي
المئونة على وجه السرعة يا عزيزتي
«هاريت»»،
30 لم يسألها عن أحوالها، رغم أنه كان
يعرف أنها حامل منه … ثم فجأةً توقفت
الرسائل.
كتبَت «هاريت» إلى أحد الأصدقاء: «أصبح السيد
«شلي» شخصًا خليعًا وداعرًا، وذلك بفضل كتاب
جودوين «العدل السياسي» … الشهر القادم سأكون في
حالة وضع ولن يكون بجانبي، إنه لا يهتم بي الآن،
لا يسأل عني ولا يرسل أي أخبار عنه، وباختصار فإن
الرجل الذي كنت أحبه ذات يوم قد مات. إنه مبتز …
مصاص دماء.»
31
ابن «شلي» الذي أسمته «هاريت»: «تشارلز بيشي»،
وُلد في ٣٠ نوفمبر عام ١٨١٤م، وليس من المعروف أن
كان والده قد رآه. «إليزابيث» شقيقة «هاريت»
الكبرى، والتي ظلت وفية لها — وبالتالي كان «شلي»
يعتبرها عدوة له — كانت مصرة على عدم ترك الأطفال
لتربية نساء «شلي» البوهيميات، أما هو، فعلى العكس
من «روسو» لم يكن يعتبر أطفاله مزعجين أو مصدر
قلق. كان يحارب من أجل أن يظلوا معه، ولكن كان من
الحتمي أن تسير المعركة القانونية في غير صالحه؛
لكي يصبح الأطفال تحت وصاية المحكمة. وبعد ذلك فقد
الاهتمام بهم.
أصاب الدمار حياة «هاريت»، وفي سبتمبر ١٨١٦م
تركت الأطفال مع والديها وعاشت في «شيلسي»، وفي
آخر خطاب لها كتبَته إلى شقيقتها: «إن تذكري لكل
عطفك الذي لم أستطع أن أرده لك يجعل قلبي يشعر
بغصة. أعرف أنك سوف تسامحينني؛ لأنه ليس من طبعك
أن تكوني قاسيةً أو عنيفةً مع أحد.»
32 واختفت في التاسع من نوفمبر. وفي ١٠
ديسمبر وجدوا جثتها في «سيرينتاين-هايدبارك»، كانت
الجثة متورمة ويقال إنها كانت حاملًا، وإن كان لا
يوجد دليل على ذلك، أما «شلي» الذي كان قد روَّج
كذبًا أنهما كانا منفصلين باتفاق بينهما، فكان رد
فعله هو ازدراء عائلة «هاريت».
33
ونشر سلسلة من الأكاذيب: كتب إلى «ماري» يقول:
«يبدو أن تلك المرأة المسكينة، والتي هي الأكثر
براءة في عائلتها البغيضة وغير الطبيعية، كانت قد
طُردت من منزل الأسرة، وسلكت طريق الدعارة إلى أن
عاشت مع قواد يُدعى «سميث»، وانتحرت بعد أن تخلى
عنها، ولا شك في أن أختها المتوحشة المصاصة
الدماء، بعد أن فشلت في تحقيق أي منفعة من وراء
علاقتها بي، قد ضمنت لنفسها ثروة الرجل العجوز،
الذي يحتضر الآن، بمقتل تلك الإنسانة … إن الجميع
يكافئني، وتلك شهادة على ليبرالية وسلامة سلوكي
إزاءها.»
34 بعد يومين كتب رسالة لأختها مجرَّدة
من أي إحساس بالتعاطف.
35
وربما كان من الممكن تفسير كذبه الهيستيري إلى
حدٍّ ما، بأنه كان لا يزال متوتر الأعصاب؛ بسبب
عملية انتحار أخرى كان مسئولًا عنها. كانت «فاني
إيملاي» ابنة زوجة «جودوين» من رجل آخر قبله،
وكانت تكبر «ماري» بأربع سنوات، وكانت «هاري»
تصفها بأنها «إنسانة بسيطة جدًّا ومعقولة جدًّا»،
وكان «شلي» قد مارس مناوراته من حولها منذ ديسمبر
١٨١٢م، عندما كتب إليها: «أنا أحد تلك الحيوانات
المرعبة الطويلة المخالب التي تسمى بالإنسان، ومنذ
أن أكدت لك بأنني واحد من أقلهم ضررًا، وأعيش على
الغذاء النباتي، ولم أعض منذ ولدت، لذلك أغامر بأن
أفرض نفسي على اهتماماتك.»
36
كان «شلي» قد جذبها، وكان «جودوين» وزوجته
يعتقدان أنها قد وقعت في غرامه بعنف، وبين ١٠ و١٤
سبتمبر ١٨١٤م، كان «شلي» بمفرده في «لندن»، وقامت
«فاني» بزيارته في مسكنه ليلًا، والاحتمال الأكبر
أنه استطاع أن يغويها، بعد ذلك ذهب إلى «باث». وفي
٩ أكتوبر تلقى ثلاثتهم خطابًا من «فاني» شديد
الاكتئاب، عليه خاتم بريد «بريستول»، شرع «شلي» من
فوره في البحث عنها دون جدوى، حيث كانت قد غادرت
إلى «سوانسي»، وفي اليوم التالي تناولت جرعة زائدة
من الأفيون في غرفتها في «مار كوث آدمز»، ولم يشر
«شلي» إليها في رسائله بالمرة. ولكن في سنة ١٨١٥م
تجيء إشارة قصيرة إليها في قصيدة: «كان صوتها
يرتعش ونحن نفترق». يصور نفسه فيها «شابًّا أشيب
الشَّعر مرهق العين» جالسًا بجوار قبرها. ولكن تلك
كانت مجرَّد فكرة؛ حيث لم يزر قبرها مطلقًا، ذلك
القبر الذي بقي مجهولًا.
