التجربة الأمريكية
حتى قبل أن ترسو السفينة بلوركا في ميناء نيويورك، داهمه الحنين إلى الوطن، فنراه يكتب وهو ما زال على ظهر السفينة إلى صديقه «كارلوس مورلا» يقول: «يجتاحني كل يوم نهم إلى بلادي وإلى صالونك … حنينٌ إلى الثرثرة معكم وإلى أن أغني لكم أغنيات إسبانيا العتيقة … لا أدري لماذا سافرت؟ إني أسأل نفسي هذا السؤال مائة مرة في اليوم … أتطلع إلى صورتي في مرآة القمرة العتيقة فلا أتعرف على نفسي … إني أبدو «فديريكو» آخر.»
ووصلت السفينة إلى ميناء نيويورك في أواخر شهر يونيو، ونزل لوركا في حجرةٍ في مدينة الطلاب الملحقة بجامعة كولومبيا في قلب نيويورك النابض، وفي قاعة تُدعى قاعة «جون جاي»، وعكف الشاعر منذ البداية على التعرف على الأوساط الإسبانية في المدينة الهائلة، أكثر من اهتمامه بمتابعة دروس اللغة الإنجليزية، التي سرعان ما هجرها بعد اقتناعه بأنه لا يصلح أساسًا لتعلم هذه اللغة … ويقول عنه راعيه الثقافي في نيويورك — أنخل دل ريو، أستاذ الأدب الإسباني في جامعة «كولومبيا»: «لقد رحل عن نيويورك دون أن يتعلم كلمةً واحدةً بالإنجليزية، وكان ينطق الكلمات القليلة التي يضطر أحيانًا إلى استخدامها، بالنطق الإسباني!»
ولكنه مقابل ذلك كان يشعر بالغبطة، حين يجمع حوله طلاب اللغة الإسبانية بالجامعة، ويغنِّي لهم الأغاني الشعبية الإسبانية التي تعلَّمها منذ طفولته، أو حين يمضي في لقاءاتٍ طوال مع الأصدقاء الإسبان من الفنانين والكتَّاب في نيويورك: أنخل دل ريو، والرسام جابرييل غرسيه ماروتو، وداماسو ألونصو الأستاذ الزائر في «هنتر كولدج»، وفديريكو دي أونيس، والشاعر المشهور ليون فيليبي.
كانت صدمة تعرفه على مدينة نيويورك كالصاعقة التي انقضَّت على فؤاده فهزته هزًّا عنيفًا … ها هو … شاعرٌ أندلسيٌّ رقيق، ابن غرناطة الهادئة الجميلة الساحرة، يهبط في مدينةٍ مختلفة تمامًا عن كل ما رآه من قبل، مدينة حديدية، هائلة تصطخب ببشرٍ همهم الأول هو المادة والتفوق المادي، ويصطدم فيها بالأبنية الحديدية السامقة، ويسير في الطرقات فيُخيل إليه أن ناطحات السحاب هذه سوف تطبق بقضِّها وقضيضها على روحه فتزهق وتخمد منه الأنفاس، وقد حدث مرةً وكان يسير في وسط الحشود في قلب نيويورك أن توقف بغتةً وصاح بأعلى صوته: إني لا أفهم شيئًا البتة!» وتبعها بضحكته المجلجلة الشهيرة.
بيد أنه، وبعد مدةٍ من الصراع مع مدينة ناطحات السحاب، والجاز الذي كان يسود المدينة آنذاك — بدأ فديريكو يغوص في القاع التراجيدي للمدينة، ويدرك أن وراء المظهر الباهر لنيويورك ثمة كثيرًا من الألم والوحدة ينبضان، وكثيرًا من الرعب والخوف في الإنسان، وقد أُتيح للشاعر أن يشهد الصراع الذي يستعصي على الحل بين ذروة حضارة آلية، وبين الغرائز الأولية التي لا تزال في داخل النفس البشرية، وثمرة هذا الصراع التي تتمثل أحيانًا في المعاناة والوحدة، والحزن الوديع لزنوج حي هارلم، وقسوة المادة في «وول ستريت»، حي المال في نيويورك.
وقد أثمرت التجربة الأمريكية التي مرَّ بها لوركا قصائد عديدة، كانت فيض مشاعره وتجاربه في المدة من يوليو ١٩٢٩م حتى يونيو ١٩٣٠م، ورافقت تنقلاته ورحلاته التي قام بها في تلك الفترة، ومن الجدير بالذكر أن هذه القصائد لم تُنشر في ديوانٍ إلا عام ١٩٤٠م بعد وفاة لوركا، بعنوان «شاعرٌ في نيويورك»، وإن كان معروفًا أن الشاعر كان يعتزم إصدارها معًا تحت هذا العنوان، تصحبها صورٌ مأخوذة عن الحياة في نيويورك، ويفتتح هذا الديوان بتجسيدٍ فنيٍّ لأول المشاعر التي هزت لوركا في الولايات المتحدة، الوحدة الطاغية، إذ إن عنوانًا عريضًا للجزء الأول من الديوان يحمل اسم: «وقصائد الوحدة في جامعة كولومبيا»، ثم نطالع في القسم السادس العنوان العريض «قصائد الوحدة في فيرمونت»، وتحمل قصائد الديوان أسامي معبرة، مثل «كنيسة مهجورة»، «رقصة الموت»، منظر الجماهير التي تقيء، منظر الجماهير التي تبول، جريمة قتل، مدينة لا تنام، الطفلة الغارقة في البئر، فاتحة للموت، ليلية الفراغ، أطلال، قمر وبانوراما الحشرات، الفرار من نيويورك.
ويعتبر الكثير من قصائد هذا الديوان تعبيرًا، ومعادلًا موضوعيًّا، وخلقًا فنيًّا حيًّا للمشاعر المتضاربة التي أثارتها الحياة والمدن الأمريكية خاصة نيويورك، في نفس الشاعر.
وكان يحلو لفديريكو أن يتجول في شوارع المدينة الهائلة مع أصدقائه الإسبان، يجولون في الأحياء الشعبية وخاصة حي هارلم — حي الزنوج — الذي أوحى له بإحدى أهم قصائد الديوان:
أنشودة إلى ملك هارلم
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
وكان من بين مَن تردَّد عليهم الشاعر، صديقه «هرشل بريكل»، في منزله في «بارك أفنيو» مع شارع رقم ٥٦، حيث كانت تجتمع هناك ثلةٌ من الفنانين والأدباء، وبعد إحدى السهرات هناك، توجَّه الحاضرون لزيارة كنيسة «سان بابلو»، التي قال عنها لوركا فيما بعد أنها «أجمل كنيسة في العالم»، وتفوق موسيقاها أيَّ موسيقى أخرى سمعها في إسبانيا، وحيث بدَت له الكنيسة جزيرة من الجمال المعماري والفني المُصفَّى وسط طوفان من البرودة والبشاعة والآلية التي تغرق فيها نيويورك. نيويورك … نيويورك التي ألهمته هذه القصيدة المشهورة عن «الفجر في نيويورك»:
•••
•••
•••
ويطلق الشاعر أيضًا قصيدته «صرخة إلى روما» من فوق مبنى «كرايزلر»، الذي كان أيامها أعلى مبنًى في العالم قبل سنوات من إتمام مبنى الإمباير ستيت في نيويورك أيضًا، وهي قصيدة اتهامية ضد حضارة رأس المال الميتة، ومنها:
لقد تجسدت مدينة نيويورك في نفس الشاعر كرمزٍ للزيف الذي تخلقه الحضارة القائمة على المادة، مقابل الصدق الذي تبثه الطبيعة التي يحلم بها الشاعر، والتي وجدها وعاشها في وسط الفلاحين والغجر وكل ما هو طبيعيٌّ وتلقائيٌّ وفطريٌّ في النفس البشرية، ولم يكن أمام لوركا في تصويره الهجوم العاتي لتلك الحضارة المادية وافتنائها على الطبيعة، إلا اللجوء إلى أشكالٍ من التعبير السيريالي، فوق الواقعي، وإلى أن يخضع أفكاره وصوره لعالمٍ جديدٍ غريبٍ من الرموز والصور السيريالية، ومعظم قصائد الديوان تبين جور الكبريت المطفأة تلتهم سنبلات قمر الربيع — آلام المطابخ المذمونة تحت الرمال — يعض الحقل ذيله كيما يجمع الجذور في نقطةٍ واحدة — ستأتي السحالي لتعض الرجال الذين لا يحملون — حيث الفيلسوف يلتهمه الصينيون واليسروعات — ذئاب وضفادع برية تغني في المواقد الخضراء — خرج السلطان في منتصف الليل إلى الممرات وتحدَّث مع القواقع الخاوية عن السجلات … إلخ.
«إن الطبيعة هنا رائعة، بيد أنها تبث في النفس كآبة لا حدَّ لها، وإنها لتجربة طيبة لي، السماء تمطر باستمرار، إن الأسرة التي أقيم بين ظهرانيها لطيفة جدًّا ورائعة، بيد أن الغابات والبحيرة تغرقاني في حالة من اليأس الشعري لا يمكن احتمالها، إني أكتب طول النهار، وأشعر بنفسي مجهدًا عند المساء، لقد انسدل الليل، وأوقدت مصابيح الغاز، وعادت كل طفولتي إلى ذاكرتي ملفوفة في مجدٍ من شقائق النعمان وسنابل وقمح»، وهناك، كتب «قصائد الوحدة في فيرمونت».
في اليوم المحدَّد لوصوله، لم نتسلَّم أيَّ برقيةٍ أو إخطار بالموعد كما سبق أن اتفقت معه … وعند حلول المساء بدأ القلق يعترينا من أن يكون قد ضلَّ طريقه أو تعرَّض لحادث، حين أبصرنا أخيرًا عربةً أجرة تتهادى متثاقلة في الطريق المترب مثيرة الغبار من حولها، وكان ثمة تعبير استسلام على وجه السائق، أما لوركا فما إن رآني حتى اهتاج وأخذ يصرخ ويصيح، وكان ما حدث هو أن لوركا قرَّر عند وصوله إلى البلدة أن يستقل تاكسيًّا، دون أن يعرف كيف يشرح العنوان للسائق، وأخذ التاكسي يروح ويجيء في الطريق المغبرة وسط الجبال، إلى أن أعطى أحد المارة العنوان الصحيح للسائق، وكان العدَّاد قد سجَّل ١٥ دولارًا، بينما لوركا قد أنفق كلَّ ما يحمل من نقود، مما ملأ قلبه بالفزع بألا ينجح في الوصول إلى مقصده ويفاجأ السائق بإفلاسه، وفي الحال، خلع لوركا مظهرًا خياليًّا مرِّوعًا على الحادث، وزعم أن السائق — الذي لم يستطع التفاهم معه — قد حاول سرقته وقتله في جانبٍ مهجورٍ من الغابة!
وأمضى الشاعر أسبوعين في هذه المزرعة الجبلية، كتب فيها من قصائد الديوان: ليلة الفراغ، أطلال، طفلةٌ غارقة في البئر، منظر لقبرين وكلب آشوري. ثم قضى الشاعر بقية إجازته الصيفية في منزل الأستاذ «فديريكو دي أونيس» بالقرب من «نيوبرج»، ثم عاد بعدها إلى حجرته في المدينة الجامعية بنيويورك، وكتب عندها يقول لصديقه كارلوس مورلا: «… لقد عاد فديريكو القديم إلى الظهور …»
وهكذا فعلت الرحلة الأمريكية في نفس الشاعر فعل السحر، فعل التجديد، فعل التطهير، بكل ما تحمله من حسراتٍ ومفاجآتٍ ووحدةٍ وعزلةٍ وألم، لقد أمسك الشاعر حقًّا بنيويورك من داخلها ومن خارجها، عن طريق دفعة جامحة من الصور الدرامية: وحدة مأساوية وانفجار للحياة في حركاتٍ وصورٍ مزعزعةٍ متفرِّقة، كأنها شريط لفيلم سيريالي. إن قصائده تبيِّن لنا كيف كانت نفس الشاعر تغرق في مدينة نيويورك، بل وقد وصل الحال بلوركا أنْ خشيَ أن تبتلعه المدينة الهائلة في جوفها، وكان على وشك الهروب منها والعودة إلى غرناطة بلدته الوديعة الهادئة كالنهر الناعس، ما لم تصله في ذلك الحين دعوة من معهد الثقافة الإسباني – الكوبي لإلقاء محاضراتٍ في عدة مدنٍ من جزيرة كوبا، ووافق فديريكو على الفور، وأبحر في ربيع ١٩٣٠م إلى هافانا العاصمة التي أحبها من أول نظرة، والتقى فيها بجذوره الإسبانية الراسخة التي كانت قد شارفت على الاختفاء في نيويورك، ولم يقتصر الأمر هناك على العودة إلى سماع اللغة الإسبانية، بل والعودة إلى الأجواء الدافئة والبشرة السمراء الذي تذكره بأهل الأندلس، وليس هناك أقرب إلى العنصر الأندلسي من العنصر «الكريولي»، وهم أهل أمريكا الجنوبية المخلطين، وكان لوركا يقول هناك: «إنني أشعر وكأنني في مدينة قادش»، وتبادل الشاعر الحب والاهتمام مع شعراء كوبا وفنانيها، وكان مع إلقائه المحاضرات والأشعار، يتشرَّب عذوبةَ استوائيةِ كوبا: موسيقاها، شمسها، بهجتها، وهامَ بصفة خاصة بالألحان «الأفروكوبية» التي يتميَّز بها السود هناك.
وخلال إقامته في كوبا، واصل كتابة بعض المناظر في عملَين مسرحيَّين: «الجمهور»، و«عندما تمرُّ خمس سنوات»، كما نشر في مجلة «الموسيقى» بهافانا، قصيدته التي استوحاها من الموسيقى الأفريقية – الكوبية، والتي ضمنت ديوانه شاعر في نيويورك، وهي بعنوان «موسيقى الزنوج» في كوبا:
ثم شارفت إقامته في كوبا على نهايتها، واستقل في أواخر صيف ١٩٣٠م الباخرة الإسبانية ماركيز دي كومياس، عائدًا إلى إسبانيا، بعد أن توقفت في الطريق في ميناء نيويورك حيث كان وداع الشاعر لأصدقائه هناك.
وهكذا فارق شاعرنا الأرض الأمريكية، أرض العالم الجديد، التي مثَّلَت له تجربة كثيفة في روحه وفي فنه، ولكن المهم أيضًا هو أنها قد أزالت عنه ذلك «الخدر العاطفي»، ذلك الحزن والكآبة العميقين اللذين هاجماه طوال صيف وشتاء ١٩٢٨م، وقد عاد فديريكو من رحلته سعيدًا بها وأكثر ثقة في نفسه وفي عمله، مليئًا بزخمٍ جديدٍ دفاقٍ للعمل والحياة.