المشهد من على صخرة القلعة

تأليف: أليس مونرو١

في زيارة لأندرو إلى أدنبره مع أبيه وهو في التاسعة أو العاشرة، وجد نفسه يتسلق سلالم القلعة، سلالم حجرية رطبة غير مستوية. والده أمامه، وخلفه بعض الرجال الآخرين — أدهشه كثرة الأصدقاء الذين وجدهم والده، يقفون في أماكن ضيقة حيث توجد زجاجات على الألواح، في الشارع العمومي — حتى يزحفوا للخارج على حافة صخرة، حيث تنحدر الأرض بشدة. توقَّف المطر للتو، الشمس ساطعة على امتداد الماء الفضي على البعد أمامهم، ثم أرض خضراء شاحبة وزرقاء رمادية، أرض خفيفة مثل السديم، غائرة في السماء.

«أمريكا»، يخبرهم أبوه، ويقول رجل لا تظن أبدًا أنها قريبة على هذا النحو.

يقول شخص آخر: «نتيجة الارتفاع الذي نحن عليه.»

يقول والد أندرو، ولا يعيرهم أي اهتمام: «هناك يجلس الجميع وسط أملاكهم وربما يدور حولهم متسولون في عربات. أنت هنا، يا ولدي» — يلتفت إلى أندرو — «وبإذن الرب تراها يومًا عن قرب، وأنا نفسي، إذا قُدِّر لي أن أعيش.»

يشعر أندرو بخطأ فيما يقوله أبوه، لكنه ليس على معرفة كافية بالجغرافيا ليعرف أنهم ينظرون إلى فيف.٢ لا يعرف إن كان الرجال يسخرون من والده أم أن والده يخدعهم. أم أنها خدعة عمومًا.
بعد سنوات، في ميناء ليث،٣ في الرابع من يونيو ١٨١٨م، أندرو ووالده — الذي لا بُدَّ أن أدعوه جيمس الكبير، لأن هناك جيمس في كل جيل — وأجنيس زوجة أندرو، وهي حامل، وأخوه والتر، وأخته ماري، وابنه جيمس أيضًا، لم يبلغ العامين بعد، يضعون أقدامهم على ظهر سفينة للمرة الأولى في حياتهم.

يعلن جيمس الكبير هذه الحقيقة لضابط السفينة الذي يراجع الأسماء.

«المرة الأولى، يا سير، في حياتي الطويلة كلها. إننا رجال الإتريك.٤ جزء من العالم محاط باليابسة.»

يقول الضابط كلمة غامضة بالنسبة لهم لكنها واضحة. تحرَّكوا. وضع خطًّا على أسمائهم. يتحركون أو يندفعون. وجيمس الصغير على فخذ ماري.

«ما هذا؟» يقول جيمس الكبير، مشيرًا إلى زحام الناس على ظهر السفينة. «أين ننام؟ من أين أتى كل هؤلاء؟ انظر إلى وجوههم، هل هم زنوج؟»

يقول والتر: «على الأرجح من سود الهضاب». نكتة، غمغم بها حتى إن والده لم يسمعها، سكان الهضاب من الأنواع التي يحتقرها الرجل العجوز.

يواصل والده: «هناك كثير جدًّا من الناس. ستغرق السفينة.»

يقول والتر متحدثًا بوضوح الآن: «لا، لا تغرق السفن غالبًا بسبب كثرة الناس. هذا سبب وجود هذا الرفيق، ليُحصي الناس.»

بالكاد على متن السفينة وهذا الفتى في السابعة عشرة من عمره يعرف اتجاه التيار؛ اعتاد أن يعارض أباه. يمنع التعب والذهول ووزن المعطف الذي يرتديه جيمس الكبير، يمنعه من صفعه.

مسألة الحياة على متن سفينة شُرِحتْ بالفعل للأسرة. شرحها العجوز نفسه. كان الشخص الذي يعرف كل شيء عن المؤن، والتكيف، وأنواع الناس الذين يمكن مقابلتهم على متن السفينة. كل الاسكتلنديين والناس المهذبين. لا سكان الهضاب ولا الأيرلنديون.

لكنه الآن يعلن أنها مثل سرب من النحل على جثة الأسد.

«مجموعة شريرة، مجموعة شريرة. أوه، هذا ما جعلنا نترك بلادنا الأصلية.»

يقول أندرو: «لم نتركها بعد. نطل على ليث. من الأفضل أن ننزل ونبحث لأنفسنا عن مكان.»

المزيد من العويل. الأسرَّة ألواح ضيقة من الخشب بمفارش من شعر الجياد، قاسية وشائكة.

يقول أندرو: «أفضل من لا شيء.»

«أوه، هذا ما أغواني باستمرار بأن نأتي إلى هنا، على هذا الأثر الطافي.»

«ألن يسكته أحد؟» تفكر أنجيس. بهذه الطريقة يواصل ويواصل، مثل واعظ أو مجذوب، حين تصيبه النوبة. لا تتحمل هذا. تعاني من ألم مبرح أقوى مما يتخيل.

تقول: «نستقر هنا أم لا؟»

علَّق بعض الناس قطعًا من القماش أو الشالات لتحويل المكان إلى مكان شبه خاص لعائلاتهم. تتقدم وتخلع الملابس الخارجية لتفعل الشيء نفسه.

يتقلب الطفل في بطنها. وجهها ساخن مثل قطعة فحم، ترتجف ساقاها، واللحم المتورم بينهما — الشفتان اللتان لا بُدَّ أن الطفل يباعد بينهما بسرعة ليخرج — كيس محرق من الألم.

كانت أمها تعرف ما تفعله في تلك الحالة. تعرف الأوراق التي تسحقها لتصنع كمَّادة تسكين الألم. عند التفكير في أمها يسيطر عليها ذلك البؤس حتى تود لو تركل أحدًا.

لماذا لا يتكلم أندرو صراحة مع أبيه، ويُذكِّره بصاحب الفكرة، بمن خطب واستعار واستجدى ليضعهم حيث هم الآن؟ لن يفعل أندرو ذلك، يمزح والتر فقط، كما هو الحال بالنسبة لماري، لا تستطيع إخراج صوتها من حنجرتها في وجود أبيها.

تأتي أجنيس من عائلة من هويك،٥ عائلة كبيرة من النساجين، يعملون الآن في المطاحن لكنهم عملوا لأجيال في الوطن. وهم يعملون هناك تعلَّموا فن تقطيع أحدهم الآخر، فن إثارة المشاكل والبقاء على قيد الحياة في أحياء مغلقة. لا تزال مندهشة من الأساليب الصارمة، والإذعان والصمت في عائلة زوجها. اعتقدتْ منذ البداية أنهم نوع غريب، ولا تزال تعتقد ذلك. فقراء مثل أهلها لكن لديهم تصورًا عظيمًا عن أنفسهم. ما الذي يعتمدون عليه؟

عادت ماري بجيمس الصغير إلى سطح السفينة. قالت إنه كان في حالة رعب هناك فيما يشبه الظلمة. ليس عليها أن تتذمر أو تشكو، تعرف مشاعره من الطريقة التي يحفر بها بركبتيه في ركبتيها.

الأشرعة ملتفَّة بإحكام. تقول ماري: «انظروا هناك، انظروا هناك»، وتُشير إلى بحَّار مشغول فوق في حبال الأشرعة. يصدر الولد على وركها صوتًا يشير به إلى الطائر، فتقول: «بيب، البحَّار بيب، البحَّار بيب.» يتواصل هو وهي في لغة نصف ونصف؛ نصف من تعليمها ونصف من ابتكاره. تؤمن بأنه واحد من أمهر الأطفال الذين ولدوا في العالم. باعتبارها الأكبر في عائلتها، والبنت الوحيدة، مالت إلى إخوتها، وكانت تزهو بهم جميعا في وقت واحد، لكنها لم تعرفْ أبدًا طفلًا مثل هذا. لا أحد آخر لديه فكرة عن أصالته واستقلاله. ليس للرجال اهتمام بالأطفال في مثل هذه السن، وأنجيس أمه ليس لها صبر عليه.

«تكلم مثل الناس»، تقول له أجنيس، وإذا لم يفعل تضربه ضربة. تقول: «مَنْ أنت؟ أنت إنس أم عفريت؟»

تخشى ماري انفعال أجنيس لكن بطريقة لا تُلام عليها. تعتقد أن النساء من أمثال أجنيس — نساء الرجال، النساء الأمهات — يعشن حياة مروِّعة. أولًا مع ما يفعله لهن الرجال — حتى لو كانوا طيبين مثل أندرو — ومع ما يفعله الأطفال، في النهاية. لن تنسى أبدًا طريقة استلقاء أمها في السرير، غائبة عن الوعي، مصابة بحمَّى، لا تعرف أحدًا، حتى ماتت، بعد ولادة والتر بثلاثة أيام. صرخت في الإناء الأسود المعلَّق على النار معتقدة أنه ممتلئ بالشياطين.

ماري — ويناديها إخوتها «ماري المسكينة» — طولها أقل من خمسة أقدام ووجهها صغير مشدود بكتلة من الذقن الناتئ، وبشرة معرَّضة لطفح متقد يستغرق وقتًا طويلًا ليتلاشى. حين يكلمها أحد، يرتجف فمها كأن الكلمات تمتزج بلعابها وأسنانها الملتوية، ويأتي رد الفعل، الذي تحاول السيطرة عليه، رذاذًا من كلام شاحب جدًّا ومسلوق بحيث يكون من الصعب ألَّا يعتقد الناس أنها غبية. تعاني من صعوبة هائلة في النظر في عيني أي شخص، حتى أفراد عائلتها. فقط حين تحمل الطفل على وركها يمكنها النطق ببعض الكلمات المفهومة المترابطة، ويكون معظمها موجهًا إليه.

