صداقتان حميمتان
مرَّت بحياة لوركا المبكِّرة علاقتان من علاقات الصداقة الحميمة، ضربتا بجذورهما في أعماق نفسه، وكان لها أثرٌ عميق في تكوينه الفني، في مظهرَين أساسيين: الموسيقى، والرسم، ورغم أن لوركا قد أسهم في هذين الميدانين إسهامًا ملحوظًا، إلا إن أهميتهما تكمن في الأثر الذي خلَّفَته ثقافته الموسيقية والتصويرية — وإبداعاته فيها — على أدبه وشعره. وقد تبلورت صداقتاه هاتان — مع الموسيقار الإسباني الكبير «مانويل دي فايا» والرسام السيريالي «سلفادور دالي» — في هذه الفترة من حياته، بعد صدور ديوانه الشعري الأول.
وقد فكَّر الصديقان لوركا ودي فايا في إقامة هذا المهرجان بدافع حبهما المشترك لذلك الفن، وكحافزٍ للعاملين في هذا المجال، وحرصًا على استمراره وتغذيته، وكان عليهما أن يخلقا جوًّا تمهيديًّا للمهرجان، فقام «دي فايا» بنشر مقالٍ عنوانه «الغناء العميق: أصوله وقيمه الموسيقية وأثره في الفن الموسيقي الأوروبي»، وألقى لوركا محاضرةً في المركز الفني الغرناطي عنوانها: «الغناء الأندلسي البدائي»، نشر نصها بعد ذلك في إحدى صحف المدينة. وبهدف جمع الأموال اللازمة للإنفاق على تنظيم المهرجان، ورصد جوائز للفائزين في مسابقة أفضل المنشدين، أُقيم حفلٌ خيريٌّ في فندق قصر الحمراء بغرناطة، تلا فيه لوركا أشعارًا جديدةً عُرفت بعد ذلك باسم قصيدة الغناء العميق، وافتتح المهرجان أخيرًا في مساء ١٣ من يونيو ١٩٢٢م، في ميدان «الحب» بقصر الحمراء العربي، وتكوَّنت لجنة التحكيم في المسابقة من «دي فايا» و«أندريس سيجوفيا» و«ماويل شاكون»، أئمة الموسيقى الإسبانية وقتذاك، وخلال ليلتين متتاليتين، اهتزَّت غرناطة كلها طربًا بأغاني المتسابقين.
وقد كسب إنتاج لوركا من هذا المهرجان تلك القصائد التي وضعها للتمهيد له، وهي قصائد تتسم بكل ما هو قاتم وحزين من الغناء الفلامنكو، وقد صدرت في صورة ديوانٍ مستقل بعد ذلك، في عام ١٩٣٢م، ومنها تلك الأغنية المليئة بالشجن:
وقد استمرت صداقة لوركا ودي فايا حتى النهاية، وإن كان قد اعتورها بعض الفتور، نتيجة لشعور فايا بالإساءة من بعض سطور قصيدة كتبها لوركا عام ١٩٢٨م، بعنوان «أنشودة إلى قدس الأقداس»، وأهداها إلى الموسيقار العظيم، وقد غضب دي فايا التقيُّ الورع من تلاعب الشاعر المعتاد بالألفاظ ومن صوره الشعرية الجريئة، وهو يتناول ذلك الموضوع الديني ذا الحرمة التقليدية. وحدث جفاءٌ قصيرٌ بين الصديقين، ولكنهما سرعان ما تمكنا من تنقية الجو ونسيان ما حدث. وقد حاول دي فايا بكل الطرق التوسط لإنقاذ صديقه لوركا من مصيره المحتوم من اندلاع الحرب الأهلية عام ١٩٣٦م، ولكن جهوده كلها راحت أدراج الرياح، كما سوف تعلم في حينه.
وكانت ثانية صداقات لوركا الخلَّاقة مع الرسَّام السيريالي «سلفادور دالي»، وقد بدأت تلك الصداقة فور التحاق دالي بالمدينة الجامعية بمدريد عام ١٩٢٣م، وإلى ما بعد شدِّه الرحالَ إلى باريس في عام ١٩٢٩م، بعد طرده من مدرسة الفنون الجميلة بمدريد، وقد أثَّر سلفادور دالي بآرائه الطليعية في الفن في كثيرٍ من زملائه الطلاب. وقد تبلورت تلك الآراء فيما بعد في انضمامه إلى الحركة السيريالية بقيادة «أندريه بريتون» في باريس، وكان من أبرز مَن تأثروا بدالي وآرائه — عدا لوركا — صديقهما وزميلهما المشترك في المدينة الجامعية «لويس بونيويل»، الذي اشترك مع دالي في عمل أول فيلمين سيرياليين، أثارَ أولهما — وهو فيلم «كلب أندلسي» — ضجة صاخبة عند عرضه لأول مرة في باريس عام ١٩٢٨م، رغم أن مدة عرضه لا تزيد على نصف الساعة. وقد كتب دالي سيناريو هذين الفيلمين، وأخرجهما بونيويل. وقد أصبح دالي بعد ذلك إمام الرسم السيريالي، وأصبح بونيويل أمام السمينائيين السيرياليين، وقد فاز بالأوسكار لأحسن فيلم أجنبي عام ١٩٧٢م عن فيلمه «سحر البرجوازية اللطيف».
وقد جمع بين لوركا ودالي حب التجديد والتطوير الفنيَّين، علاوة على الرسم الذي كان أحد الموضوعات التي أُغرِم بها لوركا، وضرب فيها بسهمٍ وافر، حتى إن طبعة أعماله الكاملة تحتوي — بالإضافة إلى أدبه — عددًا كبيرًا من لوحاته الفنية.
وقد تعمقت الصداقة بين دالي ولوركا في أواخر عام ١٩٢٥م، بعد دعوة دالي لصديقه الغرناطي لزيارته، وقضاء إجازة عنده في بلدته «قداقش»، وهي بلدةٌ بَحْرية صغيرة من أعمال «برشلونة» عاصمة مقاطعة قطلونيا في الشمال. وسرعان ما اندمج الشاعر مع أسرة صديقه: هو يُسمِعهم من قصائده وأغانيه وموسيقاه، وهم يَعرضون عليه فنونًا قطلونيَّة أصيلة. وفي بيت دالي قرأ لوركا على الأسرة لأول مرة مخطوطة مسرحيته الجديدة «ماريانا بنيدا»، التي لاقت إعجابًا دفع الأب إلى دعوة أصدقائه لسماع الشاعر وهو يتلوها عليهم مرةً ثانية.
وكان طبيعيًّا أن ينهمك الصديقان في فترة الزيارة في مناقشات عديدة حول طبيعة الفن وإمكانيات التجديد الفني. وقد تأثر لوركا باتجاه التجديد لدى دالي الذي ينحو نحو السيريالية. وكانت المدرسة السيريالية قد انشقت عن الحركة «الدادائية»، وتأسست كحركةٍ مستقلةٍ على يد الشاعر الفرنسي أندرية بريتون عام ١٩٢١م.
وقد تحدَّدت الحركة أكثر عام ١٩٢٤م، حين أصدر بيرتون ورفاقه بيانًا أكدوا فيه سمات الحركة، وأبانوا فيه أن الحرية هي أساس السيريالية، وأول الحرية عند الفنان هي الخلاص من قواعد الفن. وقد انتشرت هذه الحركة بعد ذلك في أوروبا كلها، وصبغت كلَّ الفنون بصبغتها، وإن اختلفت كل حالة عنفًا وخفةً حسب اختلاف أنواع الفنون. وقد امتدت السيريالية إلى الشعر والقصة، ولكنها كانت أشد ظهورًا في الفنون التصويرية، فبرزت في الرسم والتصوير والسينما والنحت.
وكان لوركا في طليعة الأدباء الذين تأثروا بالاتجاه السيريالي، وظهر ذلك في شعره في اختياره للصور الفنية في قصائده. وقد بدأت هذه الصور الغريبة تغزو شعره وتستبين فيه تدريجيًّا، منذ قصائد ديوانه «حكايا الغجر»، إلى أن وصلت إلى أقصى ذروتها من السيريالية الحقة في قصائد ديوانه «شاعرٌ في نيويورك».
كذلك فإن صداقة لوركا — بل وحبه — لأخت الرسام دالي، «آن ماري دالي»، قد أثَّرا كثيرًا على حياته العاطفية. ورغم أن المعلومات عن هذه العلاقة غير واضحة ولا هي متوفرة، إلا إن كثيرًا من مؤرِّخي حياته يرجعون الأزمة العاطفية التي مرَّ بها في عام ١٩٢٩م إلى فشل هذا الحب وتحطُّمه، والتي لم يجد الشاعر دواء منها إلا السفر خارج بلاده إلى نيويورك، حيث قضي عامًا وبعض العام في الخارج.
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
وفي منتصف مايو عام ١٩٢٧م، يزور لوركا «دالي» مرةً أخرى، وينتقلان معًا إلى برشلونة للإعداد لتمثيل مسرحية «ماريانا بينيدا» هناك، وقد استقبل فنَّانو قطلونيا وكتَّابها «لوركا» بحماسٍ بالِغ، وتعرَّف على أفراد الحركة الطليعية، وعلى المجلة التي كانوا يصدرونها باللغة القطلونيَّة، بعنوان «مجلة أصدقاء الفنون»، كما تعرفوا هم عليه وعلى إنتاجه، وكثيرًا ما طاف لوركا ودالي — ومعهما الناقد القطلاني «سباستيان جاش» — بشوارع برشلونة وأزقَّتها الخفية، يتناقشون في صخبٍ وحماسٍ في شئون الأدب والفن، ويحكي جاش قصةً طريفةً اشتهرت عن لوركا، حين اصطحب «لوركا» يومًا إلى «أتنيو برشلونة»، حيث قدَّمَه إلى ندوةٍ تضم شيوخ الأدب والفن هناك، حيث سأله أحدهم في استهانة: «من أيِّ البلاد أنت أيها الشاب؟» فردَّ عليه الشاعر وهو يرفع يده عاليًا في رزانة: «أنا من مملكة غرناطة!» فإلى هذا الحد كان إحساس لوركا بالمجد الذي نالته بلدته أثناء وجود العرب فيها، ولا غرو أن يكون هذا الرد قد أدهش الحاضرين جميعًا، وزاد فيه ما كان على فديريكو من مسحةٍ شرقيةٍ وسَمارٍ عربي، بشعره الأسود وملامحه المُحدَّدة وخياله المتوقِّد.