37
كما كانت هناك أضحيات أخرى كثيرة على مذبح أفكار
«شلي»، واحدة منها كانت «إليزابيث هيتشينر»، شابة
من الطبقة العاملة في «سسكس»، ابنة أحد المهربين
تحول إلى صاحب فندق، خلال تضحيات وجهود استثنائية،
عملت مُدرسة في «هيرست باير بوينت». كانت معروفة
بأفكارها الثورية، وكان «شلي» يراسلها. وفي سنة
١٨١٢م كان في «دبلن» يتحدث إلى الأيرلنديين عن
الحرية دون أن يستجيبوا له، وعندما تركوه بمادته
التحريضية بين يديه، واتته فكرة إرسالها إلى
«هيتشينر» لتوزعها في «سسكس»، وحدث أن فتحت
السلطات الصندوق الخشبي، الذي أرسلها فيه، في أحد
الموانئ، فوُضعت المُدرسة تحت المراقبة، وكانت
النتيجة أنها فقدت وظيفتها، ولكن كان لا يزال
لديها شرفها … فدعاها «شلي» إلى مجتمعه الصغير،
ووافقت على غير رغبة والدها وأصدقائها، كما أقنعها
بأن تقرضه ٢٠٠ جنيه، وربما كان ذلك المبلغ كل
مدخرات عمرها.
في هذه المرحلة كان كثير الثناء عليها، «رغم
انتمائها بالميلاد إلى وسط متواضع، إلا أنها
استطاعت في شبابها أن تصبح صاحبة فكر رافد، وعقلها
خلاق بطبيعته، وقد تخلصت من كل قيود
الغرض».
38
كما كان يصفها في خطاباته ﺑ «صخرتي في هذه
العاصفة»، «والعبقرية الأسمى لديَّ» و«الفيصل في
تفكيري … دليل عملي … تلك التي جعلت لي قيمة
تذكر»، وأنها كانت «واحدة من الذين يحملون معهم
السعادة والإصلاح والحرية أينما حلُّوا.»
39
لحقت ﺑ «آل شلي» في «لينموث»، ووصفوها بأنها
كانت «تضحك وتكتب وتتحدث طوال اليوم»، وكانت تقوم
بتوزيع منشورات «شلي»، ولكن سرعان ما كرهتها
«هاريت» وأختها، ولم يكن «شلي» نفسه ضد حدوث توتر
ومنافسة بين نسائه، ولكنه في هذه الحالة شاركهما
رفضها، ويبدو أنه كان قد أغوى «هيتشنر» أثناء
تجوالهما الطويل على الشاطئ، وشعر فيما بعدُ
بالاشمئزاز. وعندما انقلبت عليها «هاريت» و«إليزا»
قرر أنها لا بد أن ترحل، وكان في ذلك الوقت قد عقد
صلة بآل بيت «جودوين»، حيث وجد فتياتهم أكثر
إثارة. وهكذا أرسلت إلى «سسكس»، لتواصل القضية
هناك على وعد براتب جنيهين في الأسبوع … ولكنها
كانت موضع سخرية هناك … العشيقة المهملة لأحد
الرجال! كتب «شلي» إلى «هوج» يقول في استهزاء:
«الشيطان البني، كما أسمي معذبتنا ومدرستنا
السابقة، يجب أن تتلقى المعاش، أنا أدفعه على مضض،
ولكني مضطر، لقد حرمها تسرعنا غير المنصف من وضع
كانت تمضي فيه بهدوء، والآن تقول إن سمعتها قد
ضاعت، وصحتها دمرت، وسلامها العقلي قد انتهى؛ بسبب
قسوتي ووحشيتي، وأنها ضحية كاملة لكل المتاعب
النفسية والجسدية التي يمكن أن تتحملها بطلة»، ثم
لا يملك إلا أن يضيف: «إنها خنثي متوحشة، ماكرة،
سطحية، قبيحة.» وفي الحقيقة فإنها لم تتلقَّ إلا
القسط الأول من أجرها، ولم يسدد لها المائة جنية
التي كان قد اقترضها منها … وهكذا انسحبت إلى عالم
النسيان الذي كان «شلي» قد جذبها منه … ضحية
احترقت بلهيبه!
حالة أخرى مشابهة، وإن تكن أقل أهمية هي حالة
«دان هيلي»، وهو شاب عمره ١٥ سنة، كان «شلي» قد
عاد به من «أيرلندا» ليعمل خادمًا لديه، ونحن
قليلًا ما نسمع عن خدم آل «شلي»، رغم وجود ثلاثة
أو أربعة منهم دائمًا. وفي رسالة إلى «جودوين» راح
«شلي» يدافع عن حياته المرفهة على أساس «لو أنني
كنت أعمل على النول أو المحراث، وزوجتي في المطبخ
أو الخدمة المنزلية؛ لكننا قد أصبحنا الآن كائنات
أخرى في المجتمع — وربما أضيف — وأقل نفعًا
لجنسنا.»
40
ولذلك كان لا بد أن يكون هناك مَن يخدمه، سواء
كان «شلي» قادرًا على ذلك من الناحية الاقتصادية
أم لا، فكان يستأجر أناسًا من المواطنين المحليين
لقاء أجور متدنية، ولكن «دان» الأيرلندي كان
مختلفًا حيث وجد له «شلي» فائدة في «دبلن» ليعلق
بياناته غير القانونية، وفي صيف ١٨١٢م استخدمه
لتعليق نشراته على الجدران والمحلات، وكان قد نبه
عليه أنه في حال استجوابه من قِبل السلطات عليه أن
يحكي قصة عن «لقائه برجلين في الشارع»، وفي أغسطس
أُلقي القبض عليه في «بارنستابل»، وحكى قصته …
ولكن ذلك لم يكن في صالحه على الإطلاق، حيث وقع
تحت طائلة القانون «٣٩-جورج الثالث»، وحُكم عليه
بغرامة، تصل إلى مائتَي جنيه، أو السجن ٦ سنوات …
ودخل السجن.
وبعد الإفراج عنه عاد لخدمة «شلي» الذي فصله بعد
٦ شهور، وكان السبب المعلن لذلك أن سلوكه لم يكن
أخلاقيًّا. أما السبب الحقيقي فهو أن آل «شلي»
كانوا قد قرروا الاقتصاد في الإنفاق، ولم يدفعوا
له عشرة جنيهات كانت قد بقيت له عندهم.
41 وهكذا دخلت ضحية جديدة من ضحاياه إلى
ظلام النسيان.
وقد يقول قائل — دفاعًا عن «شلي» — إن تلك
الأمور حدثت وهو صغير السن، حيث كان في العشرين في
عام ١٨١٢م، كما كان في الثانية والعشرين عندما هجر
«هاريت» وهرب مع «ماري». ونحن ننسى دائمًا كيف كان
أبناء ذلك الجيل من الشعراء الإنجليز عندما ماتوا
… كان «كيتس» في الخامسة والعشرين، و«شلي» في
التاسعة والعشرين، و«بيرون» في السادسة والثلاثين.
