عين الماء
لم يكن حلمًا، لأنه لم يكن في سريره ولم يكن نائمًا. كان في مقعده، أمام المدفأة في الشتاء، أو أمام باب الحاجز في الصيف، وكان دائمًا قرب منتصف الليل.
ينام على رصيف الميناء، أثناء فيضان ١٩٢٧م، بالطريقة التي اعتادوا الالتفاف بها للحفاظ على الدفء في الوحل — حتى الرجال والنساء الكبار، إذا كانوا نحافًا ومرنين. لا تستطيع المرأة الضخمة التي تُدعى نيت النوم بهذه الطريقة. تنام على ظهرها وبطنها باتجاه القمر وثلاثة أطفال تتشبث بهم أصابع قوية في شعورهم أو ذراع على أجسامهم، شاهدهم جوستاف في ضوء القمر، مثل حيوانات رضيعة تبحث عن الطعام.
لكن لم يكن هناك طعام، بعد ثلاثة أيام. كانوا يعملون في القصب حين أتت المياه مثل سجادة تُبسَط أمامهم. لا يحملون سوى معاولهم وصُرر الغداء.
لسع شيء أمه في الحقل في اليوم السابق. عنكبوت؟ تضخَّم كاحلها وتورم. بقيت في الغرفة لتنام. محت المياه البيوت العشرة كلها القريبة من بايو بيكيس، من الحقول.
انتظروا قاربًا. توقفت المياه عند ارتفاع عشر أقدام من قمة الرصيف تقريبًا. لم يروا في النهار سوى مياه سمراء مصفرة قذرة تندفع قرب الناس، مياه تتلاطم في أمواج صغيرة وتتوقف في دوائر. وكان هناك عالم كامل تحت المياه.
بعيدًا، قُرب حافة المشهد، رأى قمتي سقفين، الكنيسة والمدرسة. تلاشت بقية المنازل المتناثرة في سارات وبايو بيكيس. لا يظهر من أشجار البلوط والجوز إلا قممها، وكانت الغصون مثل العروق على قمة المياه. والثعابين تنتظر في الغصون، تقيس المسافة إلى الرصيف.
سمع جوستاف الأصوات: «لن آكل أي ثعابين. لست هنديًّا. أريد بعض اللحوم، لا أريد ثعابين.» لم يكن حلمًا، ولم يكن مستيقظًا. نام في مقعده، منتصبًا، أمام باب الحاجز المفتوح.
على رصيف الميناء، التفَّ حول نفسه بقوة ليقاوم البرد وشعر أن فقراته تنثني مثل صفصاف رطب. غطَّت الكلاب والقطط وجوهها بذيولها، ولم يكن لديه شيء. لم يكن لديه إلا قميص وبنطلون قذران من القصب. لم يكن معه طعام غداء. يأمل أن يشارك شخصًا ما في طعامه. على الصناديق رجلان يجلسان، يشاهدان. لم يكن يعرفهما. كانا من مكان آخر.
كانا يتطلعان إلى قارب، إلى جنود، إلى شخص ما.
أحيانًا يطفو خنزير ميت أو بقرة بجوارنا. الأذن صغيرة جدًّا. الحوافر مثل أطباق رمادية.
كان التليفون جُدْجُدًا أسود في المطبخ، وبمرور الوقت أدرك أنه ليس جُدْجُدًا، نهض من مقعده وشق طريقه إلى الخلف، توقف الضجيج. رأى جوستاف قرص التليفون الدائري. كانت ابنته جلوريت تلهو دائمًا بالتليفون وهي صغيرة، وتذهب إلى منازل أصدقاء المدرسة في ريو سيكو، بعيدًا عن مكان سكنهم في سارات، المكان الذي أعده هو وإنريك هنا في كاليفورنيا. قالت إن تليفونات الأميرة وردية وذهبية. كانت تليفونات الحائط مثل شباشب المنزل.
استند جوستاف على طاولة قرب التليفون، إذا رنَّ مرة أخرى. ليست جلوريت. لم تتصل ابنته به أبدًا، خلال خمس سنوات منذ وفاة أمها. لم يُقدِّم لها سوى النقود، وكانت كل ما تريده لشراء مخدرات. لكن ابنه، فيكتور، ربما يتصل. في عملية الانتقال كل ثلاثة شهور من شقة إلى أخرى، طُرِدَ بأمر قضائي، وبالطريقة التي تعيش بها جلوريت مع اللصوص والحمقى، من حين لآخر كان فيكتور يعاني الجوع واليأس. اشترى له جوستاف تليفونًا محمولًا تَحَسُّبًا للطوارئ.
فتح غطاء إناء الفول الذي أعدَّه من قبل. هبَّت رائحة الفول حين نفخ فيه ليعرف إن كان طريًّا. حبات الفول والأرز القاسية تحوَّلت إلى طعام. تطحن الذرة وتتحول إلى دقيق لصناعة الخبز. فكر في أمه، وهي تقف أمام جمرات نار الطبخ، لتصنع خبز الذرة.
اعتاد حفيد جوستاف أن يبقى لأسبوع أو نحو ذلك وتعود زوجته وهو في السادسة أو السابعة، والأمور سيئة. كان جوستاف يظل يقود السيارة، ويقف عند المنزل المستأجر ويجد الولد يجلس في المطبخ مع كتبه المدرسية وأوراقه وعلى وجهه قناع كما يحدث في مهرجان ماردي جراس، لكنه لم يكن قناعًا باسمًا. تتحرك عيناه فقط. أمه في الخارج طوال الليل. يأكل الفشار الجاف في طاسة، والغبار الأصفر مُلتصق في شفتيه.
