منزل حجري
«آخر مرة شعرتْ فيها بالأمان»، بهذه الطريقة تختم كيت قصة المنزل الحجري. جون لا يستمع. يدخل إلى غرفة نومها بفراولة مغسولة بعناية وقشدة مضروبة في إناء أزرق صغير. يشبه مشهدًا سينمائيًّا، تعتقد كيت، مشهدًا سينمائيًّا عاطفيًّا رائعًا. في فيلم، رغم ذلك، قد تختفي بشكل سحري أغصان الفراولة والبقع الحمراء على المفارش.
يبتسم جون، ابتسامته بعيدة. «الفراولة العضوية أفضل.» تفهم كيت أنها ليست المرة الأولى التي أكل فيها فراولة في سرير امرأة. تشعر بقلبها يضرب بقسوة، مدفونًا تحت الملابس والجلد، رافضًا التوقف.
هناك قصة أخرى يمكن أن تحكيها له، لكن ما جدوى ذلك؟ في هذه القصة، كيت في التاسعة في منزل ساحلي مع أبويها، منزل ساحلي في أمريكا، لا فرنسا؛ مشيد من الجص الوردي لا الحجارة. فلوريدا، حيث تشرق الشمس طوال اليوم والسيارات بيضاء وتركواز، لون الدمى التي تعمل بمفتاح. تقف أمها قرب المدخل، تنادي عليها، لا تبتسم، نفد صبرها. كيت متأخرة دائمًا. في الذهاب إلى الشاطئ؟ ما أهمية ذلك؟ شعر أمها الرمادي مدفوع إلى الخلف بتوكة قديمة. لون شعر الأمهات الأخريات متألق، طافٍ بشكل سحري على وجوههن النضرة. لا تصبغ سولان شعرها باللون الأشقر أو ترشه برذاذ الشعر. لا تضعه على كتفيها.
كيت تخاف من كل هذه الرمال، قناديل البحر المجففة، المياه التي تتراجع وتندفع في نوبات مفاجئة تحت قدميها. تستدير لتعود جريًا إلى أمها. هنا تتوقف الذاكرة، أين أمها؟
يوم أخبرت كيت جون بمرض أمها، أمسك بوجهها وتتبع عينيها المبللتين بأصابعه. الآن ربما لا تستطيع كيت أن تخبره بالحقيقة: لا تبكي من أجل أمها. تبكي لأنه رجل عاش في أماكن كثيرة جدًّا وطنه ليس من بينها. أمها تُحتضَر ولا تشعر إلا بارتياح. منذ كانت طفلة وهي تتمنَّى اختفاء أمها؛ تمنت أن تكون العلة الأخيرة. تزحف الآن عائدة إلى السرير. وضعت يدي جون عليها، في الانحناءات الضيقة بين وركيها وبين ثدييها. يداه دافئتان بصورة مدهشة.
يقول جون فجأة: أحب الطريقة التي تنطقين بها كلمة بالضبط. تستخدمها معظم النساء ليقطعن طلباتهن: مثل أودُّ بالضبط أن تحدثني عن يومك؛ أودُّ بالضبط أن تُحبني بقدر ما أحبك. أنت لا تطلبين بهذه الطريقة.
تقول كيت: «لا أريد شيئًا.»
«أمر مدهش فيك. أحب ذلك فيك.»
أوه، يا لها من كذبة كبيرة. جون هو الذي لا يحتاج شيئًا، لا يريد شيئًا. إنه سرخس هوائي. لكن كيت تدرك أنها تريد الكثير جدًّا. تريد منزلًا حجريًّا وكلبًا مدللًا وطفلًا. تريد التطلع إلى جون كل صباح في حياتها. تريد غمر نفسها في الوصلات الغريبة في وجهه، المراوغات الضئيلة في تعبيراته، الطريقة التي يميل بها أنفه إلى اليسار قليلًا، الارتفاع الكبير لعظام وجنتيه. تريد ضمه إليها، الزحف بين ذراعيه، وأن تكون ضرورية له كالماء. يمكنها أن تقسِّم هذه الرغبات بعناية؛ لكنها تدرك في النهاية أنها إضافة لكتالوج الرغبات نفسها، القدر نفسه من الاشتياق. الآن، يمكنها الاختباء في شقوق جسمه، في جلده القوي. يمكنها تغطيته مثل سر. يمكنها لف كاحليها حول كاحليه، يبدو أنهما يتحركان دائمًا، يجريان منها، يجريان حتى أثناء النوم.
يتجمد في ذاكرتها: يوم كانت وحدها دون سابق إنذار على شاطئ صاخب مزدحم. كيف حدث هذا؟ كانت أمها هناك دائمًا، تأخذها من المدرسة والفتيات الصغيرات الأخريات يركبن الباص، أو تنتظرها بعد درس الباليه، تنظر من زجاج نافذة كبيرة وكيت تتدرب على الوضع الثالث ثم تناديها بعد ذلك «يا فيلتي الصغيرة.» تقول هذا كأن كيت عبء آخر يوضع في حياتها، طفلة ضخمة جدًّا، تفتقر تمامًا إلى الكياسة، حتى جوارب الراقصين، الوردية، لن ترفعها عن العيوب الأمريكية. الأطفال الفرنسيون ليسوا سمانًا، تقول لكيت، تقول ذلك سلطة طاغية في ذلك الصيف الذي يزورون فيه باريس، تتطلع كيت في كل مكان بحثًا عن وزن زائد. لكن الأطفال الفرنسيين نحاف. يطيرون في شوارع متعرجة وفي ردهات الأنفاق، تاركين كيت لا تفعل شيئًا إلا عد إعلانات نبيذ دوبونيه وهم يسرعون في نفق المترو.
في ذلك اليوم لا يمكن أن تنسى كيت، تتطلع بشغف لكرسي شاطئ وأمها تقف أمامه، ترتدي بلوزة بيضاء سادة، وبنطلونًا أزرق غامقًا. سولان فرنسية، لكنها ليست فاتنة. لا تضع مكياجًا، ولا أحمر شفاه. قامت كيت بعمل سيئ لتنصرف. كيتي، حين أعد إلى عشرة، من الأفضل أن تكوني في هذا المنزل. تحب سولان استخدام التعبيرات الأمريكية. حين تفقد كيت الدمى بعدم التقاطها تقول، الطريقة التي ترتبين بها سريرك هي الطريقة التي سوف تنامين بها فيه. حين تمزح كيت بتهريج بشع مع ولد صغير، تصرخ أمها، من يسكن بيتًا من زجاج لا ينبغي أن يرمي الناس بالطوب.
حين تغضب أمها، تظهر خطوط ضيقة حول عينيها. تغمض كيت عينيها نصف إغماض لتتخيل أمها معها، وعن بُعد بقعة صغيرة بيضاء وزرقاء. تضع قوقعة على أذنها، قوقعة أنقذتها من المد، تسمع صوت أمها: عودي إلى هنا.
لماذا لا تتذكر أنها موجودة؟
تحتفظ كيت بقواقع ذلك الصيف. تلفُّها في مناديل ورق وتدسها بعناية في صندوق صغير من خشب الأَرز. يحب جون ذلك فيها: شغفها بالتذكارات. يحب ألبومات صور متعاقبة دون ترتيب ودون تواريخ. يحب صناديق مجوهراتها الممتلئة، لخبطة الحلي الفضية والسلاسل الذهبية، الحقائب الصغيرة الممتلئة بالعملات الفرنسية والإيصالات القديمة.
يقول لها إنه رآها تقف أمام محل ملابس كانت مغرمة به دائمًا لكنها لم تشترِ منه قط، شاهدها وقد بدأت تضحك، تسخر من التكلفة الباهظة لتمني الأشياء الجميلة — طريقة الحصول على الممكن — فقرر الاقتراب منها. لمس يدها برقة حتى لا يخيفها وقال: أردتُ فقط أن أقول لك كم تبدين سعيدة. لم أرَ قط شخصًا يبدو بهذه السعادة. ما تخبئه كيت مدى تعاستها؛ إنها محطمة، تقول أمها إنها لا تساوي شيئًا، وترى كيت بوضوح تام حتى الثمن المرعب للرغبة في شيء جميل مثل جون. لكن حين يلمس ذراع كيت، تشعر فجأة بسعادة مفاجئة، وبعد ذلك أيضًا، وهما ينتظران فتح المحل، وتُجرِّب كل الملابس الغالية، ملابس بيضاء تتشكل على بشرتها، ثنية الحرير وفتحته فوق رأسها، مظلات فضية وذهبية. لا تشتري شيئًا، لا يمكن أن تشتري شيئًا، لكنها لا تجد ما تُعبِّر به عن نعومة الملابس حين تتجرأ وتلمسها. وبعد ذلك، حين تئن، يندس على جسمها مثل فستان غالٍ. بعد ذلك بوقت طويل تتساءل كم لمس بهذه الصورة في حيوات النساء الأخريات، كيف فتحها وابتعد فجأة بدون أن يترك أثرًا.
«كم عمرك هنا؟» يسأل جون، وهو يُقلِّب في ألبوم صور أخرجته ونفضت الغبار عنه. يشير إلى صورة فتاة صغيرة تقف حافية تخبئها الأشجار. ينتظر مكالمة من «صديق». يدَّعي أن مجلة تُرسله للسفر في مهمة. نظرة الفتاة في الصورة مهيبة.
تقول كيت: «ليست صورتي. إنها أمي.»
«لا يمكن، ليست في لونها.»
تنظر كيت من جديد. الصورة صورتها، كيت، مع تعبير ثعلبي حاد على وجه أمها. فيها الكثير من أمها رغم كل شيء. الدروس في قيمة الأوشحة الحريرية الغالية مع أسماء صغيرة منقوشة في الزوايا. كيف تضع عطرها في مراحل بحيث يبقى: في البداية الصابون، ثم المسحوق، ثم لمسة في الرسغ، الصدغين. سقط شعر أمها من العلاج الكيميائي، وظهرت علامات كبيرة على شكل حرف إكس على جانبي رأسها الأصلع حيث يُسلَّط الإشعاع. أحبك، قالتْ لها كيت في البداية، منذ ستة أشهر، بشكل حلو، بشكل زائف، أحببتُكِ دائمًا.