تسمع خوار البقرة قبل أن تراها. ثم تتطلع وترى بهيمة بُنِّية تضرب في الهواء، مقيدة بالحبال ترفس وتصرخ بشكل مرعب. تُقيَّد بخطاف في ونش، يسحبها بعيدًا عن الأنظار. يصيح الناس من حولها ويصفقون بأيديهم. يصرخ طفل، يريد أن يعرف إذا كانت البقرة ستسقط في البحر. قال لهم رجل لا؛ سوف تكون معهم على السفينة.

«هل سيحلبونها إذن؟»

«نعم. اهدأ. سوف يحلبونها»، قال الرجل باستنكار. ويعلو صوت رجل آخر في صخب على صوته.

«يحلبونها حتى يأخذوا المطرقة إليها، وحينها ترى فطيرة الدماء لعشائك.»

الآن يتتبعون الدجاج، يتأرجح في الهواء في صناديق الشحن، يصيح ويرفرف في أقفاصه وينقر بعضه البعض حين يستطيع، وهكذا يهرب بعض الريش ويتطاير في الهواء. وبعده يقيد خنزير كما حدث مع البقرة، يصرخ بنبرة إنسانية من الألم والنقل بوحشية وسط الهواء، وأثار صراخ الاثنين البهجة والغضب تحت، ويعتمد ذلك على إن كان يأتي من الذين يُضرَبون أم من الذين يرون الآخرين يضرِبون.

يضحك جيمس أيضًا. يعرف الروث، ويصيح بكلمته التي تشير إليه، وهي «جروجن».

تعتقد ماري أنه قد يتذكر هذا ذات يوم: رأيتُ بقرة وخنزيرًا يطيران في الهواء. وقد يتساءل إن كان ذلك حلمًا. ولن يكون هناك أحد — من المؤكد أنها لن تكون موجودة — ليقول له إنه لم يكن حلمًا، وإنه حدث على هذه السفينة. من المحتمل ألا يرى أبدًا مرة أخرى في يقظته مثل هذه السفينة. ليس لديها فكرة عن المكان الذي يذهبون إليه حين يصلون إلى الشاطئ الآخر، لكنها تتخيل أنه سيكون مكانًا ما على اليابسة، بين الهضاب، مكانًا ما مثل الإتريك.

لا تعتقد أنها سوف تعيش طويلًا حيث يذهبون. تسعل في الصيف كما تسعل في الشتاء، وحين تسعل تشعر بألم في صدرها. تعاني من التهابات في جفنيها، وتقلص في بطنها، ويأتي نزيفها قليلًا وقد يستمر شهرًا حين يأتي. تتمنَّى، رغم ذلك، ألَّا تموت وجيمس في حاجة إليها، سيكون في حاجة إليها لبعض الوقت. تعرف أنه سيأتي وقت ينصرف فيه عنها، كما فعل إخوتها، حين يشعر بالخجل من الارتباط بها. على الأقل هذا ما تقول لنفسها إنه سيحدث، لكن مثل أي شخص يحب لا تصدق هذا.

في رحلة إلى بيبلز،٦ اشترى والتر لنفسه كراسة ليكتب فيها، لكن لعدة أيام وجد الكثير جدًّا مما يستحق الانتباه ولم يجد مكانًا أو هدوءًا على ظهر السفينة حتى ليفتحها. في النهاية، بعد بعض البحث، اكتشف بقعة رائعة قرب الكبائن على السطح العلوي للسفينة.
أتينا على متن سفينة في اليوم الرابع من يونيو ومكثنا الخامس والسادس والسابع والثامن في طرق ليث حيث وصلت السفينة إلى مكان يمكن أن نُبحر منه، وكان ذلك في التاسع. مررنا بزاوية فيفشاير٧ ولم يحدث شيء يستحق الذكر حتى هذا اليوم الثالث عشر في الصباح على صرخة، منزل جون أوجروات. كانت الرؤية واضحة وكان إبحارًا رائعًا عبر لسان البنتلند٨ حيث الرياح والمد في صالحنا ولم يكن خطرًا بحال من الأحوال كما سمعنا. هناك طفل مات، اسمه أورميستون وأُلقيت جثته في البحر، خيطتْ في قطعة من القماش مع كتلة كبيرة من الفحم في قدميه.
يتوقف في كتابته ليفكر في الكيس الثقيل الذي يسقط في المياه. هل تقوم قطعة الفحم بوظيفتها، هل يسقط الكيس مباشرة في أعماق البحر؟ أم أن تيار البحر قوي بما يكفي لحمله ومنعه من السقوط، ودفعه جانبًا، وسحبه بعيدًا إلى جرينلاند٩ أو جنوبًا إلى المياه القطبية المليئة بالأعشاب الضارة، بحر سرجاسو؟ وربما تأتي سمكة متوحشة وتمزق الكيس وتتناول وجبة من الجثة قبل حتى أن تُترك أعلى المياه ومنطقة النور.

يتصور ذلك الآن؛ يؤكل الطفل. لا يبلع كاملًا كما في حالة يونس، بل يمضغ قِطعًا كما قد يمضغ هو نفسه قطعة طيِّبة المذاق من خروف مطبوخ. لكن هناك مسألة الروح. تبرح الروح الجسد في لحظة الموت. لكن من أي جزء من الجسد تبرح؟ يبدو أفضل تخمين أنها تخرج مع النفس الأخير، وقد اختبأتْ في مكان ما من الصدر، حول موضع القلب والرئتين. ومع أن والتر سمع نكتة اعتادوا أن يقولوها عن رفيق عجوز من الإتريك، عن مدى قذارته حتى إنه حين مات خرجت روحه من فتحة الشرج، وسمع أن ذلك حدث في انفجار هائل.

هذه هي المعرفة التي قد يتوقع أن يقدمها لك الوعاظ، لا يذكرون شيئًا بالطبع من قبيل فتحة الشرج، بل يشرحون شيئًا عن الموضع الحقيقي والمخرج. لكنهم يخجلون منه. لا يستطيعون أيضًا أن يشرحوا — على الأقل، لم يسمع قط أحدهم يشرح — كيف تبقى الأرواح خارج الأجساد حتى يوم القيامة وكيف تجد كل روح في ذلك اليوم جسدها وتتعرف عليه وتتحد معه من جديد، رغم أنه لن يكون مثل الهيكل في ذلك الوقت. رغم أنه رماد. لا بُدَّ أن هناك من درس ما يكفي ليعرف كيف يتم هذا كله. وهناك أيضًا البعض — كما عرف حديثًا — ممن درسوا وقرءُوا وفكروا حتى استنتجوا أنه لا توجد أرواح إطلاقًا. لا أحد يبالي بالحديث عن هؤلاء الناس، والتفكير فيهم مرعب في الحقيقة. كيف يعيشون والخوف — الحقيقي، المؤكد — من الجحيم أمامهم؟

في اليوم الثالث من الإبحار على متن السفينة نهض جيمس الكبير وبدأ يتمشى. ثم يتوقف ويتحدث إلى أي شخص يبدو مستعدًّا لأن يسمع. يقول اسمه، ويقول إنه من إتريك، من وادي إتريك وغابته، حيث اعتاد الملوك القدماء لاسكتلندا الصيد.

يقول: «وفي حقول فلودين،١٠ بعد معركة فولدين، قالوا إن الجثث تناثرت في كل مكان واختاروا رجال إتريك، لأنهم أطول رجال الأرض وأقواهم وأجملهم. لي خمسة أبناء كلهم رجال أقوياء، ليس معي منهم سوى اثنين. أحد أبنائي في نوفا سكوشيا.١١ آخر مرة سمعت عنه كان في مكان يُدعى إيكونومي،١٢ ولم نسمع عنه كلمة من حينها ولا أعرف إن كان حيًّا أم ميتًا. أكبر أبنائي رحل ليعمل في الهضاب، والابن قبل الأخير صَمَّم على الذهاب إلى هناك أيضًا، ولم أرَ أحدًا منهما مرة أخرى. خمسة أبناء، نعمة من الرب، كبروا جميعًا وصاروا رجالًا، لكن شاءت إرادة الرب ألا يكونوا معي. حياة الرجل مليئة بالأسى. عندي ابنة أيضًا، أكبرهم جميعًا، لكنها قزم تقريبًا. طارد كبشٌ أمَّها وهي حامل فيها.»

بعد ظهيرة الرابع عشر هبَّت رياح من الشمال وبدأت السفينة تهتز وكأن كل لوح فيها سيطير بعيدًا عن الآخر. امتلأت الجرادل بقيء مَن أُصيبوا بالدوار وانزلقت محتوياتها في كل موضع على ظهر السفينة. أُمِر الجميع بالنزول إلى تحت فانكمش الكثير منهم بجوار الحاجز ولم يبالوا بالاغتسال. لا أحد من أسرتنا أُصيب بالدوار رغم ذلك، توقفت الرياح الآن وأشرقت الشمس ومن لم يبالوا بالموت في القذارة منذ لحظات قصيرة نهضوا وانسحبوا ليغتسلوا حيث ينثر البحارة جرادل من المياه على ظهر السفينة. النساء مشغولات أيضا يغسلن ويشطفن ويعصرن الملابس العفنة. أسوأ بؤس وأسرع اكتشاف رأيتُه في حياتي.

فتاة صغيرة في العاشرة أو الثانية عشرة تقف وتشاهد ما يكتبه والتر. ترتدي ثوبًا رائعًا وبونيه، شعرها بُني خفيف ملتف. ليس وجهًا جميلًا جدًّا بقدر ما هو مُفعم بالحيوية.

تقول: «هل أنت من كابينة؟»

يقول والتر: «لا. لستُ من كابينة.»

«عرفتُ أنك لسْتَ من كابينة. لا توجد إلا أربع كبائن، واحدة لأبي وواحدة للكابتن وواحدة لأمه، وهي لا تخرج أبدًا، وواحدة للسيدتين. لا يفترض أن تكون على هذا الجزء من سطح السفينة إلا إذا كنْتَ من كابينة.»

«حسنًا، لا أعرف ذلك»، يقول والتر، ولا يهم بالابتعاد.

