الفصل الرابع
إن قضاء وقت طويل مع جدتي العجوز لا يفيد، فذاكرتها ضعيفة ولا فرق أن يقضي المرء معها نصف ساعة أو ساعتين، لكن المهم أن تراه فقط، أما التعرف على وجهه فلا يحدث سريعًا، وإنما من خلال فتور الماضي وذهول الحاضر.
صنعت فنجانًا من القهوة لمغالبة النوم ومضيت بالسيارة عبر الضواحي قاصدة جدتي أثناء فترة الراحة بين حفلة سينمائية نهارية وأخرى، فكان الأولاد متزاحمين عند مدخل السينما يدفع بعضهم البعض في هزل، ويتناولون الآيس كريم في الشمس، وأمام زاوية من التقاطع الرئيسي للشارع كانت عائلة بيضاء فقيرة تبيع غزل البنات للعابرين بسياراتهم، وفي طريقي مررت بملاعب التنس وملاعب البولينج الخضراء، حيث يلعب بعض الناس ويستمتع البعض الآخر بالمشاهدة، وكانت صناديق البيرة الحمراء السميكة مفتوحة من كل جوانبها ولم تكن أيادي الأطفال تخلو من الحلوى.
بالنظر إلى وجوه الناس لم يكن ثمة شك في أنه يوم السبت بعد الظهر حيث بهجة نهاية الأسبوع.
إنه بيت قديم ذو سقف حديدي وطراز فيكتوري قديم لكنه قد تأثر بفعل الزمن فقاموا بتجديده مما أفقده جماله القديم كانت أبواب المدخل من الصلب والزجاج والضوء غير المباشر يظلل النباتات الاستوائية، وفي الطابق الأول كانت الأشياء المزخرفة الموروثة من أغنياء أوروبا منذ سبعين عامًا ونافذة من الزجاج الملون مرسوم عليها أوراق الزهرة ثم ألوان قوس قزح التي تضفي جمالًا على بعض الأشكال الفنية.
أشعر دائمًا بشعور إنساني تجاه المكان لا أحسه أمام أي بناء حديث لكن جدتي حين ذهبت هناك لأول مرة وكانت ما تزال قادرة على الاعتناء بنفسها وبالمكان كانت تشكو قائلة: إنه مكان قبيح ومن الطراز القديم.
إن جدتي تحب البلاستيك والزهور الصناعية والحرير الصناعي والرخام الصناعي والجلود الزائفة.
إن المرء داخل المكان يفقد إحساسه بالأيام … نفس الهواء الدافئ والإضاءة الشاحبة والمشروبات الروحية ونفس الإحساس الغريب وعدم القدرة على معرفة إذا ما كان الوقت ربيعًا أم شتاءً، وعند العبور من بوابات الحراسة المفتوحة على اتساعها يستطيع الواحد منا أن يسمع وقع أقدام ميتة لبعض المرضى وكبار السن الذين يغادرون أسرتهم بعض الوقت … إنها مصحة للمدمنين لبعض المرضى وكبار السن ومرضى السكر الذين لا أمل في علاجهم وينتظرون الموت بين وقت وآخر … سيدات عجائز بشعر أبيض قصير يبدو وجه إحداهن كوجه سكير طائش وكأنها عاهرة فقدت جاذبيتها، وأخرى ذات بطن كبير كانت تمد قدميها فوق المقعد كالضفدعة الميتة الغارقة في مياه البِركة لم أستطع أبدًا معرفة ما حدث لها.
خارج حجرة جدتي الصغيرة كانت باقة الورد داخل الفازة على الأرض تحتوي على زهرة شقائق النعمان والأعشاب ذات الزهر الأحمر وبعض زهور اللبن الثلجية كالتي أرسلها لي جراهام.
فتحت الباب بهدوء وتسمرت في مكاني لحظة أبصرت خلالها جدتي جالسة فوق المقعد بشعرها القصير المجعد كما هو لكنه — هذه المرة — كان مصبوغًا بلون خفيف ومربوط بعقدة صغيرة إلى الوراء، وكان أحمر الشفاه واضحًا فوق شفتيها … كانوا يغيرون ملابسها كل يوم ويساعدونها في ارتداء عقدها اللؤلؤي وقرطها الكبير.
كان الضوء القادم من خلفي قد ساعدني في رؤية عينيها المفتوحتين ووجهها الذي ارتسمت عليه علامات الخوف.
قالت بفزع: من القادم؟
أجبت: أنت تمزجين بالتأكيد … إنها حفيدتك إليزابيث.