عندما غادر «بيرون» «إنجلترا» إلى الأبد والْتَقى
«شلي» لأول مرة على شاطئ البحيرة في جنيف في ١٠
مايو ١٨١٦م، كان ما يزال في الثامنة والعشرين،
بينما كان «شلي» في الرابعة والعشرين. أما «ماري»،
و«كلير»، فقد كانتا في الثامنة عشرة تقريبًا،
ويمكن أن نقول إن رواية «فرانكشتاين» التي كتبَتها
«ماري» على البحيرة أثناء ليالي الصيف كانت عملًا
من أعمال طلبة المدارس، ورغم ذلك ورغم اعتبارهم
أطفالًا على نحوٍ ما، إلا أنهم كانوا كبارًا
رافضين لقِيم العالم، يقدمون نظامًا بديلًا خاصًّا
بهم مثل طلبة الستينيات.
لم يروا أنفسهم صغارًا على المسئولية، ولم
ينغمسوا في ذلك في فورة من فورات حماس الشباب …
بالعكس تمامًا، كان «شلي» على نحوٍ خاص مصرًّا على
جدية رسالته بالنسبة للعالم. ومن الناحية العقلية
كان نضجه سريعًا، وقصيدته القوية «الملكة ماب»،
رغم أنها ما تزال شابة في بعض جوانبها، كتبها وهو
في العشرين ونشرها في العام التالي، واعتبارًا من
١٨١٥-١٨١٦م وما بعدهما، وهو يتقدم نحو منتصف
العشرينيات من العمر كانت أعماله تقترب من أوجها،
وكانت في تلك المرحلة تعكس قراءة متميزة وعمقًا
شديدًا في التفكير، ولا شك في أن «شلي» كان يملك
عقلًا جبارًا شديد الحساسية. ورغم صغر سنه إلا أنه
قَبِل أن يتحمل واجبات الأبوة.
ودعنا ننظر الآن إلى أطفاله.
كان لديه سبعة أطفال من ست أمهات، الأوَّلان:
«إيانثي»، و«تشارلز» من «هاريت» وقد تركهما لحضانة
المحكمة. عارض «شلي» ذلك بقوة في البداية ولكنه
خسر القضية؛ لأن المحكمة فزعت لبعض الأفكار التي
تضمنتها قصيدته «الملكة ماب»، وكان يعتبر ذلك
محاولة أيديولوجية ضده؛ لكي يتخلى عن أفكاره
الثورية.
42 وعندما صدر الحكم ضده واصل التفكير في
الظلم الذي حل به، وكره المستشار «لورد إلدون»
ولكنه لم يبدِ أي اهتمام بالطفلين بعد ذلك. وقد
أجبره حكم المحكمة على دفع ثلاثين جنيهًا كل ثلاثة
شهور لهما بعد وضعهما مع أسر بديلة، وكان المبلغ
يُخصم من دخله من المنبع، كما لم يستخدم حقه الذي
منحته له المحكمة في زيارتهما. لم يكتب لهما أبدًا
رغم أن «إيانثي» الكبرى كانت في التاسعة عندما
مات، لم يسأل عن أحوالهما إلا بالطريق الرسمي،
والخطاب الوحيد الذي أرسله إلى والدهما بالتبني
«توماس هيوم»، بتاريخ ١٧ فبراير ١٨٢٠م هو في
الأساس عن أخطائه، ويعتبر وثيقة خالية من أي عطف
أو إحساس.
43 ولا يوجد أي ذِكر بعد ذلك للطفلين في
أي رسائل أو مذكرات، ويبدو أنه كان قد نفاهما
تمامًا من عقله، رغم ظهورهما ظهورًا شبحيًّا في
قصيدته «إبيبسي شديون» الأشبه بالسيرة
الذاتية.
كما كان له أربعة أطفال من «ماري»، مات منهم
ثلاثة، وبقي منهم ابنه «بيرسي فلورانس»، المولود
في ١٨١٩م. كان الأول طفلة ماتت في مرحلة الرضاعة،
الثاني «وليم»، أُصيب بالتهاب في الأمعاء في
«روما» وهو في الرابعة، سهر «شلي» إلى جواره ثلاثَ
ليالٍ متوالية، ولكنه مات. وربما كان موت ابنته
«كلارا» الرضيعة في العام السابق، وشعوره بالذنب
هو الذي جعله يبذل ذلك الجهد ويسهر جوار ابنه، في
أغسطس كانت «ماري» والطفلة في منتجع «بانجي دي
لوكا»، وكان «شلي» في «أستي»، على التلال القريبة
من «فينيسيا»، وأصر على أن تلحق به الأم والطفل في
الحال، وهي رحلة مجهدة تستمر خمسة أيام في أشد
فصول العام حرارة. لم يكن «شلي» يعرف أن الطفلة
«كلارا» كانت في صحة سيئة قبل بدء الرحلة، وعندما
وصلت كان مرضها واضحًا ولم تتحسن حالتها.
ورغم ذلك، وبعد ثلاثة أسابيع ولراحته هو فقط،
وكان قد أسكره تبادله للأفكار الثورية مع «بيرون»،
طلب من «ماري» أن تلحق به هي والطفلة في
«فينيسيا»، كانت «كلارا» المسكينة، كما تقول أمها،
في حالة شديدة من الضعف والحُمى.
واستمرَّت الرحلة من الثالثة والنصف صباحًا إلى
الخامسة بعد الظهر في صيف قائظ، وصلت الطفلة إلى
«بادوا» في حالة بالغة السوء، وأصر «شلي» على أن
يواصلا الرحلة إلى «فينيسيا»، وفي الطريق انتابت
الطفلة نوبات تشنج في الفم والعينين، وماتت بعد
وصولهما بساعة.
44
وقد اعترف «شلي» بأن «تلك الصدمة غير المتوقعة»
— والحقيقة أنها كانت متوقعة — جعلت «ماري» في
«حالة يأس»، وكانت تلك مرحلة مهمة من مراحل تدهور
العلاقة بينهما.
