الغرباء

تأليف: أريل دورفمان١

وأورلاندو يمر بالرجل، نظر إلى الرجل نظرة طويلة متفحصة. حتى رغم أن كارينا ظلَّت تطلب منه ألا يفعل ذلك، لا أبالي، قالتْ منذ بضع دقائق، إذا كان الناس هنا في إسبانيا أو في أمريكا اللاتينية يفعلون ذلك دائمًا، هذا عمل فظ، يا أورلاندو، فظ حقًّا، يا إلهي، حاول أن تؤمن بأنك ستعود إلى الولايات وتتصرف … حتى رغم أن كارينا نفسها، صادقة في نصيحتها الجديدة، استعجلها الرجل الذي يقف في مدخل المبنى السكني القديم، متجنبًا بتصميم إغراء النظرة، وحتى الوثبة الجانبية الخفية من العينين، لا شيء.

لا حيلة لأورلاندو في ذلك. يُحدِّق دائمًا في الناس، يقيِّمهم، قال، مفتونًا بما قد يكون خفيًّا ومكتشَفًا، بما يكمن خلف ملامحهم، حتى إذا كان يعرف أنه لم يستطعْ قط فك أسرار كائن بشري آخر كما تستطيع كارينا، ليس حتى إذا استغرق بدلًا من ثلاث ثوانٍ عابرة ثلاث ساعات أو استغرق الأبدية ثلاث مرات لفحص الوجه، مُدركًا في أسًى وهو يمر ويلتفت برأسه بسرعة في اتجاه الرجل إنه سينسى كل تفاصيل هذه الخبرة غالبًا بمجرد انتهائها، مدركًا أنه بعد ساعة، في الحقيقة بضع دقائق، لن يكون في ذاكرته أثر لها.

في هذه الحالة، ينجذب للرجل لأن الرجل في موضع غير مناسب في ذلك الشارع المهجور في برشلونة، شارع يختلف تمامًا عن أي شارع رآه أورلاندو في أي موضع من هذه المدينة أو في أي مكان آخر في كتالونيا،٢ رجل قصير ممتلئ، بدين تقريبًا، بوجه قمري، مدوَّر تمامًا تقريبًا، بلمحة من شكل فلبيني، أو ربما الملايو، مُهَجَّن مع … ماذا أيضًا؟ ربما أثر من شيء ما شبه زنجي أو ربما ينحدر من هنود أمريكا الجنوبية، خليط من المستحيل تحديده، خالٍ من التعبير بالطريقة الشرقية ومهذب إلى حد ما، ربما بسبب النظارة السلك على أنفه القصير أو الصوت الحزين الذي يُشبه صوت الطفل الذي يستخدمه الرجل لينادي شخصية اسمها فرنشيسكا في الاتصال الداخلي الصدئ في المبنى، كأن الرجل يعرف — أو أن أورلاندو يقوم بعملية إسقاط مرة أخرى، مرة أخرى يسمح لمخيلته بأن تشطح؟ — أنه ليست هناك فرصة لتفتتح فرنشيسكا الباب، كأن المرأة التي تدعى فرنشيسكا غير موجودة، مجرد كينونة استحضرها الرجل ليعتقد أن لديه شخصًا، أي شخص، يمنح جسمه ملجأً في هذه الأمسية الخريفية الغائمة.

