رائحة القرفة

تأليف: تشارلز لامبرت١

عزيزتي مسز باين،

أعطاني اسمك الكاهن وير، ممثل الجالية الإنجليزية هنا. أنا رجل متبلد، وسأدخل في الموضوع مباشرة. يقول لي وير إنك فقدْتِ زوجك مؤخَّرًا وإنك من دون مورد رزق. أوحى إليَّ بأنك قد تهتمين بالزواج من رجل يمكنه تقديم ما تحتاجين من الأمن والعاطفة. أشار بأنني قد أكون ذلك الرجل. لديَّ من الأسباب ما يجعلني أثق في حكم وير في هذه الأمور، بالإضافة إلى أنه عرفك وأنت فتاة غير متزوجة ويتحدث بتقدير عن تنشئتك واعتدالك وذكائك. بالنسبة لي، أنا رجل في السابعة والثلاثين من العمر، قضى منها تسعة عشر عامًا في الخارج. أملك مزرعة يمكن أن تشبه بشكل مريح الريف الإنجليزي. أنا سليم وبصحة جيدة، وشكلي، إذا كان لي أن أثق في وير بشأن هذه الأمور أيضًا، مقبول بما يكفي لأطلب يدك بشكل مناسب مع احتمال النجاح.

أُرفق صورة فوتوغرافية. كلبي اسمه ياسبر.

أتطلع إلى استلام ردك.

المُخْلِص
جوزيف برودريك
اعتقد أنه مناسب. تطلَّع إلى الصورة الفوتوغرافية لحظة ورأى رجلًا، وكلبًا مُرقَّطًا، ومنزلًا، ثم طوى الورقة على الصورة ووضعهما في ظرف. مريم باين، غمغم، وهو يكتب الكلمتين بخط يده المائل إلى الأمام بحروف صغيرة واضحة، وتحتهما عنوان في كرنول،٢ بلد لم يرَه أبدًا. مريم باين، ردَّد بصوت أقوى، ثم: مريم برودريك. نعم. إنه مناسب.

وصل الرد موجزًا بعد ستة أسابيع.

عزيزي مستر برودريك،

شكرًا على رسالتك والصورة المرفقة، قدَّمتا لي مادة دسمة للتفكير. أقول على الفور إنني مستعدة للنظر في عرضك. لكنني قبل ذلك، سأكون صريحة أيضًا. أريد إجابة على سؤال واحد، قد يبدو وقحًا لكنه، على ما أعتقد، على العكس تمامًا. عزيزي مستر برودريك، هل سبق أن أحببْتَ؟

أُرفق أيضًا صورة فوتوغرافية. كما ترى، ليس عندي كلب. لستُ متأكدة من حُبي الكلاب، ولا من حب الكلاب لي.

المُخْلِصَة
مريم باين

المرأة التي في الصورة أصغر مما توقع جوزيف. كان شعرها طويلا، مربوطًا على ناحية بمشبك من نوع ما ومفكوكًا على الناحية الأخرى ليتدلى على كتفها. لم يستطع تحديد لونه لكنه تخيَّله عميقًا وقاتمًا وكثيفًا، أحمر لامعًا. وكانت عيناها ورموشها قاتمة أيضًا. رغم عدم ابتسامها، أوحى وضع فمها بأنها تحاول الابتسام؛ كان يَنُمُّ حتى عن وقار، لصاحبته غمازتان صغيرتان في الوجنتين. كانت ترتدي ثياب الحداد، مما صعَّب فك شفرة شكلها، لكن بدا أنها نحيلة ورائعة. كانت يداها على بعض في حِجْرها، صغيرتين وقويتين. أغلق عينيه وكانت لا تزال هناك بشكل كافٍ لنقلها ووضعها بجواره، على الناحية الأخرى من ياسبر، أمام البيت الذي شيَّده لنفسه وزوجة لم تكن هناك أبدًا. رأى أنهما معًا وشعر بقلبه يدق أسرع، كأنه كان يطارد قطيعًا ضالًّا في حقل. رد في اليوم نفسه.

