صحبة الرجال
لبضع سنوات كان في حوزتي معطفان واقيان من المطر تفوح منهما رائحة الويسكي والسجائر وعطر ما بعد الحلاقة. كانا أحمرين فاتحين مخططين بخطوط من الصوف، احتفظتُ بهما في كرتونة على رفٍّ فوق التواليت في شقة صغيرة كنتُ أعيش فيها وحدي. ثم وأنا على وشك الزواج وأريد التخلص من عيوب كثيرة جدًّا، وكثير جدًّا من عادات ورغبات بلا جدوى، آمنتُ بأن عليَّ أن أكف عن السير على هُدى الماضي، رميتُ المعطفين في كوم الإحسان وفقدتُهما للأبد. ما يتبقَّى الآن هو صورة واحدة أعود إليها من وقت إلى آخر، لشابين يرتديان معطفين لونهما أحمر فاتح يتسكعان تحت سماء مُظلمة.
حين حان وقت انصرافي — والعادم ينطلق من خلف الأتوبيس وبدأت أوجه المسافرين تظهر في النوافذ خلف الأمطار الغزيرة — تحولت الرغبة في البقاء إلى ولع. لكن كانت معي تذكرة بنصف الثمن إلى سيدني في الصباح وتأشيرتي السياحية على وشك الانتهاء.
«تُريدين البقاء والشرب معنا»، قال جيمي، وأنا أقف وأضع عشرين على البار. التقطها ووضعها في الجيب الخلفي لبنطلونه الجينز. ترك كأس المارتيني، ووضع خلة بين أسنانه، ومال ناحيتي، اقترب حتى شعرتُ بنفسه السكران في رموشي. أخذتُ زيتونة ووضعتها بين أسناني، ثم أعدتُها إليه فيما يشبه القُبلة.
قال: «ما زلْتِ مبلولة». خلع معطفه الواقي من المطر.
قال ري: «لا تُعطها هذا، أيها الخاسر».
قال جيمي: «سهلة، يا ولد». ثم هز كتفيه ووضع المعطف على كتفيه. أخرجتُ لساني لري وخرجتُ من الحانة في المطر وركبتُ الأتوبيس.
في كل مكان في سيدني رأيتُ أُناسًا أعرفهم. خرجتُ من محطة مترو الأنفاق إلى الشمس، وكانت هناك فتاة من مسكني في بداية الدراسة الجامعية، تجلس على محطة أتوبيس، أو الرجل المتزوج الذي كنتُ معه في لندن قبل عام، منطلقًا في سيارة أجرة. قد أُطوِّح ذراعيَّ في الهواء لأُحييهم، وحين يلتفتون إليَّ، تتلاشى أوجه من أعرفهم في حيرة أوجه الغرباء. فكرة العودة للوطن لا تفارقني، وكانت هناك أسباب وجيهة لعدم العودة. سافر أبي إلى الخارج مرة أخرى، قبل أن أسافر، وأظن أن تلك المرة للأبد. «عند نقطة معينة يجب التسليم بالأمور»، كان هذا ما قاله، ليس لأمي لكن لي. عرفتُ أنني كنتُ أُيسِّر الأمر عليه، بالبقاء بعيدة، متخلية عن السبب، لكن الزمن والبعد قتلا حِسَّ المسئولية عندي. وهدَّأ من روعي إيماني بأن أمي قد تكون متألمة وحزينة فقط، لكنها ليست يائسة أو في حالة تدعو إلى اليأس.
