الفصل الثاني
وجدت نفسي — دون أن أدري — أعود من طريق آخر طويل وبعيد عن المدينة، وشعرت بصوت حيوان ضخم يدوي في أذني.
مضيت في طريقي عبر المناطق الصناعية التي تغذِّي البلاد بالثورة، وأبصرت بعض جرارات متجاورة كالتماثيل داخل فناء أحد المصانع، ثم ظللت أسير خلف شاحنة فحم ضخمة مسافة كبيرة وأنا أتأمل العمال السود فوقها، فبدَوا لي أكثر سوادًا من الفحم ذاته … كانوا مربوطين حول الكانون المشتعل خشية السقوط من فوق الشاحنة المسرعة، وعند اقترابي من ضواحي المدينة وجدتني أسير خلف شاحنة أخرى محملة بالأثاث … كان الرجال السود متعلقين بالأثاث بطريقة مستهترة وكأنهم لا يهتمون بالسقوط أو الموت، وكان أحدهم يشد بإحدى يديه قبعة لاعب الجولف فوق عينيه ويستخدم اليد الأخرى في معاكسة البنات السود اللاتي كن يضحكن لذلك أو يبدين التجاهل دون أن يبدو على أي منهن أي شعور بالمهانة أو الانتهاك، وعندما أبصر الشاب الأسود ذو القبعة ابتسامتي لم يعرني أي اهتمام.
توقفت عند مراكز البيع لشراء بعض الطعام المعلب والسجائر، ثم جلست إلى طاولة فوق رصيف أحد المقاهي وتناولت فنجانًا من القهوة.
كان المكان مزدحمًا بالنساء الصغيرات اللاتي يرتدين البنطلونات والأحذية الغالية، وكان الرجال يرتدون ملابس نهاية الأسبوع ويطلبون الآيس كريم للأطفال، وكانت تشاركني الطاولة سيدة كبيرة بملابس أنيقة وفراء.
قالت السيدة الكبيرة الأنيقة: لقد طلبت بعض الأشياء وعلبة سجائر فضية فإنه يحتاج إليها عندما يذهب للحفلات.
تساءلت بيني وبين نفسي: وهل يحتاج لعلبة سجائر فضية عندما يذهب لقاع البحر؟
كانت تشبه أم ماكس تمامًا في أناقتها ولون بشرتها الأبيض ورشاقتها، ولا بد أنها تستخدم بعض المراهم والدهانات في تحسين وجهها وشعرها، وتلك الخطوط الجميلة فوق عينيها الزرقاوين المتجعدتين … كانت تحرك أظافر أصابعها الوردية بثقة ويبدو رأسها أيضًا كرأس السيدة فان دن ساندت الأرملة التي تستخدم القلم الملون المعلق فوق موقد النار بحجرة الجلوس.
كيف تركت أم ماكس كل ذلك الأثر بداخلي عندما كنت في السابعة عشرة من عمري في المرة الأولى التي ذهبت فيها إلى المزرعة مع ماكس؟! … كانت السيدة فان دن ساندت امرأة جذابة إلى حد بعيد، وأذكر أنني في ذلك الحين لم أكن أعرف أنه من الممكن أن تكون الحياة جميلة وسارة، فالبوفيه تفوح منه رائحة عطر فوَّاح والحمامات تحوي بداخلها سجاجيد رقيقة وأباريق زيت وزجاجات كولونيا كبيرة يمكن لأي شخص أن يستخدمها.
قال ماكس يومئذٍ: نعم … إن أمي تضع غطاءً مزركشًا فوق كل شيء حتى فوق مقعد دورة المياه وأيضًا فوق عقلها.
كان الضيوف يغارون منها بسبب أولئك الخدم المهرة الذين يعملون عندها، وعند سماعي لعبارة الغيرة والحسد كنت أتذكر أبناء البلد الذين اعتادوا على الحضور من أماكن بعيدة لزيارة أمي والقيام على خدمتها، وخاصة ذلك العجوز الذي كان يحضر مرة في الشهر بانتظام، وكانت أمي تقدم له بيديها فنجانًا من القهوة وهو جالس تحت الشجرة … نعم، إنني أرى ذلك الآن بوضوح.
