الفصل الثالث
فتحت باب الشقة فسمعت جرس التليفون الذي توقف عن الرنين قبل أن ألتقط السماعة وساورني شعور أكيد أنه جراهام، ثم أبصرت باقة من الزهور مغطاة بورق السوليفان فوق المائدة … ربما أخبر بائع الزهور بإرسال الزهور إلى هنا بدلًا من إرسالها إلى جدتي، لكنني قرأت اسمي مكتوبًا فوق كارت صغير، فعرفت أن هذه الباقة خاصة بي، وأنه أرسل زهورًا أخرى إلى السيدة العجوز ولا بد أن عامل النظافة سامون كان يعمل في الشقة حين جاء جراهام وهو الذي وضع الزهور بالداخل أمام المرآة.
تناولت الكارت وقرأت: مع حبي … ج. جراهام.
شعرت بنسمات هواء باردة تنبعث من زهور اللبن الثلجية الشبيهة بالبصل في جذوعها وأوراقها ولونها الأخضر … إن جراهام يعرف مدى عشقي لهذا النوع من الزهور وحبي للزنابق التي اشترينا مثلها عندما تقابلنا لمدة أسبوع في الغابة السوداء بأوروبا في العام الماضي.
حدثتني نفسي: هل ثمة خطأ فيما كتبه على الكارت؟
لا … لا خطأ في كلمته البسطة لقد انتهز فرصة وجوده عند بائع الزهور من أجل جدتي، فقام بإرسال بعض الزهور لي، خاصة وأنه لا يفعل ذلك إلا في أعياد الميلاد والمناسبات فقط، ولكن هل هي فرصة وجوده عند بائع الزهور أم أنه فعل ذلك بسبب وفاة ماكس؟ … أوه. يا إلهي الطيب، لو كان الأمر كذلك لأصبح أمرًا مؤسفًا لأنه ليس مضطرًّا لذلك، فلقد مارسنا الحب ليلة أمس رغم عدم وجود شيء خاص بيننا سوى الاستسلام للعادة … إن جراهام يفقد السيطرة على عقله حين يذهب للمحكمة في اليوم التالي.
دق جرس التليفون مرة أخرى أثناء انشغالي بوضع الزهور في الماء فرفعت السماعة وقلت: لقد عدت لتوي من الخارج والزهور جميلة وهي المرة الأولى التي أرى فيها زهور اللبن الثلجية هذا العام.
سألني: كيف حال بوبو؟
أجبت: كل شيء على ما يرام، فهو ولد متفهم جدًّا وحساس، وشكرًا للرب. تمنيت لو يخبرني أنه قادم على الغداء، لكنني لم أتفوه بكلمة تؤدي إلى ذلك؛ لأننا متفقان بشأن ألا يعيش أحدنا في جيب الآخر، وإذا كان لا بد أن أطلب ذلك فيجب أن أتوقع منه فعل نفس الشيء في أوقات قد لا تكون مناسبة، ومن المحتمل أنه تناول الغداء في بيت المحامي الشاب الذي يلعب معه الجولف وزوجته المحامية الجميلة اللذين أستمتع بصحبتهما وأستطيع زيارتهما في أي وقت، لكننا أمام الناس من أمثالهما وأمام بقية زملائه لا نحب أن ينظروا إلينا كزوجين.
قال جراهام بعد أن أخبرته عن بوبو: يوجد خبر عن ماكس في الطبعة الأولى من صحيفة المساء، فهل ترغبين في سماعه؟
– لا … أخبرني فقط بمضمون الخبر.
تنحنح جراهام كما يفعل دائمًا قبل قراءة أي شيء بصوت عالٍ أو مثلما يفعل عند بداية دفاعه في المحكمة وقال بصوته العذب: إنه خبر قصير ولم يذكروا شيئًا عنك وإنما عن والديه فقط … لقد خرجت القضية إلى النور، ويقولون إنه كان شيوعيًّا رغم أنني لا أتذكر …
قاطعته قائلة: لم يسبق أن أشاروا إليه هكذا.
استطرد قائلًا: نجح فريق الغطس في انتشال السيارة، وكانت توجد حقيبة مليئة بالمستندات والأوراق في المقعد الخلفي، لكن التلف قد أصابها من المياه حتى لم يعد ممكنًا تحديد طبيعة هذه الأوراق والمستندات.
– ذلك أفضل.
– ولا شيء آخر سوى عمل والده في البرلمان.
– ألم يذكروا شيئًا عن بوبو؟
– لا … من حسن الحظ.
قلت في محاولة مني لتغيير الموضوع: كان جميلًا فهل استمتعت باللعب؟
أجاب جراهام: لقد هزمني بوكر للمرة الثانية هذا الأسبوع.
كان جراهام وصديقه المحامي يلعبان الجولف معًا، وكثيرًا ما كانا يتشاجران ويتبادلان الاتهامات، حتى إنني تعجبت لتلك الطريقة التي يهاجم بها المحامون بعضهم البعض بكل قسوة ثم يجلسون سويًّا كالإخوة في رقة ووداعة أثناء راحة الشاي، إنها المهنة الواحدة بكل أساليبها الغريبة والفزع الذي يصيبني عند رؤيتهم وهم يشربون الخمر معًا في نادي الجولف.
مارسنا الحب معًا بالأمس أمام المدفأة، فجاءني صوته على التليفون متحررًا وهو يتحدث عن أشياء عادية، فتذكرت أنه ظل صامتًا وهادئًا فوق جسدي مدة طويلة في الليلة الماضية.