عزيزتي مسز باين

شكرًا على رسالتك والصورة الفوتوغرافية، أراحاني إلى حد بعيد. تملؤني بالأمل حقيقةُ استعدادك للنظر في عرضي وتملؤني، إذا سلَّمتُ بهذا الشعور، بالذعر. وبالنسبة لسؤالك، وهو أكثر من مجرد سؤال مرتبط بالموضوع، يمكن أن أرد بلا خجل: لم يواتِني الحظ أبدًا لأعرف الحب، واثق رغم ذلك أنني أملك الاستعداد له.

أتطلع إلى ردك بقلق.

المُخْلِص
جوزيف برودريك

مرَّت ستة أسابيع. بدأ برودريك يرى المنزل الذي شيده بيديه بعينين أُخريين، بالعينين القاتمتين العميقتين للمرأة التي في الصورة. الأرضيات الترابية المدكوكة، ساطعة كأنها مكسوة بالشمع، الجدران الحجرية المطلية، النوافذ عارية بلا ستائر؛ لم يلاحظ ذلك من قبل أو ربما اعتقد أنه مناسب لحياة العزوبية التي يعيشها، مثل صعوبة ما يحيط به وخوائه، مما أزعجه وأربكه. صارت المقاعد ذات الأظهر المستقيمة غير مريحة، ناشفة. كيف لسيدة أن تجلس عليها؟ كيف لسيدة أن تعيش في منزل ذَكَرِي كالح جدًّا لا يزينه شيء؟

عليه أن يسأل امرأة أخرى عمَّا يمكن عمله ليجعل بيته مقبولًا، لكن لم يكن بين الجيران امرأة متزوجة يثق في أن تتعامل معه بجدية. لم تكن هناك امرأة بالذوق المطلوب؛ النساء من حوله بلا تنشئة جيدة وبلا تعليم. إضافة إلى ذلك، قد يبدو مضحكًا إذا قررت مريم عدم الزواج منه، رجل أعزب في منتصف العمر، وحيد في منزل ممتلئ بالريش والخِرَق. يمكن أن يسأل الكاهن وير، وهو خبير بهذه الأمور، لكنه لم يفعل.

تساءل عمَّا قد تجلبه معها، إذا قررت الحضور؛ ربما لوحات، زخارف، وسائد. آلة موسيقية. ربما يكون الاختيار الأكثر حكمة الانتظار في المنزل القفر حتى تأتي وتُحوِّله إلى مكان أكثر راحة بالنسبة لها، فيكون بالنسبة لها بيت الزوجية الجديد في عالم جديد. ثم تخيلها وقد كدست صناديقها بجوارها بعناية على رصيف الميناء، دستة صناديق مطوَّقة بالحديد، ناءت عربتها بثقلها. رؤيته لها واضحة جدًّا أحيانًا بحيث تبدو بجواره فيهز رأسه حتى تبعد، ويشعر بالكآبة.

حين وصلت رسالتها الثانية، ارتجفت يده. نبح ياسبر وتشبَّث بخصره. قال برودريك: «خير، يا غلام. خير.»

وقد كان.

في اليوم الذي تصل مريم باين فيه على مركب توابل، ربط جوزيف برودريك أفضل جياده بالعربة وانطلق قبل الفجر. يرتدي ياقة بيضاء منشاة وبدلة سمراء من الصوف، اشتراها لحضور جنازة صديقه الأول والوحيد، رجل من ويلز ساعده في حراسة المزرعة، ووضع سياج حولها، وإعدادها، قبل موته بالتهاب رئوي قبل اثنتي عشرة سنة. بعد ست سنوات سمَّى كلبه على اسم الرجل الميت، ياسبر، وكان يجلس بجواره والعربة تنطلق على طريق المزرعة باتجاه الطريق الذي يوصلهما إلى الميناء. بسبب البدلة، وكانت ضيقة جدًّا على خصره، شعر بحر شديد؛ ازداد وزنه منذ الجنازة.

مع شروق الشمس تصبَّب عرقًا. في الصباح الباكر نزع ملابسه ولم يتبقَّ عليه إلا صُدرته وأربطته وفكَّ أزرار بنطلونه من على الخصر. واصل السيرَ، وشعر بالعرق يجف على بشرته. خطر له الالتهاب الرئوي الذي قتل ياسبرز بريس بدأ على هذا النحو، ومال على جانب ليرتدي القميص والجاكت، والياقة البيضاء المنشاة وربطة العنق المربوطة بعناية. فكَّر والحرارة تخترق عظامه: نموت جميعًا بطريقة أو أخرى، بالنار أو الثلج. بالعاطفة أو الافتقار إليها.

