الفصل السابع
كان جراهام قد علمني عدم المخاطرة، وكانت كل الأشياء في هذا الوقت من الليل تبدو وكأن رياحًا عاتية قد عصفت بها، فوقفت فوق أرض الشقة الفارغة لا أدري إلى أين وإلى أي شخص يمكنني الذهاب.
تفتحت براعم الزهور وكانت هي الشيء الوحيد الذي يتنفس في الحجرة، غير أنها ستموت أيضًا مع حلول يوم الاثنين … وضعت وجهي في مواجهة زهور اللبن الثلجية الباردة بحركة نصف مسرحية.
فكرت في الخروج والذهاب إلى أحد تلك النوادي عند حافة التل، حيث يمكنني مقابلة بعض الناس الذين أعرفهم، والذين اعتادوا على ارتياد هذه الأماكن في ليالي السبت كما يحلو لي أن أفعل أحيانًا عندما يعود جراهام لبيته … كنت أرتدي معطفي وأضع أحمر الشفاه وأتوجه لأحد تلك الأماكن الصاخبة المظلمة التي لم يدخلها أبدًا، حيث يتطلع الرجال الألمان والإيطاليون إلى حياة الشارع في أوروبا، وحيث يمارس شباب جنوب أفريقيا الأبيض مع فتياتهم لونًا من ألوان الحياة الرخيصة المتواضعة، كما توجد العاهرات السوداوات عند جانب الطريق، وأولئك القوادون الذين يحومون حول المكان بحثًا عن الراغبين.
داخل بعض هذه الأماكن يعزف بعض الشباب على القيثارة، وعندما يبدءُون بأغنية «سوف ننتصر» ينضم إليهم الجميع ويشاركونهم الغناء كما يحدث مع أغنية «حبيبتي ترقد فوق المحيط».
كان ينبغي أن أصطحب جراهام إلى تلك الأماكن ذات مرة لكنني رأيت ذلك اعتداءً على حياتي الخاصة.
تركت كل شيء في الحجرة كما هو … شرائح البصل المتجمدة في الأطباق، فوطة المائدة التي وقعت على الأرض عندما استدار لوقا بعيدًا عن المائدة، قِطع الجبن لكي تتسلق إليها الفئران وذلك القرد الراقد فوق الأريكة … إن سامسون سينظف كل شيء غدًا في مقابل شلنين ونصف إضافية وسيزيل المخلفات داخل علبة المربى القديمة.
دهنت وجهي بالكريم مثلما أفعل كل ليلة بنفس العناية والاهتمام اللذين ينظف بهما الرجل بندقيته بعد استخدامها ثم استلقيت فوق السرير في الظلام استعدادًا للنوم، وقلت لنفسي: لعله يتحدث معهم الآن باللغة التي لا أفهمها مستخدمًا علامات التعجب ولحظات التوقف من أجل التشديد على اللفظ … لا بد أنه الآن يحكي لهم عن وجود امرأة بيضاء سوف تقوم بالعملية غير أن ذلك هراء؛ إذ لا يوجد سبيل لمعرفة شيء عن حساب جدتي … لقد ذهب لوقا وسوف يعود في خلال ثلاثة أو أربعة أشهر، وحينئذٍ سيبدو الأمر كما لو أن كل شيء وجد طريقه للحل، فالأفارقة — بحكم فطرتهم — يتمتعون باللباقة في مثل هذه الأمور.
كان لوقا يعرف أن كل ما قلته عن محاولة التفكير في شخص ما وإعطائي مهلة من الوقت ليس إلا وسيلة لحفظ ماء الوجه بدلًا من الرفض … إنه يعرف ذلك وينبغي أن يعرفه جيدًا، ولا بد أنه في المرة القامة سيطلب مني شيئًا آخر قد يكون خمسة جنيهات مرة أخرى، وربما تكون وجبة من الطعام وعندئذٍ لن يستطيع تكرار ما طلبه في المرة السابقة.
كانت الأضواء الأمامية لإحدى السيارات تتسلل ببطء داخل الحجرة، وكأنها فراشة شاحبة فاعتدلت لمتابعتها، لكن الظلام عاد مرة أخرى غير أن ضوءًا آخر قد يكون صادرًا من مصباح الشارع رسم لوحة متمايلة كأنها ظل شجرة ما فوق سطح المياه، لكن مياه البحر ثقيلة ومظلمة ولا يوجد ضوء تحت الماء حيث يرقد ماكس في الأعماق … لقد اختار ماكس بنفسه الذهاب إلى الأعماق وكان ذلك هو اعتقاده الأخير … إنهم يحاولون الآن استرداد الحقيبة المليئة بالأوراق والمستندات لكن الصحيفة في طبعتها الأخيرة المليئة بأخبار رواد الفضاء لم تذكر شيئًا عن ماكس.
يجب أن أحتفظ بالصفحة الأولى بما فيها من صور لكي أرسلها إلى بوبو، وليتني أتذكر ذلك في الصباح.
كنت أجهل الوقت لكن كثافة الظلام وطبيعة الهدوء في ذلك الوقت كانتا توحيان باقتراب الصباح ورغم ذهابي للنوم في وقت متأخر إلا أنني بدوت وكأنني مستيقظة من نوم عميق وطويل، وكنت أسمع بوضوح طرقعات عربات القطار القادمة من مخزن السكك الحديدية على بعد ميلين … لم أتوقف عن التفكير بعمق وجدية منذ اللحظة التي استيقظت فيها وكانت قدراتي يقظة تمامًا مثل حساسية سمعي وكأن شيئًا قد ترسب في عقلي أثناء النوم … كانت عضلاتي مشدودة جدًّا فرغبت في التحرك، لكن قد تثمر سحابة من الغيم كتلك التي تحدثها عاصفة الثلج فوق مكتب بوبو … لم أكن أدري شيئًا عن الوضع الذي أرقد فيه وكنت مشرقة وواضحة وضوح السمكة داخل طاسة ناصعة.
كان الرجل يسير في الفضاء متنقلًا من المحيط الهادي إلى المحيط الأطلنطي في عشرين دقيقة في نفس الوقت الذي غرق فيه ماكس، ولكن لماذا الصعود إلى القمر؟ أهو الحنين القديم للخلود المشابه لكل رغباتنا في التفوق وقهر العجز الإنساني؟! … ربما … غير أن الليلة بدون قمر وإلَّا لما أصبحت الحجرة مظلمة هكذا … إننا نعتقد بوصولنا إلى القمر في التفوق على حدود حياتنا، أي التفوق على الموت مثلما نحاول أن نتسيد البيئة لكي نبقى على قيد الحياة لكنها سيادة خادعة لا تتعدى زيادة قليلة في عمر الإنسان كما يحدث مع جدتي العجوز باستخدام الأدوية … لقد تعلمنا كيفية أن نبقى أحياء حتى يحين موعد الموت.
يمكن للإنسان النزول بعد الحب أو الصعود بعد القمر وإذا ما حقق شيئًا خارج نطاق بيئتنا الطبيعية أفلا يصبح معقولًا أنه وصل إلى ما وراء حقيقة الموت؟ وألا يبدو وصول أولئك الرجال للقمر تصورًا مسبقًا للسيادة؟ … إنهم هناك على قيد الحياة … مشهد للعمليات هام ودال على معنى ونحن ندعو ذلك اللاشيء فوقنا بالسماء التي هي سقف بيئتنا، وجزء من ترابنا وكينونتنا وشاهد على لحظاتنا التي تبلغ سبعة وثمانين عامًا مثل لحظات جدتي، أو واحدًا وثلاثين عامًا مثل لحظات ماكس الذي كان سيبلغ الثانية والثلاثين في الشهر القادم … ذلك اللاشيء الذي رأيته بنفسي من الطائرة فيما وراء طبقة السحاب التي تغلف الجو هو ما ندعوه بالفضاء … إن رائد الفضاء الآن قادر على اجتياز السماء والدخول في عالم الفضاء وإذا كان الله هو أساس الأبدية، أفلا يكون هذا الرجل قريبًا من الله هذه الليلة؟ أفلا يكون أكثر قربًا من ماكس الذي يحاول الحب في قاع البحر؟ … إن الديانات رغم كل شيء تعلمنا أن مملكة الله ومملكة الروح ليست من هذا العالم، أما الطبيعة البشرية فهي من هذا العالم، والموت من هذا العالم أيضًا، غير أن الموت يقودنا إلى الحياة الأبدية.
إن الفضاء أيضًا ليس من هذا العالم وليس المرء في حاجة لأن يموت كي يدخل الحياة الأبدية، وإلا فليس مدهشًا وجود ذلك الاتصال العميق بين خلود الله ولا محدودية الفضاء؟ … إن بعض العلماء يحاولون في الحقيقة إثبات أنهما نفس الشيء، لكن كل الناس تقريبًا تعتقد في وجود شيء ما كما تعلموا من الأساطير الدينية ومن خلال اندفاعهم الثوري بحثًا عن أشكال تفوق طبيعة الحياة.
إن ما يحدث هناك في الأعالي قد يكون تعبيرًا روحيًّا لأعمارنا لا ندري عنه شيئًا واكتشاف الفضاء ليس منهجًا وإنما هو دين جديد … بعيدًا عن غشاء الكرة الأرضية … هناك بعيدًا عن هذا العالم … النزول إلى قاع البحر … اللانهائية … الأبدية.
هل استطاع أي شكل من أشكال العبادة التي نمارسها منذ زمن طويل أن يعبر بشكل أكثر إلحاحًا عن الحنين إلى الحياة بعد الموت أو الحنين إلى الله؟
لا بد أن النوم غلبني لحظة … أوه … إن لوقا سيعود فلا يوجد سبب لعدم عودته ودفتر الشيكات موجود في الدرج الشمالي من دولاب ملابسي على بُعد ثلاث أقدام، وبمقدوري استخدامه لأنني أملك توكيلًا عن جدتي لكن إجراءات تحويل النقد الأجنبي تأخذ وقتًا بعد استيفاء بيانات الاستمارة والتحري عن المصدر وطبيعة رأس المال وأشياء أخرى كثيرة حدثت معي مرة أو مرتين لا أستطيع أن أتذكرها … لا بد أن لوقا يعرف كل شيء، فقد أخبرني أننا لسنا في حاجة لأي شيء سوى حساب في البنك مثلما حدث مع الكولونيل جيسفورد، ولا بد أيضًا أن جراهام يعرف جيدًا كيفية التعامل مع البنوك، لكنني لا أستطيع أن أسأله أبدًا بخصوص هذا الأمر رغم أنه هو الذي قام بإجراءات جواز سفري في العام الماضي بعد أن كنت ممنوعة من استخراجه لمدة سنوات … إن جراهام محدد في علاقاته ويمكنه القول ببساطة: امرأة في وضعك!
كانت هناك دائمًا بعض الإجراءات التي أجهلها وبعض الوعود التي لا أستطيع الوفاء بها، ولكن لو أنها ستة أشهر فقط كما قال لوقا لاختلف الأمر، فحساب السيدة العجوز في البنك ولا أعتقد أن أحدًا سيفكر به، كما أن جدتي على وشك الموت ولا تستطيع أن تدرك ما يحدث … إنني أيضًا أحمل توقيعًا باسم فان دن ساندت، ولكن لماذا ينبغي أن أفعل مثل هذا الشيء؟
يبدو لي أن الإجابة ببساطة هي حساب البنك ولا أجد تفسيرًا لذلك … إنه فقط حساب البنك وذلك شيء جيد بما يكفي … إنني فعلًا غير قادرة على تفسير أي شيء تمامًا كما يحدث مع بوبو حين يجيب على أحد الأسئلة قائلًا في كلمة واحدة: لأن.
هل سأعمل بالسياسة مرة أخرى؟ وأي نوع من العمل السياسي سأقوم به إذا حدث ذلك؟ … لا … لا أعتقد فلست على استعداد لمضايقة نفسي بمثل هذا العمل الذي يعد عملًا في غير محله.
إن لوقا يعرف ما يريد ويعرف الشخص الذي يجب أن يلجأ إليه وهو بالطبع على صواب، فالمرأة البيضاء المتعاطفة لا تملك ما تقدمه له سوى تلك الامتيازات وذلك الرصيد في البنك.
سيعود لوقا بملابسه المليئة برائحة الدخان وقد يمارس الحب معي فور عودته أو في إحدى المرات التالية كما توحي بذلك الصفقة، لكنه لن يرد القروض التي أخذها مني؛ إذ إنه لا يملك شيئًا يقدمه لي سوى الغرور والأكاذيب.
قلت لنفسي: من الأفضل إذن أن أوافق … يجب أن أمنحه فرصة مضاجعتي وعندئذٍ لن يصبح أحدنا مدينًا للآخر، وعلى أية حال قد تكون هذه رغبتي … لست أدري غير أن ذلك سيكون أفضل شيء حصلت عليه، كما أنه شيء أريده الآن، فهل يستطيع أحد ألَّا يسميه حبًّا؟
إن المرء لا يستطيع أن يفعل أكثر من تقديم ما يملك!
كنت أعتقد في قدرتي على سماع النجوم وهي تتجول في مداراتها وذلك الطنين الهائل النابض بالحياة القادم من الأعالي، والذي يدعونه بموسيقى الكرة الأرضية، لكنه الليلة يبدو لى وكأنه رحلة الأمريكان إلى الفضاء وصوت محاولاتهم في اكتشاف أكبر دائرة ممكنة.
ظللت مستيقظة فوق السرير وقتًا طويلًا وكان جسدي ممددًا … حاولت أن أعرف الوقت لكن ساعة السفر الحمراء الكبيرة التي أهداني إياها بوبو فقدت صلاحيتها ولم تكن هناك ساعة أخرى في الحجرة، غير أن دقات قلبي البطيئة كانت ترن في أذني كالساعة وكأنها تخبرني بأنني ما زلت خائفة، وأنني ما زلت أحيا.