وفي شتاء نفس العام ازدادت الأمور سوءًا، عندما
سجَّل طفلة غير شرعية له في نابلس — عُمدت باسم
«إيلينا» — وقال إن اسم أمها هو «ماري جودوين
شلي»، والمؤكد أن زوجته لم تكن هي أم الطفلة. وبعد
ذلك بوقت قصير، بدأ أحد خدمه السابقين، واسمه
«باولو فوجي»، في ابتزازه. كان قد تزوج «إليزا»
مربية أطفالهما. أما سبب تهديده له، فكان على أساس
أن «شلي» كان قد أعطى بيانات كاذبة عندما قال إن
«ماري» هي أم الطفلة. وهناك احتمال أن تكون الأم
هي «إليزا»، وإن كان هناك ما يدحض ذلك، حيث إن
«إليزا» نفسها كان لديها رواية مختلفة عن الموضوع،
في سنة ١٨٢٠م أخبرت «ريتشارد هوبنر»، القنصل
البريطاني في «فينيسيا»، والذي كان يحترم «شلي»
رغم سمعته، أن الشاعر أودع طفلة صغيرة مستشفى
اللقطاء في نابلس، كان قد أنجبها من «كلير
كليرمونت».
وقد استاء «هوبنر» كثيرًا من سلوك «شلي»، وعندما
أسرَّ بذلك إلى «بيرون» كان رد الأخير: «الحقائق
لا تقبل الكثير من الشك: إنها تشبههم.»
45
كان «بيرون» يعرف كل شيء عن «شلي»، و«كلير
كليرمونت» كانت أم ابنته غير الشرعية «ألليجرا»
كذلك، وكانت قد حاولت إغواءه قبل أن يغادر
«إنجلترا» في ربيع ١٨١٩م. أما «بيرون» الذي كان
لديه بعض الوساوس عن إغواء عذراء، فكان قد نام
معها فقط، بعد أن أخبرته بأنها كانت قد نامت مع
«شلي» بالفعل.
46
كان ذلك أحد أسباب رفضه لأن يتركها تربي
«ألليجرا» رغم أن فصل البنت عن أمها كان قاتلًا
بالنسبة لها. كان «بيرون» مقتنعًا بأن «ألليجرا»
هي ابنته، وليست ابنة «شلي»؛ لأنه كان واثقًا من
أنها لم تكن تمارس الجنس مع «شلي» في تلك الأيام،
ويبدو أنه كان يعتقد أنهما كانا قد استأنفا ذلك في
غياب «ماري»، وكانت «الينا» هي ثمرة تلك
العلاقة.
47 وقد حاول كثير من المدافعين عن «شلي»
إعطاء تفسيرات مختلفة للمسألة، ولكن الاحتمال
الأكبر هو أن الطفلة هي ابنة «كلير»،
و«شلي».
48
وقد حطم هذا الحدث «ماري» التي لم تحب «كلير»
أبدًا، وكانت تكره حضورها المستمر إلى منزلهم، ولو
أن الطفلة كانت قد ظلت معهم، لأصبحَت «كلير» عضوًا
دائمًا في البيت، ولربما كانت استأنفت علاقتها ﺑ
«شلي». وامتثالًا لحزن «ماري» قرر «شلي» أن يتخلى
عن الطفلة ليحذو حذو رفيقه «روسو»، ويستفيد من
ملجأ اللقطاء هناك. ماتت الطفلة في شهرها الثامن
عشر، ولم يكن ذلك مفاجأة (١٨٢٠م)، وفي العام
التالي، ودون أدنى مبالاة بنقد «هوبنر» وغيره له،
لخص «شلي» المسألة برمتها في خطاب إلى «ماري»، حيث
يقول في جملة واحدة قاسية ودالة: «لقد استعَدْت
على وجه السرعة تلك اللامبالاة الجديرة بأي شيء،
أو أي شخص سوى وعينا.»
49
هل كانت علاقة «شلي» بالنساء مقتصرة على امرأة
واحدة؟ بالتأكيد لا. ولكن ليس بنفس المعنى الذي
كان عليه «بيرون» والذي زعم في سبتمبر ١٨١٨م أنه
كان قد أنفق في خلال عامين ونصف العام ٢٥٠٠ جنيهٍ
على نساء من «فينيسيا» ونام على الأقل مع
«مائتَين، وربما أكثر»، وفيما بعدُ كان يذكر ٢٤
منهن بالاسم.
50
من ناحيةٍ أخرى كان إحساس «بيرون» بالشرف أكبر
من إحساس «شلي» به، لم يكن خبيثًا ولا محتالًا.
كتب «شلي» إلى المصلح الجنسي والداعية النسائي «د.
ﻫ. لورانس» يقول: «لو أن هناك جريمة كبرى أو مدمرة
أخشى أن أتَّهم بها لكانت إغواء النساء.»
51 كانت تلك نظريته ولكنها لم تكن
ممارسته، وبالإضافة إلى الحالات التي ذكرناها كانت
هناك علاقة عاطفية أخرى مع امرأة إيطالية من أصل
طيب اسمها «إميليا فيفياني»، التي أخبر «بيرون»
بكل شيء عنها، ثم أضاف: «أرجو ألا تذكر أي شيء مما
قلته لك؛ لأن المسألة ليست معروفة بكاملها، وربما
تغضب «ماري» لذلك.»
52
ويبدو أن ما كان يرغب فيه «شلي» هو امرأة توفر
لحياته الراحة والاستقرار، وتسمح له بعلاقات
جانبية، وفي مقابل ذلك (من ناحية المبدأ على
الأقل) قد يسمح لزوجته بنفس الحرية. إن ترتيبًا
كهذا كما سوف نرى سيصبح هدفًا متواترًا لدى كبار
المثقفين من الرجال، ولكنه لم يفلح في حالة «شلي»
تحديدًا.
فالحرية التي منحها لنفسه سببت آلامًا نفسية
مبرحة ﻟ «هاريت» أولًا، ثم ﻟ «ماري» من بعدها.
وببساطة فإنهما لم يريدا تلك الحرية المتبادلة.
ويبدو أن «شلي» كان كثيرًا ما يناقش الأفكار مع
صديقه الثوري «لي هنت». ويسجل الرسام وكاتب
اليوميات «بنيامين روبرت» أنه كان قد سمع «شلي»
يبدي آراءه للسيدة «هنت» وغيرها من الحاضرات عن
سخف وعبث العفة. وأثناء المناقشة كانت صدمة
«هايدن» قوية، عندما قال «هنت»: «إنه لن يمانع أن
ينام أي شاب يراه مناسبًا لذلك مع زوجته.» ويضيف
«هايدن»: «كان «شلي» يتبنى تلك المبادئ ويتبعها
بشجاعة، أما «هنت» فكان يدافع عنها، دون أن يجرؤ
على ممارستها، وكان قانعًا بذلك.»