حين انزلقت العجلة الخلفية للعربة في حفرة وأبت أن تتزحزح، أقسم في سره وقفز إلى الطريق الرمادي، وخلع الجاكت مرة أخرى وطبَّقه ووضعه على المقعد، وأزاح أربطته من على كتفيه. أخذ يشد العربة للخلف والأمام، ويصيح في الجواد ليتحرك. استغرق الأمر حوالي نصف ساعة تقريبًا قبل أن ينطلق على الطريق مرة أخرى. غلبه ضعف مفاجئ، جلس على حافة بجوار العربة. وبدأت ذراعه اليسرى تؤلمه، افترض أنه توتُّر في العضلات من شد العربة. بعد لحظة، ساء الألم، ارتفع ألم حاد يُشبِه طعن السكين من رسغه حتى كتفه. شعر بضيق ينتقل إلى قلبه. امتدت يده إلى الياقة، ليفكها ويتنفس.

فتح عينيه ليرى ياسبر ابتعد عنه، ينبح على الناحية الأخرى من الطريق. كانت الشمس أعلى؛ لا بُدَّ أن النوم غلبه. شعر بأن الراحة جعلته أفضل؛ شعر بأنه أقوى من قبل. شدَّ لجام الحصان وتبعه الكلب عن بُعد. صار الطريق أسهل مع الاقتراب من البلدة: ربما لن يتأخر كما اعتقد.

لكنها كانت تنتظر وحدها حين وصل إلى الميناء. حتى مركب التوابل الذي قطعت به آخر مرحلة من رحلتها وصل إلى الميناء التالي عبْر الساحل. كانت تقف في فستان رمادي وأبيض، بجوارها حقيبتان سمراوان كبيرتان من الجلد، وحين رأته رفعت يدها ولوَّحت له. كان الظُّهر تقريبًا. كانت وحدها تمامًا على الشاطئ في ميناء خالٍ إلا منها. شَعْرُهَا أكثر احمرارًا مما تخيل. في وقت متأخر من الصباح بدا مثل لحم الخنزير المُقدَّد. قفز نازلًا من العربة وجرى تقريبًا باتجاهها، ونبح ياسبر وراءه. مدَّت يدها وهو يندفع، خَجِلا بشكل غريب؛ ابتسمت وأومأت برأسها، إيماءة قصيرة وحاسمة، وفَهِمَ أن عليه أن يومئ. أخذ يدها في يده ووقف هناك مثل أحمق، وهي تخطو قريبة جدًّا منه حتى شعر بحرارة جسمها على جسمه؛ قبَّلتْ خديه، خدًّا بعد خد، مثل امرأة فرنسية. «جوزيف برودريك»، قالت ورأسها يميل جانبًا. رد: «مريم باين». قالت وهي تبتسم: «سأناديكَ جوزيف». «وسأناديكِ مريم.»

كان يرتجف، لم يعرف إن كان من الحُمَّى أم الخوف أم الإثارة، وهو يؤرجح الحقيبتين في العربة ويعطيها ذراعه، ارتعش من السهولة التي أخذتها بها، كأنها تعرفه طوال حياتها؛ كأنهما متزوجان. لا تضع قفازات؛ تأثير الشمس واضح على يديها. لاحظ ذلك وفكَّر، سوف تحب المزرعة. إنها تنتمي إلى هنا.

بدا ياسبر وحده مستاءً. ابتعد عنهما ياردة أو اثنتين وجلس فجأة على مؤخرته، ولسانه يتدلَّى على ناحية، ورأسه منتصب. «تعالَ هنا، تحرك»، صاح جوزيف في الكلب بمجرد أن جلس مع مريم، والحقائب في الفراغ خلفهما. وقف ياسبر، مشى منحرفًا باتجاه العربة، وانتصب الشعر على نهاية فقراته، وتسلَّق جانب العربة، والتف في حلقة ضيقة في الخلف، قبع في أبعد ركن، وأنفه تحت ذيله.

قال جوزيف، وهو شبه ملتفت إلى مريم: «ستحتاجين إلى قبعة، لم تعتادي على هذه الشمس في كرنول.» لكن أزعجته، وهو يتكلم، فكرة تغطية رأسها. تخيل أنه يستطيع شم التوابل التي سافرتْ معها، رائحة القرفة والقرنفل، في ملابسها وشعرها. قالت: «أوه، لا، أحب الشمس. ولا أعتقد أن الشمس سوف تؤذيني.»

عرف حينذاك أنه كان مصيبًا في عدم تزيين المنزل بالستائر والسجاجيد. قبِلتْه على حاله، وقبلت الأرض العارية والجامدة.

وصلا وقت الأصيل إلى الحقل. توقَّع أن يتحدثا، لكنها بدت قانعة بالجلوس جواره، ويدها تستريح أحيانًا على ذراعه، واليد الأخرى تبعد شعرها عن وجهها حين يبعثره النسيم. لاحظ أنها لا تلبس مجوهرات، وكانت سعيدة. طلبت منه الماء مرة ومد يده خلفه إلى دورق المياه. وهي تشرب شاهد حنجرتها، والحياة فيها. حين أعادت إليه الدورق شرب منه بنهم دون أن يمسح عنقه، واندفعت الدماء في عروقه. تناولت الغطاء من يده؛ أغلقت الدورق بإيماءة صارمة وخاطفة وأعادته إلى موضعه خلف المقعد كأنها تفعل ذلك طوال حياتها. مريم برودريك، فكر. معًا، انطلقا على العربة في صمت، منتعشين، حتى بدا المنزل في الأفق.

رفع يده وأشار، قائلًا من دون أي إحساس بكسر الصمت، لأن ما قاله كان مطلوبًا: «هنا أعيش.»

«نعيش»، صححت له.

سمحت له بمساعدتها للنزول من العربة، واضعة يديها على يديه وهو يحيط بخصرها ويحملها وينزلها إلى الأرض. كم كانت خفيفة! اعتقد أنها ستنتظر بجواره حين خطا فوق العجلة ليأخذ حقيبتيها، لكنها سارت إلى المنزل، ويداها ترفعان شعرها عن عنقها في موجتين هائلتين من اللون الأحمر، وتفتح الباب. بدا أنها تومض في الحر قرب حائط المنزل المطلي، كانت أقرب إلى لهب من شخص حي. رآها تتوقف ثانية، ثم دخلت إلى الظلام. وضع الحقيبتين جوار العربة وحلَّ الحصان، وأوشك أن يقوده إلى الحوض ليشرب. فكَّرَ: الحصان أولًا ثم نحن. لكن الحصان أجفل. قفز ياسبر من العربة واتجه إليه، على بطنه تقريبًا، كأنه يخشى من العقاب. انحنى جوزيف وداعب رأس الكلب بيديه، وذهل حين كشف الكلب عن أسنانه وابتعد. عرف أنه يؤجل؛ يؤجل لحظة وجوده مع مريم وحدهما في المنزل. كان فزعًا من وجودهما معًا وما قد يفعلانه.

وكان من الخطأ أن يقلق. بمجرد أن دخل الغرفة، سارت وأخذت يديه في يديها وحدقتْ في عينيه.

قالت: «نحن رجل وزوجته من هذه اللحظة. نحن مريم وجوزيف.»

«مريم»، ردَّد بصوت بالغ الهدوء وتساءل كيف سمعت. قبَّلته من فمه.

قالت: «أنا هدية الرب لك. هذا معنى مريم، هل تعرف ذلك؟ هدية الرب.»

قال: «لا أؤمن بالرب.»

في صباح اليوم التالي، رحل ياسبر. ومريم ترتدي ملابسها خرج جوزيف ولفَّ حول المنزل مناديًا الكلب باسمه. لا ينبغي أن يقلق؛ كثيرًا ما اختفى ياسبر يومًا أو يومين، وربما ثلاثة. لا ينبغي أن يُبالي بشأن الكلب إطلاقًا، وذكرى بشَرة مريم على بشَرته، وشفتاها على شفتيه؛ أكثر من مجرد ذكرى، حيث حمل رائحة المرأة في يديه وفي شعره، جديدة ومعروفة معًا بمعنى الكلمة، مألوفة له. عرف مذاقها، حلوًا ولاذعًا، في فمه مثل نكهة غريبة سمع عنها فقط، توابل محفوظة جنَّبته الموت. لكنه قَلِقَ بعد تصرف الكلب في اليوم السابق. لم يسترح للطريقة التي خنع بها الحيوان وزمجر، ولا لانتصاب شعر ذيله. نادى ونادى بلا طائل. في النهاية، عاد إلى المنزل. في المطبخ كانت مريم تُعِدُّ المائدة للاثنين.