تزوجت أم ماكس سليلة إحدى العائلات الهولندية برجل يتحدث الإنجليزية دون أن يعلنا زواجهما، وعملت بمختلف سفارات جنوب أفريقيا في أوروبا، ورغم أنها كانت دائمًا تبدأ حديثها الخفيف السريع بكلمة «عزيزي» مثل طراز النساء الإنجليزيات من جيلها، إلا أنها ظلت تتحدث بالأفريكانية، أما والد ماكس ورغم اسمه الفلمنكي، إلا أنه من أسرة إنجليزية هاجرت إلى جنوب أفريقيا مع بداية العمل في مناجم الذهب، وقد كان رجلًا نحيفًا ذا وجه أحمر كبير ومتألق وله شعر خشن ممشط للخلف وذقن مشقوق، وقد كان بطريقة ما يتعامل مع بعض الناس الذين يكرههم أو يخافهم ولا يتورَّع عن الضحك مع أحد منافسيه السياسيين.
ومنذ اليوم الأول الذي ذهبت فيه إلى ذلك البيت كان الناس دائمًا موجودين حيث الحفلات ولعب البريدج في المساء، بالإضافة إلى الأصدقاء واجتماعاتهم التي تنتهي بالشراب وتناول وجبات خفيفة من الطعام، وكان جوناس وألفريد بوشاحهما الأحمر يدخنان السيجار.
بعد أن أصبحت زائرة منتظمة كانت السيدة فان دن ساندت تتجول بيننا ونحن نشرب أو نتبادل الحديث وتقول: أيها الأولاد … تعالوا وتناولوا بعض الطعام.
كنا نسمع كلامها ونمضي وسط الخدم بملابسهم السوداء ذات الأشرطة والدبابيس فوق البطون، فتستطرد السيدة فان دن ساندت قائلة لبعض الضيوف: بالطبع تعرفون ماكس، إنه ابني وهذه إليزابيث الصغيرة. ثم تقول لماكس: فلتأكل شيئًا يا حبيبي ولا بد أن تعتني بهذه الفتاة … إنها لا تبدو سعيدة.
كبر ماكس وسط ذلك الجو لكنه كان يشاركني عدم الاهتمام بحديثهم عن الأسهم المالية والسوق والكمبيالات التي يعتمدون فيها على العامل الرخيص، وكنا نشعر بالغثيان حين يتحدثون عن البنوك والاستثمارات وتقسيم الأراضي وكيفية الاحتفاظ بأفضلها لهم.
كنت ما أزال جالسة إلى الطاولة فوق رصيف المقهى، وحين رفعت فنجان القهوة إلى فمي أبصرت الحقيبة المفتوحة للسيدة الجالسة إلى جواري والتي ذكرتني بالسيدة فان دن ساندت وعائلتها، ثم تذكرت حقيبتها المليئة بألعاب الصبية والتمائم والقلم الرصاص المطلي بماء الذهب وعلبة الدواء المرصعة بالجواهر … كان ماكس ميتًا بالنسبة لعائلته منذ أن قبضوا عليه بتهمة التخريب مع بعض رفاقه من البيض، حتى إن والده استقال من البرلمان، وتوقفت أمه عن الحضور إلى المحكمة رغم رصدها لمبلغ كبير دفاعًا عنه … كانت تأتي إلى المحكمة في البداية وتجلس في القاعة العامة بجوار بني جنسها من ذوي اللون الأبيض بشرط أن تكون بعيدة عني، وذات يوم دخلت المحكمة بعباءة قصيرة ورقيقة من الدانتيلا، وكان شعرها مصففًا بطريقة حديثة وترتدي حذاءً وقفازًا متناسقين تمامًا، فعرفت مدى اهتمامها بأناقتها، وتذكرت قول ماكس: إن أمي تضع غطاءً مزركشًا فوق كل شيء حتى فوق مقعد دورة المياه وأيضًا فوق عقلها.
جلست بثبات فوق المقعد الصلد وكانت أهداب جفونها المصبوغة تميل في اتجاه وجنتيها، ولم يحدث أن تطلعت حواليها خشية أن تصطدم نظراتها بنظرات زوجات وأمهات وأصدقاء بقية المتهمين البيض، كما لم تنظر إلى يسارها عبر الحاجز حيث الرجال السود الكبار بمعاطفهم الممزقة والنساء ذوات الأربطة اللاتي كن يجلسن بقلق ونفاد صبر كالزنبرك.