انبهرتُ بتغير الفصول، التحول من جو ضبابي ممطر في شهر مايو إلى برودة رمادية واضحة لما كان صيفًا في الوطن. اقتربت الإجازات وبدأت الأيام تطول وتزداد حرارة وترقبًا. في اليوم الأخير من عملي كاتبة، أخذتُ الطريق الطويل إلى البيت خلال المنتزه وتوقفتُ عند السياج المشرف على ميناء سيدني. كانت دار الأوبرا تومض باللون الأبيض، فخمة عن بُعد، والمياه تتلألأ، والبدر الأزرق يطفو منخفضًا في السماء. امتلأتُ بفراغ هائل، بحُريةٍ رائعة، وكنتُ كحالي دائمًا حريصة على البقاء والاستمتاع والتشبع بهذا كله. لكن ماذا تفعل بشعور مثل هذا؟ مثل لحظات الوحدة الأخرى في سنوات الترحال تلك، جبال الهيمالايا في العتمة بعد يوم بارد أمشي فيه وحيدة، سطح شاحنة على البحر الأدرياتيكي في شمس ساطعة، باريس تحت تساقط الثلج المخملي. متصنَّعةً وشديدة الخصوصية ومملة. واللحظات الأخرى الأكثر ظُلمة تعني أكثر، بشكل نهائي، المسرحيات التي بدأتْ غالبًا في الحانات، حيث تستقيم الحركة الدوَّامة في المساء وتشتعل في شكل إنسان ولم تكن هناك فقط احتمالية الرغبة، واحتمالية أن تكون موضوعًا للرغبة، لكن احتمالية لقصة فقر أو إدمان أو خداع. هناك وعد بمعرفة جديدة — شكل أُذن، رائحة المسك — أو تحوُّل في رأي المرء في نفسه وفي العالم.
قال: «هاي كاترين.» أخذ مقعدًا على جانبي وأخذ ري مقعدًا على الجانب الآخر. استدرتُ باتجاه ري. نظر إليَّ بوجه خالٍ من التعبير وأخرج لسانه. أخرجتُ لساني وضحكنا، وكأنها الطريقة التي يرحب بها كلٌّ منا بالآخر كل ليلة جمعة على مدى عقد من الزمان. شجعني ضحك ري، وأزعجني أيضًا. كان بشعًا جدًّا، ذاتيًّا جدًّا، ليفتح فمه بتلك الضحكة. ثم يكون مجرد أسنان وعينين ساطعتين، وتتجعد جبهته مثل قطعة من الكتان. لكنني علمتُ أنه يستطيع غلقه مرة أخرى في لحظة فأندهش مما فعلتُ.
استخدم جيمي كارت والد ري وطلب مارتيني لنا جميعًا، وبدأنا نشرب بقوة وسرعة. بدأ ري يتحدث.
قال جيمي: «كانت مهتمة بالزهور والخرا.»
قال ري: «نعم، لكن أصفر فقط. زرعت فناءها الأمامي كله بها — ورود والتوليب وأي زهور أخرى. سجلوا ذلك حتى في الورق، مع صورتها وهي ترتدي ثوبًا أصفر. ثم ابتعدتْ إلى الأسمر وباعت أمها المنزل ولم نرَها لبعض الوقت. وفجأة، تظهر في الصيف الأخير على الرأس. وكانت السيارة لا تزال معها. كان جيمي في ميامي يعمل على مركب ولم يكن هناك إلا أنا وياسمين، نجلس طوال الليل نتعاطى الكوكايين، نلف بالسيارة في الموستانج. وفي المقعد الخلفي كانت تضع كل تلك الآنية التي صنعتها على عجلة الأواني في المدرسة، مثل العشرات منها، كانت كلها مزروعة بالزهور الصفراء.»
حدَّق ري أمامه مباشرة وهو يتكلم، إلى صفوف الزجاجات المصفوفة على البار. توقف ورشف رشفة من كأس المارتيني.
قلتُ: «وماذا حدث؟»
«حسنًا تنتقل هي إلى كارولينا مباشرة، لحضور السنة الأخيرة؟ ونقضي نحن السنة كلها بشكل أفضل معًا، ونتحدث عن الانتقال إلى نيويورك بعد التخرج. كنتُ أتصرف، وعرفتُ أنني أستطيع الحصول على شقة وعلى كل شيء. وبعد الاختبارات النهائية مباشرة، تأخذ خمسة آلاف دولار من مخبأ في غرفتي وتنفصل. تخرج بسيارتها من كاليفورنيا وتتسكع مع بروفيسور متأنق — كبير، في الأربعين تقريبًا، وحصلتْ على وظيفة هناك — وأعرف بالأمر كله عن طريقة بطاقة ترسلها إليَّ.»
قلتُ لري: «يا إلهي، لا بُدَّ أنه كانت هناك مؤشرات، على أنها ستُنهي العلاقة وتنصرف بهذه الطريقة.»
قال ري: «ربما. لكنني لم أقضِ وقتًا مثل هذا مع أي شخص آخر.»
قال جيمي: «باستثنائي.»
«حتى أنت يا جيمي، يا ولدي.»