تصنع أنجولي خبز الذرة كل ليلة. الكشكش في الصباح، هريسة الذرة متماسكة بدبس السكَّر. وفي السبت، لوبيا وأرز. لحم غير متصل بالعظم. لحم الضلع. ظهور دجاج. عظام الرقبة طافية مثل لغز على سطح الماء. يضع حفيده عظام الرقبة في فمه ويقطب حتى يقول جوستاف: «أخرجْها بإصبعك، نعم، إنها مجرد مذاق الآن. سقط عنها اللحم.»
اتصل فيكتور قبل ثلاثة شهور. كان مصابًا بنزلة برد، ولم تعد أمه إلى البيت منذ ثلاثة أيام. لديه امتحانات في المدرسة. وجد جوستاف المبنى السكني الذي يُدعى لاس بَلْماس، وأحضر نقودًا وأدوية. ثيرافلو وأدفيل. ذلك ما طلبه حفيده. في خزائن الأكواب، هناك أكياس من المكرونة تبدو مثل أربطة سيئة الصنع، وفي الثلاجة صودا. قال جوستاف: «تعالَ واجلس معي. تناولْ بعض اللحوم والبرتقال. نحصل لك على توصيلة إلى تلك المدرسة، هناك.»
رقد حفيده على الفراش وقال: «أتخرج في يونيو. أستطيع المشي الآن. أنا بخير، يا جدي. شكرًا.»
سمع جوستاف صوتًا من خلال نافذة المطبخ، كانت مفتوحة، وشخص يتحدث في الطريق قُرب منزل إنتريك. النافذة مفتوحة لتدخل هواء الليل البارد. كل المنازل باستثناء منزل إنتريك مكوَّنة من ثلاث غرف، غرف ضيقة مستطيلة، مثل لويزيانا حتى وإن كانت هذه كاليفورنيا. رائحة زهور البرتقال أقوى هنا، قرب الأشجار. حين أحضره إنتريك إلى هنا، في شتاء ١٩٥٧م، كانت هناك زهور وثمار على الأشجار في الوقت ذاته، في يناير. التقطوا البرتقال في صباح اليوم التالي وتساقطت الزهور مثل نجوم بيضاء. قال إنتريك: «يمكن أن تأخذ هذا المنزل، حين تأتي بأنجولي من لويزيانا، حين تتزوجها.»
تناول جوستاف طَبَقًا من الطعام في الشرفة تلك الليلة، بالطريقة التي تأكل بها أمه في نهاية يوم حار حين لا تحتمل البقاء داخل غرفتين ضيقتين، واحدة فيها موقد يشع حرارة، وواحدة تشغلها الأسرة.
سخَّن جوستاف كعكة الذرة على الموقد. تاج أزرق من اللهب في الظلام. بقع سوداء في دائرة على كعكة الذرة.
أكل الكعكة الجافة الناعمة، متذوِّقًا العلامات المحروقة. فاحت من موقد الغاز القديم رائحة تشبه رائحة الحديد. جلست أمه جواره في حقل القصب قبل لدغها بيوم، قدَّمت له قطعة من خبز الذرة عليها عصير قصب. صرختْ زوجته حين رأت اللهب الأزرق أول مرة وعرفتْ أنه ليس عليها أن تعد الحطب للطبخ.
أخذ جوستاف رشفة من الروم من كوب صغيرة على الطاولة. وحمل حفنة من الفستق ووقف عند الحاجز، يكسر البندق، ويحتفظ بالقشر في كفه. يتحدث أولاد إنتريك مع آخرين، عند شرفة إنتريك الواسعة.
كان الفستق أخضر ورديًّا مملحًا. لا شيء آخر يشبه هذا المذاق. رفض جوستاف أكله حين أعطاه شخص كيسًا، رجل يزرعه في البلدة المجاورة.
حين أتى فيكتور ليبقى معه بضعة أيام في السنة الماضية، وجلوريت في المستشفى تعاني من التهاب رئوي، سخر من الطعام على الطاولة وقال: «كيف تعيش على كعك الذرة والبندق والقهوة واللوبيا؟»
وقال جوستاف: «أنا في الثمانين، نعم؟ آكل ما أحب. حين تبلغ الثمانين كل ما تحب. الكشكش في الإناء لفطورك.»
صب حفيده السكَّر واللبن على الهريسة الساخنة وأكل في صمت، تطن سماعته كأن داخل الأذن حشرات محبوسة. حين انتهى، قال: «لا أشرب قهوة.»
قال جوستاف: «البرتقال على الطاولة. كل واحدة واعتبرها عصيرًا. وآخذك إلى تلك المدرسة، هناك.»
ألقى قشر الفستق في السلطانية. لم يرَ قط والد الولد. لم يرَه أحد.
حاول تخيُّل ما لدغ أمه في الماء بحيث يورِّم كاحلها بهذا الشكل ويلهبه فلم تستطع مغادرة السرير في الصباح. نحلة أم دبور، عضة الثعبان تترك أثرًا. عنكبوت؟ كل الأشياء في حقول القصب، مختبئة في غابة من سيقان القصب.
كاحل أمه. أقدام الخنازير. قطع من لحم الخنزير. قالت إن قطعة واحدة من لحم خنزير يمكن أن تُضيف نكهة لإناء ضخم من اللوبيا. مملَّحة ومُجفَّفة ومنكمشة، ثم تطفو منتفخة ومزدهرة على سطح الماء المغلي. كانت تنتزع كل جزء من اللحم من الغضروف والجلد.
