الفصل الثالث
«ماركس»: نباح اللعنات الكبرى!
تأثير «ماركس» على الأحداث، وعلى عقول الرجال
والنساء في العصر الحديث أكبر من تأثير أي مثقف
آخر، وليس سبب ذلك في الأساس هو جاذبية مفاهيمه
ومنهجه، رغم ما فيهما من جاذبية بالنسبة لأصحاب
العقول المفتوحة، وإنما لأن فلسفته قد تأسست في
اثنتين من أكبر دول العالم: «روسيا» و«الصين»
وتوابعهما. وبهذا المعنى فإن «ماركس» يشبه القديس
«أوغسطين»، الذي كانت كتاباته منتشرة بين زعماء
الكنيسة من القرن الخامس إلى القرن الثالث عشر،
ومن ثم لعبت دورًا مسيطرًا في تشكيل مسيحية القرون
الوسطي. بيد أن تأثير «ماركس» كان أكثر مباشرة،
حيث إن نمط الدكتاتورية الشخصية التي تصورها لنفسه
— كما سنرى — قد تم تحقيقه بالفعل مع نتائج لا حصر
لها بالنسبة للبشرية، وذلك عن طريق أهم ثلاثة من
أتباعه: لينين، وستالين، وماوتسي تونج، وكل منهم —
بهذا الاعتبار — كان ماركسيًّا مخلصًا.
كان «ماركس» ابن زمنه، منتصف القرن التاسع عشر،
وكانت الماركسية نموذجًا لفلسفات القرن التاسع عشر
في زعمها أنها علمية، والعلمية كانت تعبير «ماركس»
المفضل، والذي كان يستخدمه لتمييز نفسه عن أعدائه
الكثيرين … هو علمي، أما هم فلا. كان يشعر أنه قد
وجد تفسيرًا علميًّا للسلوك الإنساني في التاريخ
يشبه نظرية التطور عند «دارون». وفكرة «أن
الماركسية علمٌ» لم ولن تستطيع أي فلسفة أخرى أن
تكون مثله متغلغلة في المبادئ العامة للدول التي
أنشأها أتباعه، لدرجة أنها تلون جميع موضوعات
الدراسة في المعاهد والجامعات. وقد تفشى ذلك حتى
في العالم غير الماركسي، حيث المثقفون
والأكاديميون منهم على نحوٍ خاص تستهويهم السلطة،
كما أن التوحيد بين الماركسية والسلطة الجماهيرية
قد أغرى كثيرًا من المعلمين أن يسمحوا بدخول «علم
الماركسية» إلى مجالات تخصصهم، خاصة تلك الموضوعات
غير الدقيقة، أو شبه الدقيقة؛ مثل الاقتصاد وعلم
الاجتماع والتاريخ والجغرافيا.
ومما لا شك فيه لو أن «هتلر»، وليس «ستالين»،
كان هو الذي قد كسب الصراع على أوروبا الوسطى
والشرقية في ١٩٤١–١٩٤٥م، وفرض إرادته على جزء كبير
من العالم، فإن الأفكار النازية التي كانت تدعي
العلمية أيضًا مثل نظريتها العرقية، كانت ستأخذ
البريق الأكاديمي، وتخترق أسوار الجامعات في جميع
أنحاء العالم، ولكن النصر العسكري أكد أن العلم
الماركسي، وليس النازي، هو الذي سوف يسود.
أول شيء يجب، أن نسأل عنه إذن هو: بأي معنًى —
إن كان هناك — كان «ماركس»، علميًّا؟ أو بعبارة
أخرى: إلى أي مدًى كان معنيًّا بالوصول إلى
المعرفة الموضوعية من خلال بحث وتقييم الدليل؟ من
الناحية الظاهرية، تكشف لنا سيرة حياة «ماركس» أنه
كان دارسًا في الأساس، وينحدر من أصول متعلمة من
جانبي الأب والأم.
الأب «هاينريش ماركس» محامٍ، كان اسمه الأصلي
«هيرشل هاليفي ماركس»، وهو ابن حاخام، وعالم
تلمودي من نسل الحاخام الشهير «أليعازر هاليفي»،
في «ماينز»، وكان ابنه «يهودا مينز» رئيسًا
للمدرسة التلمودية في «بادوا»، وأمه
«هنريتابرسبورك» كانت أيضًا ابنة حاخام ومن نسل
علماء وحكماء.
وُلد «ماركس» في «تراير»، (كانت أرضًا بروسية)
في ٥ مايو ١٨١٨م، أحد أطفال تسعة، ولكنه الولد
الوحيد الذي عاش إلى ما بعد منتصف العمر، تزوجت
أخواته على التوالي من مهندس، وبائع كتب، ومحام.
كانت الأسرة نموذجًا لأسرة من الطبقة المتوسطة
الصاعدة، الأب ليبرالي يوصف كرجل بأنه «فرنسي
حقيقي ينتمي للقرن الثامن عشر، ملم بأعمال «روسو»،
و«فولتير» على نحوٍ تام»،
1 وبسبب مرسوم بروسي صادر ١٨١٦م، كان
يَحرم اليهود من المناصب العليا في القانون والطب،
تحول إلى البروتستانتية، وفي ٢٦ أغسطس سنة ١٨٢٤م
عمد أبناءه الستة. تثبت «ماركس» في سن الخامسة
عشرة، ولفترة ما كان يبدو مسيحيًّا متحمسًا، درس
في مدرسة «جيزويت» سابقة، أصبحَت علمانية فيما
بعد، وفي جامعة «بون»، ومنها انتقل إلى جامعة
«برلين» أعظم جامعات العالم آنذاك. لم يتلقَّ أي
تعليم يهودي، أو حاول أن يحصل عليه، كما لم يُبدِ
أي اهتمام بأي قضايا يهودية،
2 وإن كان لا بد أن يقال: إنه كان يحافظ
على أسلوب معين يتميز به علماء التلمود؛ وهو الميل
إلى تكديس كم كبير من مواد نصف مهضومة، والتخطيط
لأعمال موسوعية لم تكتمل أبدًا، واحتقار شديد لغير
العلماء، وإصرار متطرف وعنف في التعامل مع العلماء
الآخرين. وكل أعماله في الواقع تتسم بسمات
الدراسات التلمودية، وهي بعامة إما تعليق على
أعمال الآخرين في مجاله، أو نقد لها.
أصبح «ماركس» طالبًا كلاسيكيًّا جيدًا، وفيما
بعدُ تخصص في الفلسفة على النحو الهيجلي السائد.
حصل على الدكتوراه، ولكن من جامعة «جينا»، التي
كانت أقل مستوًى من جامعة «برلين»، ويبدو أنه لم
يكن أبدًا على مستوى يؤهله للحصول على مركز
أكاديمي. وفي ١٨٤٢م عمل صحفيًّا مع
«دويتش-زيتونج»، وظل يحررها لمدة خمسة شهور، حتى
مُنعت في ١٨٤٣م، بعد ذلك كان يكتب ﻟ
«دويتش-فرانزوشي جاهر بوشر» وصحف أخرى في «باريس»،
حتى ترحيله في ١٨٤٥م، وبعد ذلك في «بروكسل». وهناك
تورط في تنظيم الرابطة الشيوعية، وكتب لها
المانفيستو في ١٨٤٨م، وبعد فشل الثورة أُجبر على
الرحيل (١٨٤٩م)، وهذه المرة سوف يستقر في «لندن»
إلى النهاية.
ولسنوات قليلة من ستينيات وسبعينيات القرن
التاسع عشر، تورط في نشاط سياسي ثوري — مرة أخرى —
مديرًا لمنظمة العمال الدولية، ولكنه كان يقضي
معظم وقته في لندن، وحتى وفاته في ١٤ مارس١٨٨٣م
(أي ٣٤ سنة) في المتحف البريطاني؛ بحثًا عن مادة
لعمله الكبير رأس المال، ومحاولة إعداده للنشر،
والذي رأي جزءًا منه سنة ١٨٦٧م من خلال الصحافة.
أما الثاني والثالث فقد تم تجميعهما من مذكراته
بواسطة رفيقه «فردريك إنجلز»، ونُشرا بعد
موته.
عاش «ماركس» إذن حياة طالب علم، وذات مرة كان
يشكو قائلًا: «أنا آلة محكوم عليها بالتهام
الكتب».
3 وبمعنًى أعمق لم يكن دارسًا ولا
عالمًا بالمرة. لم يكن مهتمًّا بالبحث عن الحقيقة،
وإنما بالمناداة بها. وفي شخصيته كانت هناك ثلاث
جدائل: الشاعر، الصحفي، المعلم الأخلاقي. وكانت كل
منها مهمة. هذه الجدائل مجتمعة، وبارتباطها
بإرادته الهائلة، جعلت منه كاتبًا وروائيًّا
هائلًا، ولكن لم يكن هناك أي شيء علمي عنه،
وبالأحرى كان غير علمي في كل الأمور.
كان الشاعر في «ماركس» أكثر أهمية مما هو مفترض
بوجهٍ عام، رغم أن خياله الشعري سرعان ما تم
استيعابه في رؤاه السياسية. بدأ كتابة الشعر في
صباه في موضوعين رئيسيين: حبه لابنة الجيران «جيني
فون وستفالين»، وكانت من أصل بروسي اسكتلندي،
وتزوجها في عام ١٨٤١م. الموضوع الثاني هو تدمير
العالم. كتب شعرًا كثيرًا، ثلاثة مجلدات من
المخطوطات التي كان يرسلها إلى «جيني»، ورثتها
ابنتهما «لورا»، واختفت بعد موتها في سنة ١٩١١م،
ولكن نسخًا من أربعين قصيدة بقيت، وتتضمن مأساة
شعرية بعنوان: «أولانين»، والتي كان «ماركس» يأمل
أن تكون «فاوست»، العصر الذي كان يعيش فيه.
كما نُشرت
قصيدتان في ٢٣ يناير ١٨٤١م في «برلين أثينايم»،
بعنوان: «أغنيات متوحشة».
والوحشية سمة مميزة لشعره مع تشاؤم كبير عن
الشرط الإنساني، والكراهية، والافتتان بالفساد
والعنف والانتحار، والتحالف مع الشيطان … «نحن
مكبلون بالأصفاد، محطمون، خاوون، خائفون، مسلسلون
إلى الأبد بصخرة الوجود» … هكذا كان يكتب «ماركس»
في شبابه … «نحن قردة إله بارد». هو نفسه كان
متقمصًا شخصية الإله؛ إذ يقول: «سوف أعوي بلعناتي
المدوية على البشرية»، وتحت سطح معظم أشعاره هناك
انطباعة أزمة عالمية عامة تتكون.
4
كان مغرمًا باقتباس عبارة «مفيستو فيليس» في
«فاوست» «جوته»: «كل ما هو موجود يستحق الهلاك»
واستخدمها على سبيل المثال في كراسة دعايته ضد
«نابوليون الثالث»، وقد ظلت تلك الرؤية الغامضة
لكارثة واسعة محدقة بالنظام القائم، ملازمة له
طوال حياته. هي موجودة في شعره، وهي خلفية البيان
الشيوعي في ١٨٤٨م، وهي قمة كتابه «رأس المال»
نفسه. وباختصار فإن «ماركس» من البداية للنهاية
كاتب أخروي (يؤمن بالآخرة وبالحساب)، ومن الملاحظ
مثلًا أنه ضمَّن المسودة الأصلية من الأيديولوجيا
الألمانية (١٨٤٥-١٨٤٦م) جزءًا يذكرنا بقصائده
يتناول القيامة: «عندما تلوح في السماء الأضواء
المنعكسة للمدن المحترقة، وعندما تتكون «الإيقاعات
السماوية» من أنغام المارسيلييز والكارمانيول
(أغنية شعبية اشتهرت أثناء الثورة الفرنسية) في
صحبة مدفع مدو، بينما تعلن المقصلة الوقت،
والجماهير الملتهبة تهتف، والوعي الذاتي مشنوق على
عمود النور.»
5 وهناك كذلك أصداء من «أولانين» في
البيان الشيوعي والبروليتاريا ترتدي عباءة
البطل.
6
كما تنبثق النغمة الرؤيوية للقصائد مرة أخرى في
حديث الفزع في ١٤ أبريل ١٨٥٦م: «التاريخ هو
القاضي، والبروليتاريا هي الجلاد – الرعب، المنازل
التي عليها علامة الصليب الأحمر، بلاغة الكوارث،
الزلزال، اللافا المنصهرة بينما تتشقق قشرة
الأرض.»
7
والفكرة
أن مفهوم «ماركس» ليوم القيامة، سواء في صيغته
الشعرية المتوهجة أو صيغته الاقتصادية النهائية،
هو رؤية فنية وليست علمية، وكانت دائمًا في ذهنه.
وكاقتصادي سياسي كان يعمل بالعودة إليها؛ بحثًا عن
الدليل الذي يجعلها حتمية، وليس انطلاقًا منها
كمعلومات تم تمحيصها بموضوعية. وبالطبع فإن العنصر
الشعري هو الذي يعطي فروض «ماركس» التاريخية ما
فيها من دراما وجاذبية، بالنسبة للقراء الثوريين
الذين يريدون أن يصدقوا أن موت الرأسمالية
وقيامتها قادمان. والموهبة الشعرية تتبدى في صفحات
«ماركس»، وتقدم لنا أجزاء لا تنسى، بمعنى أنه كان
يحدس أكثر مما كان يفكر أو يحسب. لقد ظل «ماركس»
شاعرًا حتى النهاية. ولكنه أيضًا كان صحفيًّا،
وأحيانًا صحفيًّا جيدًا. واكتشف «ماركس» أن
التخطيط لكتاب عمدة، ناهيك عن كتابته، ليس عملًا
صعبًا فقط، وإنما هو عمل مستحيل. حتى «رأس المال»
هو عبارة عن سلسلة من المقالات أدمجت في بعضها دون
بنية حقيقية، ولكنه كان أكثر قدرة على كتابة ردود
أفعال قصيرة وحادة وعنيدة عما يجري من أحداث. وكان
يعتقد، كما صور له خياله الشعري، أن المجتمع على
شفا حفرة من الانهيار، وعليه فإن أي خبر مهما كان
كبيرًا يمكن أن يطبق عليه هذا المبدأ، ويعطي
كتابته الصحفية تماسكًا مميزًا. في أغسطس ١٨٥١م
طلب «تشارلز أندرسون دانا» — أحد تلاميذ الاشتراكي
المبكر «روبرت أون»، والذي أصبح من كبار المسئولين
في «نيويورك ديلي تريبيون» — من «ماركس» أن يكون
المراسل السياسي للجريدة من أوروبا، ويكتب لهم
مقالين في الأسبوع لقاء جنيه إسترليني عن كل
مقال.