كنتُ أستمع إلى ري وكوعاي على البار وذقني في يدي، بقوة يمكن أن تتغلب عليك حين يكون لديك كمية كبيرة تشربها. بدت قصته غريبة وحزينة، لا تُنسى. وري يتكلم، واصل الشرب وترك ظَهر يده يسقط على ذراعي على البار. ترك وركه يحك في ركبتي تحته. بدا أن هذا هو الترتيب. مع الشرب واليدين الجوَّالتين والعينين الحلوتين والنظرات الجميلة، كان دور جيمي لفت أنظار الناس إليهما، ودور ري — بقصصه وبعينيه الحزينتين — أن يُبقيهم هناك. يمكن أن يبقينا هناك حتى لا نستطيع في النهاية احتمال سماع القصة مرة أخرى، ثم ينقذنا جيمي، بالشرب أو أغنية أو بجري همجي في الظلام خلال المنتزه.
غنَّيتُها أنا وجيمي مرة بعد أخرى، وبعد بعض الوقت بدا أن ري وقصته يتراجعان فلم يعد هناك إلا جيمي وأنا وتلك الأغاني وتألق أزرق مفعم بالدخان في البار. آخر ما أتذكره من تلك الليلة الأولى الوقوف عند صندوق الموسيقى في آخر طلب، محاولة بصعوبة وضع رُبع دولار في الفتحة لنغنِّي تلك الأغنية مرة أخيرة.
في صباح اليوم التالي، استيقظتُ بكامل ثيابي تحت الغطاء وحذائي موضوع بعناية بجوار السرير. لم يكن هناك دليل واضح على المودة؛ لا احتكاك أو سوائل أو روائح غريبة. لم يكن هناك رقم تليفون أيضًا، لا شيء مكتوب على كفِّي أو على منديل موضوع في جوربي. قضيتُ النهار نائمة بتأثير الشرب واستيقظتُ من وقت لآخر لأتساءل كيف يمكن أن أتتبعهما — جيمي وري — ولم أكن أعرف اسميهما الأخيرين. حين نهضتُ أخيرًا وأخذتُ حمَّامًا، كان وقت الأصيل، والفتيات الألمانيات يشاهدن التليفزيون. بدأتُ خطابًا إلى أمي. كتبتُ أشياء أعرف أنها تحبها: ادخرتُ بعض النقود، اندمجتُ مع رفيقاتي، واستمتعتُ بالحي، كل المحلات، الميدان، المقاهي في الهواء الطلق. لم تكن هناك حاجة لأن تعرف أنه قلب حي البغاء القذر، والشوارع مرصوصة ببائعي العقاقير والعاهرات ونوادي العُراة والحانات. بدأتُ خطابًا إلى أبي وطبَّقته وألقيتُ به. أول الخطابات الكثيرة التي بدأتُ كتابتها إليه ولم أُنْهِها قط ولم أبعث بها قط. خشيتُ أن أفقد القرب الذي كان بيننا، لكن الاتصال به بدا مضلِّلًا؛ مشجعًا أو خادعًا.
في الساعة السادسة، دخل جيمي بتثاقل من باب الشقة المفتوحة وعلى صدره إناء به نبات طويل. الجذع فوق كتفه والغصون تزحف على السجادة خلفه. وضع النبات على الأرض، ناثرًا طين الزهرية على السجادة البيضاء البالية. كانت عيناه مغمضتين نصف إغماض وعلى وجهه نظرة تركيز عميق. بدا ضخمًا بشكل خاص في الغرفة الضيقة البيضاء، وكانت وجنتاه مفعمتين بالألوان بجوار الفتيات الألمانيات الشاحبات، اللائي نقلن أعينهن بعناية من على التليفزيون ووضعنها عليه.
قلتُ: «ماذا تفعل هناك يا سيد؟»
«أحمل هدية إليك»، قال، وخرج من الباب. ذهبتُ إلى النافذة وشاهدتُه. كان يتطوح عبر الشارع إلى لوبي فندق ريكس القديم ويظهر مرة أخرى وكان هناك نبات تحت كل ذراع. ثم عاد إلى الشقة ليتركهما ولم تقل الألمانيات شيئًا. حين خرج مرة أخرى بدأن يثرثرن معًا، وحين عاد بنباتين آخرين ابتسمن له ثم لي وضحكن.
قام بدستة جولات، وفي كل مرة يُحضر نباتًا أو اثنين دون أن يبدو أن أحدًا يلاحظ ويضعه بتثاقل على أرضية غرفة معيشتنا. جلس أخيرًا بعنف على جزء خالٍ من السجادة، وربَّع رجليه على الطريقة الهندية، وابتسم لي ابتسامة انتصار وكشف عن أسنان بيضاء رائعة. ثم أغلق عينيه ومال بجسمه للخلف ووضع رأسه على الأرض بصوت مكتوم.
كان أثقل من أن يتحرك. كل ما استطعنا فعله فرْد رجليه ووضْع ذراعيه على صدره. فيما بعد، حين مضت الفتيات الألمانيات للنوم، أحضرت مخدة وبطانية واستلقيتُ بجواره. كان قميصه قد خرج من بنطلونه الجينز فوضعتُ كفِّي على بطنه ولمستُ زغب الشعر الأشقر حول سرته. لم يكن بكرشٍ، لكن بطنه لم يكن مشدودًا بشكل يوحي بالزهو أو الالتزام، وهما صفتان اعتبرت في ذلك الوقت وجودهما في الرجل غير مستحب. جريتُ بظهر يدي على خده الذي حرقته الشمس. فاحت منه رائحة الكحول والدخان ونوع من عطر ما بعد الحلاقة كان الأولاد يضعونه في الكلية. رائحة ذكرتني بالجنس العشوائي السريع.
ضممتُه، ضممتُ جسمه كله. انبعثت حرارة من المواضع التي تماس فيها جسمانا وبدت اللحظة بسيطة وكاملة بشكل مطلق. بقيتْ بهذه الصورة بيننا. لم أعرفْ قط اعتقاده بشأن معظم الأشياء، إن كانت له آراء رزينة بشأن الاقتصاد أو طبيعة الرجال أو وجود الرب. الأشياء التي يعرفها — كرة القدم، والمراكب الشراعية وتصنيع المعدات الثقيلة — لا توفر موضوعًا للمناقشة بيننا. من النادر أن نكون وحدنا وكنا سكرانين غالبًا، ولم تكن هناك حاجة قط لأن يعرف كلٌّ منا الآخر بشكل جوهري؛ لم يكن هناك مستقبل متخيَّل. كنا متحررين من الثقل الذي عانيتُ منه كثيرًا في الكلية وفيما بعد، حين تعلن لنفسك وللعالم أنك قابلْتَ شخصًا مميزًا وعليك أن تواصل الفصل الدراسي. عليك أن تهمس في الليل وتعانق عيوبه الرهيبة؛ قشر الشعر على صدغيه، ميله لمخاطبة النادلة بفظاظة، نزوعه للمبالغة في اللبس.
مع جيمي كان الأمر بسيطًا بشأن وضع «جبل السكَّر» في صندوق الموسيقى وتلامس أوراكنا تحت البار. كان عن التحدث عن ري والشرب وتمضية الوقت دون التشبث به أو قياسه. لم يتعلق الأمر بالأفكار؛ تعلق بوزن جسد وحرارته مقابل وزن جسمك وحرارته. شعرتُ بشيء يشبه ذلك مرة أخرى حين أمسكتُ بطفلتي الأولى في ذراعي. حرَّكتني حقيقتها الفيزيائية البسيطة؛ ذقنها الصغير وشحمة الأذن الطرية، رأسها الأملس الأشقر بلون الرمل، تنفسها اللبني على وجهي.
بعد الليلة الأولى، نقلت الألمانيات النباتات إلى بلكونة الشقة، وبإيماءات صماء بالأيدي وابتسامات اعتذار، وكان واضحًا أنهن يفضلن ألا يمر جيمي بغرفة معيشتنا. ومن ثَم اعتدنا الذهاب إلى شقة قريبة من الميدان اشترك فيها جيمي وري وعدد آخر من الرحالة — معظمهم من النيوزيلنديين في عطلة الصيف — يأتون ويرحلون. سعدتُ في تلك الشقة المشاكسة؛ الكنبة الخضراء الملطخة، المطبخ الصغير المكدس بالبيرة والطماطم وأحيانًا أفوكادو أو ليمونة، الحجرة الواسعة حيث ينام جيمي وري على مفارش عارية، وُضِعتْ طرفًا لطرف، حتى صارت بطول الغرفة كلها. هناك مجموعة من زجاجات الويسكي الفارغة في ركن، وصِنارتان لصيد السمك في الركن الآخر، وحقائب ظهر مفتوحة في الوسط، مكتظة بالملابس. لُصقتْ صور فوتوغرافية على الحائط فوق سرير جيمي لتجوالهما في أماكن بعيدة؛ جيمي وري في ملابس داخلية مبلولة بجوار بحيرة في الشمس، جيمي وري يتسلقان جبلًا بحذاءيهما، جيمي ورى في معطفين واقيين من المطر، يتسكعان تحت سماء مظلمة.
شربنا كل ليلة، في الكروس غالبًا، أحيانًا في وولومولو أو الروكس. ننام حتى الظهر ثم نخرج لتناول الغداء ونبدأ الشرب مرة أخرى. كان معي ما يكفي من النقود التي ادخرتُها وكنت أستطيع دفع حساب دورة أو اثنتين من وقت لآخر، ولم يسمحا لي قط. يُدفَع ثمن الشرب من كروت والد أحدهما، والفواتير تعود إلى الوطن.
كان جيمي سكيرًا لا يعرف القلق أو الاعتدال. لم يرفض الكأس التالية قط، وكنتُ مثله. لم يكن صحيحًا بالضبط أننا نخرج للشرب. هناك دائمًا فكرة أن الكأس الأولى في أذهاننا وحين ننتهي من الأولى تظهر فكرة الكأس التالية. فيما بعد جرى الأمر معي بالطريقة نفسها فيما يتعلق بالأطفال، وهكذا برغم الأعباء — الفوضى والقلق والأرق وفقدان الحرية تمامًا — حين أفطم الطفل الأول أكون جاهزة للثاني، نتيجة لحلاوة الجسم الصغير الدافئ على صدري.
كان ري مختلفًا؛ يشرب حين يقرر الشرب، ولا يشرب حين لا ينوي الشرب وكان يقظًا غالبًا بما يكفي لتذكر ما حدث في الليل واستعادته في الصباح.
قد يقول لجيمي: «يسوع، تقيأْتَ على حذائي اللعين»، أو «ضربْتَ الجرسون في عينه بطيارة من الورق.»
يسألني جيمي بابتسامة عريضة: «هل فعلتُ؟»
أقول: «لا أتذكر ذلك»، وهو ما كان صحيحًا في معظم الأحوال.
وأنا سكرانة، يأخذني جيمي إلى الفراش، يغطيني بملاءة زرقاء، يلفها حولي بإحكام. يعرف كيف يكون ودودًا مع النساء. يفتح الأبواب لي، ويبعد شعري عن وجهي حين أفكه، ويجعلني أشرب كوبًا من اللبن قبل النوم. وحين كان جيمي يبدأ التصرف بشكل سيئ في البارات، كنتُ أنا وري نضع ذراعيه على كتفينا ونسحبه إلى البيت. كان يقف على الفراش وكتفه ملتصق بالحائط ويصيح «عاوز أسكر.»
«نمْ»، يأمره ري. «أنت سكران بالفعل.»
«أنا؟» يقول جيمي. ثم يغرق ويغلق عينيه اللتين يطفح منهما الدم، وينام أربع عشرة ساعة متواصلة. من المعتاد أنهما كانا يعرفان تمامًا، وكنتُ أشعر بأن ري يشعر بلذة عميقة في الحفاظ على جيمي آمنًا في العالم.
لم أسألْ جيمي قط عمَّا درس في الكلية، أو عما يخطط له بعد انتهاء الرحلة، أو إن كان قد وقع في الحب. كنتُ أريد أن أفهم ري. ري يعيش مباشرة على حافة البشاعة، والحديث معه يعني أنك تريد أن تعالجه أو تكسبه. في البارات، تجاهلني أحيانًا، أو تعامل معي ببرود كأنني عين سمكة قد يزيلها يومًا ما. في مرات أخرى يجلس قُربي ويتحدث إليَّ عن ياسمين، حاكيًا لي القصص نفسها مرة ومرة. لسنوات حملتُ في رأسي صورة لياسمين تركب بسرعة على طريق ساحلي في سيارتها الصفراء، وشعرها الأحمر يتطاير خلفها، ومقعدها الخلفي يمتلئ بالزهور. صورة ربما تجعلني أشعر بضيق في صدري، اشتياق مُبْهم إلى أن أكون أصلية، فتاة تستطيع أن تكسب الحب بصورة مطلقة وتبتعد. حين تحدَّث ري عنها تحدث بتبجيل وندم؛ لم يسامحها ولم يتخلَّ عنها أيضًا. مما رغَّبني في أن أريه نساءً أخريات في العالم؛ رغَّبني في أن أجعله يراني.
ما زلتُ أشعر بنفسي في ذلك اليوم، بطني مستوٍ وأسمر في بكيني برتقالي، وشعري يتدلَّي مبلولًا على ظهري، أُحِسُّ بضلوعي تحت جلدي. الشمس حارة على رأسي وأنا مستلقية في غفوة، مستعدة للجري وراء الكرة. لم أمسك بتمريرة واحدة، واستبدل بي ري فتاة ألمانية، أمسكتْ بواحدة وسجلتْ. لم أهتم. مع كل كأس أصبح أجمل في تصوري وانقضى اليوم بشكل رائع. غفوتُ على الكنبة في الشقة بسيجارة في يدي وحرقتُ ثقبًا في المرتبة، ووجدتُ في الصباح بقعًا سوداء من الشمس على وجنتي استغرقت سنوات مع الكريم والجِلِّ لتتلاشى. لكن في مكان من ذاكرتي حيث يعيش ذلك اليوم، لم يتحطم شيء، ولم يضع شيء.
مع حلول المساء ذهب الجميع وجلستُ بين جيمي وري تحت السماء المتغيرة وشاهدنا المياه تتحوَّل من الأخضر إلى اللازوردي إلى الأسود الزيتي. فيما يشبه الظلمة، تمايلنا في الأمواج الهائلة. غطستُ، وبقيت في الرمال وتركتُ الأمواج تضرب في أذنيَّ وتنساب فوقي. غصتُ مع كل موجة، ولم أخرج قط لأتنفس. ربما كنتُ أخاف وسط الأمواج، لكنني لم أخف. مرَّ الوقت كله بهذه الطريقة؛ ربما أقلق بشأن صحتي أو سمعتي أو سلامتي لكنني لم أقلق وقتها قط. كنتُ محميَّة وسكرانة وسعيدة، ولو كان هناك مجال للندم فلن يكون على الوقت الذي أضعناه، بل على انتهائه سريعًا جدًّا.
ما أتذكره عن تلك الليلة جيمي بفانلة داخلية بالية على كتفيه العريضين وكيف مزقناها، ليس بغيظ أو انفعال بل لأن فيها ثقبًا صغيرًا فوق الحلمة اليمنى، بدأتُ التمزيق وانضم إليَّ الجميع ثم صب شخص بيرة على رءوسنا. في وقت ما من الليل جاءت الفتيات الألمانيات؛ ثلاث فتيات معتدلات بسمانات ممتلئة وجيبات قصيرة، وأحذية بكعوب عالية. أتذكر أنهن حين وصلن كان على رأسي كيس ورق؛ قَطَعَ شخص ما فيه ثقوبًا لأرى وأتنفس.
حين انصرف الجميع تقريبًا كنتُ على وشك الإغماء، وجدتُ نفسى في مختلًى واسع في الناحية الخطأ من الغرفة على الفراش الخطأ؛ مع ري. كنا نجلس القرفصاء، يواجه كل منا الآخر، ورُكَبنا متلامسة، وري يمسك بصنارة في حجره. ثم مدَّ أصابعه باتجاهي وأنا أرفع أصابعي لتقابل أصابعه، نظر إليَّ مباشرة، مال باتجاهي، وتعانقنا في قُبلة. رقيقة في البداية، تكاد تكون سؤالًا، ثم صارت أكثر إلحاحًا حتى التحمت شفتاه بشفتيَّ بعنف.
فجأة كان جيمي يقف أمامنا. هاي! قال، وضحك في البداية كأن وجوده نكتة. ثم هاي! مرة أخرى، ثم هاي! مرة ثالثة، بصوت عالٍ، ويده تضغط على استدارة كتفي لتبعدني عن ري. هكذا توقفنا. هَمَسَ ري لي بشيء ونحن نتباعد، كلمات فهمتها وقدَّرتُها ثم نسيتُها؛ ولم أستطع العودة قط.
استيقظتُ في اليوم التالي على فراش بجوار جيمي، وقد نفذت شمس بعد الظهيرة من المدخل وسقطتْ على وجهه. كانت الدوائر حول عينيه أرجوانية قاتمة، وبدا عزيزًا جدًّا، غالبًا لأنني أخشى فقده. في الوقت ذاته، كان هناك جزء صغير عنيد بداخلي يود الاعتراف لري بما حدث بيننا، وأنني أود أن يكرره مرة أخرى. كان في داخلي جزء لم أبدأ بعد في فهمه؛ جزء في عادة الانتباه المتوقع من الرجال في ظروف استثنائية. ليس الوميض الأول للرغبة فقط، للشعر المصقول والشفاه الممتلئة، لكن فوضى معجزة الحب كلها. لم تكن المسألة أنني أرغب في المآزق التي تأتي مع الحب، أو أنني أعد بتقديمها بدوري. لم يكن الأمر أنني أؤمن بأنه بمجرد أن يعرفني رجل، يرى كم أبدو مختلفة عن أي فتاة عادية — مهما تكن صريحة وماهرة وكتومة — ويجد أنني لا يمكن الاستغناء عني.
كانت عادة استمرتْ خلال انكسار القلب والدمار، في سنوات الدليل على العكس. ثم تزوجتُ، وكانت هناك ومضات أحيانًا — في حوض السباحة الذي يأخذ فيه ابني دروس السباحة، في محل البقال حين دفعت حقيبة شيال عربتي الإضافية إلى السيارة — لكنني اقتنعتُ غالبًا بأنني تجاوزتُ ذلك. وفي ليلة حارة في أغسطس أقمنا حفل عشاء لأصدقاء. الأطفال مع أطفال أقارب زوجي طوال ليلة انتظرناها طويلًا، وفيما بعد، حين قبَّلتْني الزوجات وشكرنني وذهبن إلى بيوتهن ليريحن جليسات الأطفال، وتجمَّع الأزواج الآخرون — ثلاثة رجال عرفتُهم لعقد من الزمان — ليلعبوا بوكر، جلستُ في مقعد تركه زوجي، وقد انتقل فجأة على الكنبة. إحدى ذراعيه على وجهه والأخرى على ظهر الأريكة، وكنت أرى من حيث أجلس أصابعه الطويلة تتدلَّى، أرى أظافره النظيفة المقصوصة.
تواصلت اللعبة في خداع وإخفاء. كان هناك ويسكي وتدخين متواصل ومُراهنات خيالية مسجَّلة على كوكتيل من المناديل. كانت هناك سواعد؛ رائعة، مُشعرة، أطراف رجال تحك في أطرافي على الطاولة ونحن نتناول الكروت. وفجأة تضغط ركبة عمدًا على وركي تحت الطاولة. عينان سمراوان تحدقان في وجهي ونفَس حار في أذني. ووراء ذلك، حيث كانت ذراع زوجي، ليس إلا ظهر الكنبة. لا دليل على الرسغ الهائل، الإبهام القوي، الكف الغليظ المحبوب. لا دليل على وجود زوجي في الغرفة إطلاقًا. كنتُ وحدي في صحبة الرجال بمتطلبات مباشرة في يدي، آسات عالية. تأججت الرغبة في صدري وغريزة الكسب، التقدم بحيوية، تنفذ من خلالي، عبر قفاي إلى ما بين ساقيَّ.
في الوقت ذاته كانت هناك قوة منزلي؛ تصلني خلال ضباب الويسكي والكروت والجنس. هناك آنية خزفية في انتظار العودة إلى الخزانة. وباب الخزانة يهدد بالخلع من مفصلته ورزمة من الكتلوجات في فوضى. هناك التليفون، لوحة الإعلانات، سجل العائلة، مركز القيادة في حياتنا المنزلية. بعد الردهة هناك غرف الأطفال، مفارشهم ووسائدهم موضوعة في أغطية خاصة لحمايتها من عثة الغبار. في تلك الغرف حيث أراجع يوميًّا التنفس ودرجة حرارة الجباه، حيث أُقبِّل برقة بين الوجنات والأذن.
السؤال الذي يستمر، يطاردني حتى الآن، هل كان مجرد كارت لعبته — السبعة الاسبيد — أنقذني. حررني أنقل ساقيَّ في مكان مفتوح، لألعب كروتي على الطاولة في خفاء، وبنوبة عزيمة غير معتادة، استأذنتُ.
«هاي»، قال جيمي حين رآني. ونظر إلى ري.
قلتُ: «اشتريتُ بيرة.»
قال ري: «لا نشرب أبدًا ونحن نصطاد.» ساد صمت. ثم ضحك وأخذ زجاجتين من البيرة. فتح واحدة لجيمي وواحدة لنفسه. قال: «إنهم حاسمون اليوم. ذلك التأكيد اللعين.»
فتحتُ زجاجة بيرة لنفسي وجلستُ على جذع بجوار جيمي. كان الخشب رماديًّا متناثرًا، والمياه خضراء بالطحالب. جلسنا في صمت بعض الوقت وبدأ خيط ري يتحرك. وقفتُ كما فعلا، وري يسحب الخيط، في نهايته سمكة ملساء مذعورة. أخرج جيمي الكمَّاشة من صندوق الطعم وفك الخطاف، وأمسك ري بالسمكة ثم وضعها في دلو مع ثلاث أخريات. لم يكن هناك ما أفعله إلا أن أقف وأشاهد.
انتهيا من شرب البيرة وبدآ يحزمان معدات الصيد.
قلتُ لري: «الفرقة النيوزيلندية تعزف في وولومولو لمدة أسبوع بداية من السبت.»
تطلَّع ري إلى جيمي بعد ذلك، ثم حدث شيء بينهما، شيء قررتُه بالفعل.
قال جيمي: «نتجه إلى الشمال، حقًّا. حصلنا على سيارة وكل ما نحتاج إليه.» كان وجهه يحمل اعتذارًا وهو يقول ذلك، وقد أتخيل الآن أنه لمس خدي أو أخذ يدي في يده. لكنه لم يفعل. ضرب كوعه في كوعي وقرصني برقة في ذراعي. كنا على هذا النحو فائقين؛ أحمقين مرتبكين ومأخوذين بالصمت الذي على ري أن يملأه. لكن ري استدار وكان يسير على التل في اتجاه البيت.
قلتُ أخيرًا: «أستطيع أن أنام في المقعد الأمامي.»
«لا سبيل لذلك»، قال ري من ظهر السيارة.
«آه، تعالي، كاث»، قال جيمي. ثم أمال رأسه على ناحية وقَلَبَ شفتيه إلى أسفل استياء. ثم خلع معطفه ووضعه على كتفي. بدأ المطر يتساقط.
جاء ري ووقف بجوار جيمي. لدقيقة طويلة، تطلعَ إليَّ مباشرة وقد رقَّتْ خطوط وجهه. بدأ أنفي ينمل من الانفعال وتطلعتُ بعيدًا. سار باتجاهي، نزع معطفه من كتفه ووضعه عليَّ، وهكذا ارتديت المعطفين، واحدًا فوق الآخر. لم أعرف حينها ما يقصده من ذلك، ولا أعرف الآن، لكن آمل أنه كان يعني أنه سامحني، على جشعي السري، على رغبتي في أن أكون محبوبة الجميع.
حين رفعا حقائب الظهر إلى السيارة وأغلقا الأبواب ولوَّحا بالأيدي ومضيا، وقفتُ وحدي لحظة على جانب الطريق في المطر، جافة تمامًا تحت معطفين واقيين من المطر. ثم صعدتُ إلى الشقة ودخلتُ وتفحصتُ المختلى الذي كان غرفتهما. تركا صورًا فوتوغرافية ونزعتُ واحدةً من الحائط، دسستها في جيبي، وخرجتُ في المطر. بدأتُ السير عكس اتجاه البيت، مع تقلب الطقس، في أجزاء من المدينة لم أرَها من قبل، ويداي في البداية في جيوب معطف، ثم في جيوب الآخر. وأنا أسير، فكرتُ فيهما — جيمي وري — بشدة متذكرة كل ما حدث، أُقدِّر وأقيس، متأملة السبب والنتيجة. ليس في محاولة للتغلب على الفقد بل للاستمتاع به، لتشكيله، لمنحه ديمومة.