حاول تخيُّل مؤخرة المرأة التي كانت في البار. يد والده على اللحم. الرصاصة في صدره. كان والده على بُعد عشرين ميلًا من الرافد، ولا أحد يعرفه. بقي الجسد في المشرحة. ثلاجة اللحم. أخبر رجل أمه بعد أسبوعين، لكنه كان قد دُفِن. هكذا على جوستاف أن يتصور وجه أبيه، متجمِّدًا في ابتسامة أو صرخة أو تجهُّم، ويده متجمدة في شكل لحم مستدير، وفي صدره ثقب صغير أو كبير.
أصابع قدميه والأوتار، حين خلع حذاء الجيش واستلقى في الحقل مع الآخرين. ساقا ابنته، حين كبرتا نحيفتان. دُمَاها. زينة الشعر والخرز والمكياج والغسول وطلاء الأظافر مثل المجوهرات المتناثرة على التسريحة.
طفت الأصوات في الطريق القذر باتجاه بابه. وقف اثنان من أولاد إنتريك على سلمه الخشبي. «العم جوستاف»، قال أحدهما، اندمجت الكلمتان في واحدة، الاسم الذي نادوه به دائمًا رغم أن أباهم لم يكن أخاه في الدم.
دماء خنزير على يدي إنتريك.
«إنها هنا»، قال الابن، لافايت، الأكبر، وعلى ساعديه لصقة جافة. خرج جوستاف على السلم.
قال: «جلوريت؟» لم تكن هناك واحدة أخرى.
رفع لافايت ذقنه. «جلوريت. أحضرناها. إنها …»
كان جوستاف يعرف. تنفس الغبار الحاد الذي تصاعد من أقدامهما. جاف في يونيو. توغَّلَ الغبار في داخله.
«وجدها شخص. هناك قرب المغسلة.»
أغلق باب الحاجز القديم خلفه، صوت المزلاج الصغير، وتركاه يذهب أولًا ليرى جسدها.
كانت تستلقي على الكنبة في الغرفة الأمامية الكبيرة في منزل إنتريك. زوجة إنتريك، ماري تيريز، في انتظاره. تسوي الشعر القصير مثل شريط متهدل على جبهة جلوريت.
ابنته على ظهرها. فمها مفتوح. عيناها مغلقتان. وشعرها متشابك مثل طحلب أسود على وسائد الكنبة. ضلوعها واضحة، تحت السونتيان. وجلدها شاحب مثل الجوز النيئ. كانت تنام في النهار وتخرج في الليل. دخنت كمية الكوكايين الصغيرة التي رآها. مثل حبيبة تؤخذ من حَلْقِ دجاجة.
لم تكن هناك دماء، أو علامات، أو جروح، أو خدوش. باستثناء ثلاثة أهلة على ترقوتها. كأنها خربشت نفسها.
لمس جوستاف ترقوتها. التأمتْ قطعة من العظام بعد أن انكسرت نتيجة سقوطها من فوق شجرة برتقال. لم يستطِع لمس شعرها. وهي في الرابعة عشرة، أعاد لحم جسدها ترتيب نفسه، وكبرت عيناها يقظتين تحت فرو الحاجبين والرموش. كان شعرها يخرج من الجدائل والضفائر التي تعملها زوجته كل صباح، وكانت تدهن رموشها بزيت علبة الكرَنْك وتُطلي شفتيها، وتختفي في غرفتها. شقَّ الخوف من جمالها طريقه إلى أحشائه. كان ذلك حيث شعر به، في الأنابيب التي تأخذ الطعام خلال الجسم.
أعلنت الترقوة بشكل ما عن جمالها، والتجويف في أسفل حلقها.
قالت زوجته: «أتى إليها رجل في مخزن الفئوس وسأل إن كانت تريد أن تكون عارضة أزياء، يقول إنها نحيفة، ويمكن أن يأخذ صورتها»، ووضعت شفتها بين أسنانها وأبقتْها على هذا الوضع حتى تركتْ عليها أثرًا واضحًا. زوجته، ببشرة تشبه كعكة الذرة، وشعر مجدول فوق رأسها على شكل تاج، وجدة فرنسية من بايو بيكيس. اختبأتْ في منزل أمها من قبل حين أتى رجال في سيارات، أصابعهم مدربة على السحب والمسك، ليروها.
سأل زوجته إن كانت تخاف من جمال جلوريت، فأومأتْ. سألها أين شعرت بالخوف، فقالت داخل عظام فخذيها، حيث تستريح جلوريت فترات طويلة جدًّا.
حين رحلتْ جلوريت مع الرجل الذي أنجبت منه فيكتور ثم اختفى، دخل جوستاف إلى غرفة نومها، المرة الأولى بعد العودة من الجبهة. تجلس دُمَاها البربي على حافة النافذة، وأرجلها مُعلَّقة في الهواء. اشترى زوجها الدمى لسنوات، تقول: «لكل فتاة دمية. دمية بربي والملابس. في خزانتها. فيها حمالات صغيرة، نعم.»
قالت ماري تيريز: «أعرفك يا جوستاف. لن أقول ذلك.»
أومأ. كانت أفضل صديقات زوجته. ابنة عمها. لم تقل: بركة أن أنجولي ليست هنا لترى هذا.
لم يكن ذلك صحيحًا. عرفت أنجولي، طوال الوقت، حتى منذ كانت جلوريت لا ترغب في الذهاب إلى المدرسة أو السير إلى ريو سيكو مع الآخرين. كانت جميلة جدًّا، ولا أحد يتركها في حالها.