وعلى مدى السنوات العشر التالية قدم ماركس حوالي
خمسمائة مقال، كان «إنجلز» وراء ما يقرب من ١٢٥
منها. كانت تُستبدل وتعاد صياغتها في نيويورك،
ولكن الحجج القوية كانت ﻟ «ماركس»، وكان ذلك مكمن
قوتها.
والحقيقة
أنه كان موهوبًا كصحفي قادر على الجدل. كان ضليعًا
في استخدام «الإبجرام والأفورزم»،
١
⋆
ومعظمها لم يكن من اختراعه. فمثلًا: «مارات» هو
صاحب عبارتي: «العمال لا وطن لهم»، و«ليس لدى
البروليتاريا ما تخسره غير قيودها»، النكتة
الشهيرة عن البرجوازيين الذين يرتدون سترات من
الدروع الإقطاعية على جنوبهم، جاءت من «هيني».
وكذلك عبارة «الدين أفيون الشعوب»، «لوي بلانش» هو
صاحب عبارة «من كل حسب قدرته، ولكل حسب حاجته»،
ومن «كارل كاسبر» أخذ «يا عمال العالم اتحدوا»،
ومن «بلانكي»: «دكتاتورية البروليتاريا»، ولكن
«ماركس» كان أيضًا قادرًا على سك عباراته الخاصة
مثل: «في السياسة، الألمان فكروا بما فعلته الدول
الأخرى»، «الدين هو الشمس السرابية الوحيدة التي
يدور حولها الإنسان، إلى أن يبدأ الدوران حول
نفسه»، «زواج البرجوازية هو مجتمع الزوجات»،
الجسارة الثورية التي تصرخ في وجه متحديها: «أنا
لا شيء، ولا بد أن أكون كل شيء»، «الأفكار الحاكمة
لكل كانت دائمًا أفكار الطبقات الحاكمة».
وإلى جانب ذلك كله كانت لدى «ماركس» موهبة نادرة
في اقتباس أقوال الآخرين أو الإشارة إليها،
واستخدامها في الموضع المناسب في الجدل وفي
التوقيت القاتل، فقد بزَّ جميع الكتاب السياسيين
الآخرين في العبارات الثلاث الأخيرة من البيان
الشيوعي: «ليس لدى العمال ما يخسرونه سوى قيودهم»،
«أمامهم عالم كامل لكي يربحوه»، «يا عمال العالم
اتحدوا». إن عين «ماركس» الصحفية الحادة والتقاطها
للعبارات البليغة القصيرة هي التي أنقذت فلسفته
كلها من النسيان في الربع الأخير من القرن التاسع
عشر أكثر من أي شيء آخر. ولكن إذا كان الشعر قد
مدَّه بالرؤية، وإذا كانت العبارات الصحفية
المحكمة علامات بارزة في أعماله، إلا أن الثقل كله
كان في الرَّطانة الأكاديمية.
«ماركس» كان أكاديميًّا أو بالأحرى — وهذا أسوأ
— أكاديميًّا فاشلًا، هو معلم محبط كان يود أن
يدهش العالم بإيجاد مدرسة فلسفية جديدة، وكانت تلك
أيضًا خطة عمل أُعدت لكي تمنحه القوة، ومن هنا
موقفه من «هيجل» الذي يتسم بالتكافؤ الضدي. في
تقديمه للطبعة الألمانية الثانية من «رأس المال»
يقول «ماركس»: «أعلنت نفسي بصراحة تلميذًا لذلك
المفكر العظيم، ولعبت باستخدام المصطلح الهيجلي،
وأنا أناقش نظرية القيمة في «رأس المال».»، ولكنه
يقول إن «نظريته الخاصة في الجدل» تتناقض مباشرة
مع «نظرية هيجل».
بالنسبة ﻟ «هيجل» فإن عملية التفكير هي التي
تخلق الواقع، بينما «في رأيي من جانب آخر أن
المثال ليس أكثر من المادة عندما تنتقل وتترجم
داخل رأس الإنسان». ومن هنا يقول: «في كتابات
«هيجل» يقف الديالكتيك على رأسه، لا بد أن تقلبه
إلى الوضع الصحيح مرة أخرى، إذا كنت تريد أن تكتشف
الجوهر المنطقي المخبأ في طيات الغموض.»
8
بعد ذلك كان «ماركس» يبحث عن الشهرة من خلال ما
تراءى له أنه اكتشافه المثير للخطأ القاتل في منهج
«هيجل»، والذي مكَّنه من أن يأتي بفلسفة جديدة
بديلة له، بل وفلسفة متفوقة ستجعل كل الفلسفات
الموجودة في ذمة التاريخ، ومع ذلك استمرَّ في
قبوله بأن الديالكتيك الهيجلي كان هو «مفتاح الفهم
الإنساني»، ولم يستخدمه فقط، وإنما ظل أسيرًا له
حتى آخر العمر؛ وذلك لأن الديالكتيك «وتناقضاته»
كان يفسر الأزمة العالمية، والتي كانت جوهر رؤيته
الشعرية في صباه. وكما كتب في نهاية حياته (١٤
يناير ١٨٧٣م): «إن دورات العمل تعبِّر عن
التناقضات الكامنة في المجتمع الرأسمالي»، وسوف
تؤدِّي إلى «نقطة الذروة في هذه الدورات وهي
الأزمة العالمية»، وذلك سوف «يقرع طبول التناقضات»
حتى في رءوس «محدثي النعمة في الإمبراطورية
الألمانية الجديدة».
ماذا كانت علاقة أي من ذلك بسياسة واقتصاد
العالم الحقيقي؟ لا شيء بالمرة. وتمامًا مثلما كان
أصل فلسفة «ماركس» كامنًا في رؤاه الشعرية، فإن
التمادي فيها كان تدريبًا على الرطانة
الأكاديمية.
وفي الحقيقة فإن الذي كان وراء إطلاق حركة
«ماركس» العقلية هو النبض الأخلاقي، وقد وجد ذلك
في كراهيته للربا والمرابين، وشعور عاطفي له صلة
مباشرة — كما سنرى — بصعوبات شخصية. وقد ظهر ذلك
في كتاباته الجادة الأولى في مقالَين بعنوان «في
المسائل اليهودية»، نشرهما سنة ١٨٤٨م في «دويتش
فرانزوسش جاهر بوشر». كان تابعو «هيجل» جميعًا
وبدرجات مختلفة معادين للسامية، وفي سنة ١٨٤٣م نجد
أن «برونو باور» أحد الزعماء المعادين للسامية في
اليسار الهيجلي، قد نشر مقالًا يطلب فيه من اليهود
أن يتخلوا عن اليهودية تمامًا. كانت مقالات
«ماركس» ردًّا على ذلك، لم يعترض على معاداة
«باور» للسامية، وإنما في الواقع كان يشاركه فيها،
دعمها، وكان يقتبس منها عن اقتناع، ولكنه كان
يختلف معه في أسلوب الحل، رفض «ماركس» اعتقاد
«باور» أن الطبيعة غير الاجتماعية لليهود أساسها
ديني، وأن العلاج هو نزع اليهودي من عقيدته.
«ماركس» يرى أن الشر أساسه اجتماعي واقتصادي. كتب:
«فلنأخذ مثلًا اليهودي العادي، وليس يهودي السبت …
بل يهودي كل يوم»، والذي كان يسأل عنه هو «المبدأ
الأساسي لليهودي؟ الحاجة العملية … المصلحة
الشخصية … ما العبادة الدنيوية لليهودي؟ البيع
بالتجزئة. مَن هو إلهه الدنيوي؟ المال»، واليهود
هم الذين نشروا هذا الدين العملي تدريجيًّا في كل
المجتمع: «المال هو الإله الضنين لإسرائيل ولا إله
غيره، المال يذل كل آلهة البشر، ويحولهم إلى سلع
كمالية، المال هو القيمة المكتفية بذاتها بين كل
الأشياء، ومن هنا فقد حرم كل العالم الإنساني
والطبيعي من قيمهما الصحيحة، المال هو جوهر عمل
الإنسان ووجوده، الجوهر الذي يسيطر عليه … ولذلك
يعبده. إله اليهود تمت علمنته ليصبح إله العالم
أجمع.»
اليهودي أفسد المسيحي، وأقنعه بأنه «ليس أمامه
إلا أن يكون أغنى من جيرانه، وهذا أقل شيء»، وأن
«العالم بورصة أوراق مالية»، وأن السلطة السياسية
أصبحَت عبدًا «السلطة رأس المال … ومن هنا فالحل
اقتصادي. و«يهودي المال» قد أصبح العامل
اللااجتماعي في العصر الحديث»، ولكي نجعل «اليهودي
مستحيلًا» لا بد من القضاء على «الشروط المسبقة»،
و«إمكانية» نوع النشاط المالي الذي تنتجه، اقضِ
على توجه اليهودي نحو المال، وسوف يختفي اليهودي
ودينه، والصورة الفاسدة للمسيحية التي فرضها على
العالم: «بتحرير نفسه من البيع بالتجزئة ومن
المال، وبالتالي من اليهودية الحقيقية والعملية
فإن عصرنا سوف يحرر نفسه».
9
وعليه فإن تفسير «ماركس» لما هو خطأ في العالم
كان مزيجًا من أفكار طلاب المقاهي في معاداة
السامية، وأفكار «روسو»، وقد وسع ذلك في فلسفته
المتطورة على مدى السنوات الثلاث التالية
(١٨٤٤–١٨٤٦م) حيث وصل إلى أن عامل الشر في المجتمع
لم يكن متمثلًا في عملاء سلطة المال الربوية التي
تمرد عليها اليهود فقط، وإنما في الطبقة
البرجوازية ككل.
10 ولكي يفعل ذلك كان عليه أن يفيد بتوسع
من ديالكتيك «هيجل». في جانب كانت هناك سلطة
المال، الثروة، رأس المال، أدوات الطبقة
البرجوازية، وفي جانب آخر هناك البروليتاريا،
القوة الافتدائية الجديدة، والجدل معبر عنه
بالأسلوب الهيجلي الصارم، وباستخدام كل المصادر
المعتبرة في الرطانة الفلسفية الألمانية، وبأسوأ
جوانبها الأكاديمية، رغم أن النبض التحتي واضح أنه
أخلاقي والرؤية النهائية شعرية.
وهكذا: فإن الثورة قادمة، وستكون فلسفية في
ألمانيا: «عالم لا يستطيع أن يتحرر دون أن يحرر
نفسه من العوالم الأخرى، والذي هو باختصار فقدان
كامل للإنسانية التي تستطيع أن تحرر نفسها بالخلاص
من الإنسانية. هذا الذوبان للمجتمع كطبقة هو
البروليتاريا.»
ويبدو أن ما يريد «ماركس» قوله هو أن
البروليتاريا، الطبقة التي ليست طبقة، والتي هي
ذوبان أو انصهار الطبقة، والطبقات هي قوة تحررية
بلا تاريخ، وليست خاضعة للقوانين التاريخية، بل
إنها تنهي التاريخ تمامًا في نفسها.
والغريب أن هذا مفهوم يهودي جدًّا … عندما تكون
اليهودية هي المسيح أو المخلص. والثورة تتكون من
عاملين: «الفلسفة هي رأس التحرر والبروليتاريا هي
القلب»، وهكذا فإن المثقفين سيشكلون الصفوة:
الجنرالات، أما العمال فهم الجنود المشاة.
وبعد أن عرَّف الثورة بأنها سلطة المال اليهودي
التي استشرت في الطبقة البرجوازية ككل، وعرَّف
البروليتاريا بهذا المعني الفلسفي الجديد، يتقدم
«ماركس» نحو القلب من فلسفته مستخدمًا الديالكتيك
الهيجلي، الأحداث التي سوف تؤدِّي إلى الأزمة
الكبرى.
الجزء الرئيسي ينتهي هكذا: «تقوم البروليتاريا
بتنفيذ الحكم الذي حكمت الملكية الخاصة على نفسها
به بأن خلقت البروليتاريا، كما تنفذ الحكم الذي
نطق به العمل الأجير على نفسه بجلب الثروة للآخرين
والبؤس لنفسه، وإذا انتصرت البروليتاريا؛ فإن ذلك
لا يعني أنها تصبح الوجه النهائي للمجتمع، حيث
إنها تعتبر منتصرة فقط بالقضاء على نفسها وعلى
نقيضها. حينذاك تختفي البروليتاريا هي ونقيضها
النهائي … الملكية الخاصة.»
هكذا ينجح «ماركس» في تحديد الحدث الزلزالي الذي
كان قد تراءى له بداية كرؤية شعرية، ولكن التعريف
يجيء بمصطلحات أكاديمية ألمانية. وهو في الحقيقة
ليس له أي معنى بالنسبة للعالم الحقيقي خارج قاعات
الدرس بالجامعة.
حتى عندما ينتقل «ماركس» إلى تسييس الأحداث،
فإنه يواصل استخدام نفس الرطانة الفلسفية «لا يمكن
أن تتحقق الاشتراكية دون ثورة، وعندما يبدأ النشاط
المنظم، عندما تظهر الروح، الشيء نفسه، حينئذٍ
يمكن للاشتراكية أن تسقط جميع الأقنعة
السياسية.»
كان «ماركس» نموذجًا فيكتوريًّا حقيقيًّا. كان
يؤكد على كلمات كثيرة، ويضع الخطوط تحتها كما كانت
تفعل الملكة «فيكتوريا»، في رسائلها، ولكن وضع
خطوط تحت كلمات بعينها بغرض تأكيدها لا يساعد
كثيرًا في الواقع على توصيل معانيه التي تظل غارقة
في غموض مفاهيم الفلسفة الألمانية الأكاديمية.