رحنا جميعًا نتحدث في فترة الراحة، وكانت المجموعات الواقفة من ممرات المحكمة تعترض بعضها البعض، فإذا بي فجأة أشم رائحتها وأجد نفسي في مواجهتها تمامًا فاضطرت أن تفتح فمها بعد سنوات من الصمت بيننا.
قالت: ماذا فعلنا لنستحق كل هذا؟
أبصرت تحت عينيها وفيما بين شفتيها وذقنها صراعًا بين جمالها وعمرها المتقدم ولا أعرف كيف قلت: أنت تتذكرين اليوم الذي حرق فيه ملابس أبيه.
كان وقع الأقدام يحيطنا من كل اتجاه فشعرنا بالأرض تهتز من حولنا حين قالت: لا شيء فيما فعل، فكل الأولاد كذلك.
قلت: لا، إن في ذلك الكثير، فلقد كان يعاني مشكلة في المدرسة حاول كثيرًا أن يتحدث بشأنها مع أبيه، لكن أباه كان دائمًا مشغولًا، وفي كل مرة حاول فيها قول ما يريد كانوا يقولون له: اذهب الآن لأن أباك مشغول.
ضحكت ضحكة مريبة وسألت: عن أي شيء تتحدثين؟
أجبت: ربما لا تتذكرين لكنك بالطبع تتذكرين محاولات زوجك الكثيرة من أجل دخول الوزارة عندما كان عضوًا بارزًا في البرلمان، وتعرفين جيدًا كيف أنه كان مشغولًا إلى حد بعيد.
استدارت كما يفعل المرء عندما لا يجد شيئًا يقوله.
كانت عائلة فان دن ساندت تعاملني كصديقة ليس من أجل شخصي، وإنما لأجل ماكس بعدما رأوا اهتمام كلينا بالآخر، خاصة وأن ابنهم لا يشغل وقته في نادي المدينة، كما أنه ليس عضوًا بحزب الشباب الوحدوي، وكانوا ينادونني بالفتاة الصغيرة ليس لصغر حجمي وإنما دليل على وضعي الاجتماعي، فقد جئت من مدينة صغيرة وكنت ابنة لأحد أصحاب الدكاكين، أما والد ماكس فهو من رجال الصفوة في الحكومة العنصرية، بالإضافة إلى إدارته لشركة تعبئة البلاستيك ومصنع السجائر.
لم يتعاملوا مع ماكس بجدية كافية حين كان طالبًا، وكانوا يسمعون عن أنشطته السياسية من الطلبة كما عرفوا بعضويته في إحدى الخلايا الشيوعية، لكنهم لم يقفوا كثيرًا أمام ملابسه البوهيمية وعدم ظهوره في حفلات المساء؛ لأنهم كانوا يرون كل ذلك مجرد لعبة لن تطول، غير أنهم لم يسمعوا عن الوقت الذي كان يقضيه مع الطلبة الأفارقة والهنود في بيوتهم بحي الأقليات بالمدينة، والذي لم يسبق أن ذهب إليه ماكس من قبل، حيث قدموه هناك لسائقي الرجال البيض وعمال المصانع والنظافة الذين يستعرضون وجهات نظرهم وأفكارهم الخاصة ورغبتهم في تحقيق مطالبهم التي لا تعرفها أو تشعر بها عائلة فان دن ساندت.
«نحن شعب جنوب إفريقيا» … هكذا كانت تقول أم ماكس ولم تكن تعني بذلك سوى الأفريكان والبيض الذين يتحدثون الإنجليزية، وعندما طالب والد ماكس بوحدة جنوب أفريقيا من أجل التقدم والرخاء للجميع كان يعني نفس الشيء، مشيرًا إلى رفع أجور البيض ومنحهم السيارات، لكنه وأمثاله لم يذكروا شيئًا في البرلمان عن السكان الأصليين الذين يمثلون حوالي أحد عشر مليونًا والذين يعانون من القلق في حياتهم وعملهم ولم يعرفوا — منذ مجيء الرجل الأبيض — أفضل من الكوخ الطيني بين الأشجار المتناثرة مكانًا لهم.