حينذاك، بالطبع، مرَّ أورلاندو وكارينا وكانا في طريقهما، يبحثان عن أقصر طريق إلى لابوكيريا، السوق الرئيسية النشطة في برشلونة، وإغراءات شارع الرمبلا كتالونيا خلفها. لكن ليس قبل أن يستحوذ الرجل، في اللحظة الأخيرة، على نظر أورلاندو. ليس قبل أن يفهم الرجل أن أورلاندو حاول أن يلتهمه بعينيه، مُقْحِمًا الرجل في خبرة بسيطة ربما من حيث لم يتوقع قط، نفض عنه الغبار، ووضعه في الواجهة. لا بُدَّ أن الرجل خمَّن بالتأكيد الشفقة التي زحفت في عيني أورلاندو وهما يتجنبان عينيه وهو يواصل مع هذه المرأة المتألقة التي تهز ردفيها؛ كأن الرجل البائس، في رأي أورلاندو، لا ينتمي لمكان على هذه الأرض أو حتى على الأقل في برشلونة، وبالتأكيد ليس أمام هذا المبنى السكني حيث لا فرنشيسكا الخفية في المجالات العليا أو أي شخص آخر يُقدِّم له السلوى، لا يرافقه إلا الوميض الزائل في عيني أورلاندو.

