الفصل السادس
إنه يدخل من المدخل الأمامي للمبنى مباشرة ولا يضايقه الحارس الجالس في نقطة المراقبة بالكشك الخشبي من أجل مراقبة الذين يتسللون إلى حجرة الخدم في السطح عن طريق السلالم الخلفية، كما أنه لا يخشى أن يراه أحد، وإذا ما قابل السيدة القائمة على العناية بالمكان فإنه يختلق لها حكاية مقبولة يفسر بها وجوده، وهكذا ينجو منها لكنه — بطريقة ما — لا يقابلها.
كان باستطاعة عدد قليل من الأفارقة أن يفعلوا مثله، أما الغالبية فلم يكن بمقدورهم التحرك خطوة واحدة دون عراقيل ومحظورات كالتي تواجههم في كل مكان، كما عرفت حين كان ماكس يعمل معهم.
وقف لوقا عند المدخل فأدركت حينئذٍ أنه لا يأتي لزيارتي بدون موعد يتفق معي بشأنه حين أسمع صوته على الطرف الآخر من التليفون، أو حينما أراه واقفا هكذا بابتسامته العريضة وجسده الكبير الذي يملأ ملابسه.
شعرت بسعادة لرؤيته، وكان من اليسير سماع هفهفات ملابسه ورؤية عضلاته المتحركة وهو يسارع بالدخول … إنه أحد أولئك القوم الذين يتنفسون بحذر كالقطط ويتركون بصمات أصابعهم فوق الكوب نظرًا لدفء أجسادهم.
قلت: جميل أن أراك.
وضع يديه بسرعة فوق قمة ذراعي وتركهما ينزلقان إلى الكوع ثم ضغط عليَّ برقة … وقفنا لحظة تبادلنا خلالها الابتسام بدلال، ثم قال: وجميل أيضًا أن أراك فلقد كدت أن أنسى شكلك … هاي … ماذا حدث؟ … هل كان غيابي طويلًا؟
أبصر اللون الفاتح فوق قمة رأسي فقلت: لا شيء … إنها الموضة التي تفعلها النساء عند الكوافير ويطلقن عليها اسم التقليم أو التخطيط.
وضع يديه فوق الأجزاء البارزة من أثدائي وكأنه يقول: إلى هناك، ثم توجهنا إلى حجرة المعيشة.
ظل يتحدث وهو يتجول بالحجرة دون أن يتوقف عن النظر إلى الأشياء ولمسها وكأنه يريد إحساسًا بالألفة أو شعورًا بأنه في بيته وقد أثارت العلامات والشارات انتباهه وراح يفكر في تأثيرها وهو يتذكر حياتي هناك مع ماكس، وكان طبيعيًّا ألا ينتبه لزهوري، فلقد كان لديه ما يريد قوله في الحال: لقد جئت يوم الثلاثاء … لا … لقد غادرنا يوم الثلاثاء متأخرًا ووصلنا صباح الأربعاء مبكرًا ثم تعطلت السيارة.
تناولت بيدي زجاجة البراندي وأمسكت بيدي الأخرى زجاجة النبيذ المفتوحة فقال: أوه … أي شيء وليكن براندي.
لقد أصاب التلف سير المروحة والشاب الذي كنت معه.
– أليست الشاحنة معك؟ وكيف حال ريبا؟
– إنه في منزله هذه الأيام وأنا الذي يقوم بالتحرك؛ إذ إنه يعاني من المشاكل مع زوجته التي تتسبب في المتاعب دون إدراك منها، حتى إن الطبيب لم يستطع معرفة ما بها وفي حقيقة الأمر فقد طلب مني ريبا أن أسألك.
– حسنًا، لكنني لست طبيبة وإنما أعتقد أنها تعاني من ضعف في السمع.
– نعم، وهذا ما قاله الطبيب، لكنها ليست ذكية.
ضحكت، فاستطرد: وتعاني من قصور في الفهم والإدراك، ويمكن للمرء أن يفقد توازنه إذا فقد السمع تمامًا.
قلت: نعم … أعرف.
أراد أن يجعلنا نضحك على المنطق الأفريقي فقال: إنها تقول إن لها أذنين فقط.
قدمت له كأسًا من البراندي ثم توجهت للمطبخ وأشعلت نار البوتاجاز بسرعة، وبعد أن وضعت اللحم فوق النار وضعت الصلصلة فوق السلاطة وقمت بخلطهما معًا دون أن أغسل يدي كما أفعل دائمًا حين لا يراني أحد.
كان يسمع الأصوات الصادرة مني في المطبخ ويضحك وعندما خرجت حاملة الصينية قلت في مواجهة ابتسامته العريضة: ما الأمر؟
قال: إن الفتيات ذوات البشرة البيضاء لا يبددن الوقت ويتمتعن بروح عملية فعالة، وذلك ما أحبه.
وضعت الخبز والسلاطة والزبدة فوق المائدة وقلت: إنني لا أفعل هكذا دائمًا وقيامي بعمل هذا يعد مجهودًا خاصًّا.
أجابني قائلًا: أوه … أشكرك جدًّا.
ظل صامتًا يراقب دخولي حجرة المعيشة وخروجي منها حتى أبصر رأس القرد الأفريقي، فاكتسى وجهه بالفضول وسارع بالتقاطه، ثم قال في محاولة للتقرب مني ومن شئون حياتي: أنت تجدين ما يشغلك طوال الوقت، فها هي محاولة لتثبيت رأس القرد.
– إنه خاص بابني بوبو.
قال وهو يداعب الفراء بأحد أصابعه: شيء جميل لولد صغير.
– إن بوبو لم يعد صغيرًا وقد لا تناسبه الآن.
– لكنني أستطيع اللعب بشيء كهذا في مثل عمري الآن.
لم أكن أعرف إذا ما كان لطيفًا حقًّا أم أنه كان يفتعل المرح خلال استجابات سريعة لما يحيط به لأنه حين يكون يقظًا لما أقول فإن عينيه ترفرفان، وعندئذٍ أعرف أنه — بطريقة خاصة — يفكر في شيء آخر.
ابتسم ونظر لي نظرة إعجاب طفولي أثارت إعجابي ثم قال: أيمكنك الجلوس والاسترخاء قليلًا؟
كان حديثه في كثير من الأحيان قليلًا وموحيًا على طريقة الأفلام الأمريكية التي تأثر بمشاهدتها، وكان ذلك مناسبًا له تمامًا كما كان ملائمًا له ذلك الجاكت الصوفي الذي يرتديه.
تسربت إلى أنفي رائحة البصل الذي استوى مع الزبدة فوق النار بينما كنا نتبادل الحديث بمودة فوق أرض محايدة.
سألته عن الانتخابات في باسوتولاند ثم تطرق بنا الحديث عن وضع اللاجئين من جنوب أفريقيا وعندئذٍ بدأ يشكو من الأحكام المفروضة عليهم من قبل السلطات البريطانية التي أشار إليها قائلًا: أصدقاؤك الإنجليز.
قلت باحتجاج: أصدقائي؟ … لماذا أصدقائي؟ … رغم إشفاقي على أولئك البؤساء ومساعدتهم في التعامل مع اللاجئين السياسيين ومشاركتهم النضال.
قال: آه … إنهم يمارسون لعبة جميلة مع حكومة جنوب أفريقيا فلا تقلقي.
قلت: خاصة شباب المنظمة الأفريقية السياسية.
ضحكنا بصوت عالٍ، فوجدها فرصة للانحراف بعيدًا عن الموضوع وخاصة فيما يتعلق بزياراته لجوهانسبرج.
كنت على يقين أن هناك سببًا وراء زيارته لي كما يحدث دائمًا رغم أنه عاد في المرة الأخيرة دون أن أعرف السبب؛ إذ إنه لم يستطع الإشارة إلى ما كان يريد … إن ذلك الشاب لوقا ليس أحمق على أية حال.
بدأنا نتناول الطعام في حوالي العاشرة، وكان الجو شديد الحرارة والرطوبة … تلك الحرارة التي لا يشعر بها المرء عندما يقوم شخص ما بخدمته من خلف الأبواب … رغب لوقا في زجاجة من البيرة لكنني لا أحتفظ بها في منزلي، فراح يواصل شراب البراندي بينما أعددت لنفسي كأسًا من النبيذ الجيد.
أعلنت احتجاجي منذ سنوات قليلة مضت حين تصرفت بأنانية وجشع وبحثت عن المتعة مع جراهام، لكنني فكرت فيما قلته لماكس منذ زمن بعيد أثناء بدايتنا معًا: ماذا بوسع الإنسان أن يفعل إذا مات الشخص الذي يحبه وكيف يمكنه الاستمرار؟
أجاب ماكس عندئذٍ: بعد ساعات قليلة يشعر ذلك الإنسان بالعطش فيرغب في الشراب.
كان العشاء جيدًا ولذيذًا وبدا الأمر كأنه عيد، فقلت لصاحب الوجه الأسود الناعم والعينين الكبيرتين الجالس إلى جواري: هل عرفت من الجريدة أن زوجي مات؟
دق قلبي فجأة دقات سريعة ومتلاحقة ولم أعد أفكر في إخبار هذا الزائر بأي شيء، فقد كان الوقت متأخرًا ولم يكن ثمة ما يقال … إن مثل هذه الزيارات بلا معنًى كالوقت الذي نستيقظ فيه من النوم ليلًا لنقرأ أو ندخن ثم نعود للنوم مرة أخرى.
كان فم لوقا مليئًا بالطعام فبدا خائفًا وهو يبصق الطعام ثم قال: يا للمسيح، لم يخبرني أحد، ولم أقرأ شيئًا في الجريدة … متى حدث ذلك؟
شعرت بارتباك شديد وقلت: لقد تم طلاقي منذ زمن بعيد كما تعرف، وعاش بوبو معي منذ طفولته المبكرة.
– أوه … ذلك الرفيق الذي كان معك في كيب تاون … هل كان هو الشخص الذي تزوجتِه؟ … لقد قرأت عن وفاته ولكنني …
– نعم، لقد تلقيت البرقية هذا الصباح وكانت صلتنا مقطوعة منذ عام.
ظل يكرر مرة وراء الأخرى: يا إلهي الطيب … لم أكن أعرف.
عدت لتناول الطعام لإجباره على مواصلة طعامه، لكنه ظل يحدق في وجهي فقلت: يا للجحيم، كان أمرًا كريهًا يا رجل.
– وماذا فعلت يا ليز؟
كنت أتناول طعامي فرحت أمضغ قطعة من اللحم وأغرف قليلًا من قطع البصل، وحين وضعت الشوكة في فمي تأكدت أنه كان يلاحظني، فتوقفت عن الأكل واعتدلت في جلستي ثم نظرت إليه وقلت: لم أفعل شيئًا يا لوقا سوى الذهاب إلى المدرسة لإخبار ابني، وهذا كل ما في الأمر.
– وماذا عن الجنازة؟
– ستكون في كيب تاون.
– هل ستذهبين إلى هناك؟ … لا شك أنك لن تذهبي.
ربما كان يفكر في جنازة إحدى العائلات الأفريقية بكل ما فيها من خصومات ونزاعات قبلية وبالحياة البائسة.
أجبت: لا … لن أذهب.
قال: لكنه كان زوجك!
– نعم، أعرف ذلك.
أظهر كلانا تقديره للآخر بدون دهاء، ولا أستطيع أن أزعم أنني أعرف أي شيء عنه سوى ما أمكنني التقاطه من براءته ووجهه الممتلئ الجميل، غير أنه اعتبرني إنسانة غريبة بالمقارنة بنوع الحياة التي ينتمي إليها.
بدأنا في تناول الطعام مرة أخرى ببطء حين قال: لماذا فعل ذلك من وجهة نظرك؟ … هل هي أسباب سياسية؟
كان لوقا يعرف ذلك الوقت الذي عمل فيه ماكس مخبرًا، فقلت: لو أنه كان رفيقًا لكم لما فعل ذلك بنفسه؛ لأن شخصًا آخر كان سيقتله بالسكين ويلقي به في الميناء.
قال: اهدئي يا ليز … هل تعتقدين أنه لم يستطع التخلص من إحساسه بالذنب؟
– لا أعرف يا لوقا … إنني حقيقة لا أعرف.
– لكنك تعرفينه وتعرفين أي نوع من الرجال هو رغم عدم رؤيتك له منذ مدة طويلة.
– إنه لا يعتقد أنه كان كذلك.
لم يشأ لوقا أن يخاطر بحديث سيئ عن الميت، فقلت بطريقة من يقدم العزاء لنفسه: يوجد بعض الناس ممن يقتلون أنفسهم لعدم قدرتهم على تحمل فكرة أنهم لن يعيشوا للأبد.
ابتسمت، وخشية أن يعتقد أنني أتحدث عن الحياة بعد الموت أضفت بسرعة: أعني أنهم لا يستطيعون الصبر على الوقت الذي يعيشون فيه مثل القديسين والشهداء الذين هم من نفس النوع.
لكنه قال: الفتى البائس.
وجدت نفسي وكأنني امرأة بيضاء أخرى تتحدث كثيرًا، فقدمت له نبيذًا مرة أخرى لكنه رفض قائلًا: لا … سأكتفي بهذا.
كنا قد شربنا كثيرًا لكنني كنت في حالة جيدة رغم أنني لا أشرب أبدًا عندما أكون في حالة سيئة … صببت لنفسي كأسًا أخرى وتناولنا مزيدًا من الطعام، وراح يحدثني عن مشروع ريبا ببناء ستة عقارات حول باسوتولاند من أجل حياة أفضل للأفارقة، حتى قال: وإذا وجد ريبا من يساعده فلن يتوقف وعندئذٍ يستطيع الحصول على الطوب والخشب بأسعار رخيصة.
– ولكن أي نوع من المنازل؟
– ستكون المنازل جيدة لأن ريبا يعرف ما يفعله … هل تعرفين صديقه بازل كاتز؟ … إنه الآن يقوم ببعض التصميمات ويفعل ما في وسعه هناك في محاولة منه لمساعدة ريبا لم أهتم كثيرًا وكان من اليسير أن أبدو متعاطفة، لكنني قلت: ألن تقوم جمعيات البناء بدورها؟
– لا بالطبع فهذه الجمعيات للأسف لا تفعل شيئًا من أجل المواطن الأسود ولذلك أشعر بالأسف تجاه ريبا الذي أعرف أنه ماهر جدًّا ويستطيع الحصول على الأسمنت والطوب والخشب بأسعار رخيصة، كما أن لديه الأيدي العاملة من أهل باسوتولاند، وهذا في حد ذاته شيء جيد.
– لا أعتقد أنه يملك الضمان الكافي.
– نعم هو كذلك، ولو أنه من البيض لاختلف الأمر.
– وهل يوجد هناك من يستطيع شراء مثل هذه المنازل؟ وهل لديهم المال؟ … أعني أنه مشروع غير اقتصادي بطريقة ما.
قال بطريقة رجل المدينة الذي يحتقر أهل القرية: ينبغي أن تشاهدي الماشية التي يمتلكونها وهؤلاء هم الذين يذهب إليهم ريبا ويجلس معهم ويشاركهم احتساء البيرة وتبادل الأحاديث ويخبرهم بحاجة الحكومة الأفريقية بعد الاستقلال لهذه المنازل من أجل الوزراء والناس في المدينة … إنه يقابلهم ويتحدث إليهم ولا يذهب لأولئك البؤساء فوق الجبال.
تطرق الحديث عن سرثو، وحينئذٍ أخبرني عن مباحثات ريبا مع الفلاحين فضحكت وتساءلت بيني وبين نفسي: إلى أي شيء يرمي؟ ومن أجل أي شيء جاء؟
لكنني نسيت تساؤلي بسرعة وقلت: وذلك ما تفعله أنت في جوهانسبرج فكلا كما يعمل على زيادة النقود من أجل بيوت الأغنياء.
نظر إلى قطعة الجبن التي تناولها لتوه فأزاحها بعيدًا بالسكين ثم نهض من فوق المائدة واستدار بعد أن وهبته الصراحة التي أرادها … بدت بطنه مليئة من خلف قميصه الأبيض فرفعها بيده وراح يتنفس بعمق وهو يتقدم بصدره إلى الأمام وعندما بدأ يتحدث مرة أخرى قال بطريقة مختلفة: لا … إنها ليست بيوت الأغنياء … إنها … إنها بيوت ريبا.
تحركت يداه بإشارة دائرية وحين تذكرت أنه كان يعمل بائعًا لملابس السيدات الداخلية في الضواحي سألته بعد أن وقفت في مواجهته وطويت ذراعي: كيف تعيش الآن يا لوقا؟
ثم أضفت: رغم أنني أعرف أنك لست من النوع الذي يحق للمرء أن يسأله مثل هذا السؤال.
ابتسم ابتسامة بريئة لم يستطع التراجع عنها، وقال بتردد: إنني مع ريبا كما تعرفين.
– لا … لا أقصد ذلك فأنت مشغول جدًّا مع ريبا ولكن كيف تعيش؟ … أليست لك عائلة في مكان ما؟
– إنني أسافر وحدي.
كان كلانا يعلم بوجود زوجة وأطفال لكنه خبير في توصيل ما قد يدعوه المرء بالأسف الجنسي وتبليغ اقتراحاته بوجوب ممارسة الحب، وأعتقد أنه لاقى قبولًا كبيرًا مع نوع النساء البيض اللاتي يعرفن أمثاله من الرجال السود.
لقد حاول معي من خلال أشياء أخرى وبطرق مختلفة، ولم أستطع أن أخبره بحبيبي الأسود الذي كان منذ سنوات مضت.
تحسس أذني ورقبتي بمقدمة أصابعه وليته كان يعرف جمال هذه الحركة، فإنني أحب — بشكل خاص — تلك الخطوط الوردية الشفافة في الجانب الداخلي من الأيادي السوداء، والتي تبدو وكأن الضوء يتخللها.
لفني بذراعيه ورحت بدوري ألتصق بخصره الدافئ القوي بعد أن تلامسنا برقة ضايقته بقولي: أظن أن الحزب الشيوعي يساندك.
وكما يفعل كل رجال المنظمة السياسية الأفريقية راح يتهم رجال المؤتمر الوطني الأفريقي بأن موسكو تقتادهم من أنوفهم، وكذلك بكين، ثم قال: نعم، هذا صحيح.
ضحكنا ثم انفصلنا ورحنا نتجول في الحجرة وهو يقول: إنني أعترف وأقبل كل شيء.
جلس بارتباك فوق مقعد منخفض بالنسبة له فتقوست قدماه واتخذت أنا مكاني فوق الأريكة وقال: جميل أن تكوني هنا في هذه الحجرة، فإنني أتسكع في هذه المدينة القذرة منذ الخميس … إنني أتذكر ليلتي الأولى هنا وأنت في ثياب النوم الحمراء المرسوم عليها قليل من النقوش … أليس كذلك؟
… أتذكر أنك فتحت الباب يومها دون خوف من الرجلين الأسودين الغريبين الواقفين أمام بابك.
لم أعرف يومها سبب زيارتهما … هل هي النقود؟ … إن ريبا يرد أحيانًا النقود، وفي أحيان أخرى لا يردها حتى إنني لا أتذكر إذا كان مدينًا لي الآن بشيء أم لا.
قلت من فوق أريكتي المريحة: إنني أعرف ريبا ولقد رأيته من قبل ذلك.
قال: لكنني كما لاحظت فإنك لم تعرفيه ولم تستطيعي التعرف عليه، ورغم ذلك فقد طلبت منا بأدب أن ندخل، ثم تناولت أنا بعض الطعام البارد المتبقي من عشائك يا ليز.
ابتسم وهو يعاود الاقتراب مني وراح يتملقني ويمدح طبيعتي الطيبة حتى ناداني قائلًا: ليزي.
لقد استخدم اسمي بطريقة غير مناسبة وغير متقنة، لكنها كانت طريقة ظريفة على أية حال، فتذكرت فتيات المطبخ اللاتي يصنعن من أسمائهن أسماءً أخرى جميلة.
قلت بسخرية: لم يكن لديَّ أي شيء آخر أقوله سوى السماح لكما بالدخول.
أبصرت خلف عينيه مرة أخرى بعض الكلمات الذكية التي لم أعرفها، وكان شجاعًا هذه المرة في محاولته، فلم أعرف ما ينبغي أن أقوله وأصابني الارتباك لما كان يريده مني.
تحرك بتثاقل فوق المقعد المنخفض ودارت عيناه إلى أعلى بحركة ضاغطة من رأسه، فبدا كما لو أن شخصًا ما قد سلط عليه الضوء، كان نوعًا من التمثيل الصامت لليأس من جانبي حين تنهد وأوشك على الحديث، فتراجع عن تنهداته وأشار بيديه إلى ارتعاشة عضوه، وهكذا تأكدت من وجود شيء ما حقيقي كان يخفيه خلف سلوك طيب.
إنه إحساس هذا الثور الأسود الشاب في المتجر الصيني الأبيض بوجباته القليلة اللذيذة وأرفف الكتب والخزف الصيني القديم وتبادل الأحاديث أثناء تناول القهوة.
قال: تلك الأيام القليلة … لقد فكرت كثيرًا في تلك الأيام القليلة من الصباح وحين الليل، هنا وهناك … لقد كان وقت …
انتظرت أن يواصل حديثه، فلم أقل شيئًا حتى استطرد قائلًا: ليتنا نُبقي على أي شيء ونحافظ عليه ولا نبخل على الشباب بالرعاية الكافية … إن كل القضايا الآن في كيب الشرقية ويوجد محامون يمكننا أن ندفع لهم.
رمقني بنظرة سريعة، فحركت رأسي وقلت: لقد اتهموا ما يزيد على العشرين من رجال المنظمة الأفريقية السياسية بالتخريب هذا الأسبوع كما جاء بالجريدة، ومثل هذه الحالات كثيرة جدًّا، لكن الأمر المؤسف أنهم لم يبدءُوا في محاكمة المعتقلين منذ عام مضى إلا هذه الأيام، وكأن ممثل الدفاع لا يطالب بوجود محامين للدفاع عنهم … إن العقل الأبيض عقل منظم يتعامل مع النكبات من خلال القنوات الرسمية.
رفع يديه وقال: لا … إنهم يفعلون ولكن في حدود معينة، ولا يخلو الأمر من مختلف أنواع العقبات كما تعرفين … إنه ليس دفاعًا شرعيًّا بقدر ما هو خاضع لأشياء أخرى تتعلق بالعائلات وخلافه.
سارع بعينيه الهادئتين البيضاوين في التطلع نحوي وظل هكذا لحظة تلاشى خلالها الاتصال بيننا فقلت: توجد مشاكل أخرى.
لم يدرك شيئًا رغم أن الحقيقة كانت واضحة في نظراتي ثم أضفت قائلة: قليل جدًّا هو ما أعرفه هذه الأيام؛ ولذلك تجدني مضطرة لتصديق ما تقوله الصحف فلا شيء، يحدث في الضواحي كما أن الأعمال السرية متوقفة في الوقت الحاضر.
كان لوقا يعرف أننا نحن معشر البيض نحب ذلك الشعور بأننا على صواب مما يجعلنا مصدر ثقة، فراح يتملقني مرة أخرى قائلًا: نعم هو كذلك وهذا كل ما تعرفينه يا ليز وكل ما تحتاجين لمعرفته.
توقف قليلًا ثم قال فجأة: أتتذكرين الكولونيل «جيسفورد»؟
ضكت وأوشكت على القول: يا إلهي … ذلك المسكين غريب الأطوار.
لكنني لحسن الحظ لم أقل شيئًا، فقد قاطعني مستطردًا: كان عجوزًا متشامخًا وأحد أفضل أصدقائنا … لقد كان صديقًا حقيقيًّا.
تحدث لوقا بنفس طريقة الكولونيل الطيب الذي كان أسلوبه تبشيريًّا وكانت طيبته تتمثل في عدم إدراكه للحقائق … لقد سجنوه في العام الماضي لأنه لم يدرك أثناء قيامه بإدارة الصندوق الخيري أنهم يستخدمون أموال الصندوق في إبعاد الناس عن البلاد وتدريبهم على الأعمال الحربية.
عرفت أن شعور لوقا تجاه الرجل العجوز — الذي استخدموه بطريقة مخزية — كان شعورًا حقيقيًّا حين قال: أود أن أقول لك إنه ليس يسيرًا تعويض مثل هذا الرجل … أعني أنه لم يعد لدينا سوى القليل من الناس الذين يستطيعون مساعدتنا.
ذكر اسمين أحدهما هرب من البلاد والآخر تحت الحراسة، وعندئذٍ أدركت السبب الذي جاء من أجله، فلقد كان مستحيلًا بالنسبة للرجل الثاني أن يتولى أمر النقود، فقلت: أما زالت النقود تدخل إلى البلاد؟
لم أكن شغوفة بمعرفة الإجابة عن هذا السؤال لكنه نجح في استدراجي.
أجاب: الدخول … نستطيع ذلك بقليل من الترتيبات … يا إلهي الطيب … ليتك تعرفين يا ليز ما حاولت القيام به في الأيام القليلة الماضية … لقد قاتلت من أجل ترتيب شيء ما لكن العقبات ظلت تلاحقني أينما ذهبت.
قلت: إن الأمر خطير! … ألا تعتقد أنهم يعرفون كل شيء عنك؟
ابتسم وقال: إنه شيء بسيط يا ليز، فنحن نريد شخصًا يملك حسابًا في البنك، فهل تعرفين مثل هذا الشخص؟
أغمض عينيه الكبيرتين نصف إغماضة في انتظار إجابتي فقلت: لا أعرف أي شخص، وماذا عن الكولونيل؟ … أعتقد أن أي شخص سيتولى أمر النقود فإنه لا بد سيلقى نفس المصير الذي لاقاه العجوز جيسفورد.
– لا أعتقد ذلك، فلقد فهمنا الآن كل شيء وتداركنا الأمر.
ثم أضاف في محاولة منه لمزيد من التأكيد والاطمئنان كما يفعل أمثاله دائمًا: لن نستخدم حساب أحد أكثر من ستة أشهر.
ظل ينظر نحوي بنصف ابتسامة وقد داهمه شعور بالرضا لعدم قدرتي على الإفلات منه، لكنني قلت بطريقة عبثية: أنت لا تفكر فيَّ بالطبع!
فهم طريقتي العبثية هذه على أنها محاولة أخرى في المراوغة مما جعلني أشعر كما لو أنني أخفي شيئًا، ولكن أي شيء؟ … إنني حقيقة لا أملك نقودًا ولا تأتيني أموال من الخارج، ولا شيء في البنك سوى فائض قليل لا أستطيع به مواجهة الديون.
ضحكنا أخيرًا لكنني أدركت بسهولة ما كان وراء ضحكاته … لقد كان هدفه باقيًا، ولم يكن الضحك سوى وسيلة.
قال: آه … استمري يا ليز.
أخبرته أنه لا بد مجنون، فكل الذين أعرفهم لا يملكون شيئًا، كما أنني خارج تلك الدائرة من الناس الذين يقصدهم منذ زمن بعيد لكن كل ما قلته بدا له بلا معنًى رغم أنني لم أتفوه بسوى الحقيقة.
واصلنا حديثنا بشكل مجرد، لكن كلينا كان يفهم الآخر ولم يتوقف لوقا عن مداعباته وتملقه وصوته الخفيض الذي يوحي برغبته الجنسية.
قلت: سأفكر بالأمر، وإذا وجدت شخصًا ما سأخبرك.
أخبرني ببعض التفاصيل الأخرى القليلة، وأثناء ذلك كنت أفكر بجدية، ففقدت السيطرة على أعصابي شعرت بنفس الشيء الذي يجتاحني عندما تعتريني رغبة جنسية … لقد تذكرت حساب جدتي … إن لديها أرباحًا تدخل في حسابها ولديَّ توكيل منها، وأخشى أن يعرف لوقا بطريقة ما، وعندئذٍ عرفت أنني لم أقل الحقيقة كاملة لأنه بمقدوري أن أفعل شيئًا ما، ولأن هناك ما أخفيه الآن … انتابني إحساس أنه — بطريقة ما — كان يعرف منذ البداية أنني أملك حلًّا … ربما هو إحساس الأسود الدائم بقوة الأبيض التي قد تتمثل أحيانًا فيما يرثه من حلي ومجوهرات.
قلت له دون الإشارة لشيء: لا أستطيع أن أعدك بشيء، لكنني قد أتذكر شخصًا ما رغم أنني أشك في ذلك.
شعر بالضيق وبدا كالطير حين ينقض على البعوض، فاعترض قائلًا: إنه لأمر مدهش … إن أيادينا مقيدة … إن النقود هناك في لندن، وها نحن منذ ثمانية شهور لا نستطيع الذهاب إلى هناك … إننا مقيدون.
– سأتدبر الأمر وسوف أخبرك.
– هل ستخبرينني؟
قلت: نعم، سوف نبقى على اتصال.
كنا نكرر دائمًا أننا سنكون على اتصال كلما جاء لزيارتي، وأحيانًا كان يمضي وقت طويل دون تحقيق ذلك، لكنه هذه المرة سوف يعود بالتأكيد، وعندئذٍ سأخبره بعدم عثوري على أي شخص، ولن أنسى أن أقدِّم له أسفي الشديد.
قال: غدًا مساءً؟
ضحكت من نفاد صبره وأجبت: لا أعتقد، فإنني أريد فرصة لأفكر.
قال بمودة: وهو كذلك، فليكن الثلاثاء أو الأربعاء على الأكثر، فأنا — كما تعرفين — يجب أن أعود ولا أستطيع البقاء هنا مدة طويلة.
ظل ينظر إليَّ بطريقة عريس معجب بنفسه كما لو قمت ببعض حركات الإغراء، فانجذب نحوي.
تقدم نحوي وشدني بيده من فوق الأريكة ثم قال: من الأفضل أن أنصرف لكي تنامي.
كنت أشعر بالبرد وأطوي ذراعي حول جسدي فسألني: ماذا ستفعلين الآن؟
ثم تنقل بنظراته في الحجرة مرة أخرى وأضاف: هل ستكلمين صديقك في التليفون؟
نظرك إليه وابتسمت: إنه نائم الآن ومنذ فترة طويلة.
توجهنا نحو الباب ونحن نتحدث بهدوء، وعندما فتحت الباب كان الضوء لا يزال منبعثًا من خلف زجاج باب الشقة المقابلة، فأشرت له بالوداع وكدت أن أضحك حين سمعت نعل حذائه يطقطق، لكنه قطب عن جبينه، وفي محاولة للتعبير عن أسفه وضع كف يده فوق مؤخرتي لحظة قصيرة وكأنه يقول: ادخلي.