الغرباء
وأورلاندو يمر بالرجل، نظر إلى الرجل نظرة طويلة متفحصة. حتى رغم أن كارينا ظلَّت تطلب منه ألا يفعل ذلك، لا أبالي، قالتْ منذ بضع دقائق، إذا كان الناس هنا في إسبانيا أو في أمريكا اللاتينية يفعلون ذلك دائمًا، هذا عمل فظ، يا أورلاندو، فظ حقًّا، يا إلهي، حاول أن تؤمن بأنك ستعود إلى الولايات وتتصرف … حتى رغم أن كارينا نفسها، صادقة في نصيحتها الجديدة، استعجلها الرجل الذي يقف في مدخل المبنى السكني القديم، متجنبًا بتصميم إغراء النظرة، وحتى الوثبة الجانبية الخفية من العينين، لا شيء.
لا حيلة لأورلاندو في ذلك. يُحدِّق دائمًا في الناس، يقيِّمهم، قال، مفتونًا بما قد يكون خفيًّا ومكتشَفًا، بما يكمن خلف ملامحهم، حتى إذا كان يعرف أنه لم يستطعْ قط فك أسرار كائن بشري آخر كما تستطيع كارينا، ليس حتى إذا استغرق بدلًا من ثلاث ثوانٍ عابرة ثلاث ساعات أو استغرق الأبدية ثلاث مرات لفحص الوجه، مُدركًا في أسًى وهو يمر ويلتفت برأسه بسرعة في اتجاه الرجل إنه سينسى كل تفاصيل هذه الخبرة غالبًا بمجرد انتهائها، مدركًا أنه بعد ساعة، في الحقيقة بضع دقائق، لن يكون في ذاكرته أثر لها.
حينذاك، بالطبع، مرَّ أورلاندو وكارينا وكانا في طريقهما، يبحثان عن أقصر طريق إلى لابوكيريا، السوق الرئيسية النشطة في برشلونة، وإغراءات شارع الرمبلا كتالونيا خلفها. لكن ليس قبل أن يستحوذ الرجل، في اللحظة الأخيرة، على نظر أورلاندو. ليس قبل أن يفهم الرجل أن أورلاندو حاول أن يلتهمه بعينيه، مُقْحِمًا الرجل في خبرة بسيطة ربما من حيث لم يتوقع قط، نفض عنه الغبار، ووضعه في الواجهة. لا بُدَّ أن الرجل خمَّن بالتأكيد الشفقة التي زحفت في عيني أورلاندو وهما يتجنبان عينيه وهو يواصل مع هذه المرأة المتألقة التي تهز ردفيها؛ كأن الرجل البائس، في رأي أورلاندو، لا ينتمي لمكان على هذه الأرض أو حتى على الأقل في برشلونة، وبالتأكيد ليس أمام هذا المبنى السكني حيث لا فرنشيسكا الخفية في المجالات العليا أو أي شخص آخر يُقدِّم له السلوى، لا يرافقه إلا الوميض الزائل في عيني أورلاندو.
فتشت كارينا، بكفاءة كالمعتاد، في حقيبة يدها وأخرجتْ بعض المناديل الورق. أخذ الرجل بعضها وأعطى واحدًا لأورلاندو، طالبًا منه بطريقة لا تزال طفولية أن ينظف زوجته، واحتفظ ببعضها لنفسه ليعمل بجدٍّ في تنظيف قميص أورلاندو وبنطلونه الجينز الأزرق.
بمجرد شعور كارينا بأنها نظيفة بشكل كافٍ، فحصت أورلاندو، ووجدت بضع بقع صغيرة، وتركتها في حالها. لم تتبقَّ مناديل. خامدةً رجفةً — فكرت: كأن هناك حشرة تزحف تحت أظافري — ألقتْ بالمناديل المستخدَمة في ركن في ظلمة ردهة المبنى، وتركتها بين ركام من الطوب والنفايات المتنوعة، نعم، حتى الفراش القديم البالي.