هكذا أتت نساء سارات ولويزيانا إلى هنا، على هذه الأرض التي اشتراها إنتريك في كاليفورنيا. بعد الفيضان، حين زرع القصب من جديد ونُظِّفت المنازل من بقايا المياه والحيوانات الميتة، وعاد الرجال إلى العمل، كان عندهم بنات. مستر مكوين، الذي كان يمتلك أراضي بايو بيكيس وسارات، غرسهم في الحقول والطرق القذرة والغابات. قال إنتريك إنه مثل كلب يتذوق دم الدجاج.
قتله إنتريك أنتوين، عرف جوستاف؛ لأن جوستاف علَّمه كل شيء. منذ أطعمه لحمًا يُدخن شبه نيئ على رصيف الميناء، في الظلام، كان جوستاف يراعي إنتريك. ثم أخذ إنتريك يراعي جوستاف.
حينذاك قال إنتريك: «دعْ ماري تيريز تجلس معها»، وأخذ ذراع جوستاف كأنهما زوجان وقاده باتجاه المخزن.
ركن ابنا إنتريك، لافايت ورينالدو، شاحنتهما تحت شجرة الجميز الكبيرة قرب المخزن. جلس إنتريك وجوستاف إلى طاولة خشبية حيث يعملان على أجزاء المحرك. تناول جوستاف فلتر هواء جديد من الدكة. وضعت جلوريت واحدًا حول حنجرتها وهي صغيرة وقالت إنه يبدو مثل عقد ملكة رأتها في حصة التاريخ.
سأل الآن: «كيف أحضرتها؟»
لافايت في السابعة والثلاثين، أكبر من جلوريت بعامين. قال: «الشاحنة.»
«كيف وجدتَها؟»
أومأ لافايت للرجل الثالث، شخص لا يعرفه جوستاف. ليس من سارات.
قال الرجل: «وجدتُها في الزقاق خلف مطعم، مستر بيكارد. أنا سيدني شابرت. اعتاد أبي العمل في ثلاجاتكم ومغاسلكم.»
تطلع جوستاف إلى الصدر الأسود العاري، صدر الرجل، ضلوعه، الاسم الموشوم على قلبه. «من هذه؟»
«ابنتي.»
قال: «من قتل جلوريت؟»
جثم سيدني أمامه، وساعداه على ركبتيه، وقال بهدوء، «مستر بيكارد. أعرف جلوريت من أيام المدرسة. رأيتُها حول الزقاق من قبل. تعرف. آسف.» توقف ليستعيد توازنه وقال: «أعمل في محل الفيديو، وكنتُ عائدًا إلى البيت، كانت في الزقاق. في البداية … تنتظر شخصًا متأنقًا، على ما يبدو، قُرب عربة التسوق. ثم جاءت صديقتها.»
«طويلة؟» قال جوستاف. كانت ابنته تجري دائمًا مع امرأة سوداء طويلة بندوب في وجهها، كانت صديقة دائمًا لهذه المرأة ولم تُصادق قط فتيات أخريات في سارات.
قال سيدني: «نعم. كانتا تسيران في الزقاق. أقصد، كانت تلك المرأة تسير، وجلوريت لا تنطق بكلمة. وهكذا ربما كانت تعرف. حين خرجتُ مرة أخرى إلى الزقاق، لم يكن هناك أحد، وكانت جلوريت في عربة التسوق.»
«من وضعها هناك؟»
هز سيدني رأسه. «لكن أعرف من لم يفعل ذلك. بائعو المخدرات لم يفعلوا ذلك، ربما أطلقوا النار عليها فقط من على بُعد. هكذا يتصرفون. لا يقتربون ولا يلمسون أحدًا. ولا أعتقد أن زبونًا فعلها، كان سيترك أثرًا. ربما سيسيا. صديقتها. ربما تشاجرتا. لكن الشكل الذي بدت عليه جلوريت … أعتقد أنها دخَّنت الكثير جدًّا من الكوكايين وأُصيبت بنوبة قلبية.»
تنهَّد سيدني. «تعرف ماذا؟ كان أبي من نيو أورلينز. لكني من هنا. ريو سيكو. كلنا من هنا.»
حدَّق جوستاف فيه. ليس ولدًا. رجل. من الصعب رؤية ذلك أحيانًا. «لماذا لم تستدعِ البوليس؟»
طوَّح سيدني رأسه إلى الخلف كأنه يتفحص النجوم. لكن هؤلاء الشبان لا يعرفون النجوم. ثم قال: «لم أرغب في أن يهينوها. الطريقة التي قد يتكلمون بها عنها، التي يضيعون بها الوقت. لن يبالوا بمن قتلها. هكذا أخذتُها إلى لافايت ورينالدو. أخذاها إلى البيت.» طوى ذراعيه وانتهى اسم ابنته. «لكن ربما يوقفوننا. أنا بالتأكيد. نقل جثة. اشتباه. أحتاج أن أعود إلى البيت الآن. ولا أعرف حتى ما تفكر فيه.»
«هل لمسْتَها؟ من قبل؟»
قال سيدني: «مستر بيكارد، تطلعت دائمًا إلى جلوريت. لا أكذب. تطلع إليها كل الأخوة في ريو سيكو. لم ألمسها أبدًا. لم أفعل شيئًا لم تكن تريده.»
ثم سار من ساحة المخزن وخرج إلى طريق ضيق قذر خلال البساتين باتجاه القناة، حيث وضع إنتريك بوابة طوال كل تلك السنوات. كان جسر القناة الطريق الوحيد للدخول إلى سارات أو الخروج منها، والبوابة مغلقة. والمفتاح مع سكان سارات فقط.