لم تقولي ذلك من قبل قط، ردَّتْ أمها، بصوت مزعج، وهي تهزُّ رأسها، غير متسامحة حتى النهاية. لم تقولي ذلك قط وأنا على قيد الحياة. ابتعدتْ عن يد كيت بآخر ما تبقَّى لديها من قوة. تُذكِّرها بأن حب أي شخص مثل غزو بلد: بصرف النظر عما تقطعينه عبر الحدود تبقين غريبة.
«أين تم التقاطها؟» يسأل جون بتكاسل، عن الصورة. يمسك بالتليفون، ينقره على وركه. ربما يقيم علاقة غرامية مع ممثلة مشهورة، تغيِّر اسمها ورقمها أسبوعيًّا، وتنزل في فندق رائع باسم دورثي باركر، أو، على الأرجح، ويلما فلينستون.
حين تحكي كيت هذه القصة لجون، تحشوها بالتفاصيل، ما لا تستطيع تفسيره. على سبيل المثال: كيف عرفت أمها اللغة الألمانية؟ والمحير أكثر: لماذا يقدِّم لهما الجنود الغاز النفيس؟ لماذا يتركون سولان وأمها في حالهما؟
بالعودة إلى السرير، يكون اللحاف الفضي مثل إطار للبشرة الذهبية، بشرة جون. يهتز بجوارها في الضوء الخافت. أذنه تتجه إلى التليفون. كيت مجرد خلفية. ستكون الخلفية دائمًا. تتخيل سولان ميتة تناديها من القبر: لماذا ألبستني أزرق في الجنازة؟ أردتُ الأحمر. قلتُ لك الأحمر. كيت، لا تركزين أبدًا.
كيت خارج القصص. يعرف جون كل ما يستحق اهتمامًا. حتى الأشياء الحقيقية: سوف تموت أمها. يعتقد أن كيت ستكون شجاعة فيما يتعلق بهذا، لكنها لن تكون شجاعة. سوف يرحل. سوف تريده وتبكي بمرارة.
«ربما يرسلونني إلى برشلونة مرة أخرى»، يقول جون، وكأن قضاء الوقت في تلك المدينة الإسبانية الجميلة أسوأ من الموت. تدرك كيت أنها لم ترَ فعليًّا أي مقالة كتبها جون عن السفر.
«ربما تذهب أيضًا»، تقول كيت بجفاف. يُحدِّق كل منهما في الآخر لحظة. يغلق عينيه ويحلم، على ما تعتقد، بجياد تجري. تريد أن تسخر منه، تعرف أن عليها أن تسخر من جياده وآنية الحساء الأحمر، ولا تستطيع. لا تستطيع أبدًا.
حين تأتي المكالمة التليفونية، يستعد جون. ليست في الوطن. كلَّفته المجلة بمهمة، يكتب ملحوظة صغيرة ويلصقها على الثلاجة. يريد أن يجنِّبها، أو يجنِّب نفسه، المشهد. لا يضيف إلى أين يذهب. تجد قميصًا قديمًا على عمود السرير، ولا تجد تفسيرًا. يحتمل ألا يكون هناك تفسير. يرحل الناس ببساطة لأنهم يريدون الرحيل. تشحب ذكراه ببطء، مثل ملابس قديمة كثيرًا ما ذهبت للمغسلة. يصبح شبحًا مثل سولان.
مع أن ذلك محير، محير حقًّا، حين مضى على ذهاب جون وقت طويل وأمها، بالطبع، ميتة، تستيقظ كيت ذات صباح بذكرى أخيرة واضحة.
لم تتركها أمها. أمها هنا على الشاطئ، وليست غاضبة. ذهبت لتأتي بالغداء، وتعود بسرعة، تضحك وتحمل أطباقًا فضية عليها بطيخ أحمر بارد، وشرائح مجعدة من الجبن على أطباق صفراء ساطعة. وكيت في حالة هلع لأنها تحب أمها كثيرًا ولا تحتمل أن تبتعد عن عينيها ولو للحظة. يسطع الشاطئ مثل عاج مصقول تحت قدمي كيت الصغيرتين، وهي تلتقط قنديل بحر ولا تخاف. وحين تقترب من سولان، تبتسم في دهشة وتضرب شعر كيت وتناديها قردة، قردتي الصغيرة. أوه، إنها أمها، أمها رغم كل شيء. انظري إليَّ، تصرخ كيت لأمها، انظري إليَّ، وتعدو حتى تمد أمها يدها وتقربها منها، تقربها وتتأكد كيت في تلك اللحظة أنها تستطيع الغوص في جلدها والسباحة في ذلك الجدول الأحمر الدافئ إلى قلبها مباشرة.