«هل تحب أن تتناول مشروبًا معنا»، قال أورلاندو، مما أثار استياء كارينا؛ لا تستطيع القول إن جوان لا يحتاج الشكر بهذا الشكل المسرف في العاطفة، كما اعتاد أورلاندو المبالغة في ذلك، معتقدًا ضرورة رد كل جميل في الحال، أو ربما كانت مناورة اعتاد عليها أورلاندو للتنقيب في الحيوات الغريبة التي تصادفه، ليضيفها إلى مجموعته، في صراع أبدي ضد النسيان. لم يكن هناك، بحال من الأحوال، ما يمكن أن تفعله كارينا فيما يتعلق بهذا سوى أن تتعاون وتُصِرُّ على أن جوان، بدون جدل، يجب أن ينضم إليهما ببساطة، كان لطيفًا ورائعًا للغاية، رغم انقشاع الحذر الذي غمر عينَي جوان خلْف نظارته بسرعة. لكن صديقهما الجديد ردَّ بنعم، بالطبع، شرف، وأضاف، نحتاج جميعًا إلى أن نغتسل.
ساروا إلى الركن في صمت وكانت هناك حانة صغيرة يلعب فيها بعض الكتالانيين المسنين الكوتشينة. اختارت كارينا طاولة قُرب المدخل وشاهدتْ أورلاندو وجوان يذهبان إلى الحمام وحين عادا، ذهبتْ إلى غرفة السيدات وأخذتْ تنظف نفسها، واشمأزت من فكرة أن إسهال الطيور ربما نفذ من المناديل إلى أصابعها. كانت آثار القذارة على السويتر والبلوزة، جامدة وجافة، وكارينا لا تريد أن تُقرِّب أي شيء من هذا، الأصابع أو السويتر أو أي شيء، إلى أنفها، يائسة من التخلص منها، بعيدًا عن بشرتها، وبعيدًا عن ذكرياتها. أوه يا إلهي — فكرتْ في هذا وهي تحاول محو البقع وصَبَّ المزيد من المياه عليها — وكان عليها أن تعود لاستضافة هذا الرجل الغريب وتتذكر، في وجوده، مدى شعورها بالتلوث. انتابتها رغبة فجائية في التبول لكنها نظرت إلى التواليت بنفور وقررت ألَّا تخاطر باستخدامه. كانت رائحة المطهِّرَات في الحمام، تتخيل أنها تختلط ببقايا الطيور التي سقطت عليها، كانت كثيرة جدًّا، حاولت التوقف عن الأفكار السخيفة، ساخرة من أسنانها الرائعة في المرآة، وتنفستْ بعمق، بعمق شديد.
بدأ أورلاندو يملأ الصمت، كما كان يفعل دائمًا، كارهًا اللحظات الثقيلة الطويلة التي لا يتكلم أحد فيها. حدَّث جوان عن زيارته الأولى لبرشلونة، وهو في التاسعة. صعد أورلاندو وأسرته المونتجوك، بالضبط كما حدث اليوم — لكن لم يكن هناك خرا طيور، أضاف، لم يكن هناك خرا على الإطلاق — وأكثر ما يتذكره معرض مبهج ومتاهة من الشجيرات، وكيف حاول أن يصل إلى مركز التيه ويضرب الجرس، وفعل ذلك قبل أن يعثر أخوه الأكبر على الطريق. استغرق أورلاندو بولع في ذكرياته عن عودته ليلقي تهنئة والديه.
قال جوان: «هل كنْتَ دائمًا ولدًا بارعًا؟» قالها ببلاهة، بحماقة تقريبًا، كأنه يسعى إلى تعليق، كأنه لم يستمع إلى القصة. كأنه يريد أن يكون في مكان آخر، ترى كارينا ذلك، لكن بالطبع كان أورلاندو غافلًا تمامًا عن كل شيء إلا متعته. ربما كان جوان مملًّا. أو ربما، لأنه لم يكن ذكيًّا جدًّا، لم يحب جوان بشكل خاص القصص التي تحكي عن تألق الآخرين. أو ربما كان يدفع نفسه ذهنيًّا لمساعدة هذين الغريبين اللذين جعلاه يفقد موعدًا، لقاءً مهمًّا، ربما مع فتاة أحلامه التي كانت ستفتح ذراعيها لعناقه في تلك الأمسية. مهما تكن الأسباب، كان جوان عصبيًّا بوضوح، لم يستطع الانتظار للخروج من هذا الجحيم.
«هل تعتقد أن هذه المتاهة لا تزال هناك؟» سأل أورلاندو، وقاطعتْه كارينا. قالت: «ينبغي علينا أن ننصرف»، مندهشة مرة أخرى مما يجعل زوجها عاجزًا عن فهم حقيقة ما يشعر به جوان، أو أي شخص آخر، بالنسبة لهذه المسألة.