دخلت الممرضة ووقفت بيننا فقلت لها: ابتعدي قليلًا حتى تراني بوضوح. ثم اقتربت منها حيث الضوء القادم من النافذة وقمت بتقبيلها وأنا أقول: ها قد جئت فلم أشأ أن يفوتني عيد ميلادك.
استجابت لقبلتي ثم استدارت للخلف بسرعة وخوف، وعندئذٍ قالت وهي تنظر نحوي: إليزابيث … حبيبتي إليزابيث … أليس كذلك؟
ضحكت الممرضة الأفريكانية بشدة لكن جدتي لم تلحظ شيئًا وراحت تقترب مني وتقبلني مرة أخرى، ثم مدت يدها إلى فمها وقالت بغضب: ما دامت إليزابيث هنا فلماذا لا أشعر بأسناني؟ … أين أسناني؟
قالت الممرضة: إن لثة أسنانك كانت تؤلمك هذا الصباح يا جدتي ولم ترغبي في تناول الدواء … ألا تتذكرين؟ وعلى أية حال ها هي أسنانك ولكن يجب أولًا أن تتناولي الدواء.
– عن أي شيء تتحدثين؟ … هاتي أسناني.
اختطفت جدتي أسنانها من يد المرأة وفتحت فمها لكنها لم تعرف مكان الجزء العلوي والسفلي.
شعرت الممرضة براحة كبيرة لوجود شخص آخر غير هذه السيدة العجوز تستطيع أن تتبادل معه الحديث، فقالت لي: إنها دائمًا تخاف كلما اقترب شخص ما من الباب ولست أدري لماذا تخاف إلى هذا الحد؟! إصابتها بالذبحة الصدرية الأخيرة … إنها تعتقد دائمًا أن شخصًا ما سوف يأتي ويأخذها.
تحوَّلت عني وقالت لجدتي برقة: لن يؤذيك أحد يا سيدتي، ولا أحد يستطيع إيذاءك … أليس كذلك؟
رفعت العجوز حاجبيها العاريين من الشعر وتحسست أسنانها الكبيرة المستعارة حين سألتني: هل ما زال زوجك يقيم معك أم أنه تركك مرة أخرى؟ وماذا عن بوبو ذلك الولد الجميل؟
كنت قد أخبرتها في زيارة سابقة عن طلاقي من ماكس لكنها لا تتذكر، وإذا قلت لها الآن إنه مات فسوف تنسى أيضًا، ولذلك أجبتها قائلة: لقد رأيت بوبو في الصباح وهو يتمنى لك عيد ميلاد سعيد.
قالت وكررت القول مرارًا: عيد ميلادي؟!
ثم استطردت: كم عمري الآن؟
قلت لها: أنت في السابعة والثمانين على ما أعتقد، لكنني لست متأكدة.
حاولت أن تتصرف كفتاة صغيرة لكنها لم تستطع إخفاء خجلها من ذلك التصرف، فراحت تهمس قائلة: شيء فظيع! … إنه عمر طويل ولم أكن أعرف ذلك كما أنني لا أعرف أي شيء.
تحسست يديها فسرى النبض في كل جسدها وأبصرت الطلاء الأحمر فوق أظافرها كما اعتادت دائمًا أن تفعل، وذلك العقد اللؤلؤي حول رقبتها، والذي يبدو كأنه صنع خصوصًا لأجلها ثم سألتها: هل رأيت الزهور التي أرسلتها لك؟
تدخَّلت الممرضة قائلة: لقد رتبت الزهور بطريقة جميلة لكنها لم تشأ أن تضعها بجانبها في الحجرة.
– لماذا؟ … لماذا لا تريدين زهورك هنا؟
بدا وجه السيدة العجوز خاليًا من أي معنى، فأضفت: هل رائحة الزهور قوية جدًّا أم أنك لا تحبين تلك الرائحة؟ إنني أخشى ألا يكون هذا الوقت من العام مناسبًا للزهور!
لقد اعتادت الحديث عن عشقها للزهور رغم اهتمامها القليل بالأشياء الطبيعية.
قالت الممرضة: نعم، فهي لم تحتمل الرائحة القوية للزهور ولم ترغب في إبقائها بالداخل.
ظلت جدتي تنظر نحوي ونحو الممرضة ثم سألتني وهي تشير إلى الممرضة: من تكون هذه؟
كان وجهها يوحي بالاتهام حين ابتسمت الممرضة وقالت: آه يا جدتي … إنني جروبلر.