قال: «سيعود. يمكن أن تكون الكلاب غيورة.»

قالت: «قلتُ لك إن الكلاب لا تحبني.»

في ذلك الصباح فرَّجها جوزيف على المزرعة. أخذها من الحظيرة إلى حوض الغطس إلى موضع الجز في ذهول عاطفة لم يتخيلها أبدًا، كأنه مات ثم بُعث في مكان يخلو من المشقة والعزلة، حيث صار عزيزًا على شخص آخر. كثيرًا ما أوقفتْ ثرثرته بوضع إصبع على فمه، ثم شفتيها. مالا على الجدار الخلفي لأحد الأبنية المُلحَقة بالمزرعة ومارسا الحب، وقد رفعت تنورتها، وشعره في فمها، وأصابعها معقودة خلف رأسه، وأنينها المنخفض في أذنه.

مرَّ أول يوم على هذا النحو، والثاني أيضًا، ولا دليل على وجود ياسبر. في نهاية الأسبوع حين لم يعد الكلب، قال جوزيف: «ينبغي أن أذهب إلى البلدة لأعرف الأخبار.» لم يذكر ياسبر. كانا يجلسان معًا خارج المنزل، تحت تعريشة من الخشب شيَّدها جوزيف، وغطَّتها مريم بملاءة رقيقة رفعها النسيم الدافئ وطواها.

قالت: «لا تقلق عليه.»

توقف جوزيف، قال: «أظن أن عليَّ التحدث إلى الكاهن وير أيضًا بشأن زواجنا.»

قالت: «أوه، يمكن لهذه المسألة أن تنتظر.» مالت إلى الخلف في مقعدها ورفعتْ ذراعيها. كانت ترتدي جلبابًا واسعًا وقد سقط الكُمَّان فرأى البشَرة الشاحبة البضَّة لجانب ساعديها. ركع بجوارها ووارى وجهه في حِجرها.

مضى شهر تقريبًا قبل أن يذهب جوزيف إلى البلدة. توسَّل إلى مريم أن تذهب معه فرفضت؛ كان وراءها مهام كثيرة في المنزل. لم ترغب في ذهابه إطلاقًا؛ ولم تكن هناك حاجة للذهاب، سوى إحساس بالضجر، بالقلق تقريبًا، بدأ ينتاب جوزيف. بدا له أن العمل في المزرعة لا يستغرق وقتًا على الإطلاق. كان عصر كل يوم دافئًا ومشمسًا مثل عصر اليوم الذي قبله، وكان الصباح باردًا ومنعشًا. كرَّس أيامه ولياليه لمريم، وكانا يتمشيان حول المنزل والمزارع القريبة، كما كانا يفعلان كل مساء، ولم يكن هناك دليل على الإهمال، لا سياج معطوب أو حيوان في حاجة إلى شيء. اعتقد جوزيف أن عليه أن ينهض ويعمل بدل النوم.

أخيرًا قالت ربما من الأفضل لهما أن يقضي بضع ساعات بعيدًا. كتبتْ قائمة بطلبات تحتاج إليها لخِيَاطة الملابس وإصلاحها، خيط حريري وأزرار وشرائط من المطاط؛ عليه أن يذهب إلى محلات لم يدخلها من قبل أبدًا. قرر أن يُريهم القائمة بدل أن ينطق الكلمات، وصدمه ذلك باعتباره شيئًا يبعث على الشعور بالخجل رغم عجزه عن معرفة السبب. وكان عليه أن يذهب إلى الكاهن، الذي قد يكون سمع عن وصول مريم ولا بُدَّ أنه كان يتساءل أين كانا.

لم يركب الحصان منذ وصول مريم. صهل وزمجر وهو يسير باتجاهه والصهوة في ذراعيه، كأنه لم يُركبْ من قبل. ولم يستطع وضع الصهوة على ظهره حتى صار في زاوية بجوار السياج.