«حسنًا.» يباركه، التقط أورلاندو إيماءتها، ووضع يده في جيبه، ومطَّ شفتيه، وفجأة سأل كما لو كان بعد تفكير متأنٍّ: «ماذا بشأن أن تدفعي الحساب، يا حبي؟ كان سويترك رغم كل شيء.»
اندهشتْ ولم تعترضْ. لم يكن أورلاندو الشخص الذي يحب دفع حساب هذه الأشياء إطلاقًا، وخاصة الطعام، وخاصة في وجود رجل آخر. ربما كان لا يريد أن يشعر جوان بأنه تحت ضغط، معتقدًا أن جوان لن يعرض أن يدفع لنفسه إذا جاء العرض من امرأة، خاصة امرأة حازمة مثل كارينا، من الواضح أنها تعرف طريقها. هكذا وجوان يشاهدها، أخذت الفاتورة وتركت بقشيشًا، ثم بمجرد أن نهضت، وقف واستأذن، وهمهم بأنه أيضًا في حاجة إلى أن ينصرف.
«ربما نلتقي مرة أخرى»، قالتْ كارينا، لأن أورلاندو لم يتكلم إطلاقًا، لم ينطق بكلمة، كان يتفحص فقط وجه جوان بفضول واضح ورَّطَ أورلاندو في الكثير من المشاكل في مرات كثيرة من قبل.
قال جوان: «ربما، لكن في المرة القادمة سوف أدفع. دوري.»
كان وداعًا غريبًا، نهاية غريبة لمقابلة غريبة، ولم يأتِ على ذكرها أحد منهما وهما يتوجهان إلى الفندق، لم ينطق أحد بكلمة، حتى قال أورلاندو في غرفتهما، بعد عشر دقائق، بالإنجليزية، بمجرد أن أغلق الباب خلفه: «أحتاج بطاقة الاتصال الخاصة بك، بسرعة.»
تطلعت إليه في حيرة.
«علينا أن نتصل بأمريكان إكسبريس والبنوك للحصول على الفيزا والماستر كارد.» وقبل أن تنطق بكلمة، أضاف: «البطاقات. سرقها. جوان أو مهما يكن اسم هذا اللعين. سرقها من جيبي وهو ينظف ملابسي.»
انتظرتْ. جلستْ على حافة السرير.
«متى أدركْتَ ذلك؟»
«على الفور. بمجرد حدوثه.»
«في ذلك المبنى؟»
«بالطبع. بمجرد حدوثه.»
«كم كان المبلغ؟»
«ليس كبيرًا. البطاقات فقط، رخصة القيادة، وبطاقة الائتمان الاجتماعي. لكننا نُضيِّع الوقت يا كارينا.»
«وخرا الطيور؟»
«صبغة. لا بُدَّ أنه لطَّخنا بها، أو ربما كان معه زميل فعلها في المنتزه. هنا. شمي.»
لم تقبل السويتر الأسود الذي كان أورلاندو يُقدِّمه لها.
«ودعوْتَه على مشروب؟»
ترك أورلاندو السويتر يسقط على السجادة وجلس جوارها. أخذ يدها. كانت يد أورلاندو دافئة، رقيقة، متوترة.
«لم أود أن أجعله يعرف أنني أدركتُ أنه نشَّال. يمكن أن يفعل أي شيء لنا، لك، في ذلك المكان. مثَّلتُ البراءة. وهو أيضًا مثَّل البراءة. الدور الذي خدعنا. كأنه يستطيع أن يقرأنا أكثر وأكثر. عليك أن تُسلِّمي بذلك. كان ممتازًا.»
«لا أعتقد أنه هو. ربما فقدْتَ البطاقات في المتحف، حين كنت تدفع حساب اﻟ … أنت دائمًا …»
«هو، حسنًا. أستاذ حقيقي. أكره أن أقول ذلك، لكنه غالبًا يستحق بطاقاتي.»