«رأيتُك من قبل تكتب في كراستك.»

«لم أرَكِ.»

«لا. كنْتَ تكتب فلم تلاحظ. لم أخبر أحدًا عنك»، تضيف دون اكتراث، كأنها مسألة اختيار وقد تَغيَّر رأيها.

حين تغادر، يضيف والتر جملة.

وفي هذه الليلة من سنة ١٨١٨م لم نعد نرى اسكتلندا.

تبدو كلمات مهيبة بالنسبة له. يمتلئ بإحساس العظمة، والهدوء، والأهمية الشخصية.

كان اليوم السادس عشر عاصفًا برياح من الجنوب الغربي وحركة الأمواج سريعة، وانكسر مُثَبِّت الذراع من عنف الرياح. وأُخِذتْ أختنا أجنيس إلى الكابينة.

«أخت»، كتب، كأنها مثل ماري المسكينة بالضبط، لكن الوضع ليس كذلك. أجنيس فتاة طويلة قوية بشعر كثيف أسود وعينين سوداوين. تتحول حُمرة الخجل على إحدى وجنتيها إلى بقعة بنية شاحبة في حجم أثر الكف. وَحْمَة، يقول الناس إنها تدعو للأسف لأن الفتاة قد تبدو رائعة بدونها. لا يحتمل والتر النظر إليها، لكن ليس لأنها بشعة. لأنه يتوق إلى لمسها، ليحكَّها بأطراف أصابعه. لا تبدو مثل الجلد العادي بل مثل قطيفة على أيِّل. مشاعره تجاهها مزعجة جدًّا ولا يتكلم معها إلا على مضض، إذا تحدث معها، وتنتقم منه بقدر هائل من الاحتقار.

تعتقد أجنيس أنها في المياه والأمواج تأخذها إلى أعلى وتُلقي بها إلى أسفل. وكلما ألقت بها إلى أسفل كانت أسوأ من سابقتها، وهي تغطس أكثر وأعمق، وتمر لحظة ارتياح قبل أن تتمكن من القبض عليها، لأنه الموجة التالية تحشد قوتها بالفعل لتضربها.

ثم تعرف أحيانًا أنها في السرير، سرير غريب ناعم جدًّا، لكن ذلك كله سيئ لأنها حين تغطس لا توجد مقاومة، لا يوجد موضع صلْب يتوقف عنده الألم. يندفع الناس ذهابًا وإيابًا أمامها. يُشاهَدون جميعًا بشكل جانبي وبجلاء تام، يتحدثون بسرعة شديدة فلا تستطيع متابعة ما يقولون، وبغرابة لا يلتفتون إليها. ترى أندرو وسطهم، واثنين أو ثلاثة من إخوتها. هناك فتيات تعرفهن أيضًا، صديقات اعتادت اللهو معهن في هويك. لا يبالين إطلاقًا بمحنتها.

لم تعرف قط أن لها أعداءً بهذا العدد. يضحكون ويتظاهرون بأنهم لا يعرفون. تُغيظها حركتهم حتى الموت.

تنحني أمها عليها وتقول بصوت متشدق بارد يفتقر إلى الحيوية: «أنت لا تحاولين يا فتاتي. لا بُدَّ أن تحاولي أكثر.» ترتدي أمها ثيابًا أنيقة وتتحدث بشكل رائع، وكأنها سيدة من أدنبره.

حشد من الشر يصب في فمها. تحاول بصقه، وهي تعرف أنه سام.

تفكر: سأنهض وأنتهي من ذلك. تحاول التحرر من جسدها، كأن كومًا من غضب على نار.

تسمع صوت رجل، يُعطي أوامر. «أمسِكوا بها»، يقول، وهي تتمزق وتتمدد مفتوحة للعالم وللنار.

«آه … آه … آه»، يقول الرجل، وهو يلهث كأنه يجري في سباق.

ثم بقرة ثقيلة جدًّا، تخور مثقلة باللبن، تشبُّ وتجلس على بطن أجنيس.

يقول الرجل: «الآن، الآن»، ويئن بأقصى قوته وهو يحاول رفعها.

الحمقى. الحمقى، يسمح لهم بالدخول دائمًا.

لم تصبح أفضل حتى الثامن عشر حين ولدتْ بنتًا. معنا جرَّاح على متن السفينة ولم يحدث شيء. لم يحدثْ شيء حتى الثاني والعشرين وكان أقسى يوم مررنا به حتى ذلك الوقت. تعافت أجنيس بشكل عادي حتى التاسع والعشرين حين رأينا سربًا من الدلافين وفي الثلاثين (أمس) كان البحر قاسيًا والرياح تعصف من الغرب فنندفع إلى الخلف لا إلى الأمام.

يقول جيمس الكبير: «في الإتريك ما يعتبرونه أعلى منزل في اسكتلندا، وكان المنزل الذي عاش جدي فيه أعلى منه. اسم المكان فوهوب، ويسمونه فوب. كان جدي ويل أوفوب، ومنذ خمسين عامًا كان من الممكن أن تسمع عنه إذا جئْتَ من أي مكان جنوب الفورث١٣ وشمال الأراضي المتنازَع عليها.»

يلعن أناسٌ حين يرونه قادمًا ويسعد آخرون بأي تسلية. يسمع أبناؤه صوته وسط فوضى أخرى على متن السفينة، ويشقون طريقهم في الاتجاه المضاد.

ليومين أو ثلاثة، رفض جيمس الصغير مفارقة ورك ماري. أصر بشدة على البقاء هناك. في الليل نام في عباءتها، ملتفًّا بجوارها، وكانت تستيقظ من ألم في جانبها الأيسر، لأنها رقدت متصلبة طوال الليل حتى لا تزعجه. ثم نزل في صباح أحد الأيام وأخذ يجري ويركلها إذا حاولت رفعه.

يشد انتباهه كل شيء على السفينة. حتى في الليل يحاول الصعود فوقها والجري في الظلام. تنهض متألمة نتيجة الوضع الذي تنام فيه ونتيجة عدم النوم عمومًا. ذات ليلة تسقط وينطلق الولد ولحسن الحظ تعثَّر في جسم أبيه وهو يحاول الهرب. منذ ذلك الوقت، يصرُّ أندرو على ربطه كل ليلة. يصيح بالطبع، ويهزه أندرو ويصفعه فيبكي حتى ينام. ترقد ماري جواره في هدوء وتشرح له ضرورة ذلك حتى لا يسقط من السفينة في المحيط، يعتبرها في تلك الأوقات عدوَّه، وإذا وضعت يدها على وجهه لتداعبه يحاول عضَّها بأسنانه الصغيرة. كل ليلة يذهب إلى النوم في حالة غضب، لكن في الليل حين تنضم إليه، وهو لا يزال شبه نائم مفعمًا بحلاوة الطفولة، يتشبث بها نعسان ويغمرها الحب.

ثم يذهب ذات يوم. تلتفت وهي في طابور ماء الغسيل فلا تجده بجانبها. تقول بضع كلمات للمرأة التي أمامها، ترد على سؤال عن أجنيس والرضيعة، لم تقل للمرأة إلا اسمها — إيزابيل — وفي تلك اللحظة ابتعد.

انقلب كل شيء في لحظة. تغيرت طبيعة العالم. تجري ذهابًا وإيابًا، تصيح باسم جيمس. تجري إلى الغرباء، إلى بحَّارة يسخرون منها وهي تتوسل إليهم: «هل رأيتم ولدًا صغيرًا؟ هل رأيتم ولدًا صغيرًا بهذا الطول، عيناه زرقاوان؟»

يقول رجل لها: «رأيتُ خمسين أو ستين منهم بهذا الشكل في آخر خمس دقائق.» رجل يحاول أن يكون ودودًا يقول سوف يظهر، لا ينبغي لماري أن تقلق، يلعب مع بعض الأطفال الآخرين. تتطلَّع بعض النساء كأنهن يساعدنها في البحث، لكن بالطبع ما كُنَّ يستطعن، وراءهن مسئولياتهن.

هذا ما تراه ماري بوضوح في تلك اللحظات من العذاب: العالم الذي تحول إلى رعب بالنسبة لها لا يزال العالم العادي نفسه بالنسبة لكل الآخرين وسيبقى كذلك إذا تلاشى جيمس حقًّا، حتى لو كان قد زحف من خلال سياج السفينة — لاحظت في كل مكان المواضع التي يمكن أن يحدث فيها ذلك — وابتلعه المحيط.

أبشع الأحداث التي لا يمكن أن تتصورها تبدو بالنسبة لمعظم الآخرين مُحزِنة لكنها ليست مآسي خارقة. قد لا تكون غير قابلة للتصور بالنسبة لهم.

أو بالنسبة للرب. لأن الرب حين يخلق طفلًا نادرًا يتمتع بجمال استثنائي ألا يكون هو نفسه مغرمًا باستعادة خليقته، كأن العالم ليس جديرًا به؟

لكنها تدعوه طوال الوقت. في البداية تقول باسم الرب. لكن، وبحثها يُصبح أكثر تخصصًا وببعض الطرق أكثر غرابة، تنحني تحت حبال الغسيل التي وضعها الناس لعزلهم عن الآخرين، لم تفكر في أن شيئًا يمكن أن يُزعج الناس، تندفع على صناديقهم وتحت ملاءاتهم، ولا تسمعهم حتى حين يلعنونها، تصبح دعواتها أيضًا أكثر تعقيدًا وتهورًا. تحاول التفكير في شيء تُضحي به، شيء يساوي قيمة عودة جيمس إليها. لكن ماذا تملك؟ لا شيء، لا صحة أو منظرًا أو اعتبارًا من أي شخص. لا حظ أو حتى أملًا تضحي به. جيمس كل ما لديها.

كيف تضحي بجميس من أجل جيمس؟

هذا ما يدور في رأسها.

لكن ماذا بشأن حبها لجيمس؟ الحب الهائل وربما الوثني، ربما حب فظيع لكائن آخر. ما سوف تضحي به تضحي به بسعادة فقط إذا لم يضع جيمس.