كانت القلة المتعلمة من السود مثار دهشة السيدة فان دن ساندت التي قالت وهي تفكر بالحشرات الزاحفة من شقوق حجراتهم وسط ضوء الشموع الضعيف: كيف استطاع بعضهم الارتقاء بنفسه؟!
وعندما أصبحت حاملًا في الثامنة عشرة من عمري قالت في محاولة لتهدئة ابنها: انظر إلى بطنها الصغير يا عزيزي، لكن ذلك لا يهم فهو مجرد خطأ وهذا كل ما في الأمر … أليس كذلك؟
ثم أعلنت أنها ستتهاون فيما حدث، وكانت تشك في علاقتي بماكس ولا تتوقف عن رفع حاجبيها وهي تلومني بسخرية وتبتسم عندما نتناول الغداء معهم في أي يوم.
تغيرت ملامح ماكس وبدا عليه الضيق، فاستدار خارجًا من الحجرة دون أن يقدم لها التحية وعندئذٍ أسرعت خلفه إلى حجرة نومه القديمة وقلت: إن ما قالته لم يضايقني فلماذا أنت كذلك؟
حدث ذلك مع بداية حملات التحدي المناهضة لحكم الأقلية البيضاء عام ١٩٥٢م، وكان ماكس أحد الرجال البيض الذين زحفوا إلى مواقع الأفارقة المحظورة عليهم حيث شارك السودَ والهنودَ الاعتصامَ في ميدان عام احتجاجًا على سياسة التمييز العنصري، وبعد القبض على معظمهم تم الإفراج عن ماكس دون معرفة السبب، لكنه قال: إن أبي بالطبع وراء قرار الإفراج، وهو لم يفعل ذلك من أجلي أو من أجل الحزب الوحدوي الشهير، وإنما من أجل نفسه؛ إذ ليس مناسبًا لرجل مثله أن يكون ابنه في السجن لأسباب تتعلق بالوقوف ضد قوانين حاجز اللون.
كان القوميون في ذلك الوقت يمثلون قوة فعالة، حتى إن فان دن ساندت لم تستطع الحصول على منصب وزيرة الخزانة، وهكذا فكرت هي وزوجها في ضرورة أن يتصرف ابنهما كرجل أبيض ومن أجل مصلحة البيض، لكن وقتًا لاحقًا قد جاء لم يتردد فيه ماكس في صناعة قنبلة.
كانوا يجتمعون في عطلة نهايات الأسبوع ويستمعون بشمس الشتاء التي تدفئ العظام وتبعث على الاطمئنان، وكانت زجاجات النبيذ والويسكي تعلو المائدة إلى جانب الفطائر وبراغيث البحر وعناقيد الزهور، معبرين بذلك عن المستوى اللائق بالمواطن الأبيض، وكثيرًا ما رأيتهم وهم يقدمون البنسات لأولادهم كي يلقوا بها في صندوق التبرعات وقبعات المتسولين السود، ولم تكن القنابل تهز الأرض تحت أقدامهم كما لم يتأثروا بأحداث الشغب والمظاهرات وإطلاق الرصاص، غير أنهم — بطريقة مهذبة — كانوا يتبادلون عبارات الأسف لذلك العنف غير الإنساني … كنت أبدو وكأنني واحدة منهم وأنا جالسة فوق مقعدي في الشمس متناولة نصيبي من شرائح لحم الخنزير، وبالنظر إليهم رأيت استحالة أن يشارك أحدهم في الأحداث، وتذكرت قولهم عن ماكس بأنه رجل مجنون طيب وعدم معاملته بجدية كافية منذ ذلك الخطاب المروع الذي ألقاه يوم زفاف أخته حين كنا ما نزال معًا ولم يكن عمر بوبو يتعدى شهورًا قليلة.
كنَّا في ذلك الوقت نحتل مكانًا في عائلة فان دن ساندت، وكان زفاف أخت ماكس مناسبة عامة أصرت فيها العائلة أن يقدم النخب إلى أخته كويني وعريسها، فلم يشأ ماكس أن يتمرد على تقاليد العائلة، حتى أصابتني الدهشة لاستسلامه رغم رغبتي في ذهابه من أجل كويني التي يحبها والتي يفوق جمالها كل الفتيات.