53
أما رأي النساء فلم يسجل، وعندما أخبر «شلي»
«هاريت» بأنها سوف تنام مع صديقه «هوج» رفضَت
صراحة. وعندما سمح بنفس الشيء ﻟ «ماري» تظاهرت
بالموافقة، ولكنها قالت أخيرًا إن الرجل لا
يعجبها.
54
والأدلة التي بقيت توضح لنا أن تجارب «شلي»
الخاصة في ممارسة الحب الحر (العيش عيش الأزواج
دون عقد شرعي) كانت مختلسةً وغير شرعية مثل تجارب
الزناة، وقد ورطته في مواقف معقدة كثيرة، وفي
سلسلة طويلة من الأكاذيب التي لا نهاية
لها.
نفس الشيء بالنسبة لتعاملاته المالية كانت معقدة
ومزعجة، وسوف أقدم أقصر تلخيص لها هنا.
من الناحية النظرية لم يكن «شلي» يؤمن بالملكية
الخاصة بالمرة، ناهيك عن الميراث والحقوق التي آلت
إليه؛ لأنه كان الابن الأكبر. لقد وضع مبادئه
الاشتراكية في «نظرة فلسفية للإصلاح»: «إن
المساواة في الملكية لا بد أن تكون النتيجة
النهائية لرفاهية الحضارة، إنها أحد شروط ذلك
النظام الاجتماعي، الذي يجب علينا أن نتجه نحوه،
مهما كان أملنا في النجاح.»
55 ولكن في نفس الوقت، كان من الضروري أن
يحافظ الأثرياء المستنيرون مثله على ثرواتهم
الموروثة؛ لكي يتابعوا القضية. وقد كان ذلك فيما
بعدُ تبريرًا ذاتيًّا مألوفًا وشائعًا في الواقع
بين المثقفين الثوريين الأغنياء، وقد استخدمه
«شلي» بقوة وبكل ما يستطيع؛ لكي يسحب المزيد من
المال من أسرته. ولسوء حظه، ها هو يقول متفاخرًا،
في أول رسالة له إلى معلمه «جودوين» وهو يقدم نفسه
إليه: «أنا ابن رجل ثري من «سسكس» … وريث ضيعة تدر
دخلًا، ستة آلاف جنيه في العام.»
56 ولا بد أن يكون ذلك قد جعل «جودوين»
يصيخ السمع جيدًا. لم يكن مجرَّد فيلسوف راديكالي،
وإنما كان عبقرية مالية مشوشة، وأحد كبار
المختلسين في التاريخ. ولأنه كان متمرسًا، فقد
اختفت مبالغ كبيرة من أموال كثير من أصدقائه حسني
النية في متاهات ديونه، ولم يظهر منها شيء.
ولذلك وضع يده على «شلي» الذي كان صغيرًا بريئًا
آنذاك ولم يتركه يفلت منه، لم يستولِ على أموال
عائلة «شلي» فقط، وإنما أفسده بكل وسائل الديون
التي كانت معروفة في أوائل القرن التاسع عشر،
وهكذا فإن نسبة كبيرة مما كان يكسبه ضاعت في غيابة
الجب الأسود ﻟ «جودوين»،
57 ولم تكن الخسارة المالية هي الضرر
الوحيد الذي لحق ﺑ «شلي» من جراء علاقته به، فقد
كانت «هاريت» على حق عندما اعتقدت أن الفيلسوف
الكبير كان قد جعل زوجها إنسانًا فظًّا وقاسيًا في
نواحٍ كثيرة، وعلى نحوٍ خاص فيما يتعلق بنظرته
للمال. روت أن «شلي» الذي كان قد تركها من أجل
«ماري» جاء لزيارتها، بعد أن وضعت ابنها «وليم»:
«قال إنه كان سعيدًا؛ لأنها ولدت طفلًا ذكرًا؛ لأن
ذلك يجعل الماضي أرخص.»
58
يقصد أنه كان بإمكانه أن يحصل على قرض نافذ
المفعول بعد الوفاة بمعدل فائدة منخفض، ولم تكن
تلك أفكار شاعر مثالي عمره ٢٢ سنة، وإنما أفكار
مدين محترف وداهية! ولم يكن «جودوين» مصاص الدماء
الوحيد في حياة «شلي»، كان هناك «لي هنت» المثقف
المتطفل أبدًا، بعد ذلك بربع قرن لخص «توماس
باينجتون ماكولي»، شخصية «هنت»، عندما كتب إلى
«نابير» محرر مجلة «أدنبرة ريفيو»، يقول إنه رد
على رسالة ﻟ «هنت»، وهو خائف بأن يصبح واحدًا من
الأشخاص الذين يبتزهم بطلب مبلغ ٢٠ جنيهًا كلما
أراد.
59
كان «هنت» قد بدأ نشاطه الطويل في الاقتراض في
زمن «شلي» مستخدمًا أسلوب «روسو» المجرَّب في
إقناع ضحاياه بأنه كان يسدي إليهم معروفًا
بالاقتراض منهم، وعندما مات «شلي» اتجه «هنت» إلى
«بيرون» الذي كان يعتقد أنه كان قد نهب «شلي»،
ولكنه للأسف كان قد صنع ما هو أسوأ من ذلك بإقناع
«شلي» بأن تسديد الديون بالنسبة للمفكرين الثوريين
مثلهما لم يكن ضرورة أخلاقية، فالعمل من أجل
الإنسانية في حد ذاته كان كافيًا.
60
وهكذا أصبح «شلي» رجل الحقيقة غشاشًا ومحتالًا
مدى الحياة. كان يقترض من كل مكان ومن كل أنواع
البشر، ولم يسدد معظم تلك المبالغ، ولم يكن الشاب
«دان هيلي» هو الأيرلندي الوحيد الذي احتال عليه
«شلي»، حيث اقترض مبلغًا كبيرًا من «جون لويس»
المحرر الجمهوري الذي كان صديقًا له في «دبلن»،
ولم يتحمل الرجل ضياع أمواله، وبعد رحيل «شلي» كتب
إلى «هوج» يسأل عنه، وكيف يجده؟ وبعد ذلك بوقت
قصير قُبض عليه بسبب الديون.