قال لافايت: «تسحَّب خارجًا وسار عائدًا إلى ريو سيكو. رجل، ذلك الأخ تعلَّق بجلوريت طوال حياته، وأخبرني بأنه لم يتحدث إليها سوى مرتين.»
«تعلَّق؟» قال جوستاف، وهو يشاهد شخصًا صغيرًا يدخل بين أشجار البرتقال.
تكلم رينالدو أخيرًا: «حب خطير. يشبه المرض.»
شرب جوستاف بعض القهوة من تُرمس إنتريك، الفضي القديم. تعلَّق. ذلك ما وصفوا به ابنته. تعلَّق بشيء بدا غير مهم مثل قشرة محارة ودخل حلْقها ورئتيها ودماغها ليجعل العالم يبدو مثل … مثل ماذا؟ ماذا فعل هذا الدخان طوال كل تلك السنوات؟ تذوَّق القهوة. قاتمة، تُحمَّص حتى تسود كل صباح حين تُحرِّك ماري تيريز المقلاة على اللهب. كما كانت تفعل زوجته أنجولي، حتى قبل موتها بأسبوع. شم رائحة هذه الحبوب طول حياته. أول ما يتذكر: أمه تُحمِّص الحبوب وتضع واحدة في فمها، ويتذوق جوستاف واحدة ويُصاب بغصة تقريبًا من مرارة الحبة المحروقة.
صَبَّ إنتريك كوبًا لنفسه وانتظرا. كان جوستاف يسمع صوت حَلْق إنتريك.
حبوب القهوة والأرز وقصب السكر، ما كانوا يعيشون عليه في لويزيانا.
الخنزير. لحم الخنزير.
وضع جوستاف رأسه على يديه مثل طفل، على طاولة مُشحَّمة ملساء. رائحة الخشب.
كان اسم المرأة نيت. يطفو جسدها في الماء مع أشجار وثعابين وبقر وزَبَد.
شرب إنتريك قهوته ووضع الكوب برقة وسمع جوستاف نقرة مثل إصبع طفل على الخشب. انتظر الرجال. رفع جوستاف رأسه وقال: «أعود على الفور. أحاول الاتصال بابنها.»
سار مترنحًا إلى منزله. شعر أنه يميل إلى اليسار. احتاج سيجار سويشر سويت. ثم جمع الدخان الدموع على وجهه وتركها حتى جفت مثل شبكة العنكبوت على وجنتيه.
أصدر السيجار الصغير صوت جمرات صغيرة متوهجة. النار. غنت الذئاب ضاحكة في قاع النهر أغانيها الغريبة، المختلفة تمامًا عن أصوات الليل في لويزيانا.
جلستْ دمى بربي على حافة النافذة بأحذية صغيرة، وكعوب مدببة مثل الإبر. لم يرغب في العيش مع أحد، الزواج من أي واحدة، ستكون هناك جثة ذات يوم. عرف إنتريك ذلك. كان جوستاف على مشارف الأربعين حين كلَّمه إنتريك عن أنجولي، وذهب إلى لويزيانا ليراها.
كانت جثة جلوريت ملقاة داخل المنزل. ضحكت الذئاب مرة أخرى، ربما عشرة ذئاب أو اثنا عشر ذئبًا. ماذا شمَّتْ؟
ذات ليلة حين قُتِلَ الخنزير. شم رائحة الدم. يموت الرجال المتبقون على رصيف الميناء جوعًا. طفا اللحم بجوارهم لأيام، ولم يلمسه أحد. شاهدت المرأة الضخمة التي تُدعى نيت الأطفال يصرخون ويصرخون حتى صار الصوت مثل منشار ينشر في الخشب الذي تقطِّعه لإشعال النار، ثم تلاشى الصراخ وكبرت عيونهم وغرقتْ في تجاويف جماجمهم.
لم تظهر الجماجم على السطح إلا بعد أشهر حين انتهت المياه. الذكرى عمرها ثمانون سنة، لكنه في الليل يشم رائحة المياه، والحلاوة الشاحبة للأجساد القذرة والموت، والدماء في الدخان بالقرب منه هو وإنتريك. كانت عينا إنتريك واسعتين وواضحتين ومرهقتين.
وقف العساكر في القوارب مثل طيور مالك الحزين الطويلة، وأحدهم يُصَوِّبُ بندقيته إلى رأس جوستاف. «هذا الشخص في العاشرة أو نحو ذلك. عمل في الحقول، يستطيع العمل الآن.»
جذبت المرأة التي اسمها نيت جوستاف إليها، بجوار ابنها إنتريك. قالت: «في السابعة. في السابعة فقط.»
كان الرجل الذي ترك خلفهم عجوزًا، ساقاه نحيلتان باليتان، وجلده مشدود بقوة شديدة على عظام كاحله. كان نائمًا دون حركة.
حطَّمت النساء مقاعدهن وأشعلن أرجلها تحت إناء ضخم. انتظرن رجالًا لم يعودوا قط.
جلس الجنديان المتبقيان على الطرف البعيد لرصيف الميناء، يُدخنان، ويتبادلان الحديث، وتركا بندقيتيهما مائلتين. طلبا من النساء والرجال المسنين ألَّا يلمسوا الخنازير أو أي حيوانات أخرى في المياه.