كان على بُعد ثلاثة أميال أو أربعة حين رأى ياسبر، يعبث عند عجلة مكسورة في عربة مهجورة. لم يتعرف على الكلب للوهلة الأولى، لكن لا بُدَّ أنه عرفه لأنه ابتعد عن العربة باتجاه الكلب، حيث وقف يُحدِّق في جوزيف قبل أن يبتعد. كانت ضلوع الكلب ومؤخرته من تحت الجلد، وكان مُغطَّى بالغبار والقشور، كأنه يرتدي زيًّا رماديًّا غامقًا. وكانت إحدى أذنيه مقطوعة تنزف، والذباب يُغطِّي الجرح. نَفَثَ الكلب من الحر، ولفَّ قليلا وهو يسير في الطريق، في الاتجاه الذي يسير فيه الحصان. نادى جوزيف، لكن يبدو أن القلق حطَّم الصوت، وبدا أن الكلب لا يسمع. ولم يتفاعل ياسبر إلا بعد أن نزل جوزيف من على صهوة الحصان وكان لا يبعد عنه أكثر من ياردة. تمدد الكلب على بطنه ومدَّ طرفيه الأماميين وكشف عن أسنانه. وجوزيف يقترب منه أصدر دمدمة طويلة وبطيئة، زادت حِدَّتها وصارت عواءً كئيبًا من أعماق الحنجرة. «ياسبر»، لاطفه الرجل ومدَّ يده مرتجفًا. «ياسبر.» تراجع الكلب، متلوِّيًا من دون أن يرفع جسمه من تراب الطريق، وهو يَجُرُّ بطنه، يُشبه عواء الحنجرة تحولًا بطيئًا في سقاطة. هزَّ رأسه ونهض سِرب الذباب من جرح الأذن واستقر عليه مرة أخرى.

استقام جوزيف وهو يهز رأسه، ثم وقف ينظر والكلب يبتعد. انتظر حتى ابتعد الكلب عشر ياردات قبل أن يُنادي عليه مرة أخرى. في تلك المرة استدار الكلب وحدَّق فيه، ونأى جوزيف بعينيه، مرتبكًا. في النهاية، بقلب مثقل، ركب حصانه مرة أخرى، وابتعد عنه وهو يؤرجح ساقه على صهوة الحصان. نظر إلى العربة المكسورة خلفه متروكة للصدأ والتعفن. فكر: لا بُدَّ أنه مكان قريب من الذي وقعت فيه عربته في الحفرة، ورفع يده إلى قلبه.

بدا ميناء البلدة خاويًا كما كان يوم وصول مريم. كان الهواء مفعمًا برائحة الهيل والزنجبيل والقرفة والقرنفل؛ تطلَّع عبر المياه ليرى مركب التوابل، وجعلت صورة مريم رؤيته غير واضحة، لأنه لم يكن هناك شيء يراه سواها، أصابعها في شعره، يداها حول خصره؛ كان الهواء مفعمًا بها. وهو يتمشى باتجاه صف من المحلات التجارية، نشوان، لاحظ ملصقًا على جدار شد انتباهه وسار ليقرأه. كان يتحدث عن تحطُّم سفينة في تلك المياه قبل شهر؛ لم ينجُ أحد. مرت عيناه بقائمة الموتى، بحكم العادة. قد يكون العالم كله ميتًا، فكَّر، ماذا يعني طالما هو ومريم على قيد الحياة.

ثم رأى اسمها.

بعد لحظات وقف أمام الكاهن وير، يصيح ويطوِّح بذراعيه. كان الرجل يتحدث إلى مجموعة من المسنات عن الطقس، وكيف انقلب سيئًا في الأيام الأخيرة، تلك العاصفة المروعة التي تعرضوا لها. تشبَّث جوزيف بكُمِّ الكاهن، لكن يده الباردة لم تمسك بشيء. ربما لا يوجد هو أيضًا. مرة واحدة فقط أدار الكاهن عينيه باتجاه جوزيف وأجفل، كأنه يرى شبحًا.

١  تشارلز لامبرت Lambert: ولد في إنجلترا ويعيش في إيطاليا منذ ١٩٧٦م، والعنوان الأصلي للقصة The Scent of Cinnamon.
٢  كرنول Cornwall: منطقة في أقصى جنوب غرب إنجلترا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