لو أمكن فقط العثور عليه. فقط إذا لم يكن ميتًا.

تستدعي هذا كله بعد ساعة أو ساعتين من مشاهدة شخص للولد يظهر من تحت دلو كبير فارغ، ويستمع للصخب. وتقلَّص نذرها على الفور. فهمها للرب سطحي وغير مستقر، والحقيقة أنها، باستثناء وقت هلع كالذي شعرت به، لا تبالي حقًّا. شعرت دائمًا أن الرب أو حتى فكرة الرب أبعد عنها من الآخرين. فيها لا مبالاة عنيدة لا يعرف أحد شيئًا عنها. ريما يتخيل الجميع أنها تتشبث سرًّا بالدين لأنه لا شيء آخر متاح أمامها. إنهم مخطئون تمامًا، والآن وقد استعادت جيمس لا تُقدِّم حتى شكرًا لكنها تفكر في مدى حماقتها وعجزها عن التسليم بحبها له أكثر من ذلك إلا بأن تتوقف ضربات قلبها.

بعد ذلك يُصِرُّ أندرو على ربط جيمس في الليل وفي النهار أيضًا، في عمود السرير أو في حبل غسيل يُعلِّقُونه على ظهر السفينة. عاقب أندرو ابنه على الحيلة التي لعبها، لكن النظرة في عيني جيمس تقول إن حيله لا تنتهي.

تلح أجنيس في طلب الملح، خافت مرأتان ترعيانها من مسافري الكبائن، سيدتان من أدنبره، تقومان بالمهمة بدافع الإحسان، خافتا من إصابتها بحمى.

تقولان لها: «اهدئي الآن. ليست لديك أي فكرة عن أي فتاة محظوظة أنت لأن مستر سوتر على متن السفينة.»

تخبرانها بأن الجنين كان في وضع غير طبيعي وخشوا جميعًا أن يضطر مستر سوتر إلى إجراء عملية لها، وربما يكون في نهايتها. لكنه استطاع تعديل وضعه وإخراجه.

تقول أجنيس: «أحتاج ملحًا من أجل اللبن»، ولا تريدان وضعها مكانها ويؤنبانها بلهجة أدنبره التي تتحدثان بها. غبيتان على أي حال. تشرح لهما كيف يجب وضع بعض الملح في أول لبن يرضعه الطفل، بوضع بعض الحُبيبات على الإصبع وعصر نقطة أو اثنتين من اللبن عليه وجعل الطفل يبلعه قبل وضعه على صدر أمه. دون هذا الاحتياط تكون هناك فرصة كبيرة لأن يصبح شبه غبي حين يكبر.

«تقول إحداهما للأخرى: «هل هي مسيحية»؟»

تقول أجنيس: «أنا مثلكما.» لكن مما يدهشهما ويشعرهما بالعار أنها تبدأ البكاء بصوت مرتفع، والطفل يصيح معها، نتيجة التعاطف أو الجوع. لكنها لا تزال ترفض إطعامه.

يدخل مستر سوتر ليطمئن عليها. يسأل عن سبب هذا الأسى، فتُخبرانه بالمشكلة.

«وضْع ملح في معدة الطفل حديث الولادة، من أين أتت بهذه الفكرة؟»

يقول: «أعطياها الملح.» ويبقى ليراها تعصر اللبن على إصبعها المملح، وتضع الإصبع على شفتي الوليد، وتتبع ذلك بحلمتها.

يسألها عن السبب وتخبره.

«وهل يفيد ذلك كل مرة؟»

تخبره، اندهشت قليلًا لأنه غبي مثلهما، لكنه أكثر رقة، يفيد دائمًا.

«هل كلكم أذكياء؟ وهل كل الفتيات قويات وجميلات مثلك؟»

تقول إنها لا تعرف شيئًا عن ذلك.

اعتاد الشبان الزائرون أحيانًا، شبان متعلمون من البلدة، التعلق بها وبصديقاتها، يمتدحونهن ويحاولون التحدث إليهن، واعتقدت دائمًا أن أي فتاة تسمح بذلك حمقاء حتى لو كان الرجل وسيمًا. مستر سورت بعيد عن الوسامة، نحيف جدًّا، يمتلئ وجهه ببثور سيئة، عاملته في البداية كرفيق عجوز. صوته رقيق، وحين يضايقها قليلًا لا يُسبب لها أذًى. لا يتعامل رجل بشكل طبيعي مع امرأة بعد أن ينظر إليها متمددة وأجزاؤها الحساسة مكشوفة في الهواء.

«هل تتألمين؟» يسأل، وتعتقد أن هناك ظلًّا على وجنتيه المصابتين، يظهر تورد بسيط. تقول إنها ليست أسوأ مما يجب، فيومئ، ويمسك برسغها، وينحني عليه، يضغط على نبضها بقوة.

«قوية مثل خيل السبق»، يقول، ويداه لا تزالان عليها، كأنه لا يعرف أين يضعهما بعد ذلك. يُقرر دفع شعرها للخلف وضغط أصابعه على صدغها، وخلف أذنيها أيضًا.

تتذكر هذا اللمس، هذا الضغط الغريب الرقيق الخفيف، بمزيج مشوش من الاستهجان والاشتياق، لسنوات طويلة بعد ذلك.

يقول: «حسنًا، لا توجد علامات على وجود حمى.»

يشاهد للحظة الطفلة وهي ترضع.

يقول وهو يتنهد: «كل شيء على ما يرام الآن. لك ابنة جميلة، يمكن أن تقول طوال حياتها إنها ولدتْ في البحر.»

يصل أندرو بعد ذلك ويقف عند طرف السرير. لم يرَها قط في مثل هذا السرير (سرير منسق، ربما مثبت إلى الحائط). يحمر خجلًا أمام السيدتين اللتين أحضرتا طستًا لتنظيفها.

«ذلك، هل هذا؟» يقول بإيماءة — ليست نظرة — إلى الحزمة التي بجوارها.

تضحك بطريقة مثيرة وتسأل ماذا يظن أن تكون. ذلك كله يوقعه من مقعده غير الثابت، ليؤكد ادعاءه بأنه هادئ. يتصلب الآن، ربما يصبح أكثر احمرارًا، يغرق في النار. أليس كما قالت بالضبط. المشهد كله، رائحة الرضيعة واللبن والدم، ورائحة الطست، والملابس، والمرأتان اللتان تقفان بجواره، بنظراتهما الحقيقية التي قد تبدو لرجل نظرات لوم مليئة بالسخرية في الوقت ذاته.

يبدو وكأنه لا يستطيع التفكير في كلمة أخرى يقولها، وهكذا عليها أن تطلب منه، برحمة خشنة، أن ينصرف، ثمة عمل يُعمَل هنا.

اعتادت بعض الفتيات أن يقلن حين تستسلمين في النهاية وتراهنين على رجل — حتى إذا سلمْتِ لم يكن الاختيار الأول بالنسبة لك — فإن ذلك يُقدِّم لك شعورًا يائسًا لكنه هادئ ولذيذ. لا تقول أجنيس إن هذا ما شعرتْ به تجاه أندرو. كل ما شعرت به هو أنه أشرف رجل والرجل المناسب لها في ظروفها، ولم يحدث قط أن تركها وتخلَّى عنها.

واصل والتر الذهاب إلى المكان الخاص نفسه ليكتب في كراسته ولم يرَه أحد هناك، إلا الفتاة بالطبع. ذات يوم يصل إلى المكان وتكون هناك قبله، تنط بحبل أحمر مزخرف. تتوقف حين تراه، مقطوعة النفس. وعلى الفور تحبس نفَسها قبل أن تبدأ في السعال، ويستغرق الأمر عدة دقائق قبل أن تتمكن من الكلام. تغطس بجوار كوم من القماش يواري البقعة، محمرة خجلًا، وعيناها ممتلئتان بدموع صافية من السعال. يقف ببساطة ويشاهدها، حَذِرًا من هذه النوبة ولا يعرف ماذا يفعل.

«هل تريدين مني أن أنادي إحدى السيدتين؟»

إنه على اتصال بسيدتَي أدنبره الآن، بسبب أجنيس. تهتمان بشكل طيب بالأم والطفلة وماري وجيمس الصغير، وتعتقدان أن الأب الكبير مضحك. وهما معجبتان أيضًا بأندرو، ووالتر الذي يبدو لهما خجولًا.

تهز الفتاة التي انتابتها نوبة سعال رأسها المجعد الشعر بعنف.

«لا أريدهما»، تقول، حين تستطيع النطق. «لم أخبر أحدًا قط بأنك تأتي إلى هنا. ومن ثَم يجب ألا تخبر أحدًا عني.»

«حسنًا، من حقك أن تكوني هنا.»

تهز رأسها مرة أخرى وتُشير له بالانتظار حتى تستطيع التحدث بشكل أسهل.

«أقصد أنك رأيْتَني أقفز. خبأ والدي حبل النط لكنني عرفتُ أين خبأه.»

يقول والتر بتعقل: «ليس السبت، ما الخطأ إذن في أن تنطي الحبل.»

تقول مستعيدة نبرتها الجريئة: «كيف أعرف؟ ربما يعتقد أنني أكبر من أن أفعل ذلك. هل تقسم ألا تخبر أحدًا؟»

يفكر والتر: يا لها من كائن صغير غريب متغطرس. تتحدث فقط عن والدها، فيعتقد على الأرجح أنها ليس لها إخوة أو أخوات أو — مثله — أم. هذه الحالة ربما جعلته مدللًا ومنعزلًا في الوقت ذاته.