ولكي يفرض آراءه يلجأ إلى تضخيم معتاد مؤكدًا على
الطبيعة الكونية للعملية التي يصفها، وهنا أيضًا
تقف الرطانة حجر عثرة. وهكذا فإن «البروليتاريا
يمكن أن توجد فقط من الناحية التاريخية، مثل
الشيوعية، ويمكن أن يكون لأفعالها وجود تاريخي
فقط»، أو «الشيوعية ممكنة فقط من الناحية
الإمبيريقية كسلوك للناس المسيطرين معًا، وفي نفس
الوقت، والذي يفترض التطور الشامل للقوى المنتجة
والتجارة العالمية التي تعتمد عليها»، إلا أنه حتى
عندما يكون المعنى واضحًا عند «ماركس» لا تكون
لأقواله أي درجةٍ من الصحة، وهي ليست أكثر من آراء
فيلسوف أخلاقي. غير ملزمة».
11 وبعض العبارات التي ذكرتها سوف تبدو
معقولة أو غير معقولة وبنفس الدرجة، لو أننا
حورناها قليلًا؛ لكي تجعلها تقول العكس.
أين إذن الحقائق والأدلة المستمدة من عالم
الواقع، التي يمكن أن تحول تلك العبارات التنبؤية
لفيلسوف أخلاقي، وتلك الرؤى إلى علم؟ «ماركس» كان
لديه موقف متكافئ الضدية من الأفكار، كما كان
بالنسبة لفلسفة «هيجل» فهو من ناحيةٍ قضى عقودًا
كاملة من الزمن يكدس حقائق كثيرة تجمعت لديه في
أكثر من مائة دفتر كبير، ولكنها الحقائق
والمعلومات الموجودة في المكتبات، حقائق الكتب
الزرقاء، أما الحقائق التي لم يكن ليهتم بها، فهي
تلك التي كانت تُكتشف بفحص العالم والناس الذين
يعيشون فيه بعينه وبأذنه. كان مقيدًا بالمكتب …
وبشدة. لا شيء في الدنيا كان يزحزحه من المكتبة أو
قاعة الدرس. اهتمامه بالفقر والاستغلال يعود إلى
خريف ١٨٤٢م عندما كان في الرابعة والعشرين، وكتب
سلسلة المقالات القوانين التي تنظم حق المزارعين
المحليين في جمع الأخشاب. وكما يقول «إنجلز» فإن
«ماركس» أخبره أن: «كانت دراسته للقانون الخاص
بسرقة الأخشاب، وأبحاثه عن الفلاحين المعدمين هي
التي حوَّلت اهتمامه من السياسة المجرَّدة إلى
الظروف الاقتصادية، ومن ثم إلى
الاشتراكية»،
12 ولكن لا يوجد دليل على أن ماركس تكلم
فعلًا مع الفلاحين وملاك الأراضي، ونظر إلى الظروف
مباشرة، ثم كتب في عام ١٨٤٤م مقالًا للمجلة
الأسبوعية المالية «فوروارد» عن الأحوال السيئة
لعمال نسيج الكتان في «سيليسيا»، ولكنه لم يذهب
أبدًا إلى «سيليسيا»، أو تكلم — على قدر علمنا —
مع أي من العمال من أي صنف، ولو أنه فعل شيئًا من
هذا القبيل، لكان ذلك ضد طبيعته.
كتب «ماركس» عن المال وعن الصناعة طوال حياته،
ولكن جميع معارفه في عالم المال والصناعة كانوا
شخصين؛ أحدهما خاله في هولندا، واسمه «ليون
فيلبس»، وهو رجل أعمال ناجح أسس ما عُرف فيما بعدُ
باسم «شركة فيلبس الكهربائية» الضخمة، وكان من
الممكن أن تكون أفكار الخال «فيلبس» عن مجمل
العملية الرأسمالية مفيدة ومثيرة لو كان «ماركس»
قد حاول أن يستكشفها. ولكنه استشاره مرة واحدة في
شأن فني من الناحية المالية، ورغم أنه زار «فيلبس»
أربع مرات إلا أن ذلك كان بخصوص أمور مالية تخص
الأسرة.
الرجل الثاني العليم بأمور المال والصناعة كان
«إنجلز» نفسه، ولكن «ماركس» رفض دعوته ليرافقه في
زيارة لمصنع نسيج أقطان، وعلى قدر علمنا أيضًا فإن
قدمي «ماركس» لم تطآ مصنعًا أو منجمًا، أو أي مكان
عمل آخر طوال حياته. أما الأمر الأكثر إثارة من
ذلك كله، فهو عداء «ماركس» للرفاق الثوار من أصحاب
تلك التجارب، أي العمال الذين أصبحوا على وعي
سياسي. لقد التقى بأمثال هؤلاء لأول مرة فقط في
سنة ١٨٤٥م أثناء زيارة قصيرة ﻟ «لندن»، حضر فيها
اجتماعًا للجمعية التعليمية للعمال الألمان، لم
يعجبه ما رآه، كان الناس الذين التقاهم عمالًا
مهرة (فني ساعات، طباعين، صانعي أحذية)، وكان
رئيسهم أحد عمال الغابات. علَّموا أنفسهم بأنفسهم،
وكانوا منظمين وقورين مهذبين، معارضين للبوهيمية،
متحمسين لتغيير المجتمع، ولكن بخطوات هادئة تقودهم
نحو الهدف النهائي.
لم يشاركوا «ماركس» رؤيته الخيالية، والأهم من
ذلك كله أنهم لم يكونوا يتكلمون بنفس رطانته
الأكاديمية، كان ينظر إليهم باحتقار … إنهم علف
مدافع الثورة … ولا أكثر!
كان «ماركس» يفضل دائمًا أن تكون صلاته بمثقفي
الطبقة المتوسطة مثله، عندما أسس هو و«إنجلز»
الرابطة الشيوعية، ثم عندما أسسا «الدولية» حرص
على استبعاد اشتراكي الطبقة العاملة من المراكز
المؤثرة، وأن يكونوا في اللجان مجرَّد شكل
«بروليتاري» قانوني.
كان دافعه لذلك في جزء منه تنفجًا فكريًّا،
والجزء الآخر أن الأفراد من ذوي الخبرة العملية
بأحوال المصانع كانوا لا يحبذون العنف، ويميلون
إلى تحسين الأحوال تدريجيًّا. كانوا متشككين عن
دراية في الثورة النهائية التي كان يزعم أنها
حتمية، وليست ضرورية فقط. كانت هجمات «ماركس»
العنيفة موجهة إلى أناس من هذا النوع، وهكذا نجده
في مارس ١٨٤٦م يقدم «وليم ويتلنج» لنوع من
المحاكمة أمام اجتماع للرابطة الشيوعية في
«بروكسل». كان «ويتلنج» هذا ابنًا غير شرعي لامرأة
غسالة، ولا يعرف اسم والده، وكان قد تعلم مهنة
خياطة الملابس، واستطاع بالكدح والعصامية أن يحظى
بثقة عدد كبير من العمال الألمان. كان هدف
المحاكمة هو الإصرار على «سلامة» النظرية، وإخماد
أي صوت طالع من بين الطبقة العاملة يفتقر إلى
العلم الفلسفي، الذي كان يراه «ماركس» ضروريًّا.
كان هجوم «ماركس» على «ويتلنج» غير عادي في
عدوانيته، قال «ماركس» إنه كان مذنبًا لقيامه
بالتهييج دون علم! وكان ذلك مقبولًا في روسيا
البربرية حيث «كان يمكن بناء اتحادات من الشبان
والحواريين الأغبياء، بينما في بلد متحضر مثل
ألمانيا لا بد أن تعلم أن لا شيء يمكن أن يتحقق
دون نظريتنا»، ثم «إذا حاولت إغراء العمال، خاصة
العمال الألمان دون نظرية ودون أفكار علمية واضحة؛
فإنك تقوم بلعبة دعائية فارغة ولا أخلاقية ولن
تسفر في النهاية إلا عن ملهم يقف في جانب، وفي
الجانب الآخر مجموعة من الحمير تستمع إليه فاغرة
أفواهها.»
وكان رد «ويتلنج» إنه لم يصبح اشتراكيًّا؛ لكي
يتعلم نظريات تم صنعها في المكتبات. كان يتكلم
نيابة عن عمال حقيقيين، ولن يستسلم لآراء منظرين
بعيدين كل البعد عن معاناة العمال.
ويقول شاهد عيان إن ذلك «أغضب «ماركس» جدًّا،
لدرجة أنه خبط بقبضته على الطاولة بقوة أدَّت إلى
اهتزاز المصباح، وقفز واقفًا وهو يصرخ: «إن الجهل
لم يساعد أحدًا حتى الآن.» وانتهى الاجتماع
و«ماركس» يذرع الغرفة جيئة وذهابًا في غضب
شديد».
13
كان ذلك مجرَّد نموذج لهجمات أكثر ضراوة على
اشتراكيين من أصول عمالية، وعلى أي زعيم يحاول أن
يستقطب حوله العمال عن طريق طرح حلول عملية
لمشكلات تتعلق بالعمل وبالأجور. هكذا شرع «ماركس»
في مناطحة «بيير-جوزيف برودون» منضد الحروف
السابق، و«هيرمان كريج»، المصلح الزراعي، وأول
اشتراكي ديمقراطي ألماني مهم، و«فرديناند لاسال»
منظم العمل.
وفي بيانه ضد «كريج» راح «ماركس» الذي كان لا
يعرف شيئًا عن الزراعة في الولايات المتحدة — حيث
كان يعيش كريج — يشجب اقتراحه بمنح مائة وستين
فدانًا من الأراضي العامة لكل فلاح، قائلًا إن
تجنيد الفلاحين يجب أن يتم بوعود بمنحهم الأرض،
ولكن بمجرَّد قيام المجتمع الاشتراكي فإن الأرض
يجب أن تكون ملكية جماعية.
كان «برودون» ضد الجمود الفكري. كتب يقول: «بحق
الله، بعد عقول الناس، دعونا لا تجعل من أنفسنا
قادة لظلم جديد.» وكان «ماركس» يكره هذا السطر.
وفي نقده العنيف الذي كتبه ضد «برودون» في يونيو
١٨٤٦م، بعنوان «بؤس الفلسفة»، اتهمه ﺑ «الطفولية»،
و«الجهل المطبق» بالاقتصاد والفلسفة، وفوق ذلك
بسوء استخدام أساليب وأفكار «هيجل»: «إن السيد
«برودون» لا يعرف من ديالكتيك «هيجل» أكثر من
اسمه.» أما بالنسبة ﻟ «لاسال» فقد أصبح فريسة
لأقسى وأعنف سخريات «ماركس»، العنصرية والمعادية
للسامية، وكان يصفه بأنه «بارون آيتزج»، و«الزنجي
اليهودي»، «يهودي ملطخ بالشحم متنكر تحت طلاء ملمع
وزينة رخيصة»، كما كتب إلى «إنجلز» في ٣٠ يوليو
١٨٦٢م، يقول: «لقد أصبح من الواضح لي تمامًا،
وبناء على شكل رأسه وطريقة نمو شعره أنه من سلالة
الزنوج الذين خرجوا مع موسى من مصر (إلا إذا كانت
أمه، أو جدته لأمه هجينًا زنجيًّا). إن هذا
التزاوج اليهودي الألماني على أساس زنجي لقَمِين
بإنتاج سلالة غير عادية.»
14
لم يكن «ماركس» حينذاك مستعدًّا لبحث ظروف العمل
في الصناعة بنفسه، ولا أن يتعلم ذلك من العمال
الأذكياء الذين مارسوها وخبروها، ولماذا يفعل
ذلك؟
في جميع الأمور الجوهرية وصل إلى نتائجه بخصوص
مصير البشرية في أواخر أربعينيات القرن التاسع عشر
باستخدام الديالكتيك الهيجلي، كل ما كان يحتاجه هو
أن يجد الحقائق والبيانات؛ لكي يقيم عليها الدليل،
وتلك كان يمكن أن يجمعها من التقارير الصحفية،
وتقارير الحكومة، والأدلة التي جمعها كتَّاب
سابقون … وكل تلك المادة يمكن أن يجدها في
المكتبات. فما الذي يجعله يبحث أكثر من ذلك؟
المشكلة كما كانت تبدو له هي أن يجد النوع المناسب
من الحقائق، النوع الذي يلائمه، وقد لخص الفيلسوف
«كارل جاسبرز» أسلوبه كما يلى: «أسلوب كتاباته ليس
أسلوب باحث مدقق … إنه لا يقتبس أمثلة أو يقدم
حقائق قد تكون ضد نظريته، وإنما تلك التي تدعم أو
تؤكد ما كان يعتبره الحقيقة القصوى، أسلوبه كله
أسلوب تبرير، وليس أسلوب تقصٍّ، ولكنه تبرير شيء
يعلن أنه الحقيقة الكاملة مع اقتناع مصدق لا
عالم.»
15
وبهذا المعنى لم تكن «الحقائق» مركزية بالنسبة
لعمل «ماركس»، إنها شيء تكميلي، مساعد، يدعم
النتائج التي كان قد تم التوصل إليها
بدونها.
كتابه «رأس المال»، ذلك النصب التذكاري الذي
تمحورت حوله حياته كباحث، لا يجب النظر إليه كبحث
علمي عن طبيعة العملية الاقتصادية التي حاول أن
يصفها، وإنما كتدريب في الفلسفة الأخلاقية، كتابة
مثل كتابات «كارليل»، أو «راسكين». إنه موعظة ضخمة
وغير متماسكة في معظمها، هجوم على العملية
الصناعية ومبدأ الملكية، من قِبل رجل يكنُّ لهما
كراهية شديدة متوهمة، ولا مبرر لها.
والغريب أنها تخلو من حجة رئيسية يمكن اعتبارها
مبدأ منظمًا، كان «ماركس» في البداية يتصور أن
يتكون عمله هذا من ستة مجلدات: «رأس المال»،
«الأرض»، «الأجور والعمل»، «الدولة»، «التجارة»
والمجلد الأخير عن «السوق العالمية
والأزمة».
16 ولكن اتضح أن الانضباط المنهجي الذاتي
المطلوب لتنفيذ هذه الخطة لم يكن في مقدوره.