لم يحاول «شلي» أن ينقذه بتسديد دينه له، بل كان
يحتقره بسبب شكواه، فكتب إلى صديقة مشتركة في
«دبلن» اسمها «كاترين ناجيت»: «أخشى أن يكون قد
لعب عليك كما لعب علينا.»
61 والأسوأ من ذلك أن «شلي» وقَّع
كمبيالات في «لينموث» مستخدمًا اسمه، الأمر الذي
كان يُعتبر تزويرًا وجريمة كبرى.
62
احتال «شلي» أيضًا على مجموعة كبيرة من أهالي
«ويلز» عندما كان هناك. كان قد وصل في عام ١٨١٢م،
واستأجر مزرعة وبعض الخدم، ولكن سرعان ما أُلقي
القبض عليه بسبب تراكم الديون، وخرج بكفالة «جون
وليمز» وكيل أعماله ومغامراته والطبيب «وليم
روبرتس». أما الدَّين والمصاريف فقد تحملها محامٍ
من لندن اسمه «جون بدويل»، وقد ندم الثلاثة فيما
بعدُ على كرمهم، وفي سنة ١٨٤٤م أي بعد أكثر من
ثلاثين سنة، كان دكتور «روبرتس» ما زال يحاول
استرداد دينه لدى «شلي»، ولكن لا هو ولا شقيقه
«أوين» استطاعا الحصول على أي شيء، كما كان عنيفًا
ومتزمتًا مع أي شخص يقترض منه (باستثناء «جودوين»،
و«هنت»). فقد تلقى رجل أيرلندي آخر اسمه «جون
إيفانز» مطالَبتين بديون، يذكره فيهما «شلي» بأن
دينه كان نقدًا، ومعنى ذلك أنه كان «دين أمانة
وواجب السداد فورًا».
63 كان «شلي» مدينًا لتجار وباعة من كل
صنف، في أبريل ١٨١٧م اتفق هو و«هنت» على أن يدفعا
ثمن بيانو لشخص اسمه «جوزيف كيركمان»، الذي سلمهم
البيانو في موعده، ولكنه لم يحصل على ثمنه قبل
أربع سنوات. واتفق «شلي» مع «شارتر» صانع العربات
الشهير في «بوند ستريت» أن يصنع له مركبة تكلفت
٥٣٢ جنيهًا، كان يستخدمها حتى آخر يوم في حياته لم
يدفع ثمنها، وأخذه الصانع إلى المحكمة، وحتى سنة
١٨٤٠م كان يحاول أن يسترد حقه. كما استغل صانعي
وباعة الكتب الذين كانوا ينشرون له بالدين.
بدأ باقتراض مبلغ ٢٠ جنيهًا من «سلاتر» بائع
الكتب في «أكسفورد» عندما كان مطرودًا من الجامعة.
كان «سلاتر» معجبًا به، ويريد أن يحميه من جشع
المقرضين الآخرين، ولكن الذي حدث أن «شلي» أوقعه
في ورطة. في سنة ١٨٣١م كتب شقيق «سلاتر» إلى السير
«تيموثي» يقول: «لقد عانيت كثيرًا نتيجة تطوع مخلص
لإنقاذ ابنك من براثن اليهود؛ لكي يحصل منهم على
نقود بمعدل فائدة عالٍ، وضاع علينا مبلغ ١٣٠٠
جنيه.» وفي النهاية تم القبض على «سلاتر» وشقيقه؛
بسبب الدَّين الذي يبدو أن «شلي» لم يسدده.
صاحب مطبعة «واي بردج»، الذي نشر له كتابه
«ألاستور»، ظل يطالب «شلي» بحقوقه لمدة أربع سنوات
ونصف السنة دون جدوى، ولا يوجد دليل على أنه حصل
على شيء. وفي ديسمبر ١٨١٤م كتب «شلي» إلى ناشر
ثالث يقول: «إن استطعت أن تطبع الكتب، فسوف أعطيك
سندًا نافذ المفعول بعد الوفاة بقيمة ٢٥٠ جنيهًا
عن كل كتاب قيمته ١٠٠ جنيه.» وقال له: إن عمر
والده ٦٣ سنة، وجدِّه ٨٥ سنة، بينما كانا في
الحقيقة ٦١، ٨٣. وناشر آخر اسمه «توماس هوكهام»،
طبع له «الملكة ماب» بالدين وأقرضه مبلغًا، ولم
يسترد شيئًا. ولأنه كان متعاطفًا مع «هاريت» كان
«شلي» يكرهه ويحقد عليه، كتب إلى «ماري» في ٢٥
أكتوبر ١٨١٤م، يقول: «إذا التقيت «هوكهام» فلا
تهينيه علنًا، ما يزال عندي أمل، سوف أجعل ذلك
الشرير المتوحش يشمئز من لحمه … في الوقت المناسب،
سوف أمزقه في حينه، وأسحق كرامته، وأدمر روحه
الأنانية على مراحل.»
64
ما هو القاسم المشترك في ذلك كله؟ تصرفاته
الجنسية والمالية الشريرة، علاقته بوالده وأمه
وزوجاته وأطفاله وأصدقائه ومعارفه؟
من المؤكد أن العامل المشترك هو عدم القدرة على
رؤية وجهة نظر أخرى، أو باختصار: الافتقار إلى
الخيال! ولكن ذلك يبدو غريبًا، فالخيال يوجد في
صميم نظريته عن التجديد السياسي، والخيال عنده
مطلب من أجل إعادة صياغة العالم. وحيث إن الشعراء
هم الذين يملكون تلك الخاصية في أعلى درجاتها،
ولأن الخيال الشعري هو الإنجاز الأكثر قيمة،
والأعمق إبداعًا في كل الإنجازات البشرية؛ فإنه
يلقبهم ﺑ «مشرعي العالم الطبيعيين غير المعترف
بهم». وهنا يصبح هو شاعرًا وواحدًا من الشعراء
العظام، وقادرًا ربما على التعاطف الخيالي مع
طبقات بكاملها، العمال الزراعيين المسحوقين،
العمال الصناعيين الذين حطموا الآلات؛ لاعتقادهم
أنها سوف تؤدِّي إلى تناقص الطلب على الأيدي
العاملة، المتمردين في المصانع، ومع أناس لم يرَهم
في حياته. هنا يصبح قادرًا — في المطلق والمجرَّد
— على الإحساس بكل معاناة الإنسانية، ومع ذلك يجد
من المستحيل، مرة ومرات ومئات المرات، أن يخترق
بخيال عقول وقلوب مَن كان له بهم علاقة يومية! من
باعة الكتب إلى البارونيت (حاملو الرتب الشرفية أو
الألقاب الموروثة)، من الخادمات إلى السيدات …
ببساطة: لم يستطع أن يرى أن من حقهم أن يكون لهم
وجهة نظر مختلفة، وعندما كان يواجه بعنادهم
وتصلبهم كان يلجأ إلى البذاءة والسباب، وهناك خطاب
بتاريخ ٢١ مارس ١٨١٣م، كان قد أرسله إلى «جون
وليمز» يصور بكل دقة محدودية خياله.