تصبح الفتاة — اسمها نيتي — زائرة تتردد على المكان حين يحاول والتر الكتابة في كراسته. تقول دائمًا إنها لا تريد إزعاجه، لكن بعد أن تبقى هادئة بشكل مدهش لخمس دقائق تقريبًا تقاطعه بسؤال عن حياته أو بمعلومات عن حياتها. صحيح أنها دون أم ووحيدة. لم تذهب إلى المدرسة قط. تتحدث أكثر ما تتحدث عن حيواناتها الأليفة — التي ماتت وتلك التي تعيش في منزلهم في أدنبره — وامرأة اسمها مس أندرسون، اعتادت السفر معها وتعليمها. يبدو أنها سعدت برحيل هذه المرأة، ومن المؤكد أن مس أندرسون، أيضًا، سعدت بالرحيل، بعد كل الخدع التي مورست معها؛ ضفدعة حية في حذائها وفأر من ردائها الصوف لكنه يبدو مثل فأر حي في سريرها.

زارت نيتي أمريكا ثلاث مرات. والدها تاجر نبيذ تأخذه تجارته إلى مونتريال.

تريد أن تعرف كل شيء عن طريقة حياة والتر وأهله. أسئلتها بالمعايير الريفية وقحة تمامًا. لكن والتر لا يبالي حقًّا. في أسرته لم يكن قط في وضع يسمح له بأن يخبر أحدًا أصغر منه أو يُعلمه أو يزعجه، وهذا يسعده.

ماذا تتعشى عائلة والتر في البيت؟ كيف ينامون؟ هل يحتفظون بحيوانات في المنزل؟ هل للأغنام أسماء، وما أسماء الكلاب التي تصاحب الأغنام، وهل يمكن أن تتخذ منها حيوانات أليفة؟ ما نظام المعلمين في فصول المدرسة؟ هل المدرسون قُساة؟ ماذا تعني بعض كلماته التي لا تفهمها، وهل كل الناس في المكان الذي أتى منه يتحدثون مثله؟

يقول والتر: «أوه، نعم. حتى جلالة الدوق يتحدث بهذه الطريقة. دوق بكلوتش.»

تضحك وتخبط بتلقائية بقبضتها الصغيرة على كتفه.

«الآن أنت تضايقني. أعرف ذلك. أعرف أن الدوق لا يُقال له جلالة. لا يُقال له.»

ذات يوم تأتي بورقة وأقلام رسم. تقول إنها اشترتها لتُشغل نفسها، فلا تزعجه. تعرض أن تُعلِّمه الرسم إذا أراد. لكن محاولاته تضحكها، وبتعمد يرسم أسوأ وأسوأ، حتى ضحكت بشدة وأصيبت بإحدى نوبات السعال التي تصيبها. ثم تقول إنها سترسم بعض الرسوم في ظهر كراسته، لتذكِّره بالرحلة. ترسم أشرعة مرتفعة ودجاجة هربت بطريقة ما من قفصها تحاول السفر مثل طيور البحر على الماء. ترسم من ذاكرتها كلبها الذي مات. وترسم صورة لجبال الجليد التي رأتْها، أعلى من المنازل، في إحدى رحلاتها السابقة مع والدها. الشمس الغاربة تسطع خلال هذه الجبال الجليدية وتجعلها تبدو — كما تقول — مثل قلاع من الذهب. وردية وذهبية.

كل ما رسمتْ، بما في ذلك جبال الجليد، يبدو ساذجًا ومضحكًا، كان مُعبِّرًا بشكل خاص بالنسبة لها.

«في يوم سابق كنتُ أحدثك عن ويل أوفوب، جدِّي، وهناك عنه أكثر مما أخبرتك. لم أخبرك بأنه كان آخر شخص في اسكتلندا يتحدث إلى الجنيَّات. من المؤكد أنني لم أسمع قط عن شخص آخر، في زمنه أو بعد ذلك.»

يجلس والتر في ركن، بجوار بحَّارة يصلحون الأشرعة الممزقة، ومن الأصوات الصادرة خلال القصة يخمن أن معظم الجمهور الذي لا يراه من النساء.

هناك رجل طويل في ملابس أنيقة — مسافر في كابينة بالتأكيد — توَّقف ليسمع على مرأى من والتر. ثمة شخصية قريبة على الجانب الآخر لهذا الرجل، وفي لحظة من الحكاية تندفع هذه الشخصية لتتطلع إلى والتر فيرى أنها نيتي. يبدو أنها على وشك أن تضحك، لكنها تضع إصبعًا على شفتيها وكأنها تحذِّر نفسها — ووالتر — للحفاظ على الصمت.

لا بد أن الرجل والدها بالطبع. يقف الاثنان يستمعان بهدوء حتى تنتهي الحكاية. ثم يلتفت الرجل ويتكلم مباشرة، بطريقة مألوفة ودمثة، مخاطبًا والتر: «هل تدوِّن ما يمكن أن تصنعه من هذا؟» يسأل الرجل ويشير إلى كراسة والتر.

والتر حَذِرٌ، لا يعرف ما يقول. لكن نيتي تنظر إليه تطمئنه بهدوء، ثم تبعد عينيها وتنتظر جوار أبيها كما ينبغي أن تتصرف آنسة صغيرة محتشمة.

يقول والتر بصرامة: «أكتب مذكرات عن هذه الرحلة.»

«ممتع. حقيقة ممتعة، لأنني أيضًا، أحتفظ بمذكرات عن هذه الرحلة. أتساءل إن كنا نجد الأشياء نفسها جديرة بالكتابة عنها.»

«أكتب ما يحدث فقط»، يقول والتر، راغبًا في توضيح أنها وظيفة وليستْ متعة تافهة. لا يزال يشعر بأن بعض التوضيح يستحق القول: «أكتب لأحفظ مسار كل يوم بحيث أستطيع في نهاية الرحلة أن أكتب رسالة إلى الوطن.»

يصبح صوت الرجل أرق وأسلوبه ألطف من أي مخاطبة اعتاد والتر أن يسمعها. يتساءل إن كان يسخر منه بطريقة ما. أم أن والد نيتي من النوع الذي يبدأ التعارف على أمل أن يحصل على نقودك من أجل استثمارات تافهة.

لا يدل منظر والتر أو ملابسه على أنه هدف محتمل.

«هكذا لا تصف ما تراه؟ ما يحدث فقط، كما تقول؟»

والتر على وشك أن يقول لا، ثم يقول نعم. لأنه فكَّر للتو إذا كان يكتب أن هناك رياحًا عنيفة، أفلا يكون ذلك وصفًا؟ لا تعرف أين تكون مع هذا النوع من الناس.

«لا تكتب عما سمعتَ؟»

«لا أكتب.»

«قد يكون جديرًا بالكتابة. ثمة أناس حولنا الآن يتطفلون في كل جزء من اسكتلندا ويسجلون كل ما يقوله هؤلاء القرويون المسنون. يعتقدون أن الأغاني والقصص القديمة تختفي وأنها جديرة بالتسجيل. لا أعرف ما يتعلق بهذا، ليس من شأني. لا أندهش إذا كان الذين كتبوا ذلك يجدون أنه يستحق ما تعرضوا له، أقصد أن أقول: سوف يكون هناك كسب مادي من وراء ذلك.»

تتحدث نيتي بشكل غير متوقع.

«أوه، اسكتْ يا أبي. يبدأ الرفيق العجوز مرة أخرى.»

هذا ما لا تقوله، بخبرة والتر، أي ابنة لأبيها، لكن الرجل يبدو على استعداد لأن يضحك، متطلعًا إليها بإعجاب.

ينطلق صوت جيمس الكبير في هذه اللحظة متكسرًا بتصميم وتأنيب على صوت جمهوره الذين ربما اعتقدوا أنه كان الوقت المناسب لأحاديثهم الخاصة.

«ولا يزال هناك وقت آخر، لكن في الأيام الطويلة في الصيف، على الهضاب في وقت متأخر من اليوم لكن قبل أن يحل الظلام …»

سمع والتر القصص التي ينطلق والده في روايتها، وآخرون مثله، طوال حياته، والغريب أنه لم يسمعها قط من أبيه حتى جاءوا على متن هذه السفينة. كان يعرف أن أباه لوقت قريب، وهو متأكد من ذلك، لا يجد فائدة من ورائها.

اعتاد أبوه أن يقول: هذا المكان الذي نعيش فيه رهيب. يتمسك الناس جميعًا بالتفاهة والعادات السيئة، وحتى صوف خرافنا خشن جدًّا لا تستطيع بيعه. الطرق سيئة جدًّا ولا يستطيع حصان السير أكثر من أربعة أميال في الساعة. وللحرث هنا يستخدمون المعاول أو المحراث الاسكتلندي القديم، بينما توجد محاريث أفضل في أماكن أخرى منذ خمسين سنة. «أوه، نعم، نعم»، يقولون حين تسألهم. «أوه، نعم، لكن هذا المكان القريب شديد الانحدار، الأرض ثقيلة جدًّا.»

قد يقول: «الولادة في الإتريك تعني الولادة في مكان متخلف، حيث يؤمن الجميع بالقصص القديمة ويشاهدون الأشباح، وأقول لعنة أن تولد في الإتريك.»

ومن المرجح تمامًا أن ذلك قد يقوده إلى موضوع أمريكا، حيث تستخدم كل بركات الاختراعات الحديثة بلهفة ولا يتوقف الناس عن تطوير عالمهم.

لكنه يصغي إليه الآن.

«يجب أن تأتي وتتحدث إلينا على ظهر السفينة من فوق»، يقول والد نيتي لوالتر حين انتهى جيمس الكبير من قصته. «ورائي عمل أفكر فيه ولا أكون في صحبة ابنتي كثيرًا. ممنوع عليها التنقل؛ لأنها لم تُشْفَ تمامًا من البرد الذي أصيبت به في الشتاء، لكنها مغرمة بالجلوس والحديث.»

«لا أعتقد أنني معتاد على الذهاب إلى هناك»، يقول والتر ويعاني من بعض الارتباك.

«لا، لا، لا يهم. ابنتي وحيدة. تحب القراءة والرسم، وتحب الصحبة أيضًا. تستطيع أن تريك كيف ترسم إذا أحببْتَ. يمكن إضافة ذلك إلى مذكراتك.»

