لوركا والتطهير الدموي
ظل لوركا مترددًا فيما إذا كان يجدر به السفر إلى غرناطة أو البقاء في مدريد، حتى تنجلي الأزمة السياسية المتفجرة نتيجة للاغتيالات الأخيرة، وانقسم أصدقاؤه بين محبذ للسفر ومحبذ للبقاء، وقال أحدهم قولة شهيرة ترددت أصداؤها طويلًا بعد ذلك، إذ قال: «لو أن حربًا نشبت في بلادنا، ونجا منها فرد واحد فقط، لكان هذا الفرد هو لوركا!»
وهكذا استقل لوركا قطار الليل في مساء ١٥ يوليو، وودعه حتى عربة القطار صديقه الشاعر «رافاييل ألبرتي»، ويحكي ألبرتي أنهما شاهدا بين أروقة القطار شخصًا نفر منه لوركا، وتوارى عن أنظاره حتى لا يحييه أو يحادثه، وكان هذا الشخص — كما عرف لاحقًا — هو «رامون رويث ألونصو»، النائب اليميني السابق لغرناطة في البرلمان، والمسئول المباشر عن اعتقال لوركا بعد ذلك.
ووصل الشاعر إلى منزل العائلة الصيفي في موعد مناسب للاحتفال مع الأسرة بعيد «القديس فديريكو» بالنسبة له ولوالده، إذ إنهما كانا يشتركان في الاسم الأول، وهو اليوم الموافق ليوم الانقلاب: ١٨ يوليو.
وقد تلقت الأسرة أنباء الانقلاب وبيانات الحكومة وما تلا ذلك من أحداث، ببلبلة واضطراب، شأنها شأن كل سكان الإقليم من غير المتداخلين في السياسة، ثم جاءت نذر الكارثة بعد استيلاء اليمينيين الموالين للانقلاب الملكي على المدينة، إذ كان من أوائل مَن تم القبض عليهم السنيور مونتيسينوس عمدة المدينة، وهو زوج شقيقة لوركا، والذي أعدم بعد ذلك بأيام، وقد علمت الأسرة بالقبض عليه في حينه، ولكنها لم تعلم بإعدامه إلا بعد ذلك بكثير.
وبعد ذلك يفطن الشاعر إلى وجود شخصين مريبين يراقبان المنزل ويطوفان به من بعيد، ثم عاود نفس الشخصين المراقبة، ودخلا المنزل هذه المرة، ولكنهما لم يكونا يبحثان عن لوركا، بل عن البستاني المسئول عن حديقة المنزل، وكان أخًا لأحد العمال المنخرطين في سلك الجبهة الشعبية، وكانت الأقوال تشير إلى مسئولية ذلك الأخ عن مقتل أحد ضباط الشرطة، وعن إحراق كنيسة بلدته، ولما لم يجدوا غير البستاني، أوسعوه ضربًا ولطمًا، وحين حاول فديريكو التدخل، لطماه هو أيضًا، وقال له واحدٌ منهما: «لا فائدة، إننا نعرفك جيدًا، يا فديريكو غرسيه لوركا!»
وفي اليوم التالي، يتلقى لوركا خطابَ تهديدٍ غريبًا، كان الخطاب يحتوي على اقتباسات من تصريحاتٍ أدلى بها الشاعر، ونشرت في صحيفة «الحامي» الغرناطية التقدمية (وقد احتجبت بعد نجاح الانقلاب في غرناطة بالطبع)، ويصفه كاتب الخطاب بأنه «كلب حقير وخطر».
وإزاء ذلك كله، ملأ الأسرة خوف مفاجئ على الشاعر من أن ينجح حساده في توريطه مع معارضي النظام الجديد أو المشبوهين، وجلس أفرادها يتداولون في أفضل حل يمكن اتخاذه لحماية لوركا في ظل هذه الظروف التي لا يأمن أحد على نفسه … وبرز حلان: إما أن يحاول الشاعر الهرب متخفيًا إلى ما وراء خطوط قوات الانقلاب، إلى أقرب مكانٍ يسير عليه الجمهوريون، وإما أن يلتجئ إلى بيت صديق من الموالين للانقلاب، يمكن أن يبسط عليه حمايته، واختار لوركا الحل الثاني، خاصة وأنه كان على صلة جيدة جدًّا بأحد أفراد أسرة «روساليس»، التي يشترك أربعة من أبنائها في «الفالانج»، والذين أصبحوا من أصحاب الحل والربط في ظل الوضع الجديد، وكان ذلك الصديق هو «لويس روساليس»، السياسي والشاعر الشاب الذي سبق أن نشر ديوانًا باسم «أبريل»، والذي كان يعتبر نفسه من حواريي لوركا شعريًّا، ويهب «لويس» لنجدة صديقه، ويصطحبه للإقامة معه في منزله.
ويقيم لوركا في منزل أسرة «روساليس»، التي تتكون من الأب والأم وابنة وعدد كبير من الأبناء، منهم لويس وخوسيه وأنطونيو وميجيل، وكلهم من العاملين في «الفالانج»، وكانت بالمنزل أيضًا خالة للأولاد هي الخالة «لويسا»، وتقيم في الطابق الثاني من المنزل، وحيث أعدت الأسرة غرفة لوركا، ومنذ انفجار الانقلاب في غرناطة، انشغل أفراد الأسرة من أعضاء «الفالانج» في عمليات تثبيت دعائم النظام الجديد والقضاء على أعدائه.
ويعتاد لوركا محل إقامته الجديد، كعادته دائمًا في سرعة الألفة مع الأشياء، على الرغم من غموض الموقف، وتردد الأنباء عن عمليات التطهير المستمرة في المدينة وأرباضها، ويقضي الشاعر وقته في التهام الكتب التي يجدها في مكتبة أسرة «روساليس» العامرة، وسرعان ما تطفو شخصية الشاعر الأصيلة الطفولية للعيان، فيعزف للخالة «لويسا» على البيانو، بل ويشرع مرة أخرى في مواصلة العمل في مشاريعه الأدبية، من إجراء بعض التنقيحات على مسرحية «بيت برناردا ألبا»، إلى التفكير في ديوان جديد تحدث عنه إلى الخالة بعنوان «حديقة الأغاني».
وكانت علاقة الشاعر المباشرة بمَن في المنزل من أفراد العائلة، هي مع لويس والخالة لويسا أكثر منها مع أيِّ فردٍ آخر، وكان لويس يزوره كل مساء بعد عودته من خطوط القتال، ويتناقشان معًا في الحالة والأخبار، وقص عليه لويس كيف سيطروا على غرناطة وأرباضها، وكيف انتهت مقاومة الأفراد الذين التجئوا إلى حي «البيازين» … ولكنه أخفى عنه خبرًا مؤلمًا، هو إعدام عديله العمدة السابق لغرناطة بعد قليل من سقوط البيازين، في ٣ أغسطس ١٩٣٦م.
ولكن أشد الفواجع إيلامًا تأتي دون تحسُّب، فبعد أن اطمأنَّ الشاعر، أو كاد، إلى ابتعاده عن الخطر الداهم، وقعت الواقعة.