فالمجلد الوحيد الذي أنجزه (والذي خرج في جزأين
نتيجة للارتباك) لا يتسم بأي نسق منطقي، إنه سلسلة
من الفروض المفردة في ترتيب عشوائي، وقد وجد
الفيلسوف الفرنسي «لويس ألتوسير» بناءه مربكًا
لدرجة أنه كان يرى أن «لا بد» للقراء من تجاهل
الجزء الأول، وأن يبدءوا بالجزء الثاني، الفصل
الرابع،
17 ولكن المفسرين الماركسيين الآخرين
كانوا يرفضون ذلك بشدة، مع أن أسلوب «ألتوسير» في
الحقيقة أن يساعد كثيرًا، وتلخيص «إنجلز» للجزء
الأول من «رأس المال»، إنما يؤكد ضعفه أو بالأحرى
غيبة البنية فيه.
18
بعد موت «ماركس» استخلص «إنجلز» المجلد الثاني
من ١٥٠٠ صفحة من دفاتر «ماركس» وأعاد كتابة ربعها،
وجاءت النتيجة ٦٠٠ صفحة مملة ومربكة عن دورة رأس
المال، مبنية أساسًا على النظريات الاقتصادية في
ستينيات القرن التاسع عشر، المجلد الثالث الذي عكف
عليه «إنجلز» من ١٨٨٥–١٨٩٣م يقدم مسحًا لكل جوانب
رأس المال التي لم يكن قد تم تغطيتها، ولكنه ليس
أكثر من الملاحظات تتضمن ألف صفحة عن الربا،
ومعظمها كان من مذكرات «ماركس». والمادة كلها
تقريبًا تبدأ من أوائل الستينيات، وجمعت في نفس
الوقت الذي كان «ماركس» يعمل فيه في المجلد الأول.
وفي الواقع لم يكن هناك ما يمنع «ماركس» من إتمام
الكتاب بنفسه، سوى عدم القدرة والمعرفة الناقصة.
المجلدان الثالث والرابع ليسا من اهتمامنا، ومن
غير المحتمل أن يكون «ماركس» هو الذي كتبهما على
هذا النحو، أو أن يكون هو الذي كتبهما أصلًا، حيث
إنه كان قد توقف عن العمل فيهما بالفعل لمدة ١٥
سنة. في المجلد الأول، الذي هو من إنجازه، يهمنا
فصلان، الفصل الثامن «يوم العمل»، والفصل الرابع
والعشرون «التراكم الأولي»، والذي يضم القسم
السابع الشهير «الميل التاريخي للتراكم
الرأسمالي»، وهذا ليس تحليلًا علميًّا بأي معنًى
من المعاني، وإنما هو مجرَّد نبوءة
متواضعة.
يقول «ماركس» إنه سيكون هناك: (١) نقصان مطرد في
عدد أقطاب الرأسمالية. (٢) زيادة مماثلة في حجم
الفقر والظلم والعبودية والتفسخ والاستغلال. (٣)
تعاظم مطرد لغضب الطبقة العاملة.
هذه القوى الثلاث عندما تتفاعل معًا تنتج الأزمة
الهيجلية، أو الشكل السياسي الاقتصادي للكارثة
الشعرية التي كان يتخيَّلها في شبابه: «تركيز
وسائل الإنتاج واجتماعية العمل يصلان إلى نقطة
يتضح عندها أنهما لا يتناسبان مع القشرة
الرأسمالية التي تغطيهما، هذا يفجر التباعد، يدق
ناقوس الملكية الخاصة الرأسمالية، الذين جردوا
الناس من الملكية تصادر ملكيتهم»،
19 وكان ذلك أمرًا مثيرًا أدهش أجيالًا
من المتحمسين للاشتراكية، ولكن ليس فيه ما يمكن أن
يدعي بأنه تفكير علمي أكثر مما هو تقويم
فلكي.
الفصل الثامن «يوم العمل»، على النقيض من ذلك،
يقدم نفسه على أنه تحليل واقعي لأثر الرأسمالية
على حياة البروليتاريا البريطانية، وهو في الواقع
الجزء الوحيد من عمل «ماركس» الذي يتناول العمال،
الرعايا المفترضين لفلسفته كلها. وعليه فإنه يستحق
الفحص بحثًا عن قيمته العلمية.
20
وحيث إن «ماركس» كما لاحظنا كان يبحث عن حقائق
تناسب تصوراته المسبقة، وحيث إن ذلك يعتبر ضد كل
مبادئ الأسلوب العلمي، فإن هذا الفصل من الكتاب
يتسم بضعف شديد من البداية. ولكن هل كان «ماركس»
إلى جانب اختياره المنحاز لبعض الحقائق يقوم
بتزييفها أو يسيئ استخدامها أيضًا؟ هذا ما لا بد
أن نفحصه الآن.
الذي يحاول هذا الفصل أن يثبته، وهو لب قضية
«ماركس»، هو أن الرأسمالية بطبيعتها تتضمن
الاستغلال المتزايد والمطرد للعمال. وهكذا كلما
زاد استخدام رأس المال زاد استغلال العمال، وهذا
هو الشر المستطير الذي يؤدِّي إلى الأزمة
النهائية. ولكي يبرر هذا الطرح علميًّا كان عليه
أن يثبت أن: (١) الأحوال السيئة في المصانع ما قبل
الرأسمالية أصبحَت أكثر سوءًا في ظل الرأسمالية
الصناعية. (٢) بسبب طبيعة رأس المال التي لا يمكن
تغييرها، وغير الواضحة، يتزايد استغلال العمال إلى
أقصى حد في الصناعات ذات رأس المال الكبير.
«ماركس» يكتب: «أما فيما يتعلق بالفترة من بداية
الصناعة على نطاقٍ واسع في «إنجلترا»، نزولًا حتى
سنة ١٨٤٥م، فسوف ألمس بعض الأمور هنا وهناك،
محيلًا القارئ إلى تفاصيل أكثر في عمل «فردريك
إنجلز»: «أحوال الطبقة العاملة في إنجلترا»،
ليبزج، ١٨٤٥م.»
ويضيف «ماركس»: إن المطبوعات الحكومية، خاصة
تقارير مفتشي المصانع، قد أكدت «بعد نظر «إنجلز»
فيما يتعلق بطبيعة العملية الرأسمالية»، وأظهرت
«كيف صور تلك الظروف من خلال أمانة شديدة في
التفاصيل التي ذكرها».
21
وباختصار فإن الجزء الأول كله من دراسة «ماركس»
لظروف العمل في ظل الرأسمالية في منتصف ستينيات
القرن التاسع عشر، يعتمد على عمل واحد مفرد، وهو
كتاب «إنجلز» «أحوال الطبقة العاملة في إنجلترا»،
الذي كان قد صدر قبل ذلك بعشرين عامًا. فما هي
القيمة العلمية التي يمكن أن نسبغها على ذلك
المصدر الوحيد؟
«إنجلز» من مواليد عام ١٨٢٠م، وهو ابن أحد أصحاب
مصانع القطن الأثرياء في «بارمن» في «راينلاند»،
وشارك في عمل الأسرة في سنة ١٨٣٧م، وفي عام ١٨٤٢م
أرسل إلى مكتب الشركة في «مانشستر»، حيث قضى عشرين
شهرًا في «إنجلترا»، وأثناء تلك الفترة زار «لندن»
و«أولد هام» و«روشدال» و«اشتون» و«ليدز»
و«برادفورد» و«هدرسفيلد» بالإضافة إلى «مانشستر».
هكذا كانت له خبرة مباشرة بصناعة النسيج، ولكن ليس
عن الأحوال في بريطانيا؛ إذ — على سبيل المثال —
لم يكن يعرف شيئًا عن التعدين، ولم ينزل إلى منجم
في حياته، ولم يكن يعرف أي شيء عن الريف أو
العمالة الريفية. ومع ذلك يكرس فصلين ل «عمال
المناجم»، و«البروليتاريا الزراعية».
وفي عام ١٩٥٨م قام عالمان دقيقان هما: «دبليو
هندرسون»، و«دبليو إتش شالونر» بترجمة وتحليل كتاب
«إنجلز»، وفحص مصادره، والنصوص التي اقتبس منها في
أصولها،
22 وكان أثر تحليلهم مدمرًا للقيمة
التاريخية الموضوعية للكتاب بمجمله تقريبًا،
وتحديد مستواه بأنه كان مجرَّد عمل طالب سياسة،
وأنه كراسة دعاية أو خطبة مسهبة. عندما كان
«إنجلز» يعمل في الكتاب كتب إلى «ماركس»: «إني
أتهم الطبقات الإنجليزية المتوسطة أمام محكمة
الرأي العام العالمي بالقتل الجماعي، والسرقة
بالجملة، وكافة التهم الأخرى في
القائمة.»
23
جزء كبير من الكتاب بما في ذلك دراسة مرحلة ما
قبل الرأسمالية، والمراحل الأولى من التصنيع لم
يكن مؤسسًا على مصادر أساسية، وإنما على مصادر
ثانوية قليلة مشكوك في قيمتها، خاصة كتاب «بيتر
جاسكل» «السكان الصناعيون في إنجلترا» ١٨٣٣م، وهو
عمل ميثولوجي رومانسي يحاول أن يظهر القرن الثامن
عشر، على أنه كان عصرًا ذهبيًّا بالنسبة لصغار
الموظفين والعمال الإنجليز. وفي الحقيقة، وكما
أظهرت اللجنة الملكية لتشغيل الأطفال في ١٨٤٢م،
فإن ظروف العمل في الورش والمحلات ما قبل
الرأسمالية كانت أسوأ بكثير منها في مصانع القطن
الكبيرة في «لانكشاير».
المصادر الأساسية المطبوعة التي اعتمد عليها
«إنجلز» كانت قديمة، يتراوح تاريخها من خمس إلى
أربعين سنة مضت، رغم أنه كان يقدمها على أنها
مصادر معاصرة، فعندما أعطى أرقامًا لعدد المواليد
غير الشرعيين من الأطفال حذف ما يثبت أن ذلك كان
في سنة ١٨٠١م، كما نقل معلومات من ورقة عن تعزيز
الصحة العامة في «أدنبرة»، دون أن يذكر أنها كانت
مكتوبة في سنة ١٨١٨م، وفي أحيان كثيرة كان يحذف أو
يتجاهل عمدًا أحداثًا وحقائق تكشف أدلته القديمة.
وليس من الواضح دائمًا إذا ما كانت تحريفات
«إنجلز» خداعًا للقارئ أم للنفس، ولكن الخداع كان
عن قصد أحيانًا. لقد استخدم أدلة على الأحوال
السيئة، كانت لجنة تقصي الحقائق عن المصانع قد
كشفتها سنة ١٨٣٣م، دون أن يقول للقراء إن قانون
«لورد ألثورب» للمصانع لسنة ١٨٣٣م كان قد صدر،
وكان ساري المفعول منذ فترة طويلة، وتحديدًا من
أجل القضاء على الأحوال السيئة التي جاءت في تقرير
لجنة تقصي الحقائق. واستخدم نفس أسلوب الخداع في
تناول واحد من مصادره الرئيسية، وهو كتاب الدكتور
«ج. ب. كاي»: «الأحوال الصحية والنفسية للطبقات
المتوسطة العاملة في صناعة القطن في مانشستر»
(١٨٣٢م)، والذي ساعد على إصلاحات أساسية في
الإجراءات الصحية الحكومية والتي لم يذكرها
«إنجلز».
كان يسيئ تفسير الإحصائيات الجنائية أو يتجاهلها
عندما لا تخدم أغراضه. وكان باستمرار وعن علم
بذلك، يحجب الحقائق التي تناقض نظريته أو تدحض أي
جزئية يحاول أن يثبتها. والفحص الدقيق لاقتباسات
«إنجلز» من مصادره الثانوية يبين أنها كانت دائمًا
مقتطعة من السياق، مقتضبة، مشوهة أو محرفة ولكنها
موضوعة بين أقواس كما لو كانت أقوالًا مأثورة،
والإشارات والهوامش في طبعة «هندرسون وشالوفر» من
الكتاب توضح تحريفات «إنجلز» وعدم أمانته.
في قسم واحد فقط وهو الفصل السابع بعنوان
«البروليتاريا» هناك تزييف يتضمن وقائع خاطئة
وتغييرات في الصفحات رقم ١٥٢، ١٥٥، ١٥٧، ١٥٩، ١٦٠،
١٦٣، ١٦٥، ١٦٧، ١٦٨، ١٧٠، ١٧٢، ١٧٤، ١٧٨، ١٧٩،
١٨٢، ١٨٥، ١٨٦، ١٨٨، ١٨٩، ١٩٠، ١٩١، ١٩٤،
٢٠٣.
24 ولا يمكن ألا يكون «ماركس» على علم
بضعف كتاب «إنجلز» وعدم أمانته، خاصة أن معظم
عيوبه كانت قد كُشفت بالتفصيل منذ ١٨٤٨م على يد
الاقتصادي الألماني «برونو هيلد براند» في مطبوعة
كان «ماركس» يعرفها،
25 والأكثر من ذلك أن «ماركس» يضاعف من
تزييف «إنجلز» عن عمد عندما لا يقول للقارئ أي شيء
عن التحسينات الضخمة التي طرأت نتيجة تطبيق قوانين
المصانع والتشريعات الصحية الأخرى منذ نشر الكتاب،
والذي أثر تحديدًا على نوعية الأحوال التي كان قد
أبرزها.
وعلى أية حال، كان «ماركس» يستخدم المصادر
الأساسية والثانوية المكتوبة بنفس روح الإهمال
الجسيم والتشويه المتعمد وعدم الأمانة التي كانت
تميز عمل «إنجلز»
26 وفي الحقيقة فإنهما كانا شريكين في
الخداع وإن كان «ماركس» هو المزيف الأكثر وقاحة!