هكذا يجلسان في الهواء ويرسمان ويكتبان. أو تقرأ له بصوت عالٍ من كتابها المفضل، وهو «رؤساء اسكتلندا».١٤ يعرف القصة — من لا يعرف وليم والاس؟ — تقرأ بسلاسة وبسرعة مناسبة تمامًا وتجعل بعض الأمور رزينة وبعضها مرعبًا وبعضها مضحكًا، وهكذا يغرم بسرعة بالكتاب مثلها. حتى مع أنها، وهي تقرأ، تكون قد قرأت اثنتي عشرة مرة بالفعل.

يفهم الآن بشكل أفضل لماذا تطرح عليه الكثير من الأسئلة. يُذكِّرها هو وشعبه بالناس في كتابها، مثل هؤلاء الناس كانوا على الهضاب وفي الوديان في العصور الغابرة. ماذا تعتقد إذا عرفتْ أن الرفيق العجوز، نسَّاج الحكايات القديمة الذي ينطلق على السفينة كلها ويدفع الناس إلى الاستماع كأنهم أغنام — ماذا تعتقد إذا عرفت أنه والد والتر؟

ربما تبتهج وربما يزداد فضولها بشأن أسرة والتر أكثر من قبل. قد لا تزدريهم، إلا بالطريقة التي لا حيلة لها فيها أو لا تعرفها.

وصلنا إلى شاطئ الصيد في نيوفوندلند١٥ في الثاني عشر من يوليو وفي التاسع عشر رأينا الأرض وكانت مشهدًا ممتعًا لنا. أبحرنا بين نيوفوندلند وجزيرة سانت بول وتعرَّضنا لرياح معتدلة في الثامن عشر والتاسع عشر ووجدنا أنفسنا في النهر صباح العشرين على مرمى البصر من أرض أمريكا الشمالية. استيقظنا في الواحدة صباحًا، وأعتقد أن كل المسافرين كانوا خارج الأسرَّة في الساعة الرابعة يُحدِّقون في الأرض، مغطاة تمامًا بالغابات، والمشهد جديد تمامًا بالنسبة لنا. جزء من نوفا سكوشيا، بلاد جميلة كثيرة التلال.

هذا يوم العجائب. الأرض مغطاة بأشجار مثل رأس مشعرة وخلف السفينة تشرق شمس ساطعة على قمم الأشجار. السماء صافية ومتألقة مثل طبق صيني والمياه تضطرب بشكل جميل بتأثير الرياح. انتهى أثر الضباب، والهواء مفعم برائحة راتنج تفوح من الأشجار. تومض طيور البحر فوق الأشرعة وكلها ذهبية مثل كائنات الجنة، يطلق البحَّارة بضعة أعيرة نارية ليبعدوها عن الحبال.

تحمل ماري جيمس الصغير ليتذكر دائمًا هذا المشهد الأول للقارة التي ستكون وطنًا له. تخبره باسم هذه الأرض؛ نوفا سكوشيا.

تقول: «تعني اسكتلندا الجديدة.»

تسمعها أجنيس وتسأل: «لماذا إذن لا تُسمَّى بهذا الاسم؟»

تقول: «إنه اسم لاتيني على ما أظن.»

تُعبِّر أجنيس عن سخطها بنفاد صبر. استيقظت الطفلة مبكرًا نتيجة الصخب والاحتفال، وهي الآن في حالة مزرية، تريد أن تكون على ثدي أمها طوال الوقت، تنوح كلما حاولت أجنيس إبعادها. يحاول جيمس الصغير، وهو يشاهد هذا كله عن قرب، أن يكون على الثدي الآخر، وتضربه أجنيس بقوة حتى يترنح.

«رضاعة يا سيدتي»، تقول أجنيس. يبكي قليلًا، ثم يزحف خلفها ويقرص أصابع قدم الطفلة.

ضربة أخرى.

«أنت بيضة فاسدة، أنت. أفسدك شخص ما فظننْت أنك دبر اللورد.»١٦

تشعر ماري حين ترفع أجنيس صوتها كأنها على وشك أن تتلقَّى صفعة أيضًا.

يجلس جيمس الكبير معهم على ظهر السفينة، لا يلتفت لهذا الإزعاج العائلي.

تقول ماري: «تأتي وتُلْقي نظرة على البلاد يا أبي؟ يمكن أن تشاهد منظرًا أجمل من عند الحاجز.»

يقول جيمس الكبير: «أرى بما يكفي»، لا شيء في صوته يوحي بأن الرؤى من حوله تبهجه.

يقول: «كانت إتريك مكسوة بالأشجار في سالف الأيام. سكنها الرهبان في البداية وبعد ذلك كانت الغابة الملكية. كانت غابة الملك. أشجار الزان، أشجار البلوط، أشجار السمن.»١٧

«أشجار بهذا العدد؟» تقول ماري، وقد صارت أكثر جرأة من المعتاد نتيجة روعة اليوم الجديد.

«أشجار أفضل. أقدم. اشتهرت الغابة الملكية في إتريك في كل أرجاء اسكتلندا.»

تواصل ماري: «ونوفا سكوشيا حيث يوجد أخونا جيمس.»

«قد يوجد وقد لا يوجد. من السهل أن يموت المرء هنا ولا يعرف أحد أنه مات. ربما أكلتْه الحيوانات البرية.»

تتساءل ماري كيف لأبيها أن يتكلم بهذه الطريقة، عن أن الحيوانات البرية قد تكون أكلت ابنه. هل هكذا تسيطر أحزان السنين على المرء، تحوَّل قلبه وكان من لحم إلى قلب من الحجارة، كما يقال في الأغنية القديمة. وإذا كان الحال كذلك، بأي قدر من اللامبالاة والازدراء يمكن أن يتحدث عنها، هي التي لم تعنِ له قط جزءًا مما كان يعنيه له الأولاد؟

أحضر شخص كمنجة على ظهر السفينة وأخذ يضبطها ليعزف عليها. تشتته أصوات الناس المتعلقين بالحاجز، وكل منهم يشير للآخر بما يمكن أن يراه من نفسه — مثل تكرار الاسم الذي يعرفه الجميع الآن، نوفا سكوشيا — ويبدأ الدعوة للرقص. الرقص في السابعة صباحًا.

تقول أجنيس على الفور: «من يرعى الولد؟ لن أنهض وأطارده.» كانت مغرمة بالرقص، لكنها ممنوعة الآن ليس فقط بسبب الطفلة الرضيعة بل أيضًا نتيجة آلام في أجزاء من جسمها كانت ممزقة في الولادة.

ترفض ماري وتقول إنها لا تستطيع الذهاب، لكن أندرو يقول: «نُقيِّده بالحبل.»

تقول ماري: «لا، لا. لستُ في حاجة إلى الرقص.» تعتقد أن أندرو أخذته الشفقة بها، متذكِّرًا كيف اعتادتْ أن تُهمَل في الألعاب المدرسية وفي الرقص، برغم قدرتها على الجري والرقص بشكل جيد. أندرو الأخ الوحيد من إخوتها الذي يفكر في مثل هذه الأمور، لكنها تعتقد أنه تصرف غالبًا مثل الآخرين وتركها مهملة كما كانت دائمًا. تثير الشفقة سخطها.

يبدأ جيمس الصغير الشكوى بصوت مرتفع، وقد عرف كلمة «حبل».

يقول أبوه: «اهدأ. اهدأ وإلا ضربتك.»

يدهشهم جيمس الكبير بالانتباه إلى حفيده.

«أنت أيها الغلام الصغير. أنت اجلسْ بجانبي.»

تقول ماري: «أوه، لن يجلس. سيجري ولن تستطيع مطاردته يا أبي. سأبقى.»

يقول جيمس الكبير: «سيجلس.»

تقول أجنيس لماري: «حسنًا، استقري. اذهبي أو ابقي.»

يتطلع جيمس الصغير من شخص لآخر، متنفسًا بحذر.

يقول جده: «ألا يعرف حتى أبسط كلمة. اجلسْ يا غلام هنا.»

ينزل جيمس الصغير، على مضض، إلى البقعة المحددة.

«الآن اذهبي»، يقول جيمس الكبير لماري. والكل في حالة ارتباك، على وشك البكاء، تذهب.

لا يرقص الناس في إطار الريل١٨ فقط بل يتجاوزونه تمامًا، على سطح السفينة. يمسكون بأي شخص ويلفُّون. يمسكون حتى ببعض البحَّارة، إذا استطاعوا. يرقص رجال مع نساء، يرقص رجال مع رجال، ترقص نساء مع نساء، يرقص أطفال مع آخرين أو وحدهم أو دون أي فكرة عن الخطوات، يقفون في الطريق، لكن الجميع في طريق الجميع ولا يهم.

أمسكت ماري بيد أندرو وكان يجعلها تلف، مرَّت بآخرين انحنوا لها مندفعين نحو جسمها الضئيل. ترقص على مستوى الأطفال، رغم أنها أقل جرأة وابتهاجًا. لا حيلة لها مع كثافة الأجسام الكثيرة، لا تستطيع التوقف، عليها أن تتحرك وتلف مع الموسيقى وإلا وقعت أرضًا.