لكن لم يكن أورلاندو هو الذي أدرك، بعد بضع خطوات، أن الرجل ينادي عليهما، على كارينا خاصة، وتبين أن كارينا سمعت النبرة البريئة لذلك الصوت الآتي من خلفها، ربما لأنها لم تهتم بمن قد يكون صاحب الصوت، لم تلاحظه أو تُحدِّق في اتجاهه بوضوح. فيما بعد تساءل أورلاندو كيف لم ينتبه لهذا النداء، كم كان غريبًا ونموذجيًّا حتى كان عليه محو هذا الرجل من ذاكرته فورًا بعد تلك الثواني الملحة في اتصال عابر، ويندفع أورلاندو إلى الخبرة التالية، النظرة الحادة التالية وإعادة ترتيب الأمور فورًا والنسيان السريع لحياة إنسان غريب. وربما كان التفسير أبسط: التفتت كارينا حين نادى الرجل لأنها موضوع اهتمامه، الكلمات موجَّهة إليها، قال شيئًا من قبيل «سيدتي، سيدتي»،٣ مُكررًا الكلمات بإلحاح هادئ حتى لم يكن من الممكن تجاهل نبرة التحذير. التفتتْ حولها ورأت الرجل، يحوم قُرب العتبة، ويتقدم فجأة باتجاههما مثل دب ضخم ساذج، يشير بإصبعه إليها، مُهمهمًا بشيء بدائي بلغة ربما كانت الإسبانية (أو الكتالانية؟ أو الإيطالية؟) ويومئ إلى سويتر تلفُّه كارينا حول عنقها. حدث شيء هناك.٤ حدث شيء هناك، حرَّك المترجم الآلي في رأس أورلاندو. وتفاعلتْ كارينا في هلع، شعرتْ بحشرة — عنكبوت، عنكبوت — صرخت وفكت السويتر الأسود القطيفة عن جسمها ببراعة وليدة الخوف، ودفعتْه يدها المرتجفة باتجاه أورلاندو الذي، بدوره، مدَّ ذراعه به إلى الرجل، وقد وصل إليهما وأخذ يشرح: لا، لا، عنكبوت،٥ لا، لا. ليس كذلك، ليس عنكبوتًا، أشار إلى شريط من مادة بنية لاصقة يمسك بالقماش.
احتفظ أورلاندو رغم ذلك بالسويتر على مسافة آمنة، حتى حين استدعى رائحة واهية بعيدة من الخرا، لا بُدَّ أن طائرًا بارك سويتر كارينا من فوق إحدى أشجار حديقة مونتجوك٦ التي زاراها للتو، حدث استثنائي لأنه هو وكارينا امتدحا قبل نصف ساعة تناسق الطيور الخيالية العابثة في لوحات متحف ميرو وتماوج اللون الباهت على قطيفة السويتر الأسود لا تختلف عن المخططات والخطوط التي استمتعا بها حديثًا في اللوحات. لكن لم يكن وقتًا مناسبًا — وبَّخ أورلاندو نفسه تقريبًا — بسبب هذا النوع من التداعي. كانت هناك المسألة الحاسمة، مسألة الخرا نفسه واستمرار تفاعل كارينا بشكل هستيري، الذي حيَّر الرجل وأربكه حتى أشار بإصبع نحيل مدهش إلى مبنى عبر الشارع، قائلًا لأورلاندو هناك مياه، لا توجد مياه،٧ ناطقًا كل كلمة ببطء وتأنٍّ كأنه يتحدث إلى أطفال أو أناس غرباء على اللغة، مياه، قال مرة أخرى، ثم حدَّد بإيماءة أخرى أن الطائر لم يلوث السويتر فقط بل لوَّث أيضًا قميص أورلاندو وبنطلونه الجينز الأزرق، رغم الطريقة التي تحدَّث بها الرجل، اعتقد أورلاندو أن الرجل يتسم ببعض السذاجة، كان بريئًا بالتأكيد، يشع بحاجة طفولية إلى تقديم خدمة، وكانت في ذاتها مريحة تستحق الترحيب في هذه المدينة حيث الناس متحفظون وغير مبالين ويتصرفون بشكل سيئ جدًّا مع أي شخص ليس من أهل البلاد، كأنهم يكرهون فكرة مخاطبتهم وربما أكثر، على ما يبدو، حين أدرك الكتالانيون أن أورلاندو وكارينا من أمريكا الجنوبية ومن ثَم يتحدثان باللسان الإسباني الإمبريالي الكريه. اقترحت كارينا بشكل ساخر: ينبغي أن نتكلم الإنجليزية ونتظاهر بأننا لا علاقة لنا بالإسبانية، تبدو غريبًا على أية حال، لكن أورلاندو لم يتوقع رد فعل من هذا القبيل في مدينة يتحدث فيها الجميع الإسبانية، أربكتْه درجة العداء. ليس الموقف مع هذا الرجل، بحال من الأحوال، الذي يتوسل تقريبًا لتقديم المساعدة لهما، كأنه يلوم نفسه على ما حدث، حتى لو تبيَّن تمامًا من النبرة الحيادية واللهجة المبهمة لكلماته — كما لو كان جلده ووجهه الآسيوي المستدير لم يكشفا الحقيقة بالفعل — إنه لم يكن أصلًا من برشلونة. قال: التنظيف صعب هنا،٨ يمكن أن ينظفا ملابسهما فوق هناك، في ذلك المبنى فوق هناك.
كان على أورلاندو، وربما كارينا أيضًا، أن يقرر قبول الدعوة على أنها رغبة عادية تمامًا ليتجنبا إهانة الرجل، لكن الدافع الفوري أتي من نكتة قدَّمها الرجل، نكتة ضعيفة، ليتأكد، لكنها رغم ذلك محاولة أخرى ليؤكد للاثنين سذاجته وهشاشته، ردًّا على تعليق أورلاندو: لا بُدَّ أنه كان طائرًا كبيرًا بزائدة مثل فيل، النوع الذي يمنح ويأخذ، النوع الحميم غالبًا والملائم بالتأكيد، وهكذا حين وجدا نفسيهما منقادين إلى العتبة المفتوحة عبر الشارع الضيق ودخلا في مدخل٩ مظلم ممتلئ بمواد بناء متناثرة في كل مكان، لم يعترض أورلاندو أو كارينا. أي شيء، فكر أورلاندو، لتهدأ كارينا. وإذا كان المناخ الكئيب شديد الرطوبة، في ظروف أخرى، أجج ظنونهما، فقد بددت الأفعال الخرقاء التي أتى بها الرجل شكوكهما قبل أن يستوعباها. عارضًا الذوقَ نفسه وشفافيةً بلهاء غالبًا، التقط قطعًا من جريدة ملقاة على الأرض ناسيًا على ما يبدو عرْض الماء الذي قدَّمه وربما ارتبك من حقيقة أنه لم يكن هناك، بشكل غير قابل للتفسير، أثر لحنفية أو لشيء من هذا القبيل في أي مكان في المنطقة المحيطة بمدخل ردهة المبنى، وتقدم ليستخدم الورقة في تجفيف ملابسهما، هنا وهنا وهنا، قال، محاولًا ألا يكون متطفلًا، حريصًا على ألَّا يلمس الجلد أو يضغط اللحم، نموذج من الاهتمام. ظل أورلاندو يهمهم شكرًا، شكرًا،١٠ مرتبكًا هو نفسه من هذا العطف، عاجزًا عن تصديق أن شخصًا في هذا اليوم وهذا العصر يمكن أن يلوث أصابعه بفضلات طائر ليريح شخصًا غريبًا، لكن الرجل لم يكن ذكيًّا بالضبط، يمكن للمرء أن يغامر ويقول إنه بليد بعض الشيء.