تحدثت مرة أخرى عن الزهور قبل انتهاء المكالمة ولم تراودني أية رغبة في الخروج، وإنما شعرت براحة فملأت الفازة بالماء حتى نصفها وألقيت بالورقة والسيلوفان في سلة المطبخ، ثم وضعت الطعام الذي اشتريته في الثلاجة … جلست في الشرفة فوق مقعدي المصنوع من البلاستيك والألومنيوم في مواجهة الشمس وأشعلت سيجارة وفكرت: إن كثيرًا من الأشياء التي يفعلها المرء من أجل الآخرين لا تمثل شيئًا ولا تتعدى كونها عادة سيئة مثل السجائر، خاصة وأنني لم أفكر في الزواج مرة أخرى … لا أعتقد أنني سأتزوج مرة أخرى لكنني أتحدث عن ماكس على أنه زوجي الأول مما يعني أنني أتوقع الزواج من آخر … حسنًا، إن المرء في الثلاثين لا يستطيع التأكد تمامًا من أفعاله … لكنني في الثامنة عشرة كنت متأكدة بأنني سأتزوج وأنجب طفلًا، وهذا ما حدث بأسرع مما كنت أتوقع رغم أن ماكس لم يكن مطابقا لمواصفاتي، إلا أن شيئًا ما في أعماقي توافق مع الطراز الذي كان عليه.
كان الزواج سبيلًا لأن أعيش حياة المرأة مهما كانت هذه الحياة، وطريقًا للابتعاد عن حياة الوالدين وأساليبهما … لقد عشت وسط النساء وبخاصة نساء الطبقة المتوسطة ورأيتهن وهن يذهبن للسوق ويتولين شئون عائلاتهن براحة ودون استياء، لكنني كنت أريد العيش مع رجل غير أبي … رجل يمثلني.
عرفت جراهام في يوم المحاكمة حين كنت مطلقة من ماكس، وقد قالوا لي إنه الرجل المناسب لقضيتي، غير أنه لم يستطع أن يقدم أهم وقائع الدعوى، فانتقلت القضية إلى شخص آخر، لكنه ظل مهتمًا بها، وكثيرًا ما ساعدني عندما كان ماكس في السجن دون أن يوجه لي أية أسئلة، فأحسست معه وكأنني أمام طبيب يعرف كل شيء عني.
كان جراهام متزوجًا من زميلته التي اعتاد أن يتجول معها منذ أن كانا زميلين في المدرسة، والتي ماتت من التهاب في أغشية الرأس وكانت أصغر مما أنا عليه الآن، وما تزال المفارش — التي كانت تطرزها بنفسها — باقية في منزله.
احتفظت أنا وجراهام بجانب النزاهة في العمل ولم نستغل عملنا في تحقيق المال أو تأدية الخدمات لقوم من ذوي لون معين، فقد كان جراهام يدافع عن المتهمين في قضايا سياسية دون النظر إلى ما قد يناله من ترحيب من أجل التصدي لمثل هذه القضايا، بينما كنت أعمل أنا في تحليل البول والبراز والدم لاكتشاف البلهارسيا والدودة الشريطية والكلوسترول في معهد البحث الطبي، ولقد كان من دواعي سروري أنني اكتشفت أن الدم والخراء والبول هو نفس الشيء لدى مختلف ألوان البشر بغض النظر عن لون بشرتهم أو المكان الذي جاءوا منه.
استمتع كلانا بالآخر حين كنا معا بأوروبا في العالم الماضي، وقد تقاسمنا نفس الحجرة ونفس السرير في ألفة ومودة دون أن يترك أحدنا الآخر إلا بعض الوقت، ولم يساورنا أي شعور بالغضب أو السخط، وبعد عودتنا عشنا معًا كما تعودنا بدون أن نمارس الحب أحيانًا لمدة أسبوعين ينشغل فيهما كل منا بأمور الحياة.
كنت جالسة بشرفتي في مواجهة الشمس ولم أكن في حاجة إليه.
هل هو الحب أم أنه مجرد اتصال جنسي؟ … إنه شكل جديد من أشكال العلاقة … شكل لائق بما يكفي لا يؤذي أحدًا ولا يسبب لنا الأذى، لكنني أعتقد أن جراهام سيتزوجني إذا أردت ذلك وعندئذٍ سيتغير كل شيء … هل باستطاعتي أن أجد أفضل الرجال في هذا الوقت وهذا البلد؟ … إن جراهام لا يوحي بشيء ويعيش كرجل أبيض … إنه يعيش بقناعاته الخاصة ويفعل ما درج على فعله ودائمًا ما يفي بوعوده، وعندما أتحدث معه في التاريخ والسياسة أعرف مدى تردده في قول الحقيقة، لكنه حين يكون داخلي كما حدث في الليلة الماضية فإنه يكون قويًّا بل أفضل من أي شاب في مثل عمري، حتى إنه يظل بداخلي أحيانًا لفترة طويلة وهو منتصب بقوة لدرجة أنني أكاد أشعر بقضيبه الغليظ عندما أضع يدي فوق بطني … إنه يخترق جسدي ويملؤني ولا يتكلم وهو يغلق عينيه ويضم جفونه الرقيقة وعندما يصل إلى الذروة أجد نفسي ممسكة به وكأنني أخنقه فأشعر به دافئًا وكبيرًا.
هكذا يكون جراهام، لكنني أجلس الآن في شرفتي مستمتعة بشمس منتصف النهار ولا أفكر في ذلك إلا من خلال حيز صغير في تفكيري وعقلي الباطن.
شعرت بالدفء فغلبني النعاس وكان سرب من الحمام ينقر الأرض أمامي ولم أستطع رؤية الطفلين وهما يسددان طلقات المسدس المائي إلى بعضهما البعض … كانت إحدى الطلقات قد وصلت إلى قدمي وكان بعض الرجال يفترشون الحشائش عند الرصيف … إنهم من الرجال السود الذين يرتدون زي العمل. إنهم يفترشون الأعشاب بجوار دراجاتهم التي يعملون بها ويمارسون احتجاجهم وهم يتبادلون الحكايات عن الشركات … كانوا يشربون البيرة من الصناديق الحمراء الكبيرة في الشمس … كنا جميعًا في الشمس فعرفت أن ثمة شيئًا يشترك فيه الناس جميعًا، وعرفت أيضًا السبب في عدم حاجتي لجراهام أو أي شخص آخر لأنني أنتمي لأولئك الناس الذين يشاركونني لحظات التفكير والتأمل والتمرد، ثم شعرت أخيرًا أنني في وطني بالرغم من كل شيء.