يقول جيمس الكبير: «الآن، استمع لأحكي لك. كان الرجل العجوز، ويل أوفوب، جدي — كان جدي مثلما أنا جدك — ويل أوفوب يجلس خارج منزله في المساء، يستريح. المناخ صيفي معتدل. وحده تمامًا. جاء ثلاثة أولاد لم يكونوا أكبر منك، إلى زاوية منزل ويل. قالوا له مساء الخير. يقولون: «مساء الخير يا ويل أوفوب». «حسنًا، مساء الخير يا أولاد. ماذا أقدم لكم؟» يقولون: «هل يمكن أن تمنحنا سريرًا لليلة أو مكانًا ننام فيه؟» فيقول: «نعم، نعم، أعتقد أنه ليس من الصعب على ثلاثة أولاد صغار مثلكم أن يجدوا مكانًا لهم.» يدخل المنزل وهم يتبعونه ويقولون: «بالمناسبة، هل يمكن أن تعطينا المفتاح أيضًا، المفتاح الفضي الكبير الذي لنا عندك؟» حسنًا، يتطلع ويل حوله، ويبحث عن المفتاح، حتى يقول لنفسه، أي مفتاح هذا؟ لأنه كان يعرف أنه لم يكن لديه هذا الشيء في حياته. لم يكن لديه قط مفتاح كبير أو مفتاح فضي. «عن أي مفتاح تتحدثون؟» ويلتفت فلا يجدهم. يخرج من المنزل، يلف حول المنزل كله، يتطلع إلى الطريق. لا أثر لهم. يتطلع إلى التلال. لا أثر. وعرف ويل الأمر. لم يكونوا أولادًا إطلاقًا. آه، لا. لم يكونوا أولادًا إطلاقًا.»

لم يصدر جيمس صوتًا. خلفه جدار سميك صاخب من الراقصين، وعلى جانبه أمه، وبهيمة صغيرة متشبثة تعض في جسمها. وأمامه العجوز بصوته المدمدم، صوت ملح بعيد، وهبة نفَسه المر.

أول مواجهة واعية للطفل مع شخص أناني مثله.

يركز انتباهه بالكاد ليعرف أنه لم يُهزَم تمامًا. يقول: «مفتاح، مفتاح؟»

ترى أجنيس، وهي تشاهد الرقص، أندرو، أحمر الوجه وقدماه ثقيلتان، يمسك يدًا بيد نساء مرحات مختلفات. ليست هناك فتاة يقلق شكلها أو رقصها أجنيس. لم يقلقها أندرو قط، على أي حال. ترى ماري تتمايل، وحمرة الخجل في وجنتيها، رغم شدة الخجل، والقصر الشديد، لتنظر لأي شخص في وجهه. ترى ساحرة بلا أسنان تقريبًا، أنجبت طفلًا بعدها بأسبوع، ترقص مع رجلها ممصوص الوجه. لا ألم في جسمها. لا بد أنها ولدت الطفل ببراعة كأنه فأر، ثم أعطته لواحدة من بناتها اللائي يشبهن الأعشاب الضارة لتهتم به.

ترى مستر سوتر، الجرَّاح، مقطوع النفَس، يبتعد عن امرأة تشده، يتملص من الرقص ويأتي ليحييها.

تتمنَّى ألا يفعل. يرى حماها؛ ربما يكون عليه الاستماع إلى ثرثرة الأحمق العجوز. يرى ملابسهم الريفية القذرة، لم تعد نظيفة. يراها على حقيقتها.

يقول: «أنت هنا إذن. أنت هنا مع ثروتك.»

كلمة لم تسمعها أجنيس قط في الإشارة إلى طفل. يبدو كأنه يتحدث إليها كما يتحدث إلى شخص من معارفه، ليدي، لا كما يتحدث طبيب مع مريضة. يُربكها هذا السلوك ولا تعرف كيف ترد.

«طفلتك بخير؟» يقول، بشكل أكثر واقعية. يحبس أنفاسه من الرقص، والعَرَق يغطي وجهه.

«نعم.»

«وأنت نفسك؟ هل استعدْتِ عافيتك؟»

تهز كتفيها قليلًا، حتى لا تبعد الطفلة عن الحلمة.

«لونك رائع على أي حال، وهي علامة طيبة.»

يسأل بعد ذلك إن كانت تسمح له بالجلوس والتحدث معها بضع لحظات، ومرة أخرى ترتبك أكثر من تصرفه وتقول له إنه يمكن أن يفعل ما يحلو له.

ينظر حموها للجرَّاح — ولها أيضًا — نظرة احتقار، لكن مستر سوتر لا يلاحظها، ربما حتى لا يدرك أن العجوز والولد ذا الشعر الأشقر الذي يجلس منتصب الظهر في مواجهة العجوز لهما علاقة بها.

يسأل: «ماذا ستفعلين في غرب كندا؟»

يبدو لها أسخف الأسئلة. تهز رأسها؛ ماذا تقول؟ تغسل وتخيط وتطبخ ومن المؤكد غالبًا أن ترضع المزيد من الأطفال. حيث لا يهم ذلك كثيرًا. سيكون ذلك في منزل، ولن يكون منزلًا رائعًا.

تعرف الآن أن هذا الرجل يحبها وبأي طريقة. تتذكر أصابعه على جلدها. أي أذًى يمكن أن يحدث رغم ذلك، لامرأة معها طفلة على صدرها؟ تشعر بارتباك من أن تُظهر له قدرًا ضئيلًا من المودة.

تقول: «ماذا تفعل؟»

يبتسم ويقول يفترض أن يواصل العمل الذي تدرَّب عليه، وأن الناس في أمريكا — هكذا سمع — في حاجة لأطباء وجرَّاحين، مثل أي شعب آخر في العالم.

«لكنني لا أنوي أن أمكث في مدينة، أحب أن أذهب بعيدًا حتى نهر الميسيسبي على الأقل. كل ما وراء الميسيسبي كان تابعًا لفرنسا كما تعرفين، لكنه تابع الآن لأمريكا وهي منطقة واسعة جدًّا، أي شخص يستطيع الذهاب إلى هناك، بشرط أن يمر بالهنود. لا أبالي بذلك أيضًا. وحيث يدور قتال مع الهنود تزداد الحاجة للجرَّاح.»

لا تعرف شيئًا عن نهر الميسيسبي، وتعرف أن مستر سوتر لا يبدو رجلًا محاربًا، لا يبدو أنه يحتمل مشاجرة مع غلمان في هويك، ناهيك عن الهنود الحمر.

يدور راقصان قريبًا جدًّا منهما فيهب الهواء في وجهيهما. فتاة صغيرة، طفلة، تطير جيبتها، ترقص مع والتر، أخي زوج أجنيس. يقوم والتر ببعض الانحناءات السخيفة لأجنيس والجرَّاح وأبيه، والفتاة تدفعه ليلف وهو يضحك لها. ترتدي مثل سيدة صغيرة، تضع عقدًا في شعرها. يسطع وجهها بالبهجة، وجنتاها متألقتان مثل مشكاتين، تعامل والتر بألفة شديدة، كأنها تمسك بدمية كبيرة.

يقول مستر سوتر: «هذا الفتى صديقك؟»

«لا، أخو زوجي.»

تضحك الفتاة بتلقائية شديدة، وهي ووالتر — من خلال تهورها — أسقطا تقريبًا اثنين آخرين في الرقص. لا تحتمل الضحك، وعلى والتر أن يسندها. ويتبين أنها لا تضحك بل تسعل. يضمها والتر إليه، ويحملها تقريبًا إلى الحاجز.

«هناك فتاة لن تضم طفلًا أبدًا إلى صدرها»، يقول مستر سوتر وعيناه تطيران إلى الطفلة الرضيعة قبل أن تستقر مرة أخرى على الفتاة. «لا أعتقد أنها ستُعمر طويلًا لترى الكثير من أمريكا. أليس هناك أحد يهتم بها؟ لا ينبغي أن يُسمَح لها بالرقص.»

يقف ليرى الفتاة ووالتر يمسك بها قرب الحاجز.

يقول: «هناك، توقفتْ. لا يوجد نزيف. هذه المرة على الأقل.»

ترى أجنيس أنه يشعر بالرضا إذا مرَّ بهذه الفتاة. ويخطر لها أن ذلك يرجع لحالته بالضرورة، لا بد أنه يعتقد أنه ليس سيئًا جدًّا بالمقارنة.

صرخة عند الحاجز، شيء لا علاقة له بالفتاة ووالتر. صرخة أخرى، ويتوقف كثير من الناس عن الرقص ويندفعون للنظر في الماء. ينهض مستر سوتر ويخطو بضع خطوات في ذلك الاتجاه، متتبعًا الحشد، ثم يعود.

يقول: «تمساح. يقولون هناك تمساح يمكن رؤيته من الجانب.»

«ابقَ هنا!» تصيح أجنيس بصوت غاضب، فيلتفت إليها في دهشة، ويرى أن كلماتها موجَّهة إلى جيمس الصغير، الذي على قدميها.

«هذا ولدك إذن؟» يتعجب مستر سوتر، كأنه اكتشف اكتشافًا خطيرًا. «هل أحمله ليُلقي نظرة؟»

وها هي ماري — يتصادف أن ترفع وجهها والمسافرون يتدافعون — ترى جيمس الصغير، وتزداد دهشتها، لأنه محمول عبر ظهر السفينة في ذراعي غريب مسرع، رجل شاحب أسود الشعر يسير بتصميم، من المؤكد أنه غريب. لص أطفال، أو قاتل أطفال، يتجه إلى الحاجز.

تصرخ صرخة مدوية ليعتقد أي شخص أنها وقعت في براثن الشيطان، ويفسح الناس لها كما يفسحون لكلب مجنون.

تصرخ: «توقف يا لص! توقفْ يا لص! خذوا الولد منه. أمسكوه. جيمس! جيمس! اقفزْ!»

تندفع إلى الأمام وتتشبث بكاحلي الطفل، تصرخ فيه فيبكي من الخوف والهجوم. يكاد الرجل الذي يحمله يسقط لكنه لا يتخلَّى عنه. يمسك به ويدفع ماري بقدمه.

«أمسكوا بيديها»، يصيح فيمن حولهم. انقطع نفَسه: «إنها في نوبة.»

شقَّ أندرو طريقه، بين مَنْ لا يزالون يرقصون ومن توقفوا لمشاهدة الدراما. يحاول بشكل ما أن يمسك بماري وجيمس الصغير ويوضح أن أحدهما ابنه والأخرى أخته وأنها ليست مسألة نوبات.

يتم شرح كل شيء بإيجاز مع انحناءات واعتذار من مستر سوتر.