لكن جدتي لم تفهم وارتعش وجهها وهي تكرر بنفاد صبر: من هي؟ وماذا تفعل هنا؟
أخبرتها أنها الأخت جروبلر التي تعتني بها، فهزت رأسها راضية وقالت: هل هي مناسبة لي؟
أجبت: نعم بالطبع … إنها مناسبة.
بدأت الممرضة تغني لحنًا رتيبًا: إنني أرتب سريرك وأقوم بحمامك … أنا التي تمشط لك شعرك وتصنع لك الكاكاو.
بدت جدتي وكأنها لا تسمع شيئًا أو تفهم شيئًا مرة أخرى، وكانت تجاويف يدها تنتفض وكذا مفاصل أصابعها المدهونة بالكريم.
كان والد جدتي يعمل مهندسًا مع رودس وبيت، ولقد اعتادت طوال حياتها أن تعيش على الفوائد دون أن توفر شيئًا كما قالت أمي ذات يوم، ثم أنفقت آخر ما تملك من رأس مال على نفقات شيخوختها، وأستطيع أن أتذكر الآن أن جدي من مي لم يترك أي شيء لأولاده وفي نفس الوقت الذي تزوجت فيه أمي من شاب مفلس تزوجت جدتي أيضًا مرة ثانية من رجل كبر قليلًا من ابنتها أنفقت معه جزءًا كبيرًا من رأس المال إلى جانب إقراضها المال لابنتها من حين لآخر، ولم يحدث أن شاركت أبي وأمي اعتراضهما على الطريقة التي نعيش بها أنا وماكس والسؤال عن السبب في فشل ماكس كزوج، لكنها كانت تقول بأنه ولد مبتهج وعنيد ومغامر جذاب.
من دواعي سرور أبي وأمي أن أتزوج من عائلة فان دن ساندت، لكنني أفسدت ذلك السرور عندما أصبحت حاملًا قبل الزواج، حتى إن الناس في مدينتنا الصغيرة كانوا يقولون: لقد تزوجها رغمًا عنه.
وكانوا يلقبونه في المدينة بابن الثروة، فهل سيستريح أبي أمي حين أخبرهما بوفاته؟ وهل من الصعب قول ذلك؟
لقد كانوا يتوقعون شيئًا من ابن الثروة لم يحصلوا عليه، فهل كنت أنا — بطريقة ما — أتوقع منه شيئًا لم يكنه؟
كنت في السابعة عشرة من عمري حين قابلت ماكس ذات صيف أثناء مساعدة أبي في دكانه أيام الكريسماس، حيث مختلف البضائع والأطباق والأكواب الصغيرة الملونة … طائر الوقواق الرخيص وساعات الحائط واليد … فازات حمراء وبلابل مطلية بماء الذهب … أقلام يابانية مزركشة ونازعات سدادات ألمانية على هيئة رءوس كلاب وأحد الأركان الخاصة بالتماثيل الصغيرة لراقص الباليه.
كانت الفتيات تشترين هذه الأشياء بما حصلن عليه من عملهن في محلات أخرى تبيع نفس الأشياء تقريبًا، وكان الرجال السود يترددون كثيرًا عند اختيار ساعة، فعرفت فيما بعد أن تلك الساعات لا تعمل بانتظام، وأن كل شيء زائف ورديء، واكتشفت يومها أن ماكس يعرف كل شيء من خلال البيت الذي يعيش فيه ومن خلال رواد البيت المحيطين به ورفاهيتهم في الحياة التي قاتل من أجلها آباؤنا وأجدادنا في حربين وقتلوا بسببها كثيرًا من الرجال السود في حروب أهلية … اكتشف ماكس كل شيء، ولذلك توقعت منه شيئًا وربما أشياء كثيرة.
فكرت قائلة: بعد وفاة جدتي سيأخذ بوبو سلسلة صيد أبيها الذهبية التي أعطاها له بيت.
مضت أول خمس دقائق معها، وكالعادة لم أجد ما أقوله بالتطلع في فراغات وجهها العميق، تذكرت متعتها القديمة حين كانت تجوب الشوارع والطرقات والمدن، فوصفت لها رحلة الشراء التي قمت بها في الصباح، وقلت لها: كنت أبحث عن شيء ما أرتديه في المساء يكون خفيفًا وبأكمام لأن الجو — كما تعرفين — سيكون دافئًا في الأيام القليلة القادمة.