كان إيقاع حديثهم الذي أعرفه جيدًا يتصاعد بشكل متقطع ومتفرق ولم أستطع أن أفهم كل كلامهم وتساءلت بيني وبين نفسي: إنهم لا يملكون وقتًا كافيًا لأي شيء سوى الرقاد فوق الحشائش.
دخلت شقتي وتناولت كسرة خبز وضعت بداخلها شريحة من لحم الخنزير، وما إن انتهيت منها حتى استبد بي التعب وغلبني النعاس فرقدت فوق الكنبة المجاورة لسرير بوبو وكان الجو دافئًا تحت البطانية.
لم أستطع النوم تمامًا، وكلما فتحت عيني وتجولت بهما في أرجاء الحجرة أبصرت الأعشاب البحرية وهي ترتفع من أعماق المياه المتقلبة التي اندفعت إلى أنف ماكس وملأت فمه حين أراد أن يتنفس … لقد اخترق الماء المالح البارد كل جسده وكان يقذف من فمه وأنفه فقاعات الحياة الأخيرة قبل أن يغوص إلى أسفل حيث الأعشاب الضارة مع حقيبة الأوراق التي لا يعرف أحد محتوياتها، فهل هي مجرد أوراق أم أنها بعض الخطط والخطابات؟
لا أحد يعرف … لقد نجح ماكس في الموت!
كنت ما أزال راقدة في الحجرة حين ملأت الدموع عيني ولم يكن بكائي بسبب وفاة ماكس وإنما للطريقة المؤلمة التي مات بها … تفتحت الزهور بجواري فانتشرت في الحجرة الدافئة رائحة عطرة، وعندئذٍ شعرت بأنني ما زلت على قيد الحياة.
كنت أعرف كل شيء عن ماكس والمعرفة تعني الغفران، لكنها أبدًا لا تعني الحب الذي يحتاج لمزيد من المعرفة … لقد ترك ماكس الجامعة عندما تزوجنا والتحق بوظائف عديدة ومختلفة لكنه لم يستمر في أي منها مدة طويلة، وكنا مشغولين بأشياء أخرى كثيرة كالاجتماع في حجرات الناس من أمثالنا وفي أحياء السود وفي الهواء الطلق، وكنا نشترك في المظاهرات تعبيرًا عن رفضنا لسياسة التمييز العنصري … كنا مجموعة قليلة تتكون من الهنود والأفارقة والملونين والبيض من بينهم سولي وديف وليلي وفاتيما وأليس وتشارلز، وكانت فاتيما تداعب بوبو وتهتم به، أما ديف فكثيرًا ما كان يضحك بسبب حالة ماكس المزاجية المتقلبة، وكنا جميعًا نحلم بمستقبل ما يحتاج لقدر من الشجاعة لم نكن نعرف مقدارها.
ترك ماكس وظيفته الأولى عندما أراد الاشتراك في مؤتمر الاتحاد التجاري ولم يسمحوا له بإجازة لمدة ثلاثة أيام، أما الوظيفة الثانية فقد تم فصله منها بعد أن استغل ساعات العمل مرات كثيرة في إقناع موظف الآلة الكاتبة بنسخ بعض الأوراق الخاصة به، لكنه استطاع في كل الوظائف أن يحصل على ما ساعدنا في الاستمرار … كان ماكس يقرأ في السياسة أثناء فترة الجامعة نتيجة لشعوره بضرورة المعرفة، وكان يرى في دراسته للفنون انطلاقًا للعقل والخيال على عكس والده الذي قال: إن دراسة الفنون على أية حال لا تضر بالتجارة والمحاسبة، وسوف يلتحق بإحدى شركاتي.
كانت الاجتماعات وحلقات النقاش تبدأ بعد الانتهاء من ساعات العمل وتستمر حتى وقت متأخر من الليل، وهكذا لم يستطع ماكس أن يجد وقتًا لمتابعة دروسه ومواصلة دراسته، وعندما بلغ بوبو شهره الخامس عدت لعملي من جديد، وكانت «دافن» الرقيقة والقادمة من جوهانسبرج تقطن معنا للعناية بالطفل كما كانت تعتني بماكس وهو صغير في بيته، وعندئذٍ فكرت جديًّا في عودة ماكس للجامعة والتفرغ لدراسته، لأن عودتي للعمل تعني عدم حاجتنا للسيدة فان دن ساندت مرة أخرى بعد أن كنا نطلب منها المساعدة من حين لآخر، وبخاصة بعد ولادة بوبو … فكرت في عمل إضافي بالليل بعد الانتهاء من وظيفتي النهارية، فتناقشنا في الأمر، ولأنني لا أجيد العمل على الآلة الكاتبة قلت في النهاية: سأعمل مرشدة تقود الناس إلى مقاعدهم في السينما رغم ضآلة ما يدفعون في مثل هذه الوظيفة.
راقت له الفكرة وقال معلقًا: ليز سوف تعمل في السينما.
قلت: ولمَ لا؟ … تسريحة شعر مناسبة وبطارية.
كان عملي في الشركة الخاصة بعلم الأمراض قد أتاح لي فرصة عمل أخرى أفضل من العمل في السينما حين طلب مني أحد الأطباء صياغة وكتابة بعض ملاحظات البحث، وكان العائد المادي أكبر كثيرًا من العمل في السينما، بالإضافة إلى إمكانية القيام بهذا العمل في البيت إلا أن ذلك هو ما أثار غضب ماكس حيث كانت ملاحظات الدكتور فاربر تملأ الشقة الصغيرة الضيقة وتشغل مكان أوراقه وكتبه الخاصة حتى كاد يفقد اهتمامه بعملي الإضافي.