تلك الأبقار والخنازير والأحصنة، يعرف جوستاف صاحبها، كما يعرفه الجميع. عرف الرجال، قبل أن يأخذهم العساكر. سمعهم يتحدثون على رصيف الميناء، والمقاعد والبطاطين والأطفال مكومون حولهم في انتظار الزورق لنقلهم إلى أرض جافة لأن شخصًا مرَّ بهم في مركب صغير وقال إن السفن البخارية لا تأخذ إلا الرجال البيض. لم يستطع الرجال إخراج بقرة حيَّة كانت تخور؛ لم يستطيعوا إطلاق النار على خنزير من مجموعة صغيرة احتشدت عند الطرف البعيد من رصيف الميناء، لم يستطيعوا عمل مذبحة لإطعام كل الناس لأنها كانت تعتبر سرقة من مستر مكوين أو مسيو أرمند، وسيقبض البوليس عليهم حتى إذا سبحت الحيوانات خارج أسيجتها وانتهت في الخليج أو ماتت على رصيف الميناء لعدم وجود عشب.
لكن الرجال رحلوا، وأُكِلت الحبوب وجاع الناس مرة أخرى. بدا الجنديان ضجرين وخائفين، لكنهما أكلا شيئًا من حقيبتيهما. ثم ناما، جالسين، وذقناهما البيضاويان من الحجر في ضوء القمر القاسي على سطح الماء.
سحب جوستاف الدخان بعمق في رئتيه، الرئتين، الرئتين الرقيقتين اللتين امتلأتا بالدخان أو الهواء أو لا شيء. مات العجوز تلك الليلة. حين لفُّوا جثته في بطانية وتركوها بجوار الصناديق، وجد جوستاف مطرقة. رقد وهي تحت ذراعه، وفي الليلة التالية زحف إلى رصيف الميناء في المكان الذي اجتمعت فيه الخنازير، وبالمطرقة ضرب جمجمة صغيرة يغطيها الطين، جمجمة الخنزير القريب منه. كان الخنزير صغيرًا، في حجم كيس أرز، انتفض وتنفس وصرخ صرخة طويلة حادة وتطلع في عينيه. بذور سوداء. ضرب وضرب حتى ذابت الجمجمة في الوحل وتوقَّف التنفس وصرخت الخنازير الأخرى؛ جرَّ الخنزير الصغير خلفه إلى مخبأ من الأعشاب الضارة. عاد بسرعة إلى معسكر الرصيف وهزَّ الكتف الضخم لأنطوانيت.
يناديها الآخرون نيت. كانت ملاءتها بيضاء ذات يوم ثم رمادية وسمراء وحتى حمراء من الدماء، حيث نزف أحد أطفالها من أنفه من الصراخ وقتًا طويلًا. لم تكن هشَّة. كان كتفها قويًّا مثل فخذ خنزير، الجزء العلوي من الساق.
قال جوستاف: «رأيتُ سكِّينك. معي خنزير.»
جاثمة بين الأعشاب بجواره، شقَّت بطن الخنزير، وأخرجت الأحشاء وألقت بها في المياه المتأرجحة. اندفعت بُقع الزيت مثل جزر قوس قزح. الأغصان وألواح الأسقف وأحيانًا جثة، تطفو والوجه إلى أسفل، تطفو على السطح نتيجة الهواء الذي تجمَّع تحت القميص، مثل وسائد خيطت تحت الملابس. لا يظهر إلا الظهر والكتفان والوركان. وقد تمددت الثياب أو المعطف بشدة.
شاهد جوستاف الضلوع. دفعت نيت السكين في لحم الجانب. «عاد الجنود، شمُّوا الدخان. أسرعي.»
قَطَّعَت اللحم الطري وتوقفت عند أفخاذ لم تكن أفخاذًا بعد. كان فخذ الخنزير ورديًّا وخفيفًا ومُملحًا. كان هذا اللحم زلقًا، وبشكل ما رأى العظام من خلال الأجزاء النحيلة.
نثرت نيت مزيدًا من الدماء على ملاءتها واتجهتْ إلى رصيف الميناء إلى الجمرات التي لم تتركها تخمد قط منذ أنزلهم المركب هناك، على مرتفع ضيق من الأرض يبدو مثل طريق طويل. حاول جوستاف أن يسير فيها ذات يوم حين رحل العساكر أول مرة، لكنه حين نظر خلفه ولم يرَ شيئًا من الناس — غطاء رأس نيت مثل نفخة من الدخان ترتفع من رأسها، المنديل الأبيض، منديل الرجل العجوز موضوع على جبهته — توقف. لم يكن أمامه سوى رصيف ضيق وأخضر وأشجار غارقة على جانب ومياه سمراء على الجانب الآخر تزحف قُرب قدميه.
غسل وجهه، في مطبخه، واستند على الحوض. ثم أخرج قطعة ورق من الدرج العلوي. الأرقام العشرة. طلب الأرقام بدقة، كانت أصابعه توضع بالكاد في الدائرة، يضايق المعدن جلده. رنين يشبه رعشة الجُدْجُد. جاء صوت: «هاي.»
قال جوستاف: «آلو فيكتور. أنا جدك.»
قال الصوت: «جوتشا. إذا سمعْتَ هذه الرسالة، فأنا غير موجود. اترك الأرقام وسوف أتصل بك حين أستطيع.»
عاد باتجاه منزل إنتريك. لا يزال الرجال عند الطاولة، في انتظاره، تتوهج سجائرهم حمراء في الظلام.
هل كان جده نائمًا؟ جائعًا؟ أين كان؟ في عربة؟ يضع السماعات على أذنيه؟ إذا استيقظ ولم تكن أمه هناك فليست المرة الأولى.
داخل المنزل، لم تتحرك ماري تيريز. فم جلوريت وعيناها مغلقة. «لا محفظة؟ لا شيء؟» سأل، وهزتْ ماري تيريز رأسها.