يبدأ خطابه بهجوم لفظي على «بدويل»، سيئ الحظ،
ويواصل هجومه العنيف على التعيسة «مس هيتشنر»:
«امرأة ذات أفكار يائسة وعواطف مرعبة، وميل إلى
الثأر … لقد ضحكتُ ملء شدقي يوم محنتها.» وينهي
خطابه بنداء إلى الإنسانية: «أنا على استعداد لأن
أفعل أي شيء من أجل وطني، ومن أجل أصدقائي
لخدمتهم.» كان ذلك هو «وليمز» أثناء عملية خداعه،
والذي سوف يتحول قريبًا إلى دائن آخر …
مسكين.
65
لقد كرس «شلي» حياته للتقدم السياسي، مستخدمًا
موهبته الشعرية الكبيرة، دون أن يعي افتقاره لعنصر
الخيال، ولم يحاول أن يحسن ذلك باكتشاف حقائق عن
فئات البشر الذين كان يريد أن يساعدهم. وقد كتب
«خطاب إلى الشعب الأيرلندي»، حتى قبل أن تطأ قدمه
أرض البلاد، وعندما وصل إلى هناك لم يبذل أي جهد
منظم لبحث الظروف، أو لمعرفة ماذا كان الأيرلنديون
يريدون بالفعل.
66 كان يخطط سرًّا لتدمير العقيدة التي
يريدونها. كذلك فإن «شلي» ظل جاهلًا بالسياسة
الإنجليزية، وبالرأي العام وبالطبيعة اليائسة
للمشكلات التي كانت تواجه الحكومة في مرحلةٍ ما
بعد «ووترلو»، وبجدية الجهود المبذولة لحلها. لم
يحاول أبدًا أن يحيط نفسه علمًا، أو أن ينصف
رجالًا حَسني القصد مثل «كاستلريغ»، و«السير روبرت
بيل»، وتحديدًا عن طريق ذلك الخيال الذي كان يقول
بضرورته. كان بدلًا من ذلك يحتقرهم في «قناع
الفوضى»، بالضبط كما كان يحتقر دائنيه، ويهين
نساءه في خطاباته.
كان «شلي» بوضوح يريد تحولًا سياسيًّا كاملًا في
المجتمع، بما في ذلك تدمير الدين، ولكنه كان لا
يعرف السبيل إلى ذلك. كان ينادي في وقتٍ ما
باللاعنف. وهناك مَن يرى أنه كان أول إيفانجلست
(مبشر بروتستانتي) حقيقي للمقاومة السلمية، أول
سلف ﻟ «غاندي».
67 كتب في الخطاب الأيرلندي: «ليس هناك
ضرورة للقوة أو العنف. الجمعيات التي تشجع على ذلك
معرَّضة لأقوى رفض من قِبل أي مصلح حقيقي … وجميع
الجمعيات السرية رديئة.»
ولكن «شلي» كان يفكر أحيانًا في تنظيم كيانات
سرية، وبعض شِعره يعني أو يدل على تحريض من أجل
العمل المباشر. و«قناع الفوضى» نفسه متناقض،
مقطوعة منه (السطور من ٣٤٠–٣٤٤) تؤيد اللاعنف.
ولكن أهم وأشهر مقطوعة، التي تنتهي ﺑ «أنتم كثرة
وهم قلة»، والتي تتكرر أكثر من مرة، هي دعوة
للعصيان المسلح.
68
«بيرون» الذي كان ثوريًّا مثل «شلي» ورجلَ
أفعالٍ أكثرَ منه مثقفًا، لم يكن يؤمن بتحويل
المجتمع بالمرة، وإنما بتقرير المصير فقط، ولذلك
كان متشككًا في يوتوبيا «شلي». وفي قصيدة «شلي»
الجميلة «جوليان ومادالو» والتي تسجل أحاديثهما
الطويلة في «فينيسيا»، يقول «بيرون» على لسان
«مادالو» عن البرنامج السياسي ﻟ «شلي»: «أعتقد أنك
لا بد أن تجعل نظامًا كهذا عصيًّا على الدحض، وعلى
قدر ما تقول الكلمات.» ولكن من الناحية العملية،
فإن تلك النظريات المتمناة كانت «عبثًا»، وهذه
القصيدة التي تعود إلى سنة ١٨١٨-١٨١٩م، والتي
يعترف فيها «شلي» بنقد «بيرون»، تعتبر وقفة في
أصوليته السياسية المتهورة.
كان «شلي» يقترب من «بيرون» بتواضع شديد … «لا
يمكن أن أكون ندًّا للورد «بيرون» مهما حاولت، ولا
أحد سواه يستحق أن يكون كذلك … إن كل كلمة من
كلماته متسمة بالخلود». وفي مرحلةٍ ما كانت قوة
«بيرون» تكاد تصيبه بالشلل. «لقد أطفأت الشمس سراج
الليل» كما قال.
ومن المؤكد أن معرفة «بيرون» كان لها تأثير نضج
على «شلي»، ولكن على العكس من «بيرون» الذي بدأ
يرى دوره كمنظم للشعوب المظلومة (الإيطاليين ثم
اليونانيين)، فإن «شلي» بدأ يتجه ضد العمل المباشر
مهما كان نوعه. وواضح أنه في نهاية حياته، أصبح
ينتقد «روسو» الذي كان يربط بينه وبين التجاوزات
الرهيبة للثورة الفرنسية. وفي قصيدته غير المكتملة
«انتصار الحياة» يقدم لنا «روسو» كشخصية روائية من
شخصيات «فرجيل» يقدمه سجينًا في المطهر؛ لأنه
ارتكب خطأ الاعتقاد بأن المثل الأعلى يمكن أن
يتحقق في الحياة، وبذلك فسد. إلا أنه ليس من
الواضح بالمرة أن «شلي» كان ينكر السياسة العملية؛
لكي يركز على المثالية البحتة للخيال.