لم يستطع ماكس أن يتمرد تمامًا على عائلته ومن هم على شاكلتهم ولم يصل إلى حد الإشباع في اقترابه من الآخرين، لأن زواجه بي جعله دائم الحاجة لعائلته … كنت مدركة لتمرده وشوقه الجارف في الاقتراب من الآخرين، لكنني فشلت في مساعدته فلم يستطع — رغم انتمائه إلى خلية شيوعية في الجامعة — أن يتبنى الخط الماركسي في نشر أفكار الأفارقة الخاصة حتى عندما بدأ الحزب الشيوعي يعمل مرة أخرى في الخفاء ورغم نشاطه الواضح إلا أنه لم يستطع فقد كان صغيرًا وذا تجربة متواضعة … حاول أن يفعل شيئًا بعد حملة المعارضة فالتحق بالحزب الليبرالي الذي يدين العنصرية، ثم شارك الأعضاء في مؤتمر الديمقراطيين غير أن الأفارقة أنفسهم لم يتعاملوا مع الحزب الليبرالي بجدية، لكن تمرد ماكس على مجموعة البيض جعلهم يشعرون بحسن نيته رغم إيمانهم بأن أي حركة أفريقية تبحث عن التأييد الجماهيري لا يمكن أن تضم أعضاءً من البيض، وكنت أيضًا من الأعضاء المشاركين في مؤتمر الديمقراطيين، لكنني لم أعمل مع ماكس وإنما مع المجموعة السرية التي تطبع النشرات للمؤتمر القومي الأفريقي وما إلى ذلك … عرفت عندئذٍ أن المرء يكتسب نوعًا من الصداقات القوية الغريبة عندما يعمل بفزع في الخفاء وهو يخشى هجمات الشرطة، وكان إيماني قويًّا بما أفعل وبالناس الذين أعمل معهم، ولم تفارقني الشجاعة الكافية التي جعلتني على مستوى ما كنا في حاجة إليه، لكن وجود بوبو بعد ذلك حد من نشاطي ولم أستطع — كالآخرين — أن تكون أنشطتي السياسية في المرتبة الأولى لأن فكرة اعتقالي أنا وماكس في وقت واحد كانت تعني أن تتولى السيدة فان دن ساندت أو والداي أمر بوبو، وكان ذلك بالنسبة لي استسلامًا وتنازلًا حقيقيًّا، كما أن ماكس لم يكن قادرًا على تلبية احتياجات أي شخص آخر حتى لو كان ابنه، وهذا ما كانت تدعوه أمي بالأنانية، ورغم إعجابها بأفكاره إلا أنها كانت تراه مارقًا ومجنونًا … نشأ ماكس في وسط أرستقراطي ولم يكن يذهب إلى المدرسة أو يعود منها إلا في سيارة خاصة وكانوا يقدمون له الخدمات وكأنه أحد الأمراء، وبعد زواجنا أصابنا الفقر، لكنه لم يتنازل عن احتياجاته الضرورية القليلة كشراء زوج من الأحذية، وكان يغضب بشدة وبطريقة متعجرفة حين يطالبنا أصحاب المحلات بسداد ثمن الكتب أو البراندي ويطلب مني التعامل معهم … إن ماكس لا يعرف التعايش مع الآخرين، وكان يجلس صامتًا في حجرته بالمزرعة يواصل القراءة لمدة ساعات طويلة ويفكر في متاعب الإنسان … لقد اعتاد على الذهاب إلى فورد سبيرج بمصاحبة بوبو تاركًا له فرصة اللعب مع الفتيات الصغيرات في البيوت الهندية الكثيرة، وفي طريق عودته كان يروق له السير على الأقدام فعرف معه بوبو مجموعة من الناس لم يكن من اليسير معرفتها. وذات مرة اتصلت بي فاتيما لتخبرني برغبة والدة متعهد عربات الكارو في معرفة رقم تليفوني … كان ماكس قد ترك بوبو عندها وحين أزعجها ببكائه ولم تستطع أن تقدم له شيئًا طلبت الاتصال بي … كانت السيدة ماريا روبرتس امرأة رائعة، فحاولت أن أشرح لها أن ثمة شعورًا طبيعيًّا بالمسئولية تجاه الغرباء أيضًا وليس تجاه العائلة الخاصة والأصدقاء فقط، وأخبرتها أن بوبو هو السبب في أن أعضاء المنظمة لم يستطيعوا الاعتماد علينا.
قالت: أوه … لكننا نستطيع الاعتماد عليك.
شعرت بالخجل حين أكدت قدرتي، ولم أستطع التخلص من خجلي إلا بعد وقت ليس بالقليل.
لم تكن الوظيفة بالنسبة لماكس سوى مرحلة مؤقتة تفي بالحاجات الضرورية، وذات يوم طلبوا منه أن يكتب شيئًا للصحافة بعدما رأوا بعض كتاباته الجيدة وشعروا برغبته أن يكون محررًا في الصحف، لكن القائمين على السلطة التنفيذية كانت تساورهم الشكوك تجاهه خوفًا من استغلال أفكاره في الكتابة، وخشية أن تتسبب هذه الأفكار في تورطهم.
كان يجلس في اللجنة هادئًا بملابسه القذرة ولحيته الشقراء واضعًا يده المتوترة فوق فمه وكان متهمًا من الجميع بالرغبة في الفعل، لكن أصحاب الخبرة كانوا يؤمنون بلا جدوى المخاطرة … كان ماكس ينظر إليهم بعينيه المشرقتين ويقول في النهاية بعد أن فهم خطة العمل: سوف أذهب للاتحاد التجاري غدًا، وسوف أتحدث معهم على أية حال لأنه يجب أن نقترب من مجموعة الشباب من أمثال تلولو وموجادي وبراين دلاليزا.