يقول الجرَّاح: «توقفت لأتحدث بضع دقائق مع زوجتك، لأسألها إن كانت بخير. لم يتَح لي وقت لأودعها، وعليك أن تفعل ذلك نيابة عني.»

تبقى ماري غير مقتنعة بقصة الجراح. بالطبع ربما قال لأجنيس إنه يأخذ الولد ليُلقي نظرة على التمساح. لكن ذلك لا يجعل الأمر حقيقة. حين تومض في عقلها صورة الرجل الشرير وهو يحمل جيمس، تشعر في صدرها بقوة صرختها، إنها مندهشة وسعيدة. لا تزال تؤمن بأنها أنقذتْه.

توقفنا لضعف الرياح في الحادي والعشرين والثاني والعشرين وهبَّت رياح أقوى إلى حد ما في الثالث والعشرين، لكننا جميعًا انتبهنا بعد الظهيرة على هبَّة من الرياح مصحوبة برعد وبرق والجو مرعب جدًّا وتمزق شراع رئيسي في السفينة إلى أشلاء بفعل الرياح، وأُصلِح قبل قليل. بقيت الهبَّة من ثماني دقائق إلى عشر تقريبًا ولمدة أربع وعشرين ساعة هبَّت رياح معتدلة جعلتنا نقطع مسافة كبيرة في النهر، حيث أصبح أكثر استقامة فرأينا الأرض على ضفتي النهر. لكننا توقفنا لضعف الرياح مرة أخرى حتى الحادي والثلاثين حين هبَّت نسمة لساعتين فقط.

والد نيتي اسمه مستر كربرت. يجلس أحيانًا ويستمع إلى نيتي تقرأ أو تتحدث إلى والتر. اليوم التالي للرقص، والكثير من الناس في حالة مزاجية سيئة نتيجة الإنهاك والبعض من شرب الويسكي، ولا أحد يبالي بالنظر إلى الشاطئ، يبحث عن والتر ليتحدث إليه.

يقول: «نيتي معجبة بك بشدة، فكرت في ضرورة مجيئك معنا إلى مونتريال.»

يضحك ضحكة اعتذار، ويضحك والتر أيضًا.

يقول والتر: «إذن لا بد أنها تعتقد أن مونتريال في غرب كندا.»

«لا. لا. أنا لا أمزح. بحثتُ عنك لهذا الغرض وهي ليست معي. أنت رفيق رائع لها ويسعدها أن تكون معك. وأرى أنك فتًى ذكيٌّ ومتعقل يمكن أن تعمل بشكل جيد في مكتبي.»

«أنا مع أبي وأخي»، يقول والتر، وتلعثم وكان في صوته ما يشبه العواء: «نحن ذاهبون للحصول على أرض.»

«حسنًا، إذن. لسْتَ الابن الوحيد لأبيك. ربما لا تتوفر مساحة كافية من الأرض الخصبة لكم جميعًا. وقد لا ترغب دائمًا في أن تكون فلاحًا.»

يقول والتر لنفسه صحيح.

«ابنتي، الآن، كم تظن عمرها؟»

لا يستطيع والتر أن يفكر. يهز رأسه.

يقول والد نيتي: «في الرابعة عشرة، في الخامسة عشرة تقريبًا. ربما لا تظن ذلك، أليس كذلك؟ لكن لا يهم، ليس هذا ما أتحدث عنه. ليس عنك وعن نيتي، أي شيء في السنوات القادمة. تفهم ذلك؟ ليس هناك ما يتعلق بالسنوات القادمة. لكن أود أن تأتي معنا ولنتركها طفلة كما هي ونسعدها الآن بصحبتك. ثم من الطبيعي أنني أرغب في أن أكافئك، وسيكون هناك أيضًا عمل لك في المكتب، وإذا سارت الأمور على ما يرام يمكنك أن تتقاضى مبلغًا مقدمًا.»

يلاحظان نيتي قادمة باتجاههما. تخرج لسانها لوالتر بسرعة حتى يبدو أن أباها لا يلاحظ.

يقول الأب: «كفى الآن. فكر واختر الوقت المناسب لتخبرني. لكن من الأفضل أن تُسرِع.»

لا يحتاج والتر وقتًا طويلًا ليستقر على رأي. يعرف ما يكفي ليشكر مستر كربرت، لكنه يقول إنه لم يفكر في العمل في مكتب أو أي وظيفة في مكان مغلق. يقصد أن يعمل مع أسرته حتى يستقروا في الأرض ليزرعوها وحين لا يكونون في حاجة إلى مساعدته يفكر كثيرًا في أن يتاجر مع الهنود، أن يكون مصدِّرًا من نوع ما. أو يعمل في تعدين الذهب.

«كما تشاء»، يقول مستر كربرت. يسيران بضع خطوات معًا جنبًا إلى جنب. «يجب أن أقول إنني اعتقدتُ أنك أكثر جدية من ذلك. لحسن الحظ، لم أقلْ شيئًا لنيتي.»

لكن نيتي لم تكن غافلة عن حديثهما معًا. تضايق أباها لتعرف كيف سارت الأمور ثم بحثت عن والتر.

«لن أكلمك من الآن»، تقول، بصوت أكثر نضجًا من أي صوت سمعه منها من قبل. «ليس لأنني غضبانة لكن فقط لأنني إذا واصلتُ الكلام معك فسيكون عليَّ أن أفكر طوال الوقت كيف أودعك بسرعة، هكذا ينتهي كل شيء بسرعة.»

تقضي الوقت المتبقي في المشي بهدوء مع أبيها، في أجمل ثيابها.

يشعر والتر بالأسف لرؤيتها — في هذه العباءات والبونيهات الجميلة تبدو طفلة أكثر من ذي قبل، وتبدو غطرستها مؤثرة — لكن ليس أمامه الكثير للانتباه إلى ذلك ويندر أن يفكر فيها حين لا تكون أمام عينيه.

تمر السنوات قبل أن تظهر من جديد في عقله. لكنها حين تمر في عقله يجدها مصدر سعادة، متاحًا له حتى يوم مماته. يتسلَّى أحيانًا بالتفكير في أن ما حدث جعله يقبل العرض. يتخيل التحسن المشع، اكتساب نيتي طولًا وجسمًا عذريًّا، حياتهما معًا. ربما تبقى هذه الأفكار الحمقاء بالنسبة لرجل سرًّا.

جاءت حولنا عدة مراكب من الأرض بالسمك والروم والخراف الحية والتبغ … إلخ، باعوها بأسعار مرتفعة جدًّا للمسافرين. في الأول من أغسطس هبَّت نسمة خفيفة وفي صباح الثاني من أغسطس مررنا بجزيرة أورلينز وفي حوالي السادسة صباحًا كنا على مرأى من كويبك١٩ وكانت مزدهرة جدًّا كما أعتقد منذ غادرْنا اسكتلندا. نبحر إلى مونتريال غدًا في سفينة بخارية.

كتب أخي والتر في الجزء السابق من هذه الرسالة مذكرات طويلة أنوي اختصارها في إيجاز. قطعنا رحلة ناجحة جدًّا بقيت مزدهرة بصورة مدهشة. ولا يمكن أن نقول شيئًا عن حالة البلاد. ثمة أعداد هائلة من الناس يقيمون هنا والأجور جيدة. لا أستطيع أن أنصح الناس أو أثبط عزيمتهم عن القدوم إلى هنا. الأرض واسعة جدًّا والكثافة السكانية قليلة جدًّا. أعتقد أننا رأينا أرضًا، ربما تكفي كل سكان بريطانيا، غير مزروعة ومكسوة بالغابات. سوف نكتب لك ثانية بمجرد أن نستقر.

حين أضاف أندرو هذه الفقرة، تشجع جيمس الكبير ليضيف توقيعه إلى توقيع ولديه قبل غلق الرسالة وإرسالها بالبريد من كويبك إلى اسكتلندا. لن يكتب شيئًا آخر، يقول: «ماذا يعني الأمر لي؟ لا يمكن أن يكون وطني، لا يمكن أن يكون بالنسبة لي سوى أرض أموت فيها.»

يقول أندرو: «ستكون كذلك بالنسبة لنا جميعًا. لكن في الوقت المناسب سنفكر فيها باعتبارها وطنًا.»

«لن يُتاح لي الوقت لأعتبرها كذلك.»

«ألسْتَ بخير يا أبي؟»

«أنا بخير ولستُ بخير.»

ينتبه جيمس الصغير من وقت لآخر إلى العجوز، يتوقف أحيانًا أمامه وينظر في وجهه مباشرة بإصرار شديد.

يقول جيمس الكبير: «يزعجني. لا أحب وقاحته. يواصل ويواصل ولن يتذكر شيئًا عن اسكتلندا، حيث وُلِد، أو عن السفينة التي سافر عليها. سيعتاد على التحدث بلغة أخرى كما يحدث حين يذهبون إلى إنجلترا، لكن وضعه أسوأ من وضعهم. يتطلع إليَّ بنظرة تقول إنه يعرف أني انتهيت أنا وزمني.»

تقول ماري: «سوف يتذكر أشياء كثيرة.» صارت منذ الرقص وحادث مستر سوتر أكثر صراحة مع الأسرة. تقول: «وهو لا يقصد أن تكون نظرته وقحة. هكذا يُعبِّرُ عن اهتمامه بكل شيء. يفهم ما تقول، بأكثر مما تظن بكثير. يتأمل كل شيء ويفكر فيه.»

تمتلئ عيناها بدموع الحماس، وينتقص الآخرون من شأن الطفل بتحفظات مفهومة.

يقف جيمس الصغير وسطهم؛ بعينين ساطعتين ورائعتين ومباشرتين. نظيفًا بعض الشيء، حذرًا إلى حد ما، رزينًا بشكل غير طبيعي، كأنه شعر أن عبء المستقبل يقع على كاهله.

يشعر الكبار أيضًا بغرابة اللحظة. يبدو كأنهم ولدوا لهذه الأسابيع الستