لسانٌ قاتل
أدرك هيكر خطأً في نقطة معينة في كلامه، في مواجهة الآخرين، في معرفته السطحية بالعالم. بدأت اللغة تنساب في فمه، كلمات تُغيِّر مواضعها وتتبادل المواقع مع كلمات أخرى، وبينما بقيت أفكاره جلية كما كانت دائمًا، فقد لا يتجلى أحيانًا إلا على لسانه أنها عُصِرتْ أو لُوِيَتْ أو وُضِعتْ مع العيون الزائفة؛ العيون الزائفة؟ شيء من هذا القبيل. كان إحساسه باللغة انسيابيًّا بعض الشيء دائمًا؛ كان من السهل دائمًا عليه، حين يحتار، أن يستبدل كلمة بأخرى على أساس الصوت أو الإيقاع أو التداعي أو التماثل، مما جعل الناس يعتقدون أنه شارد الذهن. كان الأمر مختلفًا. حين احتار، لم يعرف حين أخطأ في الكلام، قدَّمتْ له التعبيراتُ على أوجه من حوله مفتاحًا للعودة إلى مساره وتصحيح ما وقع فيه. الآن، سمع نفسه يقول الكلمة الخطأ، وعرف أنها خطأ حتى وهو يقولها، لكنه يفتقر إلى القدرة على تصحيحها. لديه مشكلة حقيقية، انكسر فيه شيء. يمكن أن يقبض عليه لكنه لم يستطعْ أن يفهم إلى أين يأخذه.
حين حدث ذلك أول مرة، بدت على وجهه نظرة دهشة مروعة، أو هذا ما خمَّنه من نظرة المرح التي ردَّتْ بها ابنته.
«أوه دادي»، قالت، ورغم أنها كبرت لكنها لا تزال تقول له دادي لأسباب لم يفهمها ولم يشجع عليها، «أنت لا تقصد صلصة بل صيد السمك.»
صلصة؟ فكَّر. صيد السمك؟ هناك فجوة كبيرة بين المصطلحين لا تسمح بالقفز من واحد إلى الآخر بأي منطق متاح له. سمع صوته يقول صلصة وعقله مشغول بنقل صيد السمك إلى لسانه. أذهله ما سمعه يخرج من فمه، لم يفهم لماذا لم تكن له علاقة بأفكاره. بالنسبة لابنته لم يكن إلا الأب العجوز نفسه؛ شاردًا ومشتتًا.
قال: «أوه. بالطبع، يا ترميت.» وذهل مرة أخرى. بالنسبة لابنته كان يلعب لعبة فقط، يوبخها. وبعد لحظة كان على ما يرام. استطاع أن يقول صيد السمك مرة أخرى وهو يعني صيد السمك. وحده عرف أن هناك خطأً خطيرًا. تساءل: متى أدركت ابنته؟ تساءل: ماذا يحدث؟
كانت هناك أيام، تأتي وتمضي بانتظام. فتح فمه وأغلق فمه. ما سمعه يتشكَّل على لسانه غالبًا له معنًى، ولم يكن كذلك أحيانًا. حين لم يكن له معنًى، يدخل في عملية بارعة وملتوية لمحاولة نقل ما يقصده حقًّا. في أفضل الظروف يأتي شخص أو أشخاص بالكلمات نفسها ويقدِّمونها له. يتقبلها، وهو يومئ ولا يتكلم، آملًا حين يفتح فمه مرة أخرى أن يعود التواؤم بين مخه ولسانه.
أُصيب بسرعة بفزع من الاجتماعات، من الكلام أمام زملائه. بمجرد انهيار لغته وسط الإفصاح عن شكوى أمام مقعده، يلمس زملاؤه كئوسهم أو وجوههم ويحدقون فيه وينتظرون أن يواصل. يقف، في خوف شديد ولا يستطيع الارتجال، لا ينطق ويهز رأسه، ويخرج. حيَّاه بعضهم أحيانًا فيما بعد على إيماءته الشجاعة، وخجل آخرون.
بدأت ابنته تلاحظ تردده، رغم أنها لم تكن الطريقة التي تعبر بها. لكنه يستطيع أن يراها تشاهده، ببعض الارتباك. اكتشف أن سلوكه الشخصي السابق كان غريبًا جدًّا، لكنها تريد أن تعذره على كل شيء تقريبًا. كانت تشعر بأن هناك خطأً. في الليل، بعد أن تدَّعي أنها ذاهبة إلى السرير، يسمعها أحيانًا تتسلل خلال القاعات. قد يُغير موضعه على وسادته فوق الكنبة ويجدها في الخلف، في المدخل، تُحدِّق في مؤخرة رأسه.
تطلعت إليه بجدية وكأنها فهمت وبإيماءة عادت إلى السرير.
بدأ الكلب يتصرف بشكل غريب، يلهث بصعوبة حوله، ويبقى بعيدًا حين يحاول الاقتراب، ينسحب ببطء وذيله يتدلَّى. تساءل: هل أنا الشخص نفسه؟ ربما نعم، فكر، ربما لا. أو ربما لا باستثناء جزء من نفسه، ومهما يكن فإنه لم يتعلم قط أن يتكلم بشكل مناسب.
حاول أن يكون صديقًا للكلب مرة أخرى، مقدِّمًا له ما طاب ولذَّ، ويتعامل معه أحيانًا بأسنانه بحذر، حَذِرًا حتى من أن يمس يده.
في الفصل، حيث كان يثق من قبل في نفسه، صار عدوانيًّا حتى، صار عصبيًّا، ينتظر دائمًا اللحظة التي يثقب فيها سطح معدة لغته. اعتاد تقسيم طلابه إلى مجموعات صغيرة، والتحدث إليهم بأقل ما يستطيع. حاول قبل الدرس بعدة أيام، أن يتدرب على ما سوف يقوله ليدفعه إلى مجموعاته بأسرع ما يمكن، على أن يتملص من الأسئلة المحتملة أو يجيب عليها بسرعة. لكن بصرف النظر عن عدد المرات التي نطق فيها حديثه بشكل صحيح من قبل، كانت هناك دائمًا لحظة فعلية من التذكر جاهزة لأول من يريدها.
بدأ بدلًا من ذلك يجرب بدائل لكل جملة: في اللحظة الأولى من الانهيار يتحوَّل، يحاول التعبير عن الشيء نفسه بصياغة مختلفة للجملة، بكلمات مختلفة تمامًا. لكن إذا تكسرت جملة، وهو ما يحدث مرة أو اثنتين في كل حصة — تكفي غالبًا على أي حالة أن يتطلع إليه الطلاب، مثل كلبه، مثل ابنته، مثل زملائه، باستغراب — كان البديل أيضًا يتكسر عادة. لكن إذا لم تأتِ الثالثة مناسبة أتت الرابعة مناسبة، لأن عقله بحلول ذلك الوقت يكون قد عاد إلى مسار يسمح باتصال مباشر مع لسانه مرة أخرى.
وهكذا استغرق الأمر عدة أسابيع قبل أن يجد نفسه يقف أمام الفصل واختياراته كلها مستنفدة في أخطاء كلامية رهيبة، كل منها أفظع مما سبق، وازداد الوضع سوءًا حتى خشي النطق بكلمة أخرى. كان الفصل، كما لاحظ جزءٌ منه ملتفٌّ بعناية، أكثر انتباهًا بشكل مطَّرد من أي مرة أخرى في نصف السنة الدراسية، مستعدًّا بشكل خاص لتلقي المعلومات. لم يكن لديه ما يقدمه. وهكذا بدلًا من ذلك التفتَ، كتب شيئًا تافهًا على السبورة. طبيعة الشر. تأملْ وناقشْ. وفجأة استطاع أن يتكلم من جديد.
لبعض الوقت بدا أن الكتابة قد تكون خلاصه. في الفصل حين تبدأ كلماته تخرج مجنونة أو منقَّطة أو مغرغرة يلتفت إلى السبورة ويكتب ما يقصده. بدا ذلك حلًّا رائعًا، وكان عليه أن يعترف بأنه يبدو من الغريب أحيانًا أن يكف عن الكلام فجأة ويبدأ الكتابة. ويبقى أن ذلك يمكن أن يرفضه طلابه باعتباره مجرد شذوذ، أو محاولة لتجنب تكرار شيء ما مرتين.
في البيت، كانت هذه الاستراتيجية مشحونة أكثر، أكثر شحنًا. كلما حاول ذلك مع ابنته تبتعد قبل أن يجد قلمًا، ربما تعتقد أنه قرر تجاهلها. في أماكن أخرى أيضًا بدا ذلك غير عملي. في مطعم، يمكن للمرء أن يشير إلى شيء في قائمة الطعام لكن ذلك لا يُستقبل بشكل مناسب، وفي مرة حاول فيها هذا في موقف اجتماعي ساد اعتقاد بأنه يسخر من أصم.
لكن ذلك كان مفيدًا في مواضع أخرى. يستطيع التحدث إلى زملائه بكتابة ملاحظة أو بالبريد الإلكتروني طالما لم يكن حاضرًا بجسده. حاول أيضًا أن يترك لابنته رسائل مكتوبة على عجل، لكنها اختارتْ تجاهلها أو التظاهر بأنها لم ترَها. ذات مرة حين سألها عن رسالة، إن كانت رأتها، تطلعت إليه بثبات لبعض الوقت قبل أن تحرك عينيها في النهاية وتقول: «نعم، دادي.»
قال: «حسنًا؟»
«حسنًا، ماذا؟»
«ما ردك؟»
هزتْ رأسها. «لا رد.»
قالت: «كورفو؟ في اليونان؟ عم تتحدث؟ لا تمارس اللعب معي يا دادي.»
قال وغطَّى فمه: «سندوتش.»
قالت بغضب: «أنا هنا يا دادي. هنا. أنا هنا عادة. لن أتركك تعبث بي. إذا أردْتَ أن تطلب مني شيئًا ما يمكنك أن تفتح فمك وتطلب.»
كان يدرك أن المسألة ليست مجرد فتح فم. لم يجرؤ. سندوتش؟ أعتقد. جلس يُحدِّق فيها، ويده على فمه، يحاول أن يجمع شجاعته ليتكلم، ليخطئ في الكلام، حتى صرختْ، مرغية، صرخة واهية وخرجت من الغرفة.
•••
وحين تسوء حالته، يبقى صامتًا لساعات. مزحت ابنته، مشيرة إليه أحيانًا بسخرية باعتباره «الناسك»، كما في كيف حال الناسك العجوز هذا الصباح؟ وفي أحيان أخرى تتهمه بأنه مستغرق في خرفه. تساءل من أين التقطت كلمة خرف؟ ازداد معدل أخطائه في الكلام حتى شعر في النهاية أنه لا يستطيع مقابلة تلاميذه؛ في آخر بضعة أسابيع من نصف العام الدراسي اتصل يوميًّا تقريبًا يبلغ بمرضه، وربما جعل ابنته تتصل بدلًا منه. كان يرسل خطط الدروس بالبريد الإلكتروني، ويطلب من زميل أن يحل مكانه، وفي النهاية كتب رسالة إلى رئيس القسم يطلب تقاعدًا مبكرًا.
قالت ابنته له ذات مساء: «أنت وحيد، أنت في حاجة إلى الخروج أكثر.»
هزَّ رأسه نافيًا.
قالت: «تحتاج إلى لقاء. هل تريد أن أرتب لك موعدًا مع شخص ما؟»
هزَّ رأسه مؤكدًا النفي.
قالتْ: «حسنًا. موعد. سوف أرى ما يمكن أن أفعله.»
وماذا سيضع في إعلانه؟ أرمل وحيد، له ماضٍ طيب، فاقد القدرة على الكلام، يتطلع إلى علاقة خاصة لا تحتاج إلى كلمات؟ تأوَّه ورتب كل شيء في رزمة صغيرة مُنَسَّقة على ظهر مكتبه.
بعد ذلك ببضعة أيام، بدأت رسائل البريد الإلكتروني تظهر موجهة إلى «سيلفر فوكس» أو «الثعلب الفضي» أو، في حالة، إلى «السيد ف. سيلفر». كنَّ جميعًا نساء ادعين أنهن رأين «رسالته» وكنَّ «مهتمات». قلن جميعًا، بطرق مختلفة لكنها متشابهة في التفاهة، إنهن يردن أن يتعرَّفن عليه بشكل أفضل.
سحب ابنته وأراها الشاشة. قالت: «فعلًا؟»
أومأ. بدأ يكتب شيئًا تحذيريًّا لتقرأه لكنها تجاهلتْه، وأخذ كرسيه وتفحص رسالة كل امرأة.
قال: «لا. لا …»
كانت تقول: «وهذه، ما العيب في هذه؟»
قال: «لكنني لا، أي منهن، لا.»
قالت: «لا؟ لكن لماذا لا؟ دادي، قلْتَ إنك تريد موعدًا. سألتُك، دادي، وقلْتَ نعم.»
لا، فكَّر، لم يقل ذلك. لم يقل شيئًا. فتح فمه. قال: «دكتورة».
قالت: «دكتورة؟» ونظرتْ إليه بحدة، وضيقت عينيها. «هل أنت بخير؟»
لم يكن ذلك ما قصد أن ينطق به فمه، لم يكن إطلاقًا.
«أنت تفضل دكتورة؟» قالت ابنته وهي تدوس على كل رسالة بالترتيب وهي تتحدث. «لكنني لا أعتقد أن من بينهن دكتورة.»
لكن ماذا يفعل؟ تساءل. قبل كل شيء لا أحد يسمع، والأمر الثاني، إذا سمع، فهو نفسه لا يعرف، من لحظة إلى أخرى، ماذا يقول إذا قال أي شيء.
كانت هناك، تثرثر أمامه، ولا تسمع هي نفسها ما تقوله. تساءل: لماذا لا يخبرها أن ذلك الشيء خطأ خطير بالنسبة له؟ ممَّ يخشى؟
لكن لا، فكَّر، كانت نظرة الناس إليه بالفعل، أكثر مما يحتمل تقريبًا، وإذا امتزجت بالشفقة شعر بأنه لم يعد إنسانًا. الأفضل أن يحتفظ بذلك لنفسه، يحتفظ به أطول فترة ممكنة. وهكذا يمكن أن يبقى إنسانًا، جزئيًّا على الأقل.
في النهاية أخذها من كتفيها، وهي تعترض دفعها في صمت خارج الغرفة. بدأ يشعر بألم في رأسه، اندفع الألم في عينه اليمنى. أغلق بابه وعاد إلى الكمبيوتر يحذف الرسائل واحدة بعد الأخرى. رأى أنها كلها مكتوبة بعناية، وكل امرأة تحاول أن تقدم نفسها باعتبارها متميزة أو أصيلة أو ذكية لكنهن جميعًا يفعلن ذلك باستخدام إيحاءات إنشائية، الاستراتيجيات البلاغية نفسها، باستخدام التعبير نفسه أحيانًا، الذي تستخدمه الأخريات. هذا ما يعنيه الانغماس في اللغة، فكَّر، فَقَدَ القدرة على التفكير، التحدث بكلام الآخرين. لكن البديل الوحيد ليس الكف عن الكلام تمامًا. أليس كذلك؟ طبيعة الشر، فكر. عرِّفْ وناقشْ.
نظر مكتئبًا إلى آخر ثلاث رسائل. يا رب، شعر بألم في رأسه. الرسالة الأولى موجهة إلى «ثعلب فضي» مع ثلاث علامات تعجب بعد ثعلب. من شخصية تبنت لقب معجبة جدًّا بهاندل. تساءل: عاشقة الموسيقى أم المتهجية السيئة؟ حذفها. قبل الأخيرة كانت إلى «ف. سيلفر»، من «عجوز … لكن … حلوة». أوه، يا رب، فكر، وحذفها. الألم في عينه يبدو سكِّينًا تندفع فيها. بدأت العين تدمع. أغلقها بقوة قدر استطاعته وغطَّاها بيده. وقف ينقر على مقعدة، وتعثَّر في الغرفة، مصطدمًا فيما لا بُدَّ أنها الجدران.
كان شخص ما يطرق على الباب. «دادي»، ثمة شخص يطلبك، «هل أنت بخير؟» في مكان ما كلب ينبح. نظر بعينه السليمة ورأى فتاة في المدخل.
قال: «مُحْكَمة، كراتين»، وانهار.
•••
استيقظ على طنين، عرف أنه يأتي من اللمبة الكهربية، الفلوريسنت، الموضوعة في السقف فوق رأسه مباشرة. وابنته بجواره، تتطلع إلى وجهه.
فتح فمه وأغلقه مرة أخرى.
قالت: «لا، استرح فقط.»
أومأ. رأى أنه في سرير، ليس في سريره. كان هناك حاجز في كل ناحية لمنعه من الوقوع.
ادعت: «إنني ذاهبة لآتي بالدكتور. لا تتحركْ.»
مضت. أغلق عينيه وبلع ريقه. لا يزال ألم الرأس موجودًا، لكن قلَّ ولم يعد حادًّا جدًّا. أدار رأسه جانبًا وأعادها إلى وضعها مرة أخرى، وسعد لأنه لا يزال يستطيع القيام بذلك.
عادت ابنته والدكتور بجوارها، رجل عليه أثر الشمس، ضئيل الجسم، في حجمها تقريبًا.
قال الدكتور: «السيد هيكر؟» وضع ملفًا ولبس قفازًا مطاطيًّا. «كيف حالنا؟»
قال: «فخْذ»، وفكَّر في لعنة الرب.
«هل فخذك يؤلمك؟ نهتم برأسك، لكن سأُلقي نظرة على الفخْذ أيضًا إذا أحببتُ.»
هز هيكر رأسه. قال الدكتور: «لا؟ حسنًا، ثم. لا بالنسبة للفخْذ إذن.» أشعل كشَّافًا وحدَّق في العين الأولى ثم في الثانية. «أي صداع، يا سيد هيكر؟»
تردد، أومأ.
«عمليات جراحية في الرأس في شبابك؟ جراحات في الرأس؟ علاج بالكورتيزون؟ تحطم موتوسيكل بشكل سيئ؟ جروح في الجمجمة لم تعالج؟»
هز هيكر رأسه.
قال: «كيف حالنا الآن؟»
أومأ هيكر. فكر: جيد، جيد جدًّا. وفتح فمه فخرجت كلمة جيد.
أومأ الدكتور. نزع القفاز من يديه ووضعه في الزبالة. عاد وجلس على السرير.
قال: «رأيت أشعات إكس الخاصة بك.»
أومأ هيكر.
قال الدكتور: «ينبغي أن نتحدث. هل تحب أن تبقى ابنتك أثناء ذلك؟»
قالت ابنته: «بالطبع يمكن أن أكون هنا أثناء ذلك. أنا راشدة قانونًا.» سألتْ: «لكن هنا لماذا؟»
هز هيكر رأسه.
قال الدكتور «لا؟» والتفت إلى ابنة هيكر، وقال: «انتظري من فضلك في الصالة.»
ألقت ابنته نظرة على الدكتور وفتحت فمها لتتكلم، ثم صرخت بشكل غير واضح وخرجت. اقترب الدكتور وجلس على حافة السرير.
قال الدكتور: «أشعات إكس الخاصة بك، لا أريد أن أرعبك، لكن، حسنًا، أود إجراء بعض الاختبارات.» أخذ الملف من على الطاولة المجاورة للسرير وأخرج أشعات إكس، وأمسك بها فوق هيكر في النور. قال: «هذا الجزء المعتم، هل تراه؟ أهتمُّ به.»
تطلَّع هيكر. منطقة سوداء، بقدر ما يرى، تنتشر من جانب الجمجمة إلى الجانب الآخر.
قال الدكتور: «علينا إجراء بعض الاختبارات. هل تريد أن تعرف ابنتك؟»
تردد هيكر. هل يريد أن يخبرها؟ لا، فكَّرَ، ولم يكن متأكدًا من السبب. هل يريد حمايتها أو ببساطة حماية نفسه من رد فعلها؟ أم لم يعد ببساطة يثق في الكلمات، على الأقل حين تخرج من فمه؟ ربما يستطيع شخص آخر أن يخبرها. ربما عليه أن يكتشف ماذا يفعل حين يجب أن يفعل.
«ربما لا توجد حاجة إلى تخويفها قبل ظهور النتائج»، قال الدكتور، وهو ينظر إليه بدقة. قال: «لا حاجة إلى إصابتها بالهلع.» استدار وأخذ يكتب بياناته. «أية صعوبات؟ فقدان المهارات الحركية؟ مشاكل في الكلام؟ أي شيء غير طبيعي؟»
تردد هيكر. هل هناك ما يحاول تفسيره؟ «الكلام»، حاول في النهاية أن يقول، لكن لا شيء خرج. تساءل: لماذا لا شيء؟ من قبل، كان هناك على الأقل شيء ما، حتى لو كان الشيء الخطأ. هز رأسه محبطًا.
أخذها الدكتور على أنها تعني شيئًا ما. ابتسم. قال: «رائع إذن، رائع جدًّا في الحقيقة.»
بعد ذلك ببضعة أيام، بدأ، وهو ينتظر نتائج الاختبارات، يصاب بحالة هلع. فكر: في البداية أفقد اللغة كلها، ثم أفقد السيطرة على جسمي، ثم أموت.
بدأ يحاول طرد هذه الأفكار بعيدًا عن رأسه ولم يحقق نجاحًا يُذكر. الآن، وقد استقال من التدريس، لا يعرف ماذا يفعل. جلس في المنزل، يقرأ، يشاهد ابنته بطرف عينه. عانى وقتًا عصيبًا وهو يحاول عمل شيء مفيد. انتابه شعور متزايد بأنه خامل وبلا فائدة. اعتقد أنها غافلة، لم تكن لديها فكرة عما تشاهده، أولًا يفقد ما تبقَّى من الكلام، ويتحلل ببطء، ويضيع. كان عليها أن تمر بذلك، ربما عليها أن تدعو ليموت قبل أن يصل إلى ذلك بوقت طويل.
فكر: وهذا ما سوف أكون.
قال لنفسه: من الأفضل أن تموت بسرعة، بهدوء، وتحفظ نفسك والقريبين منك. أكثر إجلالًا.
دفع الفكرة إلى أسفل. بقيت ترتفع.
كانت ابنته تحاول أن تعطيه التليفون. كان الدكتور يطلبه ليبلغه نتائج الاختبارات. «قياسية»، قال هيكر في السمَّاعة. كان الدكتور قلقًا بشأن ما عليه أن يقوله، بشأن أن يقوله بشكل صحيح، بألطف طريقة ممكنة، بأكثر الكلمات التي يمكن تخيلها حيادية، ليلاحظ.
ادعى الدكتور أن النتائج عززت شكوكه. أراد أن ينصح هيكر باختصاصي، جرَّاح مخ، جرَّاح بارع، من أبرع الجراحين. يفتح جمجمة هيكر من موضع مناسب، ليُلقي نظرة على ما يحدث، ويُقيِّم إن كان من الممكن استئصاله. إذا كانت هناك أي نقطة في …
قال الدكتور بعصبية: «لم أقصد ذلك. هناك نقطة دائمًا. أعبر عنها خطأً.» كان المصطلح المناسب لوصف ذلك هو جراحة استكشافية. هل فهم؟
«نعم»، نجح هيكر. «هل كانت مقصلة السمك ساكنة؟»
«هممم؟ ضروري؟ إنني خائف جدًّا يا سيد هيكر.»
أراد أن يعرف: بأي سرعة يمكن للسيد هيكر أن يرتب أموره؟ ليس لوجود خطورة فورية، لكن الاحتياط أفضل من الندم. أراد أن يعرف: متى يكون السيد هيكر قادرًا على ترتيب موعد للجراحة الاستكشافية؟ هل لديه اهتمامات؟ هل كانت هناك أسئلة متبقية يريد إجابة لها؟
فتح هيكر فمه ليتكلم لكنه شعر أن أي شيء يقوله سيكون خطأً، ربما بطرق عديدة في وقت واحد. وهكذا وضع السمَّاعة.
«ماذا كان يقول؟» كانت ابنته تسأله.
قال: «لا أحد. مكالمة خطأ.»
•••
فكر وفكر: في البداية أفقد اللغة كلها، ثم أفقد السيطرة على جسمي، ثم أموت.
كل ما يستطيع تصوره بوضوح وهو يفكر في ذلك ابنته، حياتها معوقة لشهور، وربما سنوات، بهذا الموت التدريجي البطيء. من حقها عليه أن يموت بسرعة. فكر: ربما معاناة ابنته كل ما يستطيع التفكير فيه لأن معاناته أصعب من أن يواجهها. حتى في الحالة التي كان عليها، مجرد فقْدٍ جزئي للغة، الحياة لا تُحتمَل تقريبًا.
فكر: في البداية. ثم. ثم.
تذكَّرَ أنه لم يفكر في موت أبيه منذ سنوات، انتقال تدريجي إلى الشلل، حتى صار الرجل تقريبًا قصبة هوائية تصدر صوتًا في سرير في مستشفى وعينين من النادر أن تفتحا، وحين تفتحان تكونان مفعمتين بالخوف.
فكر: الابن مثل الأب.
فكر: في البداية. ثم. ثم.
رقد في السرير يُحدِّق في السقف. الوقت متأخر جدًّا، وابنته نائمة، ترك سريره وتسلق إلى العلية وأخذ بندقيته من جرابها ونظفها وعمَّرها. حملها ونزل بها السلَّم ودسها تحت سريره.
فكر: لا، لا في البداية، لا ثم.
في سريره مرة أخرى، يُحدِّق، يفكر. بدا أن طبيعة الغرفة تغيرت. أدرك أنه لا يستطيع تحمل قتل نفسه وابنته في المنزل. سيكون هذا مفزعًا لها، أكثر فزعًا من أن تراه يموت ببطء. كان أمرًا رهيبًا جدًّا بحيث لا يستطيع التفكير فيه. لا، هذا غير مناسب، عليه أن يخرجها.
لكن منذ كان في المستشفى وهي ملتصقة به تلاحظه، لم تبعد قط. تسأل باستمرار عما يعاني منه، عما قاله الدكتور، لماذا لم يُسمَحْ لها بأن تسمع؟ وبعد ذلك ماذا قال الدكتور في التليفون؟ تُقدِّم له باستمرار أكوابًا من الحساء فيأخذ منها بضع رشفات ويتركها تفسد على أرفف الكتب، رف المدفأة، حافة النافذة. قالت: ليس عدلًا، ليس لها إلا هو، ليس لكل منهما إلا الآخر، لكن طريقة تصرفه تجعلها لا تشعر بالانتماء إليه. ماذا قال الدكتور؟ ممَّ يعاني بالضبط؟ لماذا لا يقول لها؟ لماذا لا يتكلم؟ قالت له إن كل ما عليه فعله أن يفتح فمه.
لكن لا، لم يكن هذا كل شيء. لا، لم يكن الأمر بهذه البساطة. نعم، عرف أنه ينبغي عليه أن يخبرها لكن لم يعرف ما يقول أو إن كان يستطيع قوله. ولم يكن يريد أن تشفق عليه، أراد أن يكون كما كان دائمًا بالنسبة لها، أباها، لا عجوزًا يُحتضَر.
لكنها لا تهدأ. تصيبه بالجنون. إذا أرادت مشاجرة فسوف يتشاجر. التفت إليها وقال، بفصاحة تامة: «أليس لك مكان؟»
قالت بحدة: «بلى. هنا.»
«قطط سمان»، أخطأ في الكلام، وفجأة نأى بوجهه يائسًا مرة أخرى.
أعد قائمة طلبات من البقال، قائمة طويلة، وأعطاها لها. حدَّقت فيها.
قالت: «طلبات من البقال، دادي؟ منذ متى لك علاقة بطلبات البقال؟»
هز كتفيه.
قالت: «إضافة إلى ذلك عندنا نصف هذه الطلبات. هل فتحت الخزائن؟»
أخذ يعاني من مشكلة مع إحدى أصابعه. أخذ ينثني وينفرد وحده كأنه لم يعد جزءًا من جسمه. أخفاه عن ابنته تحت فخذه حين يجلس، وشعر به يتلوَّى مثل دودة نصف ميتة. حدَّق هو وابنته، كل منهما في الآخر، من الكنبة والمقعد بالترتيب، وهي تواصل مطاردته بالأسئلة، وبقي صامتًا، متجهمًا.
أكل وهو يمسك الأدوات بشكل أخرق، لكي يُخفي الإصبع الشاذ عنها. اعتبرت ذلك عملًا استفزازيًّا، واتهمته بأنه يتصرف مثل طفل.
استمر الوضع على هذا الحال ثلاثة أيام أو أربعة، وكل منهما في مأزق، حتى صرخت فيه في النهاية، وحين لم يرد عليها، غادرت المنزل. شاهد الباب يُغلَق خلفها. كم من الوقت تبقى في الخارج؟ تمنَّى أن تبقى وقتًا كافيًا.
أخرج البندقية من تحت سريره وسندها على الكنبة واتصل برقم ٩١١.
«أي طارئ عندك؟» ردت امرأة.
قال لها: «قتلتُ نفسي. أسرعي من فضلك. غطِّي الجسد قبل أن تعود ابنتي إلى البيت.»
لكن الوضع لم يكن على هذا النحو. ذلك ما قاله عقله فقط، ونطق لسانه بشيء مختلف تمامًا.
«اعذرني؟» قال صوت العاملة.
حاول من جديد، كان صوته مشدودًا جدًّا.
قالت العاملة: «هل هذه مكالمة هزار؟ ليست تسلية.»
لفَّه الصمت، وحاول أن يلم شتات نفسه.
قالت العاملة: «سيدي؟ أهلًا؟»
تطلع في يأس إلى الغرفة. ينظر الكلب إليه في تصميم، وأذناه منتصبتان. التقط البندقية، وقرَّبها بإحدى يديه من السماعة، وأطلق طلقة على الحائط خلف الكنبة. آلم ردُّ الفعل رسغه فسقط السلاح منه. خرج الكلب من الغرفة يعوي مسرعًا.
وضع السماعة على أذنه مرة أخرى. كانت العاملة تتحدث بشكل أكثر إلحاحًا. أغلق السماعة.
التقط البندقية مرة أخرى، جلس على الكنبة. آمل أن يأتوا بسرعة، وأن يكون ذلك بسرعة كافية، قبل أن تعود ابنته. مال إلى الخلف، أغلق عينيه وحاول أن يستجمع شجاعته.
حين هدأ مرة أخرى، وضع جذع البندقية بين باطن قدميه ووضع الماسورة ناحية وجهه. بعناية وضع طرف الماسورة في فمه.
عادت ابنته. سمعها تفتح الباب الخارجى وتدخل الغرفة ووجهها شاحب. من الواضح أنها تبكي. دخلتْ وشاهدتْه وتوقفتْ متجمدة، ثم وقفت والدماء تهرب من وجهها. بقيا على ذلك الوضع، يُحدِّقان، ولا أحد منهما يهتم بمن منهما ينأى ببصره أولًا.
انتظر، متسائلًا أي كلمات يمكن أن يستخدمها، ماذا يقول لها. كيف يخرج من هذه الورطة؟
قالت أخيرًا: «دادي. ماذا تفعل؟»
وحينذاك جاءته الكلمات.