لم ينتبه الآخرون لكلامه، فقد كانوا يعرفون ما يجب عمله والناس الذين يجب الاقتراب منهم.
كان ماكس في حاجة ماسة لمزيد من الخبرات والاحتكاك بالآخرين للخروج من دائرة كتب التاريخ والفلسفة والنقد الأدبي التي كانت مفروضة عليه، والتي قرأتها كلها أثناء انشغاله في الاجتماعات وللتخلص من ذاتيته وعاطفته الجياشة وقدرته الهائلة على التخيل التي هي أهم مميزاته في الكتابة … كانت قدرته على الإقناع بلا حدود، فكان من اليسير أن يصبح محاميًا مرموقًا وينعم بعضوية النادي مع ذوي البشرة البيضاء، وربما كانت قدراته تؤهله لأن يكون رجل سياسة من الطراز الأول أو ثوريًّا عظيمًا إذا ما سنحت له الفرصة أو امتلك وقتًا إضافيًّا، ولكن كما قال فرانز كافكا: «إمكانياتي مؤكدة وإنما تحت أي حجر تختبئ.»
عاد ماكس ذات يوم للمنزل بصحبة رجل مبتل بالماء يدعى سبيرزكواب … إنه ناظر المدرسة السابق الذي يتحدث بصوت مبحوح وناعم.
قال لماكس: إن الشيء الخطير يتمثل في عدم رؤيتنا لما سيترتب عليه نضالنا، كما أننا لا نفكر جديًّا فيما يحدث هناك في الجانب الآخر … يجب أن تعرف طريقك أيها الرجل، فإذا ما سألت أحدًا من الشباب في المدينة عن حياة الاستقرار مع البيض فإنه سينظر إليك نظرة حالمة من عينيه وهو يفكر بالحصول على سيارة ووظيفة ومكتب، وهذا كل ما في الأمر … إنهم يحلمون بتصاريح المرور التي لا يحملها السود ولا يعرفون شيئًا عن أفكارنا ولا يؤمنون بمجتمع شيوعي، ولذلك فالحلم بعيد ويصعب تحقيقه … إنهم يريدون فقط التحكم في كل المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية وامتلاك زمام الإنسان أسود في بلده المستعمرة السوداء، بينما نطالب نحن بتأميم البنوك والمناجم والثروات المعدنية الهائلة وتحويلها إلى ملكية للشعب، وهذا في حد ذاته مجرد حلم جميل لا يتعدى كونه قصيدة رائعة؛ إذ كيف يمكن أن يتم التوزيع العادل؟ وهل خطر ببال أحد أن يتحدث في هذا الشأن؟ ولماذا يجب علينا أن نستورد الحل من الشرق أو الغرب؟
لم يتوقف سبيرز عن الحديث في ذلك اليوم وهو يستعرض كل شيء عن الاشتراكية والتقاليد والأعراف الإنسانية، وفي يوم لاحق سمعته يقول: نحن نريد دولة ديمقراطية جديدة، نعم … إن روح القبيلة والتمسك بالقبلية يجعلان كل شيء دمويًّا وصعبًا وها هي الحكومة البيضاء تسير في اتجاه القضاء على القبلية، إلا أنها تساعد على تقويتها وإبرازها مرة أخرى في صراعها مع البانتو … يجب أن نتناول العناصر الديمقراطية في القبيلة ونستخدمها في اكتشاف مذهب جديد للاشتراكية العلمية … اشتراكية نابعة من أفريقيا ولأجل أفريقيا، فنحن لسنا في حاجة لتبني معتقدات الغرب أو الشرق، كما أننا نعي مساوئ الاحتكار ونؤمن بالإنسان والأرض التي هي أرض القبيلة … يجب أن نعمل من أجل رفاهية المجتمع ونعتني ببعضنا البعض وبأطفال بعضنا البعض وهذه هي الروح الجديدة التي يجب أن تسود الأمة … أليس كذلك؟ … إن روح الاشتراكية التي نريدها لن تأتي إلا من الداخل.
توقف ماكس فجأة عن الانتباه وراح يقلب في الكتب وكومات الصحف، ثم قدَّم له كتابًا، فقال سبيرز: نعم … نعم … أعرف لكن الاشتراكية الأفريقية لا يمكن أن تكون نتاج تفكير رجل واحد، وإنما ينبغي أن تتحقق عن طريق كثير من المفكرين الذين نفتقدهم … إن لدينا كثيرًا من الأبطال السياسيين لكنهم ليسوا مفكرين وعلينا أن نناقش ذلك يا رجل.
كان ماكس يملك طريقته في النقاش والمحاورة وكان يعبر بكلمات قليلة عما يريد قوله، فوقف أمام الرجل الذي كان يرتدي معطفا قذرًا يحلو له أن يرتديه دائمًا في أكثر الأيام حرارة، وقال: نعم، لكن الاثنين يجب أن يسيرا معًا، فلا بديل عن الاشتراكية الأفريقية فلسفة للنضال.
لم يكن سبيرز يتوقف عن الشراب حتى يفقد السيطرة على قدميه، لكنه أبدًا لم يفقد السيطرة على لسانه، ولم أستطع إخفاء إعجابي به، ولقد أنشأ جماعة صغيرة أطلقوا عليها اسم «أومانيا نوجاماندلا»، ومعناها «دعنا نتعاون»، وهي الجماعة الداعية إلى حركة اشتراكية أفريقية، وكان معظم أفرادها من الرجال الذين انفصلوا عن عضوية المؤتمر الوطني الأفريقي والمنظمة السياسية الأفريقية، ولقد رأيت في انضمام ماكس إليهم خطأً كبيرًا، وأصابتني الدهشة لنسيانه كل شيء عن أولئك الذين عملنا معهم في منظمة الديمقراطيين والمؤتمر الوطني الأفريقي، لكنني بعدما رأيت الحدود التي يقفون عندها شعرت برغبة شديدة أن يكون ماكس على صواب.