كان عليه أن يقول شيئًا في هذه المناسبة، فسألته وأنا أضحك: أي شيء ستقول بالله عليك؟
أجاب: لأجل سعادة العروسين.
لوحت بتمثال زجاجي وقلت: هاي!
قدمت لي السيدة فان دن ساندت نقودًا وقالت: من أجل شراء فستان جديد لك تحضرين به الزفاف، ويجب أن تخبري ثيو عن ثمنه حتى يغتاظ من تبذيري.
لم تستطع أن تقاوم رغبتها في تأكيد قيمة الهدية السخية، لكنني لم أخبرها بسعر الفستان الذي اشتريته بنصف المبلغ الذي قلته لها، ودفعت الباقي للصيدلي وبائع الألبان.
جلست خلف طاولة العروس المزينة بالقرنفل والزهور وتناولت سمك السردين المدخن، ثم شربت الشمبانيا وأنا أخفي رعشة من الخجل خلف ابتسامة رقيقة متبادلة مع العم الجالس إلى جواري، وعندئذٍ نهض ماكس للحديث ورغم نحافته وقصر قامته، إلا أن قبضة يده قوية وله عينان صغيرتان زرقاوان موروثتان عن أهل أمه تشعان بقوة وتوحيان ببعد النظر … كان يرتدي بدلته السوداء وربطة العنق الحريرية التي أهديتها له في يوم ما، وكانت ابتسامته الغريبة الغاضبة تذكرني دائمًا بحركة فم حيوان ماكر … وقف أمام المائدة دون أن ينظر نحوي ودون أن يلتفت إلى أي شخص آخر وراح يتحدث في البداية حديثًا صاخبًا، ثم تمالك نفسه قائلًا: لقد اختارت أختي ألن زوجًا لها من أجل أن يتمتعا معًا بحياة سعيدة، ومن الطبيعي أن نتمنى لهما حياة هانئة، خاصة وأننا لا نملك سوى التمنيات رغم أن كل شيء يتوقف عليهما.
ساد الضحك وراحوا يتبادلون النكات ويشيرون إلى بعضهم البعض، لكن ماكس لم يدرك شيئًا وأضاف قائلًا: أنا لا أعرف ألن على الإطلاق، كما أن معرفتي بأختي ليست كافية فلنترك الأمر لهما، مع تمنياتي بحظ سعيد، فهما على أية حال من الشباب وأختي جميلة.
صارت ضحكاتهم أكثر وضوحًا حتى لم يعد صوت ماكس مسموعًا، لكنني فهمت أنه يتحدث عن جمال أخته ومدى تألقها، ومن خلال قسمات وجهه الخالية من التعبير اعتقد الضيوف أنه لا يهتم بوجودهم، فلم يتوقفوا عن الضحك بين كل وقفة وأخرى، وراح ماكس يواصل حديثه: لكن نوع الحياة والطريقة التي سيعيشان بها بين الناس … آه … إنها أشياء أخرى يختلف المرء بشأنها ويختلف الحديث عنها … أعرف أن الذين يعرفون كويني منذ ولادتها وأولئك الذين يعرفون ألن لم يجيئوا إلى هنا إلا بشعور طيب، ولقد تبادلوا الشراب معًا وهم يرددون: «في صحتك يا كويني وأنت يا ألن …»
لكنني أود أن أقول لهما: لا تجعلا العالم يبدأ وينتهي في مثل هذا الجو وهذا النادي الرياضي وبين أصدقاء والديكما الذين يمثلون رئيس مجلس الإدارة المحلي والوزراء السابقين، «لا أريد التعرض للوزارة» … إنني لا أعرف الأسماء لكنني أعرف الوجوه وأريد أن أسألكم عن الذي شيد هذا النادي والذي جعل هذا البلد كما هو عليه. (تصفيق حاد بقيادة شخص ذي كف كبير) … إن العالم أيضًا لا يتمثل في هذا المكان فقط، وإنما هو خارج هذا المكان (تصفيق مرة أخرى) فلا تبقيا بالداخل حتى لا تتصلب الشرايين الخاصة بكما كما تصلبت شرايينهم … إنهم مصابون بالجلطة رغم عروقهم المغطاة بالفراء والطعام الفائض عن حاجتهم (تبعثر التصفيق في أرجاء المكان كما يحدث بين الحركات الموسيقية في الكونشرتو) … يجب أن تحذرا من التصلب الأخلاقي والتزمت وقسوة القلب، وحذارِ من العقل الضيق الذي لا يفكر إلا في زيادة الأرباح … إنهم يوزعون البطاطين المجانية في الشتاء لسكان المواقع في نفس الوقت الذي يرفضون فيه أن يدفعوا أجورًا للناس تساعدهم على العيش، ونحن الصغار لا نستطيع أن نفعل شيئًا … إنها طريقتهم الأنيقة في الاعتداد بأنفسهم.