لا يعرف جوستاف حتى أين تعيش. لا عنوان، لا رخصة لابنته. تطلع إلى أصابع قدميها الحافيتين، كعبيها المشققين. سارت أميالًا كافية، كأنها كانت تعيش في زمن آخر. اجتمع الرجال حول شاحنة لافايت. إذا لم يصلوا إلى فيكتور، ولم يستدعِ أحد البوليس، كيف يمكن أن يعرف ما حدث لأمه؟
ربما يعرف سيدني شابرت.
شاهدوه يسير في طريق العودة إلى ريو سيكو، وقال جوستاف: «أين قميصه الآن؟»
قال رينالدو: «في الخلف. لفَّها فيه وهو يحملها.»
حين وصلتْ شاحنة لافايت إلى سيدني، وقف وحدَّق أمامه مباشرة، كأنه يُحدِّق في أرنب. كان خائفًا من ألَّا يصدقوا قصته. يخشى أن يقتلوه. يعرف أهل ريو سيكو أن سارات عالم آخر. يعرف بعضهم كيف وصل جوستاف وإنتريك إلى هنا، ويعرفون الرجل الذي قتلاه في لويزيانا، من القصص التي حكتها بنات سارات لحمقى ريو سيكو الذين اعتقدوا أن الفتيات ريفيات وجميلات وفاتحات البشرة وغبيات.
كان جوستاف يجلس في قاع الشاحنة، على قفص، وظَهره إلى السيارة الأجرة. «أين تعيش الآن؟» قال بصوت أجش لسيدني.
قال سيدني: «حدائق جاكاراندا. هذا ما أخبرني به شخص ما.»
قال جوستاف: «أرني أين. أريد حفيدي.»
تسلَّق سيدني إلى قاع الشاحنة، وألقى له جوستاف قميصه.
كانا صامتين والشاحنة تتحرك على الأسفلت باتجاه المدينة. ميلان اثنان فقط. يمشي كل أطفال سارات إلى المدرسة في ريو سيكو عبر هذا الطريق، ويعودون منه إلى بيوتهم، لسنوات. تزوج لافايت ورينالدو من فتاتين من سارات، كانتا تعيشان في المدينة. انتقل فقط عدد قليل من الناس إلى البنايات العشر في شارع جوستاف.
سأل سيدني: «هل لمسْتَ أبدًا جسدًا ميتًا؟»
استمع جوستاف إلى الإطارات تنطلق على سعف النخيل الساقط على الأرض. قال: «نعم. مرة واحدة فقط. وأنا في السابعة، وإنتريك في الثالثة. يأتي فيضان ١٩٢٧م ويقتل الجميع. يأخذ جسد أمي ومنزلنا، ولا أراها مرة أخرى قط. يبقى بعضنا على رصيف الميناء. أرض مرتفعة. ينتظر حوالي مائة شخص قاربًا لأيام. يأتي العساكر ويأخذون الرجال، يطلبون منهم حفر أخدود. تتدفق المياه إلى الحقول. يصوِّبون البندقية إلى الرجال ليركبوا القارب ويقولون إنه وقت العمل، يا زنجي.»
كان سيدني صامتًا.
«نصبح دون طعام. ننتظر الطعام أو المركب. يموت رضيع، ثم رجل عجوز. ألمسه. نلفه في بطاطين، والطفل، ولا نستطيع دفنهما.»
قال: «أخبرْ لافايت بالمكان الذي وجدْتَها فيه»، قال، وقال سيدني كلمات إسبانية للافايت من خلال نافذة السيارة.
«الأوجو دي أوجوا.»
سأل جوستاف: «ما معنى ذلك؟»
قال سيدني: «عين الماء. لا أعرف ماذا تعني. ما سموا به المحل. لا بُدَّ أنها لغة أهل المكسيك.»
ليست هناك عربة تسوُّق في الزقاق خلف مكان التاكو. توقفت الشاحنة في مدخل الممر القذر، سياج من السلاسل، أبواب المباني المغلقة، صندوق النفايات. قال سيدني: «أخذتُ العربة إلى صن داون ليكور لأنني عرفتُ أنني سأرى لافايت ورينالدو هناك.»
جثة ابنته طافية في العربة، مثل زورق معدني، في الزقاق المغبَّر. جثة أمه، طفتْ من سريرها إلى الخليج. جثة أبيه، دُفنتْ قبل أن يتعرَّف عليها أحد. ابنته، راقدة على الكنبة وماري تيريز تهمهم بجوارها، كأنها في غفوة ليس إلَّا. ماتت زوجته، أنجولي، في غيبوبة سكر، راقدة في الجبانة على حافة سارات، داخل البساتين.
تصرَّف سيدني بشكل صحيح. الزقاق الخالي، لا بوليس يبالي، والرجال الذين يقودون العربات حول الأزقة ليبحثوا عن نساء مثل جلوريت يمكن أن يجدوا نساء أخريات، ربما لا يعرف إلا صديقها وفيكتور.
قال إنتريك: «لا مكان للموت.» كانت عيناه حمراوين وقذرتين حين تطلع إلى جوستاف. قال إنتريك لسيدني: «وجدْتَها هنا؟ ألا تلاعبنا؟ ألم تلمسها؟»
قال سيدني: «لا أكذب. وجدتُها هنا بالضبط.» أشار إلى بقعة بجوار أعشاب ضارة، عند السياج. «جاء ابنها إلى محل الفيديو في الشهر الأخير، وقال إنه لا يوجد حتى تليفزيون في مكانهم، لكنه يريد مشاهدة بعض الأفلام التاريخية في منزل صديقه. سألتُه إن كان في حالة طيبة، وقال إنك أعطيته تليفونًا محمولًا للطوارئ.»