ظل سبيرز ملازمًا لنا معظم الوقت وراح بمساعدة ماكس يصيغ منهجه عن الاشتراكية الأفريقية.
قال ماكس: إذا لم يصبح ذلك المنهج إنجيلًا للثورة الأفريقية فإنه على الأقل سيصبح سلسلة من الرسائل يمكن استخدامها كدليل.
وردد سبيرز وهو يشرب: يجب أن نقاوم يا رجل.
وراح يرددها وهو مخمور، ولكن بثقة وإيمان لا يستطيع المرء معهما أن يضحك عليه وهو يترنح … كان يكرر عبارته بمزيج من لهجة الهوسا ولغته الإنجليزية العذبة.
ظل سبيرز يسهر مع ماكس كل يوم وحتى وقت متأخر من الليل، ولم يتوقف ماكس عن الكتابة وإعادة الصياغة بالاستعانة بذاكرته وببعض الملاحظات، وذات يوم — حين كان مشغولًا بعمله — عدت من العمل فوجدته متذمرًا من بكاء بوبو الذي أعاقه عن العمل وتسبب كثيرًا في تشتيت أفكاره، وكان وجهه كوجه طفل تبدو عليه علامات الإحباط الشديد … سارعت باصطحاب بوبو إلى الشارع لكنني لم أستطع أن أفعل شيئًا من أجل وجه ماكس.
بعد عودتي من الشارع رأيته يتبادل النقاش مع سبيرز وهو متوتر دون أن يستطيع خلال ساعات أن يلتزم مكانه في المقعد على العكس من سيرز الذي كان عنيفًا ولكنه هادئ … كان سبيرز يتحدث وهو جالس إلى مائدة المطبخ أحيانًا وأنا أقوم بتحمير السجق، ويواصل حديثه حتى حين يتسلق بوبو كتفَيه، ولقد اعتاد أن يناديني قائلًا: حبيبتي. ولما كانت الخمر تلعب برأسه قليلًا كان ينفرد بي في ركن المطبخ، فأقول له بأنني أكره رائحة البراندي، وعندئذٍ يربت فوق يدي بأسف ويقول: إنني أنسى ذلك يا حبيبي.
لقد فشل سبيرز في معظم علاقاته النسائية بسبب البراندي، لكنه كان رقيقًا معي ومع بوبو وماكس الذي كان يعارضه كثيرًا ويتجادل معه ويضغط عليه من أجل مساندة السود الذين يحبهم ويتعاطف معهم بطريقة تختلف عن حب بقية البيض لهم … لم يكن ماكس يحبهم من أجل الوجاهة الاجتماعية، ولم يكن حبه زائفًا، فقد كان يؤمن بهذا البلد ويشعر بالدفء بينهم … إنه ماكس الذي انفصل عن لونه حين انفصل عن طفولته وتمرد عليها، ولم أكن أدري إذا ما كان يحبني حقًّا أم لا، لكنه كان تواقًا لممارسة الحب معي وإرضائي … لا … لقد كان يبغي سماع إعجابي به وبأي شيء يفعله، وأيًّا ما كان الأمر فإنني لا أستطيع التفكير في سواه لأن الحياة جمعتنا معًا في مشهد واحد أمام عيون الآخرين، ولأن هناك شيئًا ما يجعل اثنين من البشر معًا، وهذا ما أطلقت عليه اسم الحب، خاصة وأن بوبو حمل اسمه، لكن بوبو هو الذي أبدى أسفه لعدم قدرته على حب ماكس، فماذا كان يعني؟ أهي عدم حاجته لأبيه أم أنه مجرد دفاع لأنه لم يستطع الوقوف ضد موت أبيه؟
كنت أيضًا أتوق لممارسة الحب مع ماكس ولم أبخل بتقديم إعجابي الذي يريده في محاولة مني لإرضائه من أجل أن يفعل الصواب، فهل كان ذلك حبًّا؟ … أتذكر أن ماكس كان قويًّا وممتعًا في السرير، لأن الإنسان حين يكون خربًا فإنه يمارس الجنس ببراعة، حتى إنني كنت أردد مع كل ارتعاشة قائلة: ليتني أموت هكذا.
توالت بعد ذلك النكبات والإحباطات وظللنا ننتقل من مكان إلى آخر في السنوات الثلاث الأولى من أجل حياة أفضل، لكننا كنا في الحقيقة ننتقل من وضع مستحيل إلى آخر أكثر استحالة، ولم أستطع براتبي المتواضع أن أحصل على شقة كبيرة بدلًا من الغرفة الواحدة التي نعيش فيها مع طفل ونعمل فيها أيضًا … لم يكن مسموحًا للأفارقة بزيارتنا في المبنى، وكان كل شيء يحدث لنا بسرعة وبدون وعي منا، وفي أثناء ذلك تعرف ماكس على فتاة قادمة من كامبريدج ذات وجه أحمر كبير كانت تريد عمل شيء ما في أفريقيا وبعد انتقالها من مقاطعة إلى أخرى والخوف من ترحيلها بالقوة عن طريق الحكومة البريطانية الاستعمارية عاشت معنا بعض الوقت، وتعمقت صداقتها بالقوميين الأفارقة، وقد شاركت في بعض الأعمال المفيدة ككتابة بعض الأشياء لماكس على الآلة الكاتبة … كانت ترتاد الحفلات وتعود إلى البيت بالأسلحة في سيارتها الصغيرة المستعارة، وكثيرًا ما كانت ترافق النساء أمسياتهن حين يذهب رجالهن مع فتيات أخريات … ساعدت سبيرز أيضًا في ترتيق حاجياته والعناية بمعطفه، وكانت ترافقه في جولاته المعقدة.
