المناخ السياسي والثقافي ونشأة الشاعر
كان مولد شاعرنا في أواخر القرن التاسع عشر، في يوم ٥ من يونيو ١٨٩٨م، وكان ذلك العام مَعلمًا من المعالم الأساسية في تاريخ إسبانيا، عسكريًّا وسياسيًّا وفكريًّا، ففيه ضُرب خط فاصلٍ بين ما تبقى من آثار العظمة الإمبراطورية التي كانت لإسبانيا، وبين صحوتها على الواقع الأليم والمرير بزوال آخِر مستعمراتها الكبرى فيما وراء البحار، ففي مطلع ذلك العام، تدهورت العلاقات بين إسبانيا والولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن ثار الكوبيُّون على الاحتلال الإسباني لبلادهم، ومدَّت الولايات المتحدة يد المساعدة المعنوية للثوَّار، وطالبت الصحف الأمريكية بالتدخُّل عسكريًّا في كوبا لنصرتهم، بيد أن الرئيس الأمريكي آنذاك — وليام ماكنلي — لم يرَ مبرِّرًا لذلك.
ولكن حدث في ١٥ من فبراير أن وقع انفجارٌ بالسفينة الأمريكية «مين» الراسية في ميناء «هافانا»، أفضى إلى مقتل ٢٦٠ أمريكيًّا، واتُّهِمَت إسبانيا بتدبير ذلك الانفجار انتقامًا للدعم الأمريكي للثوار الكوبيِّين، فطلب الرئيس الأمريكي الإذن من الكونجرس بالتدخُّل ضد إسبانيا، فوافق الكونجرس مبينًا أنه ليس لأمريكا من هدفٍ وراء ذلك سوى تحقيق الاستقلال الكوبي.
وأعلنت إسبانيا الحرب على الولايات المتحدة في ٢٤ من أبريل، تلاه إعلان الولايات المتحدة الحرب على إسبانيا في ٢٥ من أبريل، وكان للولايات المتحدة اليد الطُّولَى في الحرب بسبب أسطولها البحري المتفوِّق، ففي ١ من مايو، دمر الأميرال الأمريكي «جورج ديوي» الأسطول الإسباني في مانيلا بالفلبين، مما أسفر عن مصرع ٣٨١ إسبانيًّا، بينما كانت خسائر الأميركيِّين ٨ جرحى فحسب، وعلى نحوٍ مماثل، تم تدمير الأسطول الإسباني في كوبا في ٣ من يوليو مع خسائر فادحة للإسبانيين، ومع الهزيمة الساحقة التي نزلت بإسبانيا في هذه الحرب القصيرة الآن، تم في ديسمبر ١٨٩٨م توقيع معاهدة باريس بين إسبانيا والولايات المتحدة، التي وافقت إسبانيا بمقتضاها على التخلي عن كوبا، وعلى أن تتنازل للولايات المتحدة عن بورتوريكو وجوام والفلبين.
وقد أحدثت هذه الهزيمة المُبينة ردَّ فعلٍ عنيفًا في أوساط الإسبانيين بكل طوائفهم، وكان ردُّ الفعل لدى المفكرين والأدباء صيحة احتجاج قوية ضد الوضع الإسباني السائد في تلك الفترة، وضد المناخ السياسي والاجتماعي والفكري الذي كان يرين على البلاد أيامها، وتمخض هذا الاحتجاج لدى هؤلاء الأدباء والمفكرين عن حركةٍ أدبيةٍ أُطلق عليها فيما بعد حركة جيل عام ٩٨، وأبرز شخصيات هذه الحركة هم «أونامونو» و«أثورين» و«باروخا» و«مايتزو» و«أنطونيو متشادو»، وأعمال هؤلاء الأدباء والمفكرين، ومنهم الفيلسوف كاونامونو، والروائي كباروخا، والشاعر كمتشادو، والأديب الجامع كأثورين، تعتبر ثورةً على الواقع الإسباني في أواخر القرن التاسع عشر، واقترابًا من التيارات الفكرية والثقافية التي سادت أوروبا آنذاك، وخاصة في فرنسا وألمانيا، وكانت الحركة الواقعية في أوروبا — التي اقترنت بالاكتشافات العلمية والطبيعية الحديثة — قد أفسحت المجال لردة رومانسية ومثالية تمثَّلَت في الرومانسيين الجُدد.
وهكذا كان الحال مع أدباء جيل ٩٨ في إسبانيا، إذ انعكست فيهم روحٌ من المثالية والرومانسية إزاء ما حلَّ بوطنهم من نكسةٍ كبيرة، وامتزجت تلك الروح بعوامل رومانسية بارزة، مثل الكآبة والنزعة الشخصية الحادة، وجميعهم يُبدون حبًّا دفينًا لإسبانيا، بَيْد أنه لا أحد منهم يقبل تقاليدها، بل هم يبحثون عن صورةٍ لإسبانيا مختلفة عما ألِفُوه من قبلُ عنها؛ ولذلك فإن معظم أعمالهم تنصَبُّ على الروح الإسبانية والتاريخ الإسباني، والطبيعة في مقاطعات إسبانيا المختلفة. وحاولوا جميعًا في أعمالهم تحليل جميع عناصر الواقع الإسباني وتقييمها، وتصوُّرَ روحٍ إسبانية جديدة، وواقع إسباني جديد، يبزغان من فوق أنقاض الماضي ليُشيِّدا حاضرًا ومستقبلًا آخَرَين لبلادهم، ومن ناحية الأسلوب الأدبي، كان أفراد الجماعة يؤمنون بالعودة إلى الأسلوب اللغوي البسيط المجرَّد من الزخارف اللفظية والمحسنات البديعية، وحاولوا جهدهم البُعد عن واقعية القرن التاسع عشر التي تغرق في الوصف المفصل للواقع الخارجي، وتقدِّمه بصورته التي هو عليها، وتمثَّلوا منهجًا تعبيريًّا يقدِّمون به الانعكاسات الشعورية والانفعالية، التي تثيرها الأشياء في نفس الكاتب، وقد تأثَّر أفراد هذه الجماعة بعددٍ من أدباء ومفكِّري أوروبا، أبرزهم «آبسن» و«شوبنهاور» و«نيتشه» و«بسكال» و«كيركجارد» والروائيون الروس.
نشأ لوركا في ظل هذه الحركة الأدبية والفكرية، وتأثَّر بها في صباه تأثُّرًا بالِغًا، ذلك أنه ما إن شبَّ عن الطوق، حتى كان نتاج أقطاب الحركة يصبغ الفكر والثقافة في إسبانيا ويسيطر على أذهان المثقفين.
وقد ولد شاعرنا كما قلنا في نفس عام النكبة الإسبانية، وكان أكبر أبناء أحد ملَّاك الأراضي في مقاطعة الأندلس الجنوبية، فوالده دون «فديريكو غرسيه رودريجز» كان مزارعًا ناجحًا، له عدة ضياع في غرناطة، وكان الوالد عريض الملامح، خلعت الشمس على وجهه المستدير ويدَيه سُمرة عربية صادقة، وكانت شخصيته مثالًا للمواطن الريفي القح، ذي الدخل المريح والسمعة الطيبة، والمهارة في فلاحة الأرض وإدارة المزارع والضياع، ولم يكُن يعنيه الشِّعر في قليلٍ أو كثير، أما أمُّ الشاعر فكانت ذات طبع مختلف؛ فقد كانت دونيا «فيسنتا لوركا روميرو» هادئة متزنة، صغيرة الحجم رقيقة الملامح، ذات صوت طفولي ناعم، وكانت تعمل قبل زواجها مدرِّسة ومعلِّمة للموسيقى، وقد تزوَّجها دون فديريكو بعد وفاة زوجته الأولى التي لم تُنجب أطفالًا، وقد قال لوركا عن والديه بعد ذلك في مقابلةٍ صحفية: «لقد ورثت حِدَّة العاطفة عن والدي، والذكاء عن والدتي»، وقد تشكَّل اسم لوركا — حسب التقليد الإسباني العريق — من اسمه الأول الذي يماثل الاسم الأول لأبيه: فديريكو، متبوعًا بلقب عائلة الأب: غرسيه، ثم لقب عائلة الأم: لوركا، وقد أنجب الزوجان ولدين هما «فديريكو» و«فرانسسكو»، وبنتين هما «كونسيسيون» و«إيزابل».
وكان مسقط رأس الشاعر في قرية «فوينتي فاكيروس» أي «نبع رعاة البقر»، ومن أعمال غرناطة، في بيتٍ مكوَّن من دورَين للأسرة، مُقام وسط مدينة صغيرة مُسوَّرة يمكن للأطفال اللعب فيها بأمان، وكانت القرية التي يقع فيها المنزل صغيرة، تتكوَّن من بيوتٍ واطئة بيضاء تلتمع فوقها أشعة الشمس، وكانت المشاهد فيها لا تعدو المزارعين يتجهون إلى حقولهم في الصباح الباكر، أو يعودون إلى بيوتهم مع مغرب الشمس، وعربات تجرُّها الثيران أو الخيول، وقطعان ماشية أو أغنام تسير مهتزةً وتثير من حولها سحائب من غبار، وعددًا من الدرَّاجات القديمة يعود بها أصحابها من مصنع السكر خارج القرية إلى بيوتهم.
وقد حدث أن أصيب لوركا وهو وليد ذو شهرين من العمر بحُمَّى غريبة مجهولة عرَّضت حياته للخطر، ولكنها انجابت عنه بخير، ولم تخلف فيه إلا مَسحة من ضعفٍ في الساقَين عند السَّير، وجعلته يتأخَّر في الكلام حتى سن الثالثة، وفي السَّير حتى الرابعة.
وكانت طفولة لوركا سعيدة مريحة، تزخر باللعب والانطلاق مع أقرانه من صبية القرية وسط الحقول والدروب، وقد قال هو نفسه عن طفولته فيما بعد: «طفولتي هي تعلُّمي الحروف الأولى والموسيقى على يد أمي، والإحساس بنفسي كابن أحد أغنياء القرية … كل طفولتي هي القرية، والرعاة، والحقول، والسماء، والوحدة …» وتميز لوركا منذ طفولته بالشغف بالتأمُّل والملاحظة … فحين كان يكف عن اللعب مع أترابه، كان يمضي ساعاتٍ وساعاتٍ في تأمُّل الفراشات والهوام والنباتات والزهور، ويحادثها كأنما هي أصدقاؤه، لقد شكَّل عالم الطبيعة له — بكل ما فيه من تنوُّع واختلاف — عالَمًا مُدهِشًا منذ البداية، شيئًا أشبَه بفردوس عامر بمخلوقات تتطلَّب منه انتباهًا دائمًا وملاحظة مستمرة.
كذلك استبان للوركا في طفولته عالَم خياليٌّ يزخر بالأحداث والقصص والشخصيات الخرافية، نشأ من الحكايات والأساطير الشعبية التي كانت تقصها عليه مُربيته وأقاربه وبعض صديقات الأسرة من العجائز، وقد استمدَّ من هذا العالَم مادة غزيرة انكبَّ عليها عقلُه الصبياني يفحصها ويمحصها، حتى تركَتْ في نفسه انطباعًا لا يُمحى ظهر بعد ذلك في جميع إنتاجه الفني والأدبي؛ إذ إن شاعرنا قد احتفظ بكل تفاصيل هذه القصص من حكايات واقعية إلى خرافات وأساطير، لتظهر بعد ذلك في ثنايا قصائده ومسرحياته، بل وأحيانًا في رسومه، وكثيرًا ما تبدو تلك الموضوعات على شكل صور تمثِّل نغمات غلابة تتردَّد في كتاباته المختلفة، إلى جوار الموضوعات التي تشبع بها كيانه منذ الطفولة، مثل حياة الغجر، ومسرح العرائس والأراجوز، والحرس المدني، وحياة النساء في الريف، فضلًا عن المشاهد الطبيعية الريفية، وما يزخر به عالم الطبيعة من عوالم متنوعة من أزهار ونباتات وهَوامَّ وطيور وحيوانات وجداول وينابيع وأنهار وبحار، وما إلى ذلك.
كان من بين ما استمع إليه الطفل ما قصَّه عليه عمُّه يومًا ما عن لِصَّين من قُطَّاع الطرق، لجآ إلى منزل عائلة العم في إحدى الليالي يطلبان ملاذًا وطعامًا، وعطفت العائلة عليهما فآوتهما في ركنٍ من مخزن الغلال بعد أن زوَّدتهما بالطعام والشراب، وفي منتصف الليل، استيقظ الجميع على دقاتٍ متتالية على الأبواب، مُعلِنة وصول قوات الحرس المدني، أيْ رجال الدرك والشرطة الإسبان، وظهر الحُرَّاس بقبعاتهم المثلثة الشهيرة، وقبضوا على لصٍّ من اللصَّين، بعد أن تبيَّن أن الثاني قد مات في نومه من الجراح التي أُصيب بها، وقال الحرَّاس للعم: «وأنت أغلِق فمك ولا تقُل كلمة عمَّا رأيت!»
وتساءل الصبي في ذعر: وماذا حدث للرجل؟
– لم نسمع سوى طلقة رصاص، وصرخة في الليل البهيم، ثم طلقة رصاص أخرى، ولا شيء بعد ذلك.
– لقد قتلوه إذَن، لقد قتلوه!
وقال الصبي هذه العبارة، فاغر الفم وعيناه تلمعان من فرط الانفعال.
وقد أبدع الشاعر بعد ذلك في تصوير جوِّ الحرس المدني الإسباني في عدة قصائد مشهورة، معظمها في ديوانه «حكايا الغجر» ومنها قصيدة بعنوان حكاية الحرس المدني، يقول فيها:
إن ما فعله لوركا مرارًا وتكرارًا في أعماله الفنية، هو أنه تناول القصص والنوادر التي قصَّها عليه معارفه في طفولته، ليصيغ منها بعد ذلك حبكات مسرحياته، كما عمد أحيانًا إلى إدخال اللغة البديعية التي اعتاد سماعها في القرى التي عاش فيها، بين ثنايا لغته الشعرية.
وقد قال ذات مرة عن طفولته: «لقد عشتُ طفولتي في جوٍّ كاملٍ من الطبيعة، وككلِّ الأطفال، كوَّنتُ رأيي بشأن شخصية كل شيء، كل موضوع، كل قطعة أثاث، كل شجرة، كل حجر، وكنت أبادل هذه الأشياء الحديث، وأبادلها الحب، كانت تنمو في صحن دارنا أشجار الحور السوداء، وفي أصيل أحد الأيام، خطر لي أن أشجار الحور تشدو بالغناء، ذلك أن الرياح وهي تمُرُّ بين أغصانها كانت تُصدر مجموعات من الألحان بدَت لي كالموسيقى، وقضيتُ ساعات أصاحب بصوتي أغنية الأشجار، ويومًا آخَر، دهشت إذ سمعت شجرة حور سوداء عتيقة تهمس باسمي: ف … دير … يكو!»
وفي حديثٍ آخَر مع أحد الصحفيين، قال لوركا: «كان لذكرياتي الأولى عبير الأرض، لقد فَعل الريف بحياتي فِعل السحر، إن للأرض وللهوامِّ وللحيوانات وللفلاحين أفكارًا لا تصل إلى الجميع، إنني أسيطر عليها الآن بنفس الروح التي كنت أسيطر عليها بها في طفولتي … لقد كنتُ طفلًا مُحبًّا للاستطلاع، وكنت أتابع آنَذاك عملية حَرْث أرض والدي في أعماق الريف، ولقد أحببتُ مشاهدة النِّصال الحديدية الهائلة تفتح جراحًا في الأرض، جراحًا تنبجس منها الجذور بدلًا من الدماء، ومرة اصطدم نصل المحراث بشيءٍ أعاقَ مسيره، ثم اقتلع كسرةً من قطعة خزف رومانية عتيقة، وكان عليها سطور لا أذكرها، وإن بقي منها اسما الراعيَين «دافنيس» و«كلو» في ذهني، وكان للاسمَين أيضًا نكهة الأرض التي أعشقها».
•••
•••
•••
•••
•••
وإلى جانب هذا التعليم الفِطري الذي ناله الشاعر من الطبيعة حوله، ومن حياة الحقول ونسيج الأساطير والحكايات الشعبية، بدأ حصيلته في فترةٍ مبكِّرة؛ فقد اهتمت والدته — وهي المُدَرِّسة أصلًا — بتلقينه مبادئ اللغة والعلوم بنفسها، وأشربته حُب الموسيقى ومبادئها منذ نعومة أظفاره، ثم انتظم في مدرسة القرية — التي كان يُشرف عليها ويُدَرِّس فيها الأستاذ «أنطونيو اسبينوزا»، وهو صديقٌ حميمٌ لأسرة لوركا، الذي سرعان ما فطن إلى المواهب الباكرة التي يتمتَّع بها ذلك الصبي، فتوفر على تطوير النزعات الفنية فيه، وقد بادَلَه الصبي ودًّا بودٍّ، وصل إلى أنه حين نقل الأستاذ عام ١٩٠٨م إلى مدينة «المرية» الساحلية، قرَّرت الأسرة أن ترسل ابنها بصحبته، تلميذًا في مدرسته، ومقيمًا في منزله، حتى يستمر في تلقِّي التعليم الذي بدأه على يدَيْه.
ولكن إقامة لوركا في «المرية» لم تكن مُوفَّقة؛ إذ سرعان ما غلبه الحنين إلى أسرته وبلدته، وافتقد الجو الحاني الذي كان يحيطه به أبواه، وأخيرًا سقط فريسة المرض، وتورَّم وجهه من جراء الميكروب الغامض الذي هاجمه، حتى اضطر الآب إلى أن يعيده إلى البيت، ولم يرسل به بعيدًا عن الأسرة بعد ذلك، وكانت حصيلة هذه التجربة المريرة، أولى محاولات لوركا الأدبية؛ إذ إنه كتب خلال فترة مرضه قصيدةً هزلية قصيرة، شبَّه نفسه فيها بوجهه المنتفخ بسلطان مراكش آنذاك، وهي تمثِّل جانبًا آخَر من جوانب خياله الممتلئ بالصور العربية.
وقد بدأ في تلك الفترة — عام ١٩٠٨م وما بعده — شغف لوركا بالقراءة والمطالعة، وكان من بين ما تأثَّر به كتاب «دون كيخوتة» درة الأدب الإسباني، وبعض مترجمات من أعمال «فكتور هيجو» كانت في مكتبة جده لأبيه، وتجمَّعت مادة قراءاته هذه مع مادة الشعر الشفوي والرومانسيات، والأغاني الشعبية التي كان يسمعها من أفواه الفلاحين أو في السهرات العائلية، حتى إنه صار وهو في العاشرة من عمره طفلًا ذا خيالٍ ثري، تضطرم فيه الصور والأساطير والروايات، ويبين اضطرابها عينَيه الداكنتَين فتُنبِّئان عن روحٍ وثَّابةٍ توَّاقةٍ للتعبير عن نفسها في أشكالٍ مختلفةٍ من الفن والحياة.
وفي المنزل، كان لوركا ينفث عاطفته الفنية المبكِّرة على شكل أعمالٍ تمثيليةٍ يعرضها أمام جمهوره الأول، وهو يتكوَّن من أخيه وأختَيه ووالدته، ومَن يعمل في المنزل من خدم، وقد تأثَّر تأثُّرًا عظيمًا بعروض مسرح العرائس الريفي المتنقِّل الذي كان يمُرُّ بين آونة وأخرى بقريته، وكان يحاول أحيانًا تقليد عرض التمثيليات التي يشاهدها فيه وينقلها عبر خياله إلى نظارته، وقد ظهر هذا الميل فيما بعد في عددٍ من عروض مسرح العرائس توفر الشاعر على كتابتها وإخراجها، منها «عرائس كاتشي بورا»، ومسرحية عرائس «دون كريستوبال» وغيرهما، مما يمثل من حصيلة أعماله ذلك الجانب الطفولي من شخصيته الذي امتزج بموهبة الفنان فأنتج أعمالًا خلَّاقة في ذلك الميدان.