تلاشت ضحكاتهم وسمعت العم الجالس إلى جواري: لقد ورث موهبة الحديث عن أبيه.
كانوا يبتسمون ببلاهة وعدم إدراك وهم يتظاهرون بالاهتمام كما يحدث عادة حين يسمعون حديثًا لا يتناسب مع أهوائهم وميولهم، وعندئذٍ استطرد ماكس: نعم، التصلب الأخلاقي، وما أريد أن أحذركما منه مع ضرورة توفر قليل من الشعور والتفكير، وهذا كل ما أريد قوله.
توقف ماكس فجأة عن الحديث بعد أن تملكه الحذر ممن حواليه ثم جلس وساد الهدوء لحظة قصيرة بدأ بعدها صاحب الكف الغليظ في التصفيق، فصفق وراءه الآخرون، وعندئذٍ قفز شخص ما من مقعده إلى مائدة العروس وأخرج زجاجته ثم قدم نخب العروسين الذي نسي ماكس أن يقدمه وقال: في صحة العروسين.
ردد كل الجالسين في المقاعد المذهبة: في صحة العروسين.
أبصرت وجوهًا تبتسم خلف زجاجات الخمر ربما سخرية من حديث ماكس وربما خوفًا منه، وكانت عبارات التهنئة تملأ المكان ثم بدأت الفرقة الموسيقية في العزف والغناء: «من أجل زوجين سعيدين».
كان حديث ماكس مختلفًا عن كل ما سمعوه من قبل، وبدت السيدة فان دن ساندت وهي تنتقل برشاقة عبر المائدة لاستقبال التهاني والقبلات وكأنها تدفن خجلها تحت جلدها.
ماكس المسكين … حبه لكلمة تصلب أخلاقي … من أين جاء بهذه الكلمة وكل الكلمات المتشابهة التي ظل يكررها؟ … إنها مثل الكلمات التي كنا نسمعها في مدرسة الأحد القديمة حيث كانوا يقولون لنا: إن العالم هو حديقة الرب ونحن جميعًا أزهارها … إلخ.
لم نستطع أن نغادر حفل الزفاف، فتبادلت الرقص مع ماكس للتغلب على الضيق الذي أصابنا، وتظاهرنا بالألفة والتضامن مع الحاضرين، ثم حاولت أن أقول له شيئًا عن حديثه الذي ألقاه لكنني لم أستطع، غير أنه شعر بخجل ما جعله عابسًا لبضعة أيام لاحقة.
كان لتأثير البيت والمدرسة دور كبير في عدم فهم كويني لحديث أخيها، فقالت بغضب: يا له من حديث متشدق في يوم زفافنا.
وأضافت: أحسست وأنا أسمعه وكأنني في المدرسة أو الكنيسة.
ثم قالت لأخيها: أتعتقد أنه من حقك أن تنصحني لمجرد أنك تزوجت قبلي؟
كنت ما أزال أقود سيارتي في طريق العودة حين تذكرت كل ذلك وقد أصابني الارتباك من حديث ماكس وعباراته الغريبة، لكن ابتسامة غريبة طافت بشفتي لم أنتبه لها إلا حين استوقفني رجل المرور وهو يرد الابتسامة.
Afrikaans: اللغة التي يتحدث بها الأوروبيون البيض في جنوب أفريقيا. (المترجم)