استيقظت ذات ليلة فوجدتها ترتدي ملابس توحي بالذهاب إلى نزهة، لكنها كانت تحمل بندقية رش وحين أبصرتني قالت: الذهاب إلى الحرب. ثم خرجت ببطارية صغيرة وظلت تنتظر أي شخص لاصطحابها.
عدت للنوم وقلت لماكس: عيد السنجاب المرح في منتصف الليل!
قال: أوه … واكو.
كان ذلك المزاح في اسمها من اختراعه؛ لأنه هو وسبيرز يعاملانها بدلال خادع كالذي يبديه الرجال تجاه الفتيات غير الجذابات.
قلت: إن سبيرز يضايقها … لا يجب أن يضايقها فهي تحترم كليكما، كما أنها في حاجة لرجل.
كانت تطلب منا دائمًا أن نذهب معها للحفلات حيث الليبراليين من البيض والعاهرات السوداوات وبعض الناس عديمي الرأي الذين يؤيدون كل شيء وأي شيء، وقد أدهشني ترحيب ماكس بالذهاب حتى أصبح عمله مع سبيرز على غير ما يرام، وأصبح كلاهما بصحبة سانبون البدنية يظهرون في تلك الحفلات، ولكن كغرباء لا يعرف أحدهما الآخر، ورأيت ذلك نوعًا من الخبل، ولم أستطع الذهاب معهم لأنني لا أقدر على السهر حتى الثالثة صباحًا بدون أن أشرب كثيرًا، وإذا حدث فإنني لن أستطيع الذهاب للعمل في اليوم التالي.
عند عودتي إلى المنزل قادمة من المعمل كان ماكس يسدد نظراته الخاطفة نحوي تعبيرًا عن الضيق والتذمر من صراخ بوبو في المطبخ أو الحمام، وذات ليلة كان يتحرك في الحجرة كقطعة الفلين التي أدركتها حركة المد والجزر حتى وصلت إلى رمال الشاطئ وهو يفتح البيرة ويقدم الجبن ويلملم الأوراق … أشار بالسكين بطريقة فرحة وقال مخاطبًا سانبون: تعالي يا سانبون فأنت تعرفين مكان الأوراق التي أعطيتها لك … لا تقفي هكذا وهيا تحركي يا ذات الأثداء الكبيرة والجسد البدين.
هكذا كانت طريقته معها في الكلام، لكنها بكت هذه المرة، ثم عرفت بطريقة ما أنه مارس معها الجنس.
وقف ماكس ممسكًا بالسكين الملطخة بالجبن وأشار لها، لكنها اندفعت خارجة من الحجرة فاهتزت أردافها الكبيرة وأثدائها البدينة، وحين أسرعت خلفها التقيت مصادفة بدافن التي انتهت من كي فستان أنيق كان يجب أن تسلمه لها فقلت: هاتي الفستان يا دافن.
رفعت دافن وجهها وقالت: لماذا تبكي؟
وفي محاولة للدفاع عن نفسه قال ماكس: لقد كانت تحاصرني بثديها الكبير الممتلئ وقد حدث ذلك بعد الانتهاء من الحفلة وأنا مخمور تمامًا.
همست لنفسي: إنها ليست من طراز النساء الذي يسبب الغيرة … لو أنني أغار منها لاختلف الأمر ولكن لماذا مارس معها الجنس؟ … إنه يعرف السبب كما أعرفه … كان في احتياج شديد للاستحسان والإعجاب، لكنه مارس معها الشذوذ فعاشرها من الخلف، وكنت على استعداد لأن أغفر له النوم مع امرأة أثارت شهوته في لحظة ضعف، لكنني لست مستعدة للغفران لأنه أهان جسدها الكبير.
لم تكن هي المرأة الوحيدة في حياة ماكس فقد كان يعيش مع إيف كنج في منزلها أثناء طوارئ عام ١٩٦٠م، وقبل ذلك كان نفس الشيء مع روبرتا الجميلة التي هي الآن تحت الحراسة، ولقد سببت شئون الحب هذه آلامًا كبيرة بالنسبة لي جعلتني أستسلم وأعيش تجربة مماثلة مع رجلين مختلفين أملًا في إعادة توازني بشكل ملائم، ولم يكن يهمني عدد النساء اللاتي عرفهن ماكس لأن ذلك لا يغير من الأمر شيئًا، خاصة وأن الواقع قد فرض نفسه … واقعنا، ظروف حياتنا، الغرفة الواحدة، أحلامنا وأفكارنا وذلك التعارض الشديد بينهما، عائلة ماكس ونجاحهم المتواصل وحصولهم على المكاسب حتى ولو عن طريق التدمير والخراب، تمرده على بني جنسه ورغبته في الانتقام … كل شيء … كل شيء، وليتني أعرف هل كان يحبني أم أنه كان يحب أي امرأة أخرى؟ … إن ماكس لم يكن مشغولًا بمعرفة الإجابة عن هذا السؤال.