انتبهت وقالت: ما هي الموضة هذا العام؟ … هل هو اللون الأسود؟
– لا … إنني أحب اللون الأبيض.
مالت للأمام بثقة وقالت: إن اللون الأبيض لا يناسب الوجه.
– لكن الأبيض المائل للصفرة يبدو رقيقًا وبسيطًا.
– لكنه يحتاج لغسيل دائم يا حبيبتي ولا تستطيعين ارتداءه سوى مرة واحدة فقط.
– انتقلت من محل إلى آخر وكانت جميعها مزدحمة فعرفت أنه لا يجب شراء الملابس في أيام السبت وعندئذٍ توجهت إلى الفولا لتناول القهوة … هل تتذكرين ذلك المكان الذي كنت تشربين فيه القهوة، وذلك اليوم الذي اصطحبني فيه بوبو لتناول الغداء حين سرق الأرغفة من المائدة المجاورة؟
ابتسمت ببطء شديد حتى تشقق فمها المتدلي وارتسمت الابتسامة فوق وجهها القاحل ثم ضحكنا معًا، فاستعادت ذاكرتها وراحت تردد كلمات بوبو: ساعدي نفسك يا جدتي … ساعدي نفسك يا …
قاطعتها الممرضة قائلة: أنت تستطيعين تذكر كل شيء عندما تريدين وتتحدثين جيدًا عندما تأتي حفيدتك، أما حين نكون وحدنا فإنك تصبحين كسولة.
ثم تطلعت نحوي وقالت: انظري كم هي مليئة بالحياة.
حركت السيدة العجوز ذراعَيها الكبيرين، وكان وجهها يوحي بمعانٍ كثيرة وحين تحدثت معها ظلت ترمقني بنظرات عينيها التي فيها من الحيرة قدر ما فيها من التسامح … واصلت حديثي لكنها تجاهلتني لأنني في الحقيقة لم أكن أقول شيئًا، وفجأة سمعتها تقول: ماذا حدث؟
لم يكن ثمة ما يقال فهذا النوع من الأسئلة لا حيلة في الإجابة عليه، وليس من اليسير إخبارها بأنها ستموت … لقد ورثت جدتي كل ما يجعل الحياة هانئة، ورغم ذلك فلا شيء يحول بينها وبين الموت.
سألت أيضًا: ماذا سأفعل إذا لم أخرج الآن؟
أجبت: تستطيعين الخروج في أي وقت، وقد أحضر ذات يوم بعد الظهر وأصطحبك أنت والممرضة جروبلر إلى السينما.
– كيف أتصرف عندئذٍ؟ وهل بمقدوري أن أفهم؟
كانت ابتسامتي بلا معنًى وأنا أقول لها: فلتبقي هنا في هدوء.
كررت السؤال: ولكن أخبريني بما حدث … ماذا حدث يا إليزابيث؟
قلت: لا شيء على الإطلاق … إنه التقدم في العمر فقط، وهذا شيء طبيعي وعادي جدًّا، خاصة وأنك في السادسة أو السابعة والثمانين، وهذا عمر كبير يا جدتي.
انتهت الساعة التي قررت أن أقضيها معها، فقلت لها وداعًا بابتسامة مشرقة ووعدتها بالعودة مرة أخرى في الأسبوع القادم رغم أنها لن تعرف الفرق إذا ما امتنعت عن زيارتها لمدة شهر ظلت تكرر: إنه عمر كبير … عمر كثير … أنت تعلمينني.
خرجت من الباب وسرعان ما عادت إليَّ خطواتي السريعة العنيفة بعد أن تجاوزت هدوء الممرات ورحت أقود سيارتي عبر الجسر قاصدة بيتي، فلاحظت علامة السهم والرمح القديمة التي لم يعد لونها أحمر شاحبًا … كانت بداية غروب الشمس وثمة أبنية بمحاذاة أعمدة التليفون المنتشرة على طول الطريق وعدد ليس قليلًا من الناس يحمل شرابه للخارج من أجل الاستمتاع بالضوء المنتشر في كل مكان … الضوء الذي يحيط الوجوه كما تفعل ظلال الأشجار … إنه يأتي من أحد الانفجارات البركانية في الجانب الآخر من العالم ومن ذرات الرمال المرتفعة نحو طبقات الجو العليا، ويعتقد بعض الناس أنه بسبب التجارب الذرية القادمة من نصف الكرة الأرضية الشمالي بسبب الكآبة والركود … إنها منطقة ترقد فيها العناصر هادئة ولا تحمل أي تلوث.