69
والثابت أنه في نهاية حياته، في الشهور الأخيرة
قبل موته لم يكن هناك أي تغير رئيسي في
شخصيته.
«كلير كليرمونت» التي عمَّرت إلى ما بعد
الثمانين، كتبَت بعد ستين عامًا من تلك الأحداث
تقول: «إن انتحار «هاريت» كان ذا أثر مفيد على
«شلي»، فقد أصبح أقل ثقة في نفسه، وأقل وحشية عن
ذي قبل.»
70 وربما كان ذلك صحيحًا، رغم أن «كلير»
كانت ترصد الأحداث بعد تلك المسافة الزمنية
الطويلة، فعلًا أصبح «شلي» أقل تمركزًا حول ذاته
بعنف، ولكن التغيير كان تدريجيًّا، واكتمل عند
موته. وفي ١٨٢٢م بنى هو و«بيرون» لأنفسهما قاربين
«دون جوان»، و«بوليفار»، وكانت فكرة الإبحار
مستحوذة على «شلي» على نحوٍ خاص، ولذلك صمم على
استئجار منزل في الصيف في «ليريسي» على خليج
«سبيزيا». «ماري» التي كانت حاملًا مرة أخرى كانت
تكره المنزل؛ لأنه لم يكن دافئًا، كان الاثنان قد
بدآ في التباعد، وكانت هي قد بدأت تتحرر من الوهم،
كما سئمت حياتهما غير الطبيعية في المنفى. هذا إلى
جانب تهديد جديد. كان «شلي» يبدي اهتمامًا شديدًا
بزوجة «إدوارد وليمز» رفيقه في الإبحار، والذي كان
يعمل في شركة الهند الشرقية، وكان متزوجًا من
«جين» بعقد عرفي. كانت «جين» عازفة جيتار، وتغني
بصوتٍ جميل (مثل
«كلير»)، الأمر
الذي كان يفتن «شلي» لدرجةٍ كبيرة. وكانت هناك
حفلات سمر موسيقية كثيرة في ضوء القمر … وكتب
«شلي» قصائد كثيرة أيضًا لها وفيها!
هل كانت «ماري» تشعر بأن هناك محاولة لإحلال
أخرى محلها، كما فعلت هي مع «هاريت» قبل
ذلك؟
في ١٦ يونيو، وكما كانت «ماري» تخشى، أجهضت،
ومرة أخرى أصابها اليأس. وبعد يومين كتب «شلي»
رسالة يوضح فيها أن زواجهما كان قد اقترب من
نهايته فعلًا: «أشعر فقط بالحاجة إلى أولئك الذين
يشعرون بي ويفهمونني … و«ماري» ليست كذلك.
وربما كان ذلك ضروريًّا لكي أزيح عنها ما يؤلمها
من أفكار، إنها لعنة «تانتالوس»، أن يكون شخصًا
بمثل تلك الطاقات الممتازة والعقل الذكي، ولا يثير
الشفقة الضرورية للحياة الأسرية.» ويضيف: «أحب
«جين» أكثر وأكثر، لديها ذوق موسيقي، ولها شكل
جميل يعوضان إلى حدٍّ ما رهافتها
الأدبية.»
71
وبنهاية الشهر كان قد تأكد لها أنها لا يمكن أن
تتحمل مرارة المنزل، ولا وضعها أكثر من ذلك. كتبَت
تقول: «أتمنى أن أحطم قيودي وأغادر هذه
الزنزانة.»
72
وحصلت على حريتها بطريقةٍ مأسوية غير متوقعة،
كان «شلي» مفتونًا بالسرعة، ولو أنه عاش في القرن
العشرين، فلربما كان قد أصبح مجنونًا بالسيارات
السريعة والطائرات، إحدى قصائده «ساحرة الأطلسي»،
ترنيمة لمتعة السفر في الفضاء. كما أن قاربه «دون
جوان»، صُمم لكي يتحرك بسرعة، وطلب تعديله لزيادة
سرعته. كان طوله ٢٤ قدمًا، وله شراعان رئيسيان.
وقد أضاف هو و«وليمز» تعديلات على الشراع لزيادة
السرعة، فأصبح يبحر «مثل الساحرة».
73
كان «شلي» و«وليمز» عائدين من «ليفورنو»
بالقارب، بعد أن تم تعديله في «ليريسي»، انطلقا في
البحر بعد ظهر يوم ٨ يوليو ١٨٢٢م، وكان الطقس غاية
في السوء. وعندما هبت عاصفة عاتية في السادسة
والنصف، كانت كل السفن والقوارب الإيطالية المحلية
قد عادت إلى الميناء. قال قائد إحداهما إنه شاهد
قارب «شلي» وسط الأمواج بكامل أشرعته، ودعاهما
للانتقال إلى قاربه لتقصير المسافة؛ «وإلا فسيكون
مصيركما الهلاك»، ولكن أحد الرجلين — ربما «شلي» —
قال «لا»، ورآه وهو يمسك رفيقه من ذراعه؛ لكي
يمنعه من خفض الشراع. وابتعد «دون جوان» قرابة
عشرة أميال من الشاطئ … وغرق الاثنان.»
74
كان «كيتس» قد مات في العام السابق في «روما»
بالسل، و«بيرون»، أدماه أطباؤه حتى الموت بعد
عامين في اليونان. وهكذا انتهت مرحلة ساطعة في
تاريخ الأدب الإنجليزي. و«ماري» أخذت «بيرسي»
الصغير — بارونيت المستقبل، (كان تشارلز قد مات) —
إلى «إنجلترا» … وبدأت بصبر في إقامة نصب تذكاري
لذكرى «شلي»، ولكن الندوب بقيت.
لقد رأت الجانب غير المستحب من الحياة الذهنية،
وشعرت بقوة الأفكار عندما تجرح.
عندما رأى أحد الأصدقاء الطفل «بيرسي»، وهو
يتعلم القراءة قال: «أنا متأكد أنه سيكون إنسانًا
غير عادي»، ولكن «ماري شلي» ردت منزعجة: «أدعو
الله أن يكون عاديًّا.»