اختفى سبيرز وتم القبض على بعض أعضاء «أومانيا نوجاماندلا»، وبعد الإفراج عنهم انهارت الحركة وعاد معظمهم مع سبيرز للانضمام مرة أخرى للمؤتمر الوطني الأفريقي الذي تم الحظر على أنشطته فيما بعد وأصبح يعمل في السر، وكانت الأوراق الخاصة بمنهج الاشتراكية الأفريقية في مأمن من هجمات الشرطة لأنني كنت أضعها في المعمل داخل حقيبة، وعندما أخبرت سبيرز بذلك ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة، ولم نعد نراه بعد ذلك هو وصديقنا الآخر وليام زابا الذي اعتاد أن يزورنا دائمًا ودعا الساسة الأفارقة النشيطون إلى الابتعاد عن منازل البيض ورفض صداقاتهم ومودتهم، وأثناء ذلك كان ماكس في كيب تاون لقضاء ثلاثة أشهر امتدت إلى ستة أشهر عمل خلالها في إحدى الصحف الراديكالية الجديدة، وحين سافرت مع بوبو إلى هناك لقضاء أسبوعين من أيام الكريسماس كنا نسير نحن الثلاثة عبر الساحل الصخري الوعر بمحاذاة البحر حيث الطحالب البحرية القادمة من أعماق المياه، وكنا نقول لبوبو: انظر هناك … انظر هناك.
لكن نظرات بوبو لم تكن تتجاوز أصابعنا التي نشير بها، وذات مرة نظرت إلى الحقيبة في يد ماكس وتساءلت: هل هي الأوراق الخاصة بمنهج الاشتراكية الأفريقية؟
وتساءلت أيضا وأنا أستمتع بأشعة الشمس المناسبة فوق سطح المياه: كيف تعيش النساء الأفريقيات اللاتي يحفظن أنفسهن وأطفالهن … لا بد أن هناك كثيرًا من الأشياء التي ينبغي على المرء أن يتعلم منها ولا بد أن ماكس على صواب لأن الإنسان إذا أراد أن يحقق شيئًا فعليه أن يفعله بمفرده. نظرت إلى طحالب البحر الطافية فوق الماء وقلت لماكس: هل ستنتهي قبل أن تبدأ مثلما حدث كثيرًا من قبل؟
ظل ماكس صامتًا ولم أسمع منه إجابة شافية، وكانت تلك آخر أيامنا التي عشناها معًا.
عاد ماكس إلى جوهانسبرج وتم الطلاق بيننا ثم اختفى شهورًا عديدة عاود بعدها الظهور، فقالوا إنهم طردوه من البلاد بطريقة غير شرعية، قبل أن يعود مرة أخرى، لكنني لم أستطع معرفة المكان الذي ذهب إليه أو الناس الذين قضى وقته معهم، غير أنني سمعت من سو لي صديقنا الهندي القديم أنه أمضى وقتًا برفقة بعض الناس الراغبين في تشكيل مجموعة ثورية سرية من البيض.
سمعت رنين التليفون في الحادية عشرة مساءً فقال جراهام: ليز … هل أنت ليز؟ … تذكري أن تشتري صحيفة الصباح لأنها ستنشر أخبارًا هامة عن ماكس وعن الظروف المحيطة بالحادثة.
كان صوت جراهام على التليفون متوحشًا وهادئًا، فتراءت لي المياه وهي تغطي كل شيء ثم توقفت الفقاقيع عن الارتفاع، وعندئذٍ قلت لنفسي: نعم … كانت توجد إمكانيات ولكن تحت أي حجر؟ … تحت أي حجر؟
تذكرت قنبلة ماكس التي وصفوها في المحكمة بأنها مصنوعة من علبة مليئة بخليط من الكبريت ونترات البوتاسيوم والفحم وكيف أنهم عثروا عليها قبل أن تنفجر، وكيف أنهم قبضوا عليه في خلال أربع وعشرين ساعة … لقد أصبح كل شيء أسوأ مما كان وتوالت هجمات الشرطة وحملات الاعتقال والسجن بدون محاكمة وأُصيب البيض الطيبون مع خدمهم بالدهشة من جراء القنابل وسفك الدماء كما حدث لهم أثناء طوارئ عام ١٩٦٠م عندما أطلق البوليس النار على الرجال والنساء والأطفال خارج مكتب تصاريح شار بيفيل، ولم يتحملوا مشهد الدم وكانت نصيحتهم الإنسانية المهذبة هي أن إحداث التغيير لا يتم إلا عبر القنوات الشرعية، أما ذوو البشرة البيضاء من الليبراليين الذين يقدمون الشكاوى ويتظاهرون ويعلنون عن آرائهم بصراحة فلم يفعلوا شيئًا ولم يحققوا أي شيء ورأوا فيما يحدث حماقة تبدد قواهم وقالوا لماكس: إن قنبلتك هذه لا تستطيع تحطيم قطعة من الرخام فلماذا تخاطر بحياتك؟
«الشجاعة والتحدي يتطلبان قدرًا من الجنون … تلك هي حكمة الحياة.»
حاولت أن أفهم شيئًا عن الجنون وعن الله وتساءلت: لماذا ينبغي على الشجاع دائمًا أن ينتهي به الأمر إلى الجنون؟
هرب البعض من البلاد وهجر البعض الآخر منظماتهم وخلاياهم وتم القبض على آخرين، رفض الكثيرون منهم الحديث تحت ضغط التعذيب والاستجوابات حتى تدهورت صحتهم، لكن قليلين هم الذين تحدثوا وقالوا كل شيء.
حكموا على ماكس بخمس سنوات، وبعد خمسة عشر شهرًا من الضرب والتعذيب تحدث إليهم بما يريدون، فاتهمه الزملاء بأنه مخبر خاصة بعد أن أخبرهم عن سولي وإيف كنج والرجل الذي اعتقلوه معه وعن وليام زابا وآخرين ممن عاشوا معنا وعملوا معنا سنوات طويلة، ولكن عن أي شيء أخبرهم؟ وكيف تمت المواجهة بينه وبينهم؟
تلك أسئلة لا حيلة للإجابة عليها!
إنه ميت الآن ولم يكن موته من أجل الناس فقط … لقد فقد احترامه لذاته واتهموه بالخيانة … لقد خاطر بكل شيء وفقد كل شيء … لقد قدَّم حياته ثمنًا وإلقاء نفسه في قاع البحر كان هو النهاية.