كانت تعرف أن أورلاندو يكذب. تعرف أنه لم يعرف حينها، في الرحم البشع لتلك الردهة المهجورة، تعرف أنه لم يفعل ذلك ليحميها، لفَّق هذه القصة ليحافظ على ما يشبه السيطرة على حَدَثٍ خُدِع فيه طوال الوقت، حتى اللحظة التي وضع فيها يده في جيبه في البار ليدفع الفاتورة وفهم أن المحفظة كانت في جيب جوان، بجوار سكِّين أو ما هو أسوأ، وأن جوان ما كان ليتردد في استخدام ما معه في لمح البصر، ويمزق وجهها، موس في عنقها أو عنقه بين رجال مسنين يلعبون الكوتشينة. حينذاك، حينذاك فقط، أدرك أورلاندو ما حدث.
قالت، إنها لا تستطيع منع نفسها من القول: «وحكيْتَ له تلك القصة عن ذكائك وأنت طفل؟ كنْتَ تلعب معه …»
قال أورلاندو: «أردتُ أن أجعله يعرف أنها مسألة عُمْر، لا يمكن أن أقع في مثل هذه الخُدع حين كنتُ أصغر. أقصد، عشنا … ماذا؟ عشرين عامًا، خمسة وعشرين عامًا في المنفى؟ ولم يحدثْ لنا شيء كهذا أبدًا.»
«كل تلك البلاد»، قالتْ، وكانت تفكر في المكالمات التليفونية اللانهائية والأشياء التي كان جوان يشحنها على حسابهما في تلك اللحظة والاستمارات التي عليهما أن يملآها والبطاقات البديلة والتأكد من الضمانات والتفسيرات التي لا تنتهي وإفساد الإجازة وابنهما وبنتهما وزوجها في الولايات يهزُّون رءوسهم دهشة والأصدقاء في نيويورك يستمتعون بالقصة أثناء تناول العشاء والتأسي وزيارة الغد إلى أمريكان إكسبريس للحصول على نقود ورخصة القيادة الجديدة بمجرد العودة إلى الوطن ورقم الضمان الاجتماعي الجديد و… قطعت تيار أفكارها. «زوجان تشيليان يُخدعان في برشلونة.»
«قرأتُ عن هذه الخدع في دليل «التايم آوت».» قال أورلاندو، وهو يقف ويذهب إلى درجه، يُقلِّب في دفتر العناوين للبحث عن أرقام التليفونات. «قبل بضعة أسابيع، وأنا أُعِدُّ لرحلتنا.»
«قرأْتَ عن ذلك؟»
«حذَّروا من حيلة خرا الطيور.»
«هكذا؟»
«نسيتُ الأمر. نتحدث الإسبانية. إننا على قيد الحياة. لم نكن المقصودين، كما تعرفين، بهذا النوع من التحذير.»
ابتسمت كارينا، ابتسامة سأم. «نعم. يُفترض أن يحدث ذلك للغرباء.»
«ربما نتحول إلى غرباء.»
وقفتْ هي الأخرى. وقفت فجأة بطريقة أدهشتها هي نفسها، وقالتْ: «ماذا أفعل معك؟»
«معي؟ أنت التي أُصبْتِ بالهلع. إذا لم تُجَنِّي لأنك اعتقدْتِ أن هناك عنكبوتًا …»
«نُضيع الوقت. ينبغي أن تتصل. من يعرف ما يشتريه هذا اللقيط الآن.»
«أحتاج بطاقة الاتصال الخاصة بك.»
«بطاقة الاتصال الخاصة بي.»
«بطاقة إم سي آي الخاصة بك. تعرفين أنني …»
قالتْ: «حسنًا. شيء لم يأخذه جوان الغبي المسكين. لا بُدَّ أن شخصًا آخر يستخدمه الآن، يجرب الرقم السري على الكمبيوتر.» فتحتْ حقيبة يدها، بحثتْ فيها، أخرجت البطاقة، وقدَّمتها له. كانت على السرير بينهما، سوداء تلمع على الملاءات. قالت: «فيما بعد تنسى كل شيء، تعرف.»
قال: «أعرف.»
كانت تعرف ما سوف يقوله فيما بعد.
قال: «إلا أنت. لم أفقدك.»
«حسنًا»، قالتْ، وهي تلتقط البطاقة وتضعها في يده وتُغلق أصابعه عليها واحدًا واحدًا. «أنا الشيء الوحيد الذي لم تفقدْه.»
قال أورلاندو: «كبرنا.»
يبدأ الاتصال. استمعت إلى صوت الأزرار برهة قبل أن ترد عليه.
قالت: «نعم. كبرنا.»
تعرف أن ذلك ليس صحيحًا. تعرف أنه كان على هذه الشاكلة دائمًا.