«اتصلتُ. لا أحد يرد.»
تطلع جوستاف إلى النخيل، كهرباء في ضوء القمر. حدَّق سيدني أيضًا. قال: «تعرفون لماذا أخذتُها؟ لأنني رأيتُ فئران تجري على أسلاك التليفونات، لم أتوانَ. لا. أخذتُها دون تفكير.»
قال جوستاف: «تصرفْتَ بشكل صحيح. تأخذني إلى حيث كانت تعيش. أقول لابنها إنها اتصلتْ بي، وأتيتُ لآخذها، وماتت في البيت. على الكنبة. انهارت فقط.»
أومأ إنتريك: «توقف قلبها ببساطة.» ألقى بعُقب سيجارته في القذارة.
يمكن لجوستاف وإنتريك وآخرين أن يُعدِّوا لجلوريت تابوتًا، ويمكنهم حفْر حفرة في الجبانة القديمة حيث لا يذهب إلا أهل سارات. قد يأتي فيكتور ويودعها. وقد تكون الكنيسة الوحيدة كلماتهم، كما كان يحدث على رصيف الميناء. وقد ينام فيكتور بعد ذلك في غرفتها.
أخذهم سيدني إلى البناية السكنية في حدائق الجاكاراندا، على بُعد بضعة صفوف. كانت جدران الجص رمادية. وقضبان الحديد المشغول سوداء. والنوافذ بضلف، عليها ملاءات قديمة وظلال مكسورة. وكلمة «بيكارد» مكتوبة بقلم جاف في قائمة البريد رقم ستة عشر.
صعد جوستاف السلالم غير المستوية ببطء. بدا الدرابزين خشنًا ومنقرًا، كأن شخصًا طبخ على الحديد. ولم تكن هناك رائحة طعام.
كان الباب رديئًا حين طرق عليه. نادى بصوت منخفض: «فيكتور. فيكتور.» ولم يرد أحد.
كان باب غرفة النوم مغلقًا. دخلها بهدوء متسائلًا: ماذا إذا كان لدى فيكتور بندقية؟
لكن كان حفيده نائمًا. والسماعة على أذنيه، ويداه تضمان شيئًا ما إلى صدره بقوة، تحت البطانية. زوايا حادة. ربما علب شرائط مدمجة. مجموعة كتب قرب رأسه. لا بُدَّ أن التليفون المحمول تحت الوسادة، أو ظهره. فكَّر جوستاف وجلس على السجادة.
بجواره إناء على الأرض، حبَّة مكرونة وحيدة جافة مثل دودة تحاول الزحف على جانب الإناء. سجادة بجدائل متشابكة قذرة وكأنها ديدان أخرى. قد يأخذ فيكتور إلى منزله، وقد يكره فيكتور المنزل، ويكره البرتقال والبقول. قد يريد همبورج، فيشتري له جوستاف. لن يقول ما قاله المرة الأخيرة: «أعدَّ بعض اللحم في الخريف، حين يأتي لانير بخنزير لثلاجة ماري تيريز. نشتري خنزيرًا كاملًا. ليس قطعة من الإسفنج الوردي في بعض البلاستيك. ينبغي أن يكون عندي أنا وإنتريك بعض اللحوم الجيدة.»
حملت نيت اللحم إلى النار، وضعته في طاسة، وحين استيقظ طفلها ربطت الطفل إلى صدرها، داخل قميصها، ليبقى هادئًا. لكن الجنديان شمَّا الدخان. يرتفع الدهن في السواد. أتيا ببندقيتيهما وقالا: «من أين حصلْتِ على هذا اللحم؟ تلك السكين؟» اتجهت إليهما نيت بالسكين فأطلقا عليها النار. سقطت في الماء وغطست، ولم يظهر إلا ظهرها العريض حين ظهرت على سطح الماء وطفت مبتعدة عن رصيف الميناء.
صرخت النساء الأخريات وصرخن ودفع الجنديان مَنْ تجمعوا حولهما. لم يُطلقا النار مرة أخرى. جذب جوستاف اللحم شبه المحروق من على النار وجثم قرب إنتريك. مزَّق قطعًا من فخذ الخنزير ودفعها في فم إنتريك، وكان يحميه من الناس. دفع إنتريك يدي جوستاف، ورأى الدماء تومض على مفاصل أصابعه.
حذاء فيكتور، تحت الغطاء، مكوَّم مثل أرغفة من الخبز. كور جوستاف راحتيه على حاجبيه، محركًا الجلد المهلهل إلى الأمام والخلف، كما كان يفعل دائمًا حين ينتظر، على رصيف الميناء، في الثكنات، في حقول القصب.
كان حفيده نائمًا مثل الأموات.
السابعة عشرة. لم يحصل على وظيفة قط. فتًى. هذا ما وصف به العساكر الأولاد على رصيف الميناء. «يأخذون الكبار. لا يريدون أن يأتوا، للفتية الزنوج. كانت لهم أيدٍ صغيرة لكن لكل منهم يدان. الجاروف يحتاج إلى يدين.»
لم يشأ أن يرعب الولد. على الأرضية شيء يشبه القواقع قُرب الفِراش. مال جوستاف ليلمسه. متى ذهب إلى المحيط؟ لا، قشور فستق. كيس صغير، مثل الذي يمكن أن تحصل عليه من محل الخمور. أمسك بالقشور في راحته. سمع محرك شاحنة لافايت في الخارج. رأى سعف النخيل قريبًا من نافذة الدور الثاني. تمرات مثل عوالم ذهبية صغيرة، عالية جدًّا لا يستطيع أحد التقاطها.