فتشت كارينا، بكفاءة كالمعتاد، في حقيبة يدها وأخرجتْ بعض المناديل الورق. أخذ الرجل بعضها وأعطى واحدًا لأورلاندو، طالبًا منه بطريقة لا تزال طفولية أن ينظف زوجته، واحتفظ ببعضها لنفسه ليعمل بجدٍّ في تنظيف قميص أورلاندو وبنطلونه الجينز الأزرق.

بمجرد شعور كارينا بأنها نظيفة بشكل كافٍ، فحصت أورلاندو، ووجدت بضع بقع صغيرة، وتركتها في حالها. لم تتبقَّ مناديل. خامدةً رجفةً — فكرت: كأن هناك حشرة تزحف تحت أظافري — ألقتْ بالمناديل المستخدَمة في ركن في ظلمة ردهة المبنى، وتركتها بين ركام من الطوب والنفايات المتنوعة، نعم، حتى الفراش القديم البالي.

«علينا أن نغتسل»، قالت كارينا لأورلاندو بالإنجليزية، لكن زوجها، بدل أن يرد، التفت إلى الرجل وسأله، متحدثًا بالإسبانية، عن اسمه. أجفل الرجل، بدا مذهولًا تقريبًا لأن هناك من يهتم بشيء في أهمية اسمه، تغلَّب على انزعاجه وأعلن مبتسمًا بخجل للمرة الأولى «جوان.» نطق أورلاندو باسمه وقدَّم كارينا، هذه زوجتي،١١ زوجتي، وصافح الرجل الذي دعا نفسه جوان، ووقف الثلاثة جميعًا بعض الوقت في الدوامة المظلمة في ردهة المبنى، كأنهم يعرفون ما يفعلونه، انتهت ضجة النشاط البري الذي استهلكهم في الدقائق الأخيرة المفزعة.
«نحن من تشيلي أصلًا»،١٢ أضاف أورلاندو، لم يتفاعل جوان مع معلومة أن الاثنين اللذين صادقهما من تشيلي أصلًا، أو على الأرجح، كما اعتقدت كارينا، بدا أنه لا يصدقهما، ويعتبرهما، أو على الأقل أورلاندو، بشعره الأشقر وجسمه الطويل، غريبًا مثاليًّا، بأحذية ليفس ونايك. أو ربما كان جوان غبيًّا — أقصد، رغم كل شيء، يقضي وقته مُقدِّمًا العون لغرباء رائعين لوثتهم طيور برشلونة — لا يعرف موقع تشيلي، لا يعرف حتى أنها دولة في أمريكا اللاتينية على بُعد آلاف الأميال إلى الجنوب، في النصف الآخر من الكرة الأرضية.

«هل تحب أن تتناول مشروبًا معنا»، قال أورلاندو، مما أثار استياء كارينا؛ لا تستطيع القول إن جوان لا يحتاج الشكر بهذا الشكل المسرف في العاطفة، كما اعتاد أورلاندو المبالغة في ذلك، معتقدًا ضرورة رد كل جميل في الحال، أو ربما كانت مناورة اعتاد عليها أورلاندو للتنقيب في الحيوات الغريبة التي تصادفه، ليضيفها إلى مجموعته، في صراع أبدي ضد النسيان. لم يكن هناك، بحال من الأحوال، ما يمكن أن تفعله كارينا فيما يتعلق بهذا سوى أن تتعاون وتُصِرُّ على أن جوان، بدون جدل، يجب أن ينضم إليهما ببساطة، كان لطيفًا ورائعًا للغاية، رغم انقشاع الحذر الذي غمر عينَي جوان خلْف نظارته بسرعة. لكن صديقهما الجديد ردَّ بنعم، بالطبع، شرف، وأضاف، نحتاج جميعًا إلى أن نغتسل.

ساروا إلى الركن في صمت وكانت هناك حانة صغيرة يلعب فيها بعض الكتالانيين المسنين الكوتشينة. اختارت كارينا طاولة قُرب المدخل وشاهدتْ أورلاندو وجوان يذهبان إلى الحمام وحين عادا، ذهبتْ إلى غرفة السيدات وأخذتْ تنظف نفسها، واشمأزت من فكرة أن إسهال الطيور ربما نفذ من المناديل إلى أصابعها. كانت آثار القذارة على السويتر والبلوزة، جامدة وجافة، وكارينا لا تريد أن تُقرِّب أي شيء من هذا، الأصابع أو السويتر أو أي شيء، إلى أنفها، يائسة من التخلص منها، بعيدًا عن بشرتها، وبعيدًا عن ذكرياتها. أوه يا إلهي — فكرتْ في هذا وهي تحاول محو البقع وصَبَّ المزيد من المياه عليها — وكان عليها أن تعود لاستضافة هذا الرجل الغريب وتتذكر، في وجوده، مدى شعورها بالتلوث. انتابتها رغبة فجائية في التبول لكنها نظرت إلى التواليت بنفور وقررت ألَّا تخاطر باستخدامه. كانت رائحة المطهِّرَات في الحمام، تتخيل أنها تختلط ببقايا الطيور التي سقطت عليها، كانت كثيرة جدًّا، حاولت التوقف عن الأفكار السخيفة، ساخرة من أسنانها الرائعة في المرآة، وتنفستْ بعمق، بعمق شديد.

في الخارج عند الطاولة، يرشف زوجها وجوان القهوة بالحليب١٣ بحرص، وفي انتظارها كوب قهوة يتصاعد منه البخار. يعرف أورلاندو دائمًا ما يطلبه لها وفي أي وقت من اليوم، بعد سنوات طويلة قضياها معًا، الكثير من الفناجين والحانات ووجبات العشاء والفطور منذ غادرا تشيلي، والكثير جدًّا من الطاولات.

بدأ أورلاندو يملأ الصمت، كما كان يفعل دائمًا، كارهًا اللحظات الثقيلة الطويلة التي لا يتكلم أحد فيها. حدَّث جوان عن زيارته الأولى لبرشلونة، وهو في التاسعة. صعد أورلاندو وأسرته المونتجوك، بالضبط كما حدث اليوم — لكن لم يكن هناك خرا طيور، أضاف، لم يكن هناك خرا على الإطلاق — وأكثر ما يتذكره معرض مبهج ومتاهة من الشجيرات، وكيف حاول أن يصل إلى مركز التيه ويضرب الجرس، وفعل ذلك قبل أن يعثر أخوه الأكبر على الطريق. استغرق أورلاندو بولع في ذكرياته عن عودته ليلقي تهنئة والديه.

قال جوان: «هل كنْتَ دائمًا ولدًا بارعًا؟» قالها ببلاهة، بحماقة تقريبًا، كأنه يسعى إلى تعليق، كأنه لم يستمع إلى القصة. كأنه يريد أن يكون في مكان آخر، ترى كارينا ذلك، لكن بالطبع كان أورلاندو غافلًا تمامًا عن كل شيء إلا متعته. ربما كان جوان مملًّا. أو ربما، لأنه لم يكن ذكيًّا جدًّا، لم يحب جوان بشكل خاص القصص التي تحكي عن تألق الآخرين. أو ربما كان يدفع نفسه ذهنيًّا لمساعدة هذين الغريبين اللذين جعلاه يفقد موعدًا، لقاءً مهمًّا، ربما مع فتاة أحلامه التي كانت ستفتح ذراعيها لعناقه في تلك الأمسية. مهما تكن الأسباب، كان جوان عصبيًّا بوضوح، لم يستطع الانتظار للخروج من هذا الجحيم.

«هل تعتقد أن هذه المتاهة لا تزال هناك؟» سأل أورلاندو، وقاطعتْه كارينا. قالت: «ينبغي علينا أن ننصرف»، مندهشة مرة أخرى مما يجعل زوجها عاجزًا عن فهم حقيقة ما يشعر به جوان، أو أي شخص آخر، بالنسبة لهذه المسألة.

«حسنًا.» يباركه، التقط أورلاندو إيماءتها، ووضع يده في جيبه، ومطَّ شفتيه، وفجأة سأل كما لو كان بعد تفكير متأنٍّ: «ماذا بشأن أن تدفعي الحساب، يا حبي؟ كان سويترك رغم كل شيء.»

اندهشتْ ولم تعترضْ. لم يكن أورلاندو الشخص الذي يحب دفع حساب هذه الأشياء إطلاقًا، وخاصة الطعام، وخاصة في وجود رجل آخر. ربما كان لا يريد أن يشعر جوان بأنه تحت ضغط، معتقدًا أن جوان لن يعرض أن يدفع لنفسه إذا جاء العرض من امرأة، خاصة امرأة حازمة مثل كارينا، من الواضح أنها تعرف طريقها. هكذا وجوان يشاهدها، أخذت الفاتورة وتركت بقشيشًا، ثم بمجرد أن نهضت، وقف واستأذن، وهمهم بأنه أيضًا في حاجة إلى أن ينصرف.

«ربما نلتقي مرة أخرى»، قالتْ كارينا، لأن أورلاندو لم يتكلم إطلاقًا، لم ينطق بكلمة، كان يتفحص فقط وجه جوان بفضول واضح ورَّطَ أورلاندو في الكثير من المشاكل في مرات كثيرة من قبل.

قال جوان: «ربما، لكن في المرة القادمة سوف أدفع. دوري.»

كان وداعًا غريبًا، نهاية غريبة لمقابلة غريبة، ولم يأتِ على ذكرها أحد منهما وهما يتوجهان إلى الفندق، لم ينطق أحد بكلمة، حتى قال أورلاندو في غرفتهما، بعد عشر دقائق، بالإنجليزية، بمجرد أن أغلق الباب خلفه: «أحتاج بطاقة الاتصال الخاصة بك، بسرعة.»

تطلعت إليه في حيرة.

«علينا أن نتصل بأمريكان إكسبريس والبنوك للحصول على الفيزا والماستر كارد.» وقبل أن تنطق بكلمة، أضاف: «البطاقات. سرقها. جوان أو مهما يكن اسم هذا اللعين. سرقها من جيبي وهو ينظف ملابسي.»

انتظرتْ. جلستْ على حافة السرير.

«متى أدركْتَ ذلك؟»

«على الفور. بمجرد حدوثه.»

«في ذلك المبنى؟»

«بالطبع. بمجرد حدوثه.»

«كم كان المبلغ؟»

«ليس كبيرًا. البطاقات فقط، رخصة القيادة، وبطاقة الائتمان الاجتماعي. لكننا نُضيِّع الوقت يا كارينا.»

«وخرا الطيور؟»

«صبغة. لا بُدَّ أنه لطَّخنا بها، أو ربما كان معه زميل فعلها في المنتزه. هنا. شمي.»

لم تقبل السويتر الأسود الذي كان أورلاندو يُقدِّمه لها.

«ودعوْتَه على مشروب؟»

ترك أورلاندو السويتر يسقط على السجادة وجلس جوارها. أخذ يدها. كانت يد أورلاندو دافئة، رقيقة، متوترة.

«لم أود أن أجعله يعرف أنني أدركتُ أنه نشَّال. يمكن أن يفعل أي شيء لنا، لك، في ذلك المكان. مثَّلتُ البراءة. وهو أيضًا مثَّل البراءة. الدور الذي خدعنا. كأنه يستطيع أن يقرأنا أكثر وأكثر. عليك أن تُسلِّمي بذلك. كان ممتازًا.»

«لا أعتقد أنه هو. ربما فقدْتَ البطاقات في المتحف، حين كنت تدفع حساب اﻟ … أنت دائمًا …»

«هو، حسنًا. أستاذ حقيقي. أكره أن أقول ذلك، لكنه غالبًا يستحق بطاقاتي.»

كانت تعرف أن أورلاندو يكذب. تعرف أنه لم يعرف حينها، في الرحم البشع لتلك الردهة المهجورة، تعرف أنه لم يفعل ذلك ليحميها، لفَّق هذه القصة ليحافظ على ما يشبه السيطرة على حَدَثٍ خُدِع فيه طوال الوقت، حتى اللحظة التي وضع فيها يده في جيبه في البار ليدفع الفاتورة وفهم أن المحفظة كانت في جيب جوان، بجوار سكِّين أو ما هو أسوأ، وأن جوان ما كان ليتردد في استخدام ما معه في لمح البصر، ويمزق وجهها، موس في عنقها أو عنقه بين رجال مسنين يلعبون الكوتشينة. حينذاك، حينذاك فقط، أدرك أورلاندو ما حدث.

قالت، إنها لا تستطيع منع نفسها من القول: «وحكيْتَ له تلك القصة عن ذكائك وأنت طفل؟ كنْتَ تلعب معه …»

قال أورلاندو: «أردتُ أن أجعله يعرف أنها مسألة عُمْر، لا يمكن أن أقع في مثل هذه الخُدع حين كنتُ أصغر. أقصد، عشنا … ماذا؟ عشرين عامًا، خمسة وعشرين عامًا في المنفى؟ ولم يحدثْ لنا شيء كهذا أبدًا.»

«كل تلك البلاد»، قالتْ، وكانت تفكر في المكالمات التليفونية اللانهائية والأشياء التي كان جوان يشحنها على حسابهما في تلك اللحظة والاستمارات التي عليهما أن يملآها والبطاقات البديلة والتأكد من الضمانات والتفسيرات التي لا تنتهي وإفساد الإجازة وابنهما وبنتهما وزوجها في الولايات يهزُّون رءوسهم دهشة والأصدقاء في نيويورك يستمتعون بالقصة أثناء تناول العشاء والتأسي وزيارة الغد إلى أمريكان إكسبريس للحصول على نقود ورخصة القيادة الجديدة بمجرد العودة إلى الوطن ورقم الضمان الاجتماعي الجديد و… قطعت تيار أفكارها. «زوجان تشيليان يُخدعان في برشلونة.»

«قرأتُ عن هذه الخدع في دليل «التايم آوت».» قال أورلاندو، وهو يقف ويذهب إلى درجه، يُقلِّب في دفتر العناوين للبحث عن أرقام التليفونات. «قبل بضعة أسابيع، وأنا أُعِدُّ لرحلتنا.»

«قرأْتَ عن ذلك؟»

«حذَّروا من حيلة خرا الطيور.»

«هكذا؟»

«نسيتُ الأمر. نتحدث الإسبانية. إننا على قيد الحياة. لم نكن المقصودين، كما تعرفين، بهذا النوع من التحذير.»

ابتسمت كارينا، ابتسامة سأم. «نعم. يُفترض أن يحدث ذلك للغرباء.»

«ربما نتحول إلى غرباء.»

وقفتْ هي الأخرى. وقفت فجأة بطريقة أدهشتها هي نفسها، وقالتْ: «ماذا أفعل معك؟»

«معي؟ أنت التي أُصبْتِ بالهلع. إذا لم تُجَنِّي لأنك اعتقدْتِ أن هناك عنكبوتًا …»

«نُضيع الوقت. ينبغي أن تتصل. من يعرف ما يشتريه هذا اللقيط الآن.»

«أحتاج بطاقة الاتصال الخاصة بك.»

«بطاقة الاتصال الخاصة بي.»

«بطاقة إم سي آي الخاصة بك. تعرفين أنني …»

قالتْ: «حسنًا. شيء لم يأخذه جوان الغبي المسكين. لا بُدَّ أن شخصًا آخر يستخدمه الآن، يجرب الرقم السري على الكمبيوتر.» فتحتْ حقيبة يدها، بحثتْ فيها، أخرجت البطاقة، وقدَّمتها له. كانت على السرير بينهما، سوداء تلمع على الملاءات. قالت: «فيما بعد تنسى كل شيء، تعرف.»

قال: «أعرف.»

«فقط في هذه الرحلة. في البداية الأدوية في الطائرة، ثم الجاكيت مع بطاقة الاتصال في المطعم في لندن، ثم رواية جورج إليوت١٤ في القطار في ليون. فقدْتَ كل شيء في هذه الرحلة.»

كانت تعرف ما سوف يقوله فيما بعد.

قال: «إلا أنت. لم أفقدك.»

«حسنًا»، قالتْ، وهي تلتقط البطاقة وتضعها في يده وتُغلق أصابعه عليها واحدًا واحدًا. «أنا الشيء الوحيد الذي لم تفقدْه.»

قال أورلاندو: «كبرنا.»

يبدأ الاتصال. استمعت إلى صوت الأزرار برهة قبل أن ترد عليه.

قالت: «نعم. كبرنا.»

تعرف أن ذلك ليس صحيحًا. تعرف أنه كان على هذه الشاكلة دائمًا.

١  أريل دورفمان Ariel Dorfman (١٩٤٢–؟): كاتب أمريكي تشيلي من أصول أرجنتينية، روائي ومسرحي ونشط في مجال حقوق الإنسان. والعنوان الأصلي للقصة Gringos، وهي كلمة للاستهجان يوصف بها الغريب في أمريكا اللاتينية وخاصة الأمريكان والإنجليز.
٢  كتالونيا Catalonia: منطقة في جنوب شرق إسبانيا.
٣  سيدتي، سيدتي: بالإسبانية في الأصل.
٤  حدث شيء هناك: بالإسبانية ثم بالإنجليزية.
٥  عنكبوت، عنكبوت: بالإنجليزية ثم بالإسبانية. لا، لا، عنكبوت، لا، لا: بالإسبانية في الأصل.
٦  مونتجوك: حديقة على هضبة في برشلونة. ميرو Miró (١٨٩٣–١٩٨٣م): رسام إسباني.
٧  لا توجد مياه؛ مياه: بالإسبانية في الأصل.
٨  التنظيف صعب هنا: بالإسبانية في الأصل.
٩  مدخل: بالإسبانية في الأصل.
١٠  شكرًا، شكرًا: بالإسبانية في الأصل.
١١  هذه زوجتي: بالإسبانية في الأصل.
١٢  نحن من تشيلي أصلًا: بالإسبانية في الأصل.
١٣  القهوة بالحليب: بالإسبانية في الأصل.
١٤  جورج إليوت Eliot (١٨١٩–١٨٨٠م): روائية إنجليزية اسمها الحقيقي ماري آن إيفانز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