مهرجان إشبيلية وديوان الفجر
وفي ديسمبر ١٩٢٧م، ينعقد في «إشبيلية» مهرجانٌ أدبيٌّ كان سببًا في إطلاق اسم جيل عام ٢٧ على لوركا وصحبه، تمييزًا لهم كجماعةٍ أدبيةٍ عن الجماعة الأدبية السابقة عليهم مباشرة، وهي جيل ١٨٩٨م الذي أشرنا إليه في مطلع هذا الكتاب، وقد استمد النُّقَّاد هذا الاسم من اجتماع معظم أفراد هذه الحركة الأدبية والفنية في «إشبيلية»، بدعوةٍ من «أتنيو إشبيلية» في مهرجان أُقيم لتكريمهم، وإتاحة الفرصة أمامهم لإلقاء أبحاثهم ومحاضراتهم وإنتاجهم الفني في ذلك المركز الثقافي، بوصفهم شباب حركةٍ فنيةٍ ناهضةٍ أرهصت أعمالهم بعصرٍ ذهبيٍّ جديدٍ للأدب الإسباني، يضارع العصر الذهبي الأول أيام سرفانتس ولوبي دي فيجا.
ويتفق النُّقَّاد الآن على أن أعضاء هذه الجماعة المؤسسين عشرة، هم: فديريكو غرسيه لوركا – بدرو ساليناس – خورخي جيين – خيراردو دييجو – داماسو ألونصو – فيثنتي الكساندري – رافاييل ألبرتي – لويس ثيرنودا – خوسيه برجامين – خوان تشاباس.
كذلك تميَّز أعضاء الجيل بالاستعمال الفريد للاستعارة والصور الفنية في أعمالهم، إذ إنهم قد تركوا لأنفسهم حرية مُطلَقة في ربط أيِّ شيءٍ بأيِّ شيءٍ آخَر يصل إليه خيالهم، وبحثوا في أعماق الشعور عن صلاتٍ خفيةٍ ذاتيةٍ بين الأشياء، فأنتجوا بذلك صورًا شعرية جديدة غريبة فريدة، وستكون هذه الصور الفريدة أهم ما يميِّز شعر لوركا في مرحلته التالية، والتي ستتخذ بعد ذلك منحًى مبالغًا فيه مع دخوله ذروة تلك المرحلة، مرحلة السيريالية الشعرية.
وقد قام لوركا بإعداد بحث عن شعر «جونجرا»، استغرق منه ثلاثة شهور، لإلقائه في مهرجان إشبيلية، وقد قال في ذلك البحث: إن الأساتذة يشيرون عادةً إلى «جونجرا» بوصفه شاعرًا عتيقًا، أصبح فجأة شاعرًا مغرقًا في الصفة، وأنه حمل اللغة إلى آخر ما تستطيع، فثنى المعاني واخترع قوافي وإيقاعات غريبة على الذهن العادي، وعكف لوركا على دحض هذه الأقوال، بتبيان كيف أن الصور التقليدية التي تجري على ألسنة الناس العاديين، لم تكن غريبة عن الصور التي ابتدعها «جونجرا»، مثل تسمية الطرف البارز من أسطح المنازل «فخًّا منصوبًا»، أو تسمية نوع من الحلوى بشرائح السماء، أو نهدات الراهبات، أو تسمية القبة بنصف برتقالة، وقال لوركا في بحثه: «على الشاعر أن يكون أستاذًا في الحواس الخمس، وهي كما أرتبها: الإبصار – اللمس – السمع – الشم – الذوق، وعليه، من أجل أن يصبح سيد أجمل الصور الشعرية، أن يفتح باب الاتصال بين جميع هذه الحواس، وعليه في أحيانٍ كثيرةٍ أن يطبع مشاعر حاسة منها على مشاعر حاسة أخرى، بل وحتى أن يغطي طبائعها ويخفيها …»
ومضى لوركا في بحثه الذي ألقاه عن «جونجرا» يقول:
«إن جونجرا في شعره يتناول الأشكال والموضوعات الكبيرة الحجم بنفس الحب والصدق الذي يتناول بهما صغار الأشياء، وبنفس العظمة الشعرية، فالتفاحة عنده تثير في النفس ذات الكثافة في الشعور التي يثيرها البحر، والنحلة مليئة بنفس الدهشة التي تمتلئ بها الغابة، وهو يرقب الطبيعة بعينٍ نفَّاذة، ويعجب بجمال هوية الأشياء التي تتساوى في جميع أشكالها؛ ولهذا السبب فإن التفاحة لديه تماثل البحر … فحياة التفاحة، من لحظة انبثاقها إلى الوجود كبرعمٍ صغيرٍ حتى سقوطها ناضجةً ذهبيةً من الشجرة إلى الأرض، هي عمليةٌ عظيمةٌ ومليئةٌ بالأسرار، كعملية إيقاعات البحر اللانهائية. وعلى الشاعر أن يدرك ذلك، فعظمة الشعر لا تعتمد على عظمة موضوعه، ولا على حجمه ولا على مشاعره، فالشاعر قد يصنع قصيدةً ملحميةً عن الصراع الذي يقع بين مختلف الخلايا النباتية وسط أغصان الكرمة، أو يعطي انطباعًا لا نهاية له للمُطلَق عن طريق شكل الوردة وعبيرها لا غير.» وهذا ما فعله لوركا نفسه في بعض أعماله مثل التراجيديا الشعرية، التي كتبها عن غرام صرصار بفراشة.
وقد صفَّق الحاضرون طويلًا للبحث الذي ألقاه لوركا في المهرجان، ودعوه في ليالٍ أخرى إلى تلاوة قصائد ديوانه «حكايا الغجر» عليهم، رغم أن تلك القصائد لم تكن قد صدرت بعدُ على شكل ديوان، وإنما كان صيتها قد طار بين أوساط الفنانين والشعراء جميعًا.
وقد ترك مهرجان «جونجرا» عام ١٩٢٧م أثرًا عميقًا في شعر لوركا أبعد وأعمق من أثر الدادائية والسيريالية، إذ جعله يقرن بتلك الحركات الطليعية أيامها انغماسًا رقيقًا في بئر الشعر الإسباني في ماضي العصور، واقترن كل هذا عنده بصورةٍ جديدةٍ من الشكل التركيبيِّ الهندسيِّ للقصيدة، واستخدامات جديدة أصيلة للفعل اللغوي، لا بُدَّ أنه استوحاها عن البناء العربي والإسلامي الذي فتح عينَيه عليه في ربوع غرناطة والأندلس، مثل قصور الحمراء التليدة ورياض جنة العريف، ويستبين في ثلاث قصائد طويلة للوركا، وهي «أنشودة إلى قدس الأقداس» و«أنشودة إلى وولت ويتمان»، و«القديسة لوسي والقديس عازر»، الاتجاه ناحية «الجنجورية» الجديدة التي سوف تنمو وتتطور لديه أكثر من ذلك، حين يخرج من إسبانيا في رحلته الأمريكية، وتصوغ نفسها في تركيبةٍ فريدةٍ يمكن أن يُطلق عليها «السيريالية الإسبانية»، هي ذات صلة وثيقة بلوحات دالي التي يمكن أيضًا إرجاع أصلها إلى فن الشاعر الإسباني جونجرا، لقد وضع لوركا في تلك القصائد الثلاث قدمه على أول الدرب، الذي سيقوده بعد ذلك إلى مرثية مصارع الثيران، ثم إلى قصائد «شاعر في نيويورك»، وقد نعى كثيرٌ من النقاد تلك النقلة الكبيرة في فن لوركا، من مرحلةٍ غنائية فولكلورية دافقة إلى مرحلةٍ سيريالية مُغرِقة في إبهامها، ولكن لوركا، كما بنيت الناقدة «ملدرد آدمز» بحق في كتابها عن الشاعر، قد أقام ما يكفي في صرح الغنائية الزاهي الراقد على أرباض قصر الحمراء، وأنه لم يكن من الممكن ألا يتأثر بالجو الفني والفكري السائد أيامها، فالوقت آنذاك كان وقت ثورة واضطراب في كل شيء، حين كان العالم يقرأ الأرض الخراب لإليوت وعوليس لجيمس جويس، وأشعار أندريه بريتون السيريالية.
ومضى لوركا بعد مهرجان «جونجرا» في تنقيح قصائد ديوان حكايا الغجر ووضعها في صورتها النهائية، محاولًا الجمع في حكاياه الشعرية بين الصورة الأسطورية للغجر، وبين الواقع الذي كان يراهم عليه في غرناطة، وقال في ذلك: «إن النتيجة غريبة، بيد أنني أعتقد أن بها جمالية جديدة».
ونشر الديوان أخيرًا عام ١٩٢٨م، فنال نجاحًا فوريًّا ساحقًا، ونفذت نُسَخه في أشهرٍ قليلة، وهو يتكوَّن من ١٨ قصيدة، اشتهر معظمها بعد ذلك وتناقلتها الأفواه في جميع البلاد الناطقة بالإسبانية، مثل قصائد: أخضر، كم أحبك يا أخضر، والحرس المدني، والزوجة الخائنة، أنطونيو الكامبوريو.
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
ومن عالم الغجر أيضًا يقدِّم لوركا قصيدة الزوجة الخائنة، ويصوِّر فيها تصرُّفات غجري أصيل تجاه حبيبته، ومذهب الشهامة الغجري الذي حتَّم عليه ألا يعود إلى تلك الحبيبة؛ لأنه عرف أنها متزوجة:
•••
•••
وتكتمل صورة الغجريِّ الأصيل في قصيدتَين عن «أنطونيو الكامبوريو»، فيتراءى للقارئ فيهما وصف دقيق له، فهو سليل ألقاب عريقة في عالم الغجر، صوته قرنفلي رجولي، بشرته معجونة بزيت الزيتون والياسمين، واهتماماته هي اهتمامات الغجر، مشاهدة مصارعات الثيران، والقتال، ولكنه في القصيدة الأولى يخون نفسه وجنسه بالاستسلام دونما قتال أو جهاد لرجال الحرس المدني؛ لذلك فهو يستحق كلمات قاسية يوجِّهها له الشاعر بأنه ليس سليلًا لأحد، وإلا كان قد فجَّر نبعًا من الدماء ذا خمس نفثات، ولكن «أنطونيو» يعوض ذلك في القصيدة الثانية، حين يدافع عن نفسه ضد أبناء عمومته، الذين هاجموه بدافعٍ من حسدهم إياه، والحسد صفة دفينة في الإسبان عمومًا وبين الغجر على وجه الخصوص، وهم يهاجمونه فيصارعهم، ويتقافز بخفة الدلافين، ويلطِّخ ربطة عنقه بدماء أعدائه، وهو قد حقَّق ما يتوجَّب عليه بالجهاد وإسالة الدماء، فلا عيب عليه بعد ذلك أن يقهروه آخِر الأمر، بعد أن يتكالب عليه الأربعة وهو واحدٌ أمامهم.
أما قصيدة «الحرس المدني الإسباني» فهي تصويرٌ كاملٌ لصراع الغجر مع العالم الخارجي الذي يحيط بهم، ويمثل القانون واللوائح المدنية التي يضطرون إلى التسليم بها، ويصوِّر لنا الشاعر مدينة الغجر مليئة بالمتناقضات والمفارقات عن طريق صورٍ حادةٍ عجيبة، كما يقرِّب من أذهاننا عالم الغجر بكل ما فيه من غرائب واختلاف، ومزج بين العوامل الدينية والشعبية، وهو من الطباع التي يتميَّز بها الغجر، وفي مواجهة مدينة الغجر يقوم القانون، الذي تُمثِّله فرقةٌ من الحرس المدني تهاجمها وتعمل فيها القتل والنهب:
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
وأشهر قصائد الديوان هي قصيدة «أخضر كم أحبك يا أخضر!» وعنوانها الأصلي «حكاية السائرين نيامًا»، والتي أوردناها كاملةً في بداية هذا الكتاب، وتدور أحداثها من خلال غنيمةٍ من الحلم أو من السحر، فتبدو وكأنها تتراءى من خلال ذهن أحد السائرين في نومهم، أو شخصية عجزت عن مواجهة الواقع فتراه من خلال عالَم أخضر من الهذيان، ونرى فيها غجريًّا يعمل في التهريب قد أصابه جرحٌ مميت، ويختفي من مطاردة رجال الدرك له، فيتوجَّه في الهزيع الأخير من الليل أو في مطالع الفجر إلى منزل الفتاة الغجرية، التي يحبها والتي انتظرته طويلًا، ويسأل والدها العون، ولكنه يجد الأب — لسببٍ ما — في حالة صدمة، ويصعد الرجلان إلى أدوار المنزل العُليا التي يغمرها القمر بضوئه، وهناك يجد أن الفتاة التي انتظرت حبيبها عبثًا وهي تطفو على سطح خزَّان المياه الذي يسبح في نور القمر، ونفهم من بين السطور أنها قد انتحرت غرقًا، وتعمل دقَّات رجال الدرك المخمورين على الأبواب آخِر الأمر على زيادة حدة الجو النومي الذي يهيمن على القصيدة، ويفتتن الشاعر بذكريات وخيالات وعواطف الشخصيات التي تضمها القصيدة، وهم كلهم في حالة أزمة شديدة.
ويزيد الناقد «ستانلي بيرنشو» على ذلك بأن الشاعر نفسه يزيد من حمى الموقف بانتحاله نفس موقف شخصياته والتحدُّث نيابةً عنهم. بالأبيات المتكرِّرة التي تتردَّد في ثنايا القصيدة، فكل الشخصيات منجذبة إلى نوعٍ من الاخضرار، وكذلك الشاعر أيضًا الذي تستبد به فكرة الخضرة دائمًا على طول القصيدة … وتتحرك الشخوص من تحت سحر ضوء القمر الجميل والنذير في نفس الوقت، فهم من ذلك المنطلق سائرون جميعًا في نومهم: المهرب الجريح، الأب الهَرِم الذي هزَّه الحزن على ابنته، فلم يعُد يشعر بنفسه، الفتاة التي انتحرت بعد أن جُنَّت من طول انتظار الأمل الأخضر، فألقت بنفسها في أحضان الموت الأخضر في خزَّان المياه، بل وحتى رجال الدرك المخمورين الذين اقتفوا أثر المهرب، وجاءوا يدقُّون على الأبواب.
وقد عمل النجاح الفوري لهذا الديوان على طير صيت لوركا وشُهرته في طول البلاد المتحدِّثة بالإسبانية وعرضها، وسرعان ما تُرجِمَت قصائده — التي حرَّكَت مشاعر القرَّاء وعواطفهم — إلى معظم اللغات الأوروبية ولغاتٍ أخرى.