وفي حالة واضحة محددة تفوق على نفسه، كان ذلك فيما
يُسمَّى ﺑ «الخطاب الافتتاحي» للجمعية الدولية
للعمال التي أُسست سنة ١٨٦٤م، وبغرض إثارة الطبقة
العاملة الإنجليزية واستنهاضها من لامبالاتها،
وشغوفًا لأن يثبت أن مستويات المعيشة كانت تتدهور،
زيَّف «ماركس» متعمدًا أجزاء من حديث «جلادستون»
عن الميزانية سنة ١٨٦٣م، كان «جلادستون» قد قال
معلقًا على زيادة الثروة الوطنية: «لا بد أن أنظر
باستهجان وألم إلى الزيادة الرهيبة في الثروة
والنفوذ، لو أن ذلك كان مقصورًا على الطبقة التي
تعيش في ظروف سهلة»، وأضاف «ولكن يسعدنا أن نعرف
أن الظروف العامة للعامل البريطاني قد تحسنت خلال
العشرين سنة الأخيرة بدرجةٍ غير عادية، ويجب أن
نعترف بأن ذلك ليس له مثيل في تاريخ أي بلد وفي أي
عصره».
27
ولكن «ماركس» في خطابه الافتتاحي جعل «جلادستون»
يقول: «إن هذه الزيادة المتمثلة في الثروة والنفوذ
مقصورة تمامًا على الطبقة المالكة.»
وحيث إن ما قاله «جلادستون» كان صحيحًا ومدعمًا
بعدد من الأدلة الإحصائية وحيث إنه كان مهتمًّا
بالتأكد من توزيع الثروة على أوسع نطاق، فمن الصعب
أن نتخيل تحريفًا أكثر من ذلك لمعناه. وادعى
«ماركس» أن مصدره في ذلك جريدة «مورننج ستار» وهو
ادعاء غير صحيح حيث إن «مورننج ستار» وغيرها من
الصحف كانت تحمل كلمات «جلادستون» الحقيقية، وقد
اكتُشف تزييف «ماركس» ومع ذلك وضعه في كتابه «رأس
المال» مع غيره من التحريفات. وعندما تم دحض ذلك
واستنكاره أراق حبرًا كثيرًا هو و«إنجلز» وابنته
«إليانور» فيما بعدُ محاولين الدفاع عن شيء لا
يمكن الدفاع عنه لمدة عشرين عامًا. ولا أحد كان
يريد أن يعترف بوجود الأصل أو بالتزييف الواضح،
والنتيجة هي أن بعض القراء يصبح لديهم انطباع —
كما كان يريد «ماركس» — أن هناك جانبين للمسألة،
بينما الحقيقة غير ذلك. كان «ماركس» يعرف أن «جلاد
ستون» لم يقل شيئًا وأن الغش كان
متعمدًا،
28 كذلك زيف «ماركس» مقتطفات من «آدم
سميث»
29
وقد لفت سوء استخدام «ماركس» للمصادر انتباه
اثنين من الباحثين في «كامبريدج» في ثمانينيات
القرن التاسع عشر؛ إذ باستخدام الطبعة الفرنسية
المنقحة من «رأس المال» (١٨٧٢–١٨٧٥م) قدما ورقة
لنادي الاقتصاد في «كامبريدج» بعنوان «تعليقات على
استخدام «ماركس» للكتب الزرقاء في الفصل الخامس
عشر من كتاب «رأس المال» ١٨٨٥م»،
30 وقالا إنهما قد قاما في البداية
بمراجعة مصادر «ماركس» «للحصول على معلومات أشمل
عن بعض النقاط» ولكن لأنهما صدما «للاختلافات
الكثيرة» فقد قررا أن يفحصا حجم وأهمية الأخطاء
الموجودة وبشكلٍ واضح، واكتشفا أن الاختلافات بين
نصوص الكتاب الأزرق ومقتطفات «ماركس» منها لم تكن
فقط نتيجة عدم الدقة ولكنها «تحمل آثار عملية
تشويه»، وفي بعض الحالات وجدا أن المقتبسات عادة
«كان يتم اختصارها بحذف أجزاء قد لا تتفق مع
النتائج التي كان «ماركس» يحاول أن يقيمها»، وفي
حالات أخرى كان «يجمع أجزاء من مقولات ومن جمل
منفصلة من مواضيع مختلفة من التقرير، ثم توضع
مدسوسة على القارئ بين أقواس بما يوحي بأنها
مقتبسات من الكتب الزرقاء نفسها». وفي أحد
الموضوعات «ماكينة الخياطة»، يستخدم الكتب الزرقاء
بإهمال شديد … «لإثبات العكس»، وانتهى الدراسان
إلى أن تقريرهما رغم أنه قد لا يكون كافيًا لإقامة
اتهام بتزييف حقيقي، إلا أنه يظهر وبكل تأكيد
«إهمالًا جنائيًّا في استخدام المصادر، وينبه إلى
ضرورة التعامل مع الأجزاء الأخرى من عمل «ماركس»
بحذر».
31
والحقيقة أن أي محاولة ولو سطحية للتأكد من
استخدام «ماركس» للدليل، تجبرنا على التعامل مع ما
كتبه بناء على بيانات بشك شديد؛ إذ لا يمكن أن نثق
به، إن الفصل الثامن كله وهو أهم فصول «رأس المال»
تزييف واضح ومنظم لإثبات فرضية لا يمكن إثباتها
بناء على ما يقدمه من بيانات، وهكذا فإن جنايته
على الحقيقة تندرج تحت أربعة عناوين:
- أولًا: يستخدم مادة قديمة لأن المادة
الجديدة لا تدعم قضيته.
- ثانيًا: يختار صناعات معينة، كانت
الأحوال فيها سيئة على نحوٍ خاص،
كنموذج للرأسمالية، وقد كان هذا
الغش ضروريًّا بالنسبة له ولولاه
لما كان الفصل الثامن قد كُتب.
كانت فرضيته هي أن الرأسمالية
تفرز دائمًا أحوالًا وظروفًا سيئة
تزداد سوءًا، كلما زاد رأس المال
زادت معاملة العمال سوءًا لضمان
عائد كاف. والأدلة التي يقدمها
بإسهاب لتبرير تلك الفرضية يأتي
بها من أعمال صناعية صغيرة فاشلة،
رأس مالها ضعيف في صناعات بالية
وفي معظم الحالات ما قبل
الرأسمالية مثل الفخار والملابس
والحدادة والخبز والكبريت وورق
الحائط وأربطة الأحذية.
وفي كثير من الحالات المحددة
التي ينظر إليها (الخبز مثلًا)
كانت الأحوال سيئة تحديدًا لأن
الشركة لم تكن قادرة على استخدام
المعدات أو الآلات لنقص رأس
المال.
كان «ماركس» في الحقيقة يتناول
ظروف ما قبل الرأسمالية متجاهلًا
الحقيقة التي كانت تصفعه: كلما
زاد رأس المال قلَّت المعاناة.
وعندما يتناول صناعة حديثة ذات
رأسمال كبير كان يجد أدلة قليلة،
فعندما يتحدث عن الصلب يلجأ إلى
تعليقات محرفة («يا لها من صراحة
عيابة»، «يا لها من لغة معسولة»)
وعندما يتحدث عن السكة الحديد
يلجأ إلى استخدام قصاصات صحفية
بالية عن حوادث قديمة (كوارث
جديدة للسكة الحديد)، كانت
فرضياته تحتاج إلى معدل حوادث
مرتفع بينما كان المعدل ينخفض
بالفعل وبشدة. وعندما ظهر كتاب
«رأس المال» كانت السكة الحديد قد
أصبحَت بالفعل أكثر وسائل السفر
أمانًا في تاريخ العالم.
- ثالثًا: في استخدامه لتقارير التفتيش
على المصانع يقتبس أمثلة الأحوال
السيئة وسوء معاملة العمال كما لو
كان ذلك هو الأسلوب الحتمي
للنظام، بينما كان ذلك مسئولية ما
كان يطلق عليه المفتشون أنفسهم
وأصحاب المصانع المحتالين، حيث
كان المفتشون يعينون لاكتشافهم
ومحاكمتهم وكانوا في الطريق
للتخلص منهم.
- رابعًا: وحيث إن دليل «ماركس» الرئيسي
كان مستمدًّا من هذا المصدر
«المفتشين» فإنه يكشف غشه. كان
طرحه أن الرأسمالية فاسدة
بطبيعتها، والأبعد ذلك أن الدولة
البرجوازية كانت شريكتها في إنزال
البؤس بالعمال، حيث إن الدولة كما
كتب عبارة عن لجنة تنفيذية لإدارة
شئون الطبقة الحاكمة بشكلٍ عام،
ولو أن ذلك كان صحيحًا لما سن
البرلمان قوانين المصانع ولما
فرضتها الدولة. وكل ما كان
«ماركس» ينتقيه من البيانات
والمعلومات لكي يستخدمه (ويزيفه
أحيانًا) كان مستمدًّا من جهود
الدولة (المفتشون، المحاكم … إلخ)
لتحسين الأحوال والتي كانت تتضمن
بالضرورة كشف وعقاب المسئولين عن
تلك الأحوال السيئة. ولو لم يكن
النظام يقوم بعملية إصلاح ذاتي،
الأمر الذي كان يراه «ماركس»
مستحيلًا، لما أمكنه كتابة «رأس
المال»، وحيث إنه لم يكن على
استعداد لأن يقوم بأي بحث مباشر
وآني بنفسه كان مضطرًّا للاعتماد
— تحديدًا — على أدلة أولئك الذين
كان يصفهم بالطبقة المسيطرة،
والذين كانوا يحاولون الإصلاح
ونجحوا في ذلك إلى حد بعيد. وهكذا
كان على «ماركس» أن يشوه مصدره
الرئيسي أو أن يتخلى عن أطروحته،
وقد كان الكتاب وما زال غير أمين
في مضمونه.
والذي لم يستطع أن يفهمه «ماركس» وما كان ليفهمه
لأنه لم يبذل أي جهد يذكر لكي يفهم كيف تعمل
الصناعة، هو أنه منذ فجر الثورة الصناعية
١٧٦٠–١٧٩٠م كان رجال الصناعة الأكفاء الذين وصلوا
إلى رأس المال في جانب ظروف عمل أفضل بالنسبة
لعمالهم. ولذلك كانوا يميلون إلى تدعيم تشريعات
الصناعة وتطبيقها بفعالية لأن ذلك كان يقضي على ما
كانوا يعتبرونه منافسة غير شريفة. ولذلك تحسنت
الظروف، ولأن الظروف تحسنت لم يهب العمال كما تنبأ
«ماركس»، وهكذا ارتبك النبي!
والذي نخرج به من قراءة «رأس المال» هو فشل
«ماركس» الذريع في فهم الرأسمالية. فشل تحديدًا
لأنه لم يكن علميًّا: لم يستطع أن يتقصى الحقائق
بنفسه، أو أن يستخدم الحقائق التي تقصاها الآخرون
بموضوعية، ومن البداية إلى النهاية فإن عمله كله
وليس رأس المال فقط، يعكس إهمالًا للحقيقة ولا
مبالاة تصل أحيانًا إلى درجة الاحتقار، وهذا هو
السبب الرئيسي في عجز الماركسية كنظام عن تحقيق
النتائج التي تدعيها، ووصفها ﺑ «العلمية»، يعتبر
أمرًا منافيًا للعقل.
وإذا لم يكن «ماركس» — رغم مظهره كباحث —
مدفوعًا بحب الحقيقة، ماذا كانت إذن القوة الدافعة
في حياته؟
للكشف عن
ذلك علينا أن ننظر من كثب إلى شخصيته. إنها في
الحقيقة وفي جوانب كثيرة منها حقيقة محزنة،
فالأعمال الفكرية الكبيرة لا تنبع من الإعمال
المجرَّد للذهن والخيال وإنما تكون عميقة الجذور
في الشخصية، و«ماركس» نموذج بارز على هذا المبدأ.
لقد نظرنا بالفعل إلى فلسفته كمزيج من رؤيته
الشعرية ومهارته الصحفية وأكاديميته، ولكنها يمكن
أن تقدم أيضًا على اعتبار أن مضمونها الحقيقي وثيق
الصلة بأربعة جوانب في شخصيته: ميله للعنف، شهوته
للسلطة، فشله في الأمور المالية ونزوعه إلى
استغلال حوله.
إن مسحة
العنف الباطنة الحاضرة دائمًا في الماركسية والتي
تتبدى باستمرار في سلوك الأنظمة الماركسية كانت
انعكاسًا للرجل نفسه. لقد عاش «ماركس» حياته في جو
من العنف اللغوي الشديد الذي كان يفجره أحيانًا في
شجار عنيف وأحيانًا أخرى في هجوم بدني. كان أول ما
لاحظته عليه «جيني فون وستفالين» قبل أن تصبح
زوجته الأولى هو الشجار داخل عائلته، أُلقي القبض
عليه مرة وهو طالب في جامعة «بون» لحمله مسدسًا
وكاد أن يُفصل من الدراسة، سجلات الجامعة توضح أنه
كان يشارك في الصراعات الطلابية وأنه دخل في
مبارزة وجُرح جرحًا بليغًا في عينه اليسرى، شجاره
الدائم داخل الأسرة ألقى بظلاله الكئيبة على حياة
والده في سنواته الأخيرة وفي النهاية أدى إلى
قطيعة تامة مع أمه. نقرأ في أحد الخطابات الأولى ﻟ
«جيني»: «أرجوك لا تكتب بكل هذا الحقد والسخط»،
وواضح أن الكثير من نوبات هياجه وشجاره كانت نتيجة
ميله للكتابة بعنف والحديث بأسلوبٍ أكثر عنفًا
ضاعف منه الشراب. لم يكن «ماركس» مدمنًا ولكنه كان
يشرب بانتظام، أحيانًا بإفراط وأحيانًا لفترات
طويلة. جزء من متاعبه أنه كان قد عرف النفي في
منتصف عشرينياته وكان يعيش في تجمعات ألمانية
أساسًا في مدن أجنبية، ونادرًا ما كان يبحث عن
معارف خارج تلك التجمعات، كما أنه لم يحاول أبدًا
أن يندمج معها، بالإضافة إلى أن المنفيين الذين
كانت له صلات بهم كانوا مجموعة ضيقة، اهتمامها كله
بالسياسة الثورية وهذا في حد ذاته يساعد على تفسير
رؤية «ماركس» النفعية للحياة، ومن الصعب تخيل
خلفية اجتماعية أكثر تشجيعًا لطبيعته العنيفة، وقد
كانت تلك الأوساط معروفة بنزاعاتها العنيفة. وكما
تقول «جيني» فإن نوبات هياجه وشجاره كانت دائمة
باستثناء الفترة التي كان موجودًا فيها في
«بروكسل». في «باريس» كانت اجتماعات التحرير في
شارع «مولان» تعقد خلف نوافذ مغلقة لكيلا يسمع
الناس في الخارج صراخه الذي لا ينتهي، ومع ذلك لم
تكن نوبات الغضب تلك بلا هدف. كان «ماركس» يتشاجر
مع كل من به صلة، بدءًا من «برونو باور» إلى من
سواه، إلا إذا نجح في السيطرة عليهم تمامًا.
ونتيجة لذلك تجمعت عدَّة تقارير تصف «ماركس» أثناء
نوبات غضبه وهياجه، حتى شقيق «باور» كتب قصيدة
عنه: «إنسان عابس من «تراير» يفور بالغضب، قبضته
الشريرة محكمة، يزأر بلا توقف، كأن ألف شيطان قد
أمسكوا به من شَعره.»
32
كان
«ماركس» قصير القامة، عريض المنكبين، أسود الشعر،
كث اللحية، شاحب البشرة (كان أطفاله يسمونه
البربري)، يضع على عينيه «مونوكل» بروسي الموديل.
يصفه «بافل أنينكوف» الذي رآه أثناء محاكمة
«ويتلنج»: «شَعر عنقه أسود كثيف، يدان يغطيهما
الشَّعر، وسترة فراك مزررة في غير استقامة»، لم
يكن لديه أي درجةٍ من السلوك الحسن «متعجرف وراشح
بالازدراء»، «صوته الحاد الرنان كان مناسبًا
تمامًا لإصدار الأحكام العنيفة التي يوزعها على
البشر والأشياء بلا توقف»، «كل شيء يقوله له رنين
مؤذ للأعصاب».
33 من بين أعمال «شكسبير» كان يفضل
مسرحية «ترويلس وكريسيدا» وكان معجبًا بها لما
فيها من ازدراء عنيف وكان يستمتع بالاقتباس منها
لكي يسب الآخرين. أحد ضحاياه رفيقه الثوري «كارل
هاينزن» قابل ازدراءه بمثله وترك صورة تذكارية
بليغة يصفه فيها، لقد رأى «ماركس»: «قذرًا بدرجةٍ
لا تحتمل»، «هجين قط وقرد»، «شعر أسود أشعث كالفحم
وبشرة كالحة قذرة»، يقول: «كان المستحيل أن أحدد
إذا ما كانت ملابسه وبشرته بلون الطين أو أنها
كانت قذرة، له عينان ضيقتان حادتان مملوءتان
بالشر»، «ينفث حممًا من نيران شريرة». كان من
عادته أن يقول: «سوف أمحوك من الوجود.»
34
كان يكرس معظم وقته لجمع ملفات مفصلة عن أعدائه
وخصومه السياسيين ولم يكن يتردد في توصيلها للشرطة
لخدمة مصلحته، أما شجاراته العنيفة ونوبات غضبه
الكبيرة المعلنة مثل تلك التي ظهرت أثناء اجتماع
الدولية في «هاجو» سنة ١٨٧٢م فتجعلنا نتذكر عمليات
الانتقام في روسيا السوفيتية: لا يوجد شيء في
المرحلة الستالينية لم يصور من قبل في سلوك
«ماركس»، أحيانًا كان الدم يراق بالفعل. كان
«ماركس» في غاية البذاءة في خصامه مع «أوجست فون
ويليش»، سنة ١٨٥٠م لدرجة أن «ويليش» تحداه
للمبارزة ورغم أن «ماركس» كان مبارزًا سابقًا إلا
أنه قال إنه لن يستدرج «إلى مزاح الضباط
البروسيين»، ولكنه لم يحاول أن يمنع مساعده الشاب
«كونراد سكرام»، من أن يحل محله رغم أنه لم يكن قد
استخدم مسدسًا في حياته ورغم أن «ويليش» كان
راميًا ماهرًا. والنتيجة أن «سكرام» جُرح، أما
الثاني الذي بارز «ويليش» في هذه المناسبة فكان
أحد أصدقاء «ماركس» الفاسدين «جوستاف تيكو» والذي
كانت «جيني» تمقته، وكان قد قتل — على الأقل —
واحدًا من الرفاق الثوريين، ثم تم إعدامه أخيرًا
لقتله أحد ضباط الشرطة.
«ماركس» نفسه لم يكن يرفض العنف أو الإرهاب
عندما كان ذلك يناسب تكتيكه. عندما خاطب الحكومة
البروسية في ١٧٤٩م كان يهدد: «نحن لا نعرف الرحمة
ولا نطلبها منكم، وعندما يأتي دورنا لن نخفي
إرهابنا.»
35 وفي العام التالي كانت «خطة العمل»،
التي وزعها في ألمانيا تشجع على عنف الدهماء:
«بعيدًا عن معارضة التطرف المزعوم، فإن هذه
الأمثلة على الثأر العام من الأفراد المكروهين أو
المنشآت العامة التي تحمل ذكريات كريهة يجب أن
تحظى منا بكل مساعدة، ولا يكفي أن نغض الطرف
عنها».
36
وفي ظروف معينة كان لا يتردد في دعم عمليات
الاغتيال بشرط أن تكون مؤثرة. «مكسيم كواليفسكي»
أحد زملائه الثوريين كان حاضرًا عندما تلقَّى
«ماركس» أخبار المحاولة الفاشلة لاغتيال
الإمبراطور «ولهلم الأول» في «أونتر دن ليندن» عام
١٨٧٨م، ويسجل ثورة «ماركس» وهو «يسب ذلك الإرهابي
الذي فشل في تنفيذ ذلك العمل الإرهابي».
37 ومن المؤكد أن «ماركس» كان يلجأ إلى
العنف والقسوة بمجرَّد أن يجد نفسه في مركز قوة،
ولكنه بالطبع لم يكن أبدًا في وضع يسمح له بتنفيذ
ثورة على نطاقٍ واسع … عنيفة أو غير عنيفة، وعليه
فإن غضبه كان يجد متنفسًا له في كُتبه التي تحمل
دائمًا نبرات التصلب والطرف. أجزاء كثيرة منها
تعطي الانطباع بأنها قد كتبَت في حالة غضب شديد
بالفعل، وفي الوقت المناسب كان «لينين» و«ستالين»
«ماوتسي تونج»، يمارسون على نطاقٍ واسع ذلك العنف
الذي كان يملأ قلب «ماركس»، وتنضح به أعماله. ومن
الصعب أن نعرف كيف كان «ماركس» يري أخلاقية أفعاله
سواء بالنسبة لتشويه الحقيقة أو تشجيع العنف.
بمعنى ما، كان كائنًا أخلاقيًّا لدرجةٍ
كبيرة.
كانت تملؤه رغبة حارقة من أجل صنع عالم أفضل،
ورغم ذلك كان يمتهن «أخلاقية الأيديولوجيا
الألمانية»، كان يقول إنها غير علمية وأنها يمكن
أن تكون عقبة في طريق الثورة، ويبدو أنه كان يعتقد
في إمكانية التغاضي عنها نتيجة للتغير شبه
الفسيولوجي الذي سوف يحدثه مجيء
الشيوعية.
38
وشأنه شأن كل المتمركزين حول أنفسهم، كان يميل
إلى الاعتقاد بأن القوانين الأخلاقية ما كانت
لتطبق عليه، أو أن يقرن بين مصالحه والأخلاق
كثيرًا. من المؤكد أنه كان يرى أن مصالح
البروليتاريا وتحقيق آرائه الخاصة عملية مشتركة،
وقد لاحظ الفوضوي «باكونين» أن «ماركس» كان لديه
«إخلاص شديد لقضية البروليتاريا رغم أنه كان
ممزوجًا بالغرور الشخصي».
39 كانت تنتابه الهواجس الشخصية دائمًا.
هناك رسالة طويلة يزعم أنه كان قد كتبها لوالده،
رغم أنها كانت مكتوبة عن نفسه أيضًا.
40 لم تكن آراء أو مشاعر الآخرين ذات
قيمة أو أهمية بالنسبة له أبدًا، كان يدير بمفرده
أي مؤسسة يعمل بها. لقد لاحظ «إنجلز» عن أسلوب
عمله في تحرير جريدة «نيو رايش زيتونج» أن «تشكيل
مجلس التحرير كان عبارة عن دكتاتورية من
«ماركس»،
41 لم يكن لديه وقت للديمقراطية ولا رغبة
فيها إلا بالمعنى الخاص أو العكس الذي كان يفهم
الكلمة عليه، كانت الانتخابات بالنسبة له مسألة
بغيضة مهما كان شكلها، وكان يصف الانتخابات
الإنجليزية العامة بأنها طقوس سكارى.
42
وفي شهادة من مصادر متنوعة عن أهداف «ماركس»
السياسية وسلوكه لوحظ تكرار ظهور كلمة
«الدكتاتورية»، كان «أنينكوف» يُسمِّيه «التجسيد
الحي للدكتاتور الديمقراطي» (١٨٤٦م). أحد عملاء
الشرطة السرية البروسية في تقرير عنه في «لندن»
كتب: السمة السائدة في شخصيته هي الطموح غير
المحدود وحب السلطة … إنه الحاكم المطلق لحزبه،
يعمل كل شيء بنفسه ويعطي الأوامر على مسئوليته ولا
يتحمل أي معارضة، «تيكو» الذي تمكن مرة من أن يجعل
«ماركس» يشرب حتى السكر يرسم صورة وصفية له: «كان
رجلًا «ذا شخصية بارزة»، «تفوُّق عقلي نادر»، ولو
كان قلبه مناسبًا لعقله ولو كان لديه حب بقدر ما
لديه من كراهية لكان من الممكن أن أخوض النار من
أجله»، ولكنه يفتقر إلى نبل الروح، وأنا على يقين
من أن طموحًا شخصيًّا خطيرًا قد أتى على كل شيء
جيد فيه … الاستحواذ على السلطة هدف كل سعيه»، أما
حكم «باكونين الأخير عليه فيضرب على نفس الوتر:
««ماركس» لا يؤمن بالله ولكنه يؤمن جدًّا بنفسه
ويجعل الجميع في خدمته، قلبه لا يملؤه الحب بل
المرارة، ولا يحمل عطفًا كثيرًا للجنس
البشري».
43
إن غضب «ماركس» المعتاد وعاداته الدكتاتورية
ومراراته، كل ذلك يعكس بلا شك وعيه المبرر بالسلطة
والنفوذ وإحباطه الشديد لعدم استطاعته ممارستها
بطريقةٍ أكثر تأثيرًا. في شبابه كان يعيش حياة
بوهيمية وغالبًا ما كانت عاطلة ومتحللة. حتى منتصف
العمر كان من الصعب عليه أن يعمل بطريقةٍ معقولة
ومنظمة. غالبًا ما كان يجلس طوال الليل يتكلم، ثم
يرقد على أريكة نصف نائم معظم ساعات النهار، لم
يكن منظمًا أبدًا في عمله وكان لا يقبل أي نقد
مهما كان بسيطًا. من الصفات المشتركة بينه وبين
«روسو» إنه كان كثير الشجار والخصام مع الأصدقاء
وفاعلي الخير، وخاصة إذا حاولوا إسداء النصح إليه.
عندما أشار عليه صديقه المخلص الدكتور «لودفيج
كجلمان» في عام ١٨٧٤م إنه لن يجد صعوبة في
الانتهاء من رأس المال ولو أنه نظم حياته بطريقةٍ
أفضل، قاطعه إلى الأبد وجعله عرضة للاحتقار
والازدراء.
44
كانت لذاتيته الغاضبة جذورها الفيزيائية
والنفسية. كان يعيش حياة غير صحية، لا يمارس
الرياضة كثيرًا، يأكل طعامًا حريفًا وبكميات
كبيرة، يدخن بشراهة، يشرب بإفراط خاصة البيرة
القوية، ونتيجة لذلك كان يعاني من آلام دائمة في
الكبد. نادرًا ما كان يستحم أو يغتسل. كل ذلك
بالإضافة إلى النظام الغذائي غير المناسب قد يصلح
تفسيرًا لبلاء البثور والدمامل الذي ظل يعاني منه
لمدة ربع قرن تقريبًا والذي زاد من طبيعته النزقة.
ويبدو أن بثوره ودمامله كانت في أسوأ حالاتها
عندما كان يكتب «رأس المال» كتب مهمومًا يقول ﻟ
«إنجلز»: «مهما حدث، أتمنى أن تجد البرجوازية —
مهما طال بها الزمن — أسبابًا تذكرها
بدماملي.»
45 كانت البثور تختلف في حجمها وعددها
وقسوتها ولكنها أحيانًا كانت تظهر على كل أجزاء
جسمه … بما في ذلك الخدين وقنطرة الأنف والفخذين …
يعني أنه لم يكن يستطيع أن يجلس للكتابة، كما كانت
تظهر على قضيبه أيضًا! وفي سنة ١٨٧٣م أدَّت إلى
نكسة عصبية مع رجفة ونوبات غضب متفجرة.
عدم كفاءة «ماركس» في التعامل مع المال، أحد
الأسباب الرئيسية لغضبه المتكرر وإحباطه الشديد،
وربما كان ذلك أيضًا وراء كرهه للنظام الرأسمالي.
وقع في شبابه في أيدي المرابين الذين كانوا
يقرضونه بمعدل فائدة عال، وكان كرهه للربا هو
الدينمو المحرك والحقيقي لفلسفته الأخلاقية. وهذا
يفسر لنا تكريسه وقتًا طويلًا ومساحة كبيرة
للموضوع ولماذا كانت جذور نظريته عن الطبقة في
معاداة السامية، ولماذا ضمن «رأس المال» جزءًا
عنيفًا في إدانة الربا، اختاره من إحدى خطب «لوثر»
المعادية للسامية.
46
كانت متاعب «ماركس» المالية قد بدأت في الجامعة
واستمرَّت معه بقية حياته، وقد نشأت في الأساس من
توجه طفولي. كان «ماركس» يقترض بطيش وينفق ببذخ،
ثم يفاجأ ويغضب عندما يحين موعد تسديد الكمبيالات
بالإضافة إلى الفائدة، كان يرى أن الحصول على
الفائدة، وهو أمر ضروري بالنسبة لأي نظام قائم على
رأس المال، جريمة ضد الإنسانية وجوهر استغلال
الإنسان للإنسان الذي كان بهدف نظامه إلى القضاء
عليه. هكذا كان «ماركس» بشكلٍ عام. ولكن في إطار
حالته الخاصة فإنه استسلم للمصاعب التي كان يمر
بها واستغل كل من كان يقع تحت يده … وفي المقام
الأول عائلته.
النقود تسيطر على كل مراسلاته العائلية، الخطاب
الأخير من والده والذي كتبه وهو يموت في فبراير
١٨٨٣م يجأر فيه بالشكي من أن «ماركس» لا يبالي
بأسرته إلا من أجل الحصول على مساعداتهم: «أنت
الآن في الشهر الرابع من دراستك للقانون، وقد
أنفقت في هذه المدة القصيرة وحتى الآن مبلغ ٢٨٠
تالر، بينما لم أكسب أنا مثل هذا المبلغ طوال فصل
الشتاء».
47 وبعد ثلاثة شهور مات الرجل. لم يشغل
«ماركس» نفسه بحضور جنازته، بل بدأت ضغوطه على
أمه. كان قد اتبع أسلوب الحياة اعتمادًا على
الاقتراض من الأصدقاء وابتزاز مبالغ من العائلة من
وقت لآخر، كان يقول إنها عائلة غنية بما يكفي، وأن
من واجبها أن تعوله وتكفيه من أجل عمله المهم.
وباستثناء عمله في الصحافة والذي كان هدفه منه
سياسيًّا أكثر من الحصول على دخل، لم يحاول
«ماركس» بجدية أن يبحث عن عمل، رغم أنه تقدم مرة
لوظيفة عامل سكة حديد في لندن (سبتمبر ١٨٦٢م) ولم
يقبلوه لرداءة خطه. ويبدو أن عدم استعداده للبحث
لنفسه عن عمل هو السبب الرئيسي لعدم تعاطف العائلة
معه في طلباته المتكررة. رفضَت أمه أن تسدد ديونه،
كانت تعرف أنه سوف يقع فيها مرة أخرى … وفي
النهاية قطعت صلتها به تمامًا. كانت تصدق أمنيتها
المرة في أن «كارل» سوف يجمع رأس المال بدلًا من
مجرَّد الكتابة عنه». إلا إنه بطريقةٍ أو أخرى
استطاع أن يحصل على مبالغ مالية كبيرة بالميراث.
ورث عن والده بعد موته ٦٠٠٠ فرانك ذهب، أنفق بعضها
على تسليح العمال البلجيك. جلب له موت أمه مبلغًا
أقل مما كان يتوقع كان قد اقترض من خاله «فيلبس»
مسبقًا. وصله أيضًا مبلغ محترم من ضيعة «ولهلم
وولف» في سنة ١٨٦٤م، كما جاءته أموال أخرى عن طريق
زوجته وعائلتها (كانت قد أحضرت معها ضمن جهاز
زواجها طاقم آنية من الفضة الخالصة ورثته عن
أجدادها الأرجيل وأدوات مائدة فخمة ومفارش)، كما
كانت تصلها مبالغ كبيرة وكانا يستثمرانها ولم يهبط
دخلهما عن مائتَي جنيه في ثلاثة أمثال متوسط أجر
عامل ماهر. ولكن لا «ماركس» ولا «جيني» كان لهما
أي اهتمام بالمال أكثر من إنفاقه. كانا يبددان ما
وصلهما بالميراث أو بالاقتراض ولم يكن معهما أي
مبلغ زائد أبدًا. بالعكس، كانا دائمًا مدينين
وأحيانًا بمبالغ كبيرة. طاقم الفضة كان باستمرار
في محلات الرهن مع أشياء أخرى … ملابس الأسرة
مثلًا. وفي وقت ما كان على «ماركس» أن يترك المنزل
محتفظًا ببنطلون واحد. عائلة «جيني» مثل عائلته
رفضَت مساعدة زوج ابنتهم الذي كانوا يعتبرونه
عاطلًا ومسرفًا وقصير النظر. كتب في مارس ١٨٥١م
إلى «إنجلز» يبلغه بمولد طفلة له وكان يشكو: «لا
يوجد في المنزل أي بنس بمعنى الكلمة.»
48 في هذا الوقت كان «إنجلز» قد أصبح
موضوع استغلاله. منذ منتصف الأربعينيات (١٨٤٠م)
عندما تقاربا وحتى موت «ماركس» كان «إنجلز» هو
مصدر الدخل بالنسبة لأسرة «ماركس» كان يعطيهم أكثر
من نصف ما يحصل عليه. ومن الصعب أن نحسب كل ما
أنفقه عليهم لأنه كان يفعل ذلك على مدى ربع قرن
وبمبالغ متفاوتة، مصدقًا وعود «ماركس» بأنه سوف
يسدد ديونه بمجرَّد أن تصله أموال. كانت العلاقة
علاقة استغلال من جانب «ماركس» وغير متكافئة
بالمرة، حيث إنه كان المسيطر دائمًا. مع ذلك كان
كلاهما في حاجة للآخر بطريقةٍ غريبة مثل ممثلَين
كوميديَّين في فصل مشترك على المسرح لا يستطيع
أحدهما أن يؤدِّي دوره دون الآخر، كل منهما يرطن
منفصلًا ولكنهما في النهاية معًا. هذه الشراكة
انهارت في ١٨٦٣م عندما شعر «إنجلز» بأن تطفل
«ماركس» قد زاد عن حده. كان لدى «إنجلز» منزلان في
«مانشستر»، الأول لضيوف العمل والثاني لعشيقته
«ماري بيرنز» التي حزن عليها كثيرًا عندما ماتت،
وغضب لاستلامه رسالة من «ماركس» (٦ يناير ١٨٦٣م)
مجرَّدة من المشاعر يعزيه فيها باختصار ثم ينتقل
في الحال إلى ما هو أهم وهو طلب نقود
منه.
49 ولا شيء يمكن أن يصور أنانية «ماركس»
المفرطة أكثر من هذا الموقف. رد عليه «إنجلز»
ببرود وأنهى ذلك الحادث العلاقة بينهما تقريبًا،
أو لعلها لم تعد كما كانت أبدًا بعد أن أظهر ذلك
الموقف حدود شخصية «ماركس». ويبدو أن «إنجلز»
اكتشف هذه المرة أن «ماركس» لن يكون قادرًا على
الحصول على عمل أو إعالة أسرته أو تنظيم حياته.
كان الشيء الوحيد الذي يمكن أن يفعله من أجله هو
أن يدفع له إعانة منتظمة، وهكذا في سنة ١٨٦٩م باع
«إنجلز» ما كان يملكه وضمن لنفسه دخلًا أكثر من
٨٠٠ جنيه في السنة، كان يعطي «ماركس» منها ٣٥٠
جنيهًا. وعلى مدى الخمس عشرة سنة الأخيرة من حياته
كان «ماركس» يحصل على ريع من أرض مؤجرة وكان يشعر
بالأمان إلى حدٍّ ما، وكان معدل إنفاقه ما يقرب من
خمسمائة جنيه في السنة وربما أكثر، كان ذلك أمام
«إنجلز» بأن شكل البروليتاريا لن يكون مناسبًا له
في ذلك المكان،
50 وعليه استمرَّت رسائله إلى «إنجلز»
والتي كان يطلب فيها مزيدًا من المساعدات
المالية،
51 إلا أن أكبر المتضررين وضحايا إسرافه
وتبذيره وعدم استعداده للعمل كان أفراد أسرته
وزوجته في المقام الأول. «جيني ماركس» واحدة من
أكثر النساء مأسوية واستحقاقًا للرثاء في تاريخ
الاشتراكية. كانت تحمل الملامح الاسكتلندية
الواضحة، بشرة شاحبة، عينان خضراوان، شعر أسود
يميل إلى الحمرة أخذته عن جدتها لأبيها. وكانت من
سلالة «الإيرل الثاني» في «أرجيل»، والذي قتل في
«فلادن». كانت تحبه بعنف كما كانت تحارب معاركه مع
عائلته وعائلتها، ولم يمُت حبها له إلا بعد سنواتٍ
طويلة من الألم والحسرة.
ولكن كيف يتسنى لإنسان أناني مثل «ماركس» أن
يفجر مثل تلك العاطفة؟ الإجابة — في تقديري — أنه
كان بارعًا وقويًّا في شبابه، وفي بداية سن
الرجولة كان وسيمًا رغم قذارته الدائمة وكان شخصية
مرحة ومسلية رغم أن المؤرخين لا يولون أهمية لتلك
الصفة، (كانت تلك أيضًا إحدى مزايا «هتلر» سواء
على انفراد أو كمتحدث عام)، كانت سخريات «ماركس»
وفكاهاته عنيفة ومتوحشة، وكانت نكاته الذكية تُضحك
الناس. ولولا المرح والفكاهة لبرزت كل صفاته
السيئة الأخرى، ولما تجمع حوله أحد، ولأدارت له
النساء ظهورهن.
النكات دائمًا هي الطريق الأكيدة إلى قلوب
النساء المتعبات، كثيرًا ما كان يُسمع «ماركس»
و«جيني» وهما يضحكان معًا، وبعد ذلك كانت نكاته
أيضًا سبب ارتباط بناته به. كان «ماركس» يزهو
بالأصل الاسكتلندي النبيل لزوجه، وكان يبالغ في
ذلك، وبصفتها ابنة أحد البارونات وأحد الكبار في
الحكومة البروسية. في سنة ١٨٦٠م وزع بطاقات دعوة
لحفل راقص كتب اسمها فيه «ني فون وستفالين» (أي
أنه ألحق به اسم أسرتها قبل زواجهما لكي يذكر
بأصولها)، وكان كثيرًا ما يؤكد أنه يستطيع أن
يتعايش مع الأرستقراطيين الحقيقيين عنه مع
البرجوازية المتطلعة (ويقول شهود أنه كان يلفظ
الكلمة الأخيرة بازدراء شديد)، ولكن «جيني» بعد أن
حدث وتزوجت من ثوري عاطل وبلا وضع اجتماعي كانت
تعيش حياة برجوازية مهما بدت صغيرة، ومنذ بداية
١٨٤٨م وعلى مدى السنوات العشر التالية على الأقل
كانت حياتها كابوسًا طويلًا.
في ٣ مارس ١٨٤٨م صدر أمر رسمي بلجيكي بطرد ماركس
وأُخذ إلى السجن، وقضت جيني الليلة في زنزانة هي
الأخرى مع مجموعة من العاهرات، وفي اليوم التالي
أُخذت الأسرة مخفورة إلى الحدود. معظم السنة
التالية كان إمَّا هاربًا أو مطلوبًا للمحاكمة.
وفي يونيو ١٨٤٩م كان قد أصبح معدمًا. في الشهر
التالي كان يعترف لأحد الأصدقاء: «وجدت آخر قطعة
في حلي زوجتي طريقها إلى محل الرهن.»
52 كان «ماركس» يحافظ على روحه المعنوية
بتفاؤل ثوري عبثي دائم، ويكتب إلى «إنجلز»: «رغم
كل شيء فإن البركان الثوري، الانفجار الشامل لم
يبدُ قريبًا كما هو الآن، والتفاصيل فيما بعد.»
أما بالنسبة لزوجته فلم يكن هناك عزاء أو سلوى من
هذا النوع، وكانت في فترة الحمل. «ماركس» و«جيني»
وجدا الأمان في «إنجلترا» … والتدهور الاجتماعي
أيضًا.
والآن كان لديهما ثلاثة أطفال: «جيني» و«لورا»
و«إدجار»، وفي نوفمبر ١٨٤٩م جاء الرابع: «جي»، أو
«جيدو».
بعد خمس شهور طردوا من مسكنهم في «شيلسي» لعدم
تسديد الإيجار وخرجوا «إلى الرصيف» — كما كتبَت
«جيني» — أمام كل الدهماء في «شيلسي». باعوا
الأسِرَّة لكي يسددوا ديونهم للجزار وبائع الحليب
والخباز والصيدلي، ثم وجدوا مأوى في منزل قذر في
«ليستر سكوير»، كان يقيم فيه بعض الألمان
المهاجرين، وهنا وفي نفس الشتاء مات الطفل «جيدو»،
ولم يمنعها حبها ﻟ «ماركس»، من كتابة وصف بائس
لتلك الأيام السوداء.
53
وفي ٢٤ مايو ١٨٥٤م تسلم السفير البريطاني في
«برلين» «إيرل ويستمور لاند» تقريرًا من جاسوس
بروسي عن نشاط الثوار الألمان المتحلقين حول
«ماركس»، ولا شيء أبلغ من ذلك يمكن أن يعبر عما
كانت «جيني» تتحمله: «يعيش «ماركس» حياة مثقف
بوهيمي، غسيل الملابس أو العناية بنفسه أو تغيير
أغطية الفراش أشياء لا يقوم بها إلا نادرًا، ومعظم
الوقت في حالة سكر. رغم أنه عاطل معظم الأيام إلا
أنه يمكن أن يعمل ليل نهار بلا كلل إن كان هناك
عمل.»
ليس له وقت محدد للنوم أو الاستيقاظ. عادة يسهر
طوال الليل ثم يرقد بكامل ثيابه على الأريكة ويظل
نائمًا حتى المساء. لا يزعجه دخول أو خروج الدنيا
كلها عليه وهو نائم … لا توجد قطعة أثاث واحدة
سليمة أو نظيفة، كل شيء مكسور، ممزق، رث، طبقات من
الغبار تغطي كل شيء والفوضى تعم المكان. في وسط
غرفة المعيشة توجد طاولة كبيرة من طراز قديم عليها
مفرش من البلاستيك، فوقه مخطوطات وكتب وجرائد ولعب
أطفال وقطع قماش ومزق من سلة الخياطة الخاصة
بزوجته، وأكواب بحواف مكسورة وسكاكين وشوك ولمبات
ومحبرة وكئوس، وغلايين تبغ ورماد … إن صاحب أي محل
خردة ليخجل من بيع تلك الأشياء الغريبة.
عندما تدخل غرفة «ماركس» تدمع عيناك من رائحة
التبغ والدخان، كل شيء قذر يغطيه التراب والجلوس
مخاطرة، هنا كرسي بثلاثة أرجل، وعلى كرسي آخر
الأطفال يلعبون لعبة الطبخ. هذا كرسي وحيد بأرجل
كاملة وهو الذي يقدم عادة للضيوف، ولكن الطعام
الذي يطبخه الأطفال موجود فوقه، وإذا غامرت
بالجلوس فعلى بنطالك «السلام».
54
وربما يكون هذا التقرير المكتوب في ١٨٥٠م هو
الذي يصف أسوأ مرحلة في حياة الأسرة، إلا أن
السنوات التالية حملت لهم أيضًا المزيد من
الضربات.
«إدجار» الابن المحبوب والأقرب إلى قلب «ماركس»
والذي كان يدلله ﺑ «موش» — أي الذبابة الصغيرة —
أُصيب بالتهاب معوي حاد وساءت حالته ومات في سنة
١٨٥٥م، وكان موته ضربة قاصمة لكليهما، لم تبرأ
«جيني» منها.
كتب «ماركس» يقول: «كل يوم تقول لي زوجتي أنها
تتمنى الموت.»
وماتت طفلة أخرى، «إليانور»، وكان عمرها ثلاثة
شهور ولكنها لم تكن نفس الشيء بالنسبة ﻟ «ماركس»
كان يريد أبناء ذكورًا، والآن لم يعد لديه أحد.
البنات لم تكن لهن أهمية عنده إلا كمساعدات في
أعمال السكرتارية.
في ١٨٦٠م أُصيبت «جيني» بالجدري وفقدت ما كان قد
تبقى من جمالها، وإلى أن ماتت في سنة ١٨٨١م كانت
نسيًا منسيًّا في ذاكرة «ماركس»، امرأة متعبة،
متحررة من الوهم، شاكرة لنعمٍ قليلة: الأدوات
الفضية عادت من محل الرهن، ومنزل خاص بها، وفي سنة
١٨٥٦م وبفضل «إنجلز» استطاعت الأسرة أن تنتقل من
«سوهو» إلى منزل بالإيجار (٩ جرافتون تراس-هافر
ستوك هل)، وبعد تسع سنوات وبفضل «إنجلز» أيضًا كان
لديهما منزل أفضل (١ ميتلاند بارك رود)، ومن الآن
فصاعدًا لن يكون لديهم أقل من خادمَين.
كان «ماركس» يقرأ جريدة «التيمز» كل صباح واختير
عضوًا في مجلس الكنيسة، وفي أيام الأحد كان يخرج
مع الأسرة للنزهة في «هامستيد هيث» … هو يسير في
الأمام وزوجته وبناته خلفه … ولكن تبرجز «ماركس»
أدى إلى شكل آخر من الاستغلال … كان هذه المرة
استغلاله لبناته.
البنات الثلاث كن في منتهى الذكاء، ونتصور أنه
لكي يعوضهن عن طفولتهن الفقيرة والمضطربة التي
تحملنها كأبناء ثائر، أنه سوف يتبع منطقًا ثوريًّا
ويشجعهن على العمل. الحقيقة أنه لم يوافق على
تعليمهن تعليمًا كافيًا. رفض أن يحصلن على أي
تدريب، وأن يعملن … رفض عملهن تمامًا. وكما قالت
«إليانور» — وكانت أكثرهن حبًّا له — ﻟ «أوليف
سكرينر»: «على مدى سنواتٍ بائسة، كان بيننا وبينه
حاجز.» ظلت البنات بالمنزل يتعلمن العزف على
البيانو والرسم بالألوان المائية مثل بقية بنات
التجار، وعندما كبرن كان «ماركس» ما زال يذهب إلى
الحانات من وقت لآخر مع رفاقه الثوريين. ولكن
حسبما يقول «ويلهلم ليبكنشت»: «إنه كان يرفض أن
يغنون أغنيات خليعة في منزله خشية أن تسمعها
البنات.»
55
بعد ذلك رفض كل مَن تقدموا للزواج من بناته من
بين رفاق الوسط الثوري. لم يعرقل زواجهن ولم يستطع
أن يمنعهن ولكنه كان يعقد الأمور، وقد تركت
معارضته آثارًا كبيرة. كان يطلق على «بول لافارجو»
زوج «لورا» ابنته — وهو من «كوبا» وفي دمه أثر
زنجي — اسم «نجرلو» أو «الغوريلا». لم يكن يحب
«تشارلز لونجت»، الذي تزوج ابنته «جيني». كان
الزوجان في نظره أغبياء: «لونجت» آخر
«البرودوينيين»، و«لافارجو» آخر «الباكونانيين» …
«إلى الجحيم بهما». ابنته الصغرى «إليانور» هي أكث
عانت بسبب رفضه لعمل بناته وعدائه
لخطابهن.
56
كان «إدوارد آفلنج» كاتبًا وفي الطريق لأن يصبح
سياسيًّا يساريًّا، وكان صياد نساء وخبيرًا في
إغواء الممثلات. كانت «إليانور» تريد أن تصبح
ممثلة وبالتالي كانت فريسة طبيعية. ومن سخريات
التاريخ الحادة أنه شارك مع «إليانور» و«برنارد
شو» في أول قراءة خاصة لمسرحية «إبسن»: «بيت
الدمية» التي تدعو إلى حرية المرأة وكانت
«إليانور» تلعب دور «نورا». وقبل موت «ماركس» بوقت
قصير كانت قد أصبحَت عشيقة «آفلنج» ثم عبده المطيع
كما كانت أمها بالنسبة لأبيها ذات يوم.
57
وربما كان «ماركس» دائمًا في حاجة إلى زوجته
بأكثر مما يعترف؛ إذ بعد موتها في سنة ١٨٨١م انطفأ
بسرعة. كان لا يعمل، وأصبح يتردد على عدد من
المصحات الأوروبية للعلاج أو يسافر إلى «الجزائر»
و«مونت كارلو»، و«سويسرا» بحثًا عن الشمس والهواء
النقي. وفي ديسمبر ١٨٢٨م كان سعيدًا لتزايد تأثيره
في «روسيا»: «لا يبهجني نجاحي في أي مكان من
العالم أكثر من هنا»، ولأنه ظل مخربًا إلى النهاية
كان يتباهى: «مما يجعلني أشعر بالرضا أن أدمر تلك
القوة التي تعتبر القلعة الرئيسية للمجتمع القديم
بعد «إنجلترا»». وبعد ثلاثة شهور مات في رداء
النوم وهو جالس إلى جوار المدفأة، وكانت إحدى
بناته «جيني» قد ماتت قبل ذلك بأسابيع
قليلة.
نهاية البنتين الأخريين كانت مأسوية كذلك.
«إليانور» التي كانت كسيرة القلب بسبب سلوك زوجها
تعاطت جرعة زائدة من الأفيون في سنة ١٨٩٨م وربما
كان ذلك ضمن اتفاق معه على الانتحار معًا ولكنه لم
ينفذ وعده. وبعد ١٣ سنة اتفقت «لورا» و«لافارجو»
على ميثاق انتحار … نفذاه.
وبقي على أية حال شخص واحد على قيد الحياة من
تلك الأسرة المأسوية، والذي كان نتاج أسوأ عمليات
«ماركس» في الاستغلال. في جميع أبحاثه عن مساوئ
الرأسمالية البريطانية صادف «ماركس» عمالًا كثيرين
كانوا يحصلون على أجور متدنية، ولكنه فشل في أن
يكتشف أحدًا لا يحصل على أي شيء على الإطلاق، إلا
أن ذلك العامل كان موجودًا … وبين أهل
منزله.
عندما كان «ماركس» يأخذ أسرته للنزهة أيام
الأحد، كانت هناك دائمًا في المؤخرة امرأة سمينة
تحمل السلة واحتياجات الأسرة الأخرى. كان اسمها
«هيلين ديمث»، وكانت تعرف بين الأسرة باسم
«لينشن»، وهي من مواليد ١٨٢٣م لأسرة من الفلاحين.
لحقت بعائلة «واستفالين» وهي في الثامنة كمربية.
كانت تعيش معهم ولا تحصل على أجر. وفي سنة ١٨٤٥م
عندما شعرت البارونة بالقلق على ابنتها المتزوجة،
تركت لها «لينشن» لكي تخفف عنها وكانت حينذاك في
الثامنة والعشرين. وهكذا بقيت «لينشن» مع أسرة
«ماركس» حتى وفاتها في ١٨٩٠م، كانت «إليانور»
تعتبرها أرق إنسانة في الوجود مع الآخرين، بينما
كانت طوال حياتها «لا ترحم نفسها».
58 كانت نشيطة: تطبخ وتنظف المنزل وتدبر
أموره المالية وهو ما كانت «جيني» لا تستطيع أن
تقوم به؛ لم يدفع لها «ماركس» بنسًا واحدًا. وفي
سنة ١٨٤٩-١٨٥٠م، أثناء أسوأ فترات حياة الأسرة
أصبحَت «لينشن» عشيقة ﻟ «ماركس»، وحملت منه. كان
الطفل «جيدو» قد مات منذ وقت قصير، ولكن «جيني»
كانت قد حملت مرة أخرى. جميع أهل البيت كانوا
يعيشون في غرفتين وكان على «ماركس» أن يخفي أمر
«لينشن» عن زوجته وكذلك عن زواره العديدين من
رفاقه الثوريين.
ولكن «جيني» اكتشفت الأمر في النهاية أو ربما
يكون أحد قد أخبرها به ليضاعف ذلك تعاستها في تلك
الأيام، وربما كان ذلك نهاية حبها ﻟ «ماركس». كانت
تعتبر ذلك «حدثا لن أقف عنده طويلًا رغم أنه قد
سبب الكثير من أحزاننا العامة والخاصة»، جاء ذلك
في مقال على شكل سيرة ذاتية كتبَته في سنة ١٨٦٥م
في ٣٧ صفحة منها ٢٩ صفحة موجودة حتى الآن، وربما
تكون «إليانور» قد دمرت الصفحات الأخرى التي كانت
تصف فيها أمها مشاجراتها مع أبيها.
59
ولدَت «لينشن» طفلها في مسكنهم في ٢٣ يونيو
١٨٥١م (٢٨ دين ستريت).
60 وتم تسجيله باسم «هنري فردريك ديموث»،
رفض «ماركس» الاعتراف به حينذاك وبعد ذلك أيضًا
وكان يرفض أن يقول أحد أنه ابنه، ربما كان يريد أن
يفعل ما فعله «روسو» وهو أن يسلم الطفل لأحد
الملاجئ أو لأحد يتبناه. ولكن شخصية «لينشن» كانت
أقوى من كونها عشيقة فأصرت على أن تعترف هي بالطفل
ووضعته في رعاية أسرة عاملة هي عائلة «لويس»، وكان
يسمح له بزيارة بيت «ماركس». كان ممنوعًا من
استخدام الباب الرئيسي ولا يرى أمه إلا في المطبخ.
كان «ماركس» يخشى أن تكتشف أبوته ﻟ «فريدي» وأن
يسبب له ذلك ضررًا بالغًا كقائد ثوري وروائي. هناك
إشارة غامضة إلى ذلك في أحد خطاباته، أما الأدلة
الأخرى فقد اختفت على يد كثيرين. وفي النهاية أقنع
«إنجلز» بأن يعترف بالطفل كعملية تغطية،
وللاستهلاك الأسري، وهذا فعلًا ما صدقته
«إليانور». ولكن «إنجلز» ورغم استعداده الدائم
للخضوع لمطالب «ماركس» من أجل عملهما المشترك، لم
يكن مستعدًّا لأن يحمل ذلك السر معه إلى القبر.
«إنجلز» مات بسرطان الحنجرة في ١٥ أغسطس ١٨٩٥م، لم
يكن قادرًا على الكلام ولكن لم يكن أيضًا على
استعداد لأن يجعل «إليانور» (وكان يُسمِّيها
«تاسي») تستمر على اعتقادها بأن والدها كان
بريئًا. كتب على لوح: ««فريدي» ابن «ماركس»، ولكن
«تاسي» تريد أن تصنع من والدها وثنًا.» وفي رسالة
من «لويزا فريبيرجر» مدبرة منزل «إنجلز» وسكرتيرته
إلى «أو جست بيبل» في ٢ سبتمبر ١٨٩٢م تقول إن
«إنجلز» كان قد قال لها الحقيقة. وتضيف: ««فريدي»
يشبه «ماركس» بطريقةٍ غريبة، هذا الوجه اليهودي
والشعر الأزرق المائل للسواد يجعلنا نعتبر نسبته
إلى الجنرال ضربًا من التعصب الأعمى.» (وكانت تسمي
«إنجلز» بالجنرال). «إليانور» نفسها قبلت حقيقة أن
«فريدي» أخ غير شقيق وتعلقت به، وهناك ٩ رسائل من
التي كتبَتها إليه،
61 ولكنها لم تجلب له أي حظ حسن حيث نجح
حبيبها «آفلنج» في اقتراض مدخرات «فريدي» ولم
يسددها.
كانت «لينشن» هي الإنسان الوحيد من الطبقة
العاملة التي لم يعرفها «ماركس» أبدًا بشكلٍ جيد.
كانت الاتصال الحقيقي الوحيد له بالبروليتاريا،
وربما يكون «فريدي» هو الثاني حيث نشأ كشاب من
الطبقة العاملة، وفي السادسة والثلاثين حصل على
شهادة كمهندس تركيبات، قضى حياته كلها تقريبًا في
«كنجز كروس»، و«هاكني»، وكان عضوًا دائمًا في
اتحاد المهندسين. ولكن «ماركس» لم يعرفه أبدًا.
التقيا مرة واحدة عندما كان «فريدي» يصعد السلم
الخلفي للمطبخ ولم يكن لديه فكرة أن يكون هذا
الفيلسوف الثوري والده. مات في يناير ١٩٢٩م في
الوقت الذي كانت رؤية «ماركس» عن دكتاتورية
البروليتاريا تأخذ شكلها المحدد والمرعب.
كان «ستالين» — الحاكم الذي حقق السلطة المطلقة
التي كان يتمناها «ماركس» — يبدأ هجومه الفاجع على
الفلاحين الروس.