وقد وضع لوركا أمله في ذلك الوقت في مسرحيته «ماريانا بينيدا»، التي عمدت فرقة الممثلة المشهورة «مارجاريتا شيرجو»، إلى تقديمها على مسرح جويا ببرشلونة في يونيو ١٩٢٧م، وقام بتصميم ديكوراتها سلفادور دالي، وكانت هذه ثاني مسرحية يكتبها لوركا، بعد مسرحيته الأولى، التي فشل عرضها في مدريد، وقد قوبلت «ماريانا بينيدا» بنجاح، ولاقت قبولًا من النقَّاد، وجُلُّهم من أصدقاء الشاعر، وهي وإن لم تكن قد ثبتت أقدام لوركا في المسرح، إلا إنها قد عوَّضَته عن فشل مسرحيته الأولى، وجعلته يستمر في الكتابة المسرحية، كيما يخرج بعد ذلك أعماله الناضجة الناجحة، وقد قال الشاعر عن ظروف كتابة تلك المسرحية: لقد كانت حياة «ماريانا بينيدا» فكرة من أشد أفكار طفولتي تسلُّطًا عليَّ، لقد كنا نلعب ونحن أطفال بأن نمثِّل المروحة وهي تنفتح وتنغلق ونحن ننشد:
وتتبع المسرحية الخطوط الهامة للحياة الحقيقية لماريانا بينيدا، التي وُلدت في غرناطة عام ١٨٠٤م من أسرةٍ كريمةٍ وتزوَّجت أحد المناضلين من أجل الحرية، الذي مات بعد الزواج بثلاث سنواتٍ مخلفًا لها طفلين، واحتضنت هي آراء زوجها الثورية وكفاحه من أجل حرية الشعب، فمدَّت يد المساعدة إلى المناضلين والمطاردين في عصر استبداد الملك فرديناند السابع ملك إسبانيا، ونجحت بذكائها ومهارتها في إبعاد الشبهات عنها، وانشغلت ماريانا في تطريز علَم ضخم للثوَّار، يستخدمونه عند إعلان ثورتهم، كتبت عليه كلمات: «القانون، الحرية، المساواة»، ووشى بها أحد الخَوَنة، وسقط العلَم في يد حاكم غرناطة الذي بادر إلى اتهامها وسجنها، ولم يفلح التعذيب ولا المحاكمة في انتزاع أي اعترافٍ منها، إلى أن أُعدِمَت في ١٨٣١م، شهيدةً للحرية.
وقد شجع نجاح المسرحية في برشلونة على عرضها في العاصمة مدريد، حيث بدأت عروضها على مسرح «فونتالبا» في ١٢ أكتوبر ١٩٢٧م، ولاقت نجاحًا ملحوظًا.
وقد تزامن مع عرض هذه المسرحية للمرة الأولى في برشلونة افتتاح معرض لرسوم لوركا في المدينة في «جاليري دالماو»، وقد استمر المعرض من ٢٥ من يونيو إلى ٢ من يوليو ١٩٣٧م، وتضمن ٢٤ لوحة، منها لوحة رسم فيها لوركا صديقه «دالي»، وقد قدَّم دالي في مقالٍ له بمجلة «المجلة الجديدة» عرضًا نقديًّا للمعرض، وقدَّم «سباستيان جاش» عرضًا آخَر له، وانتهت إقامة الشاعر في برشلونة بمأدبة تكريم حافلة، أقامها له الفنَّانون هناك.
وقبل العودة إلى مدريد أمضى لوركا أيامًا في «قداقش» مرةً أخرى، عمل فيها مع دالي على وضع ما سمي «البيان اللافني»، وهو بيانٌ يعبِّر عن آراء أصحابه الطليعية السيريالية في الفن والأدب والحياة، ويعتمد على تقرير اللاشخصانية واللاهوية واللاموضوع في التعبير الفنيِّ عمومًا، وقد تم نشر البيان في أحد أعداد مجلة «أصدقاء الفنون» في أغسطس ١٩٢٧م، وترجمه لوركا ونشره عام ١٩٢٨م بالعدد الثاني من المجلة، التي أصدرها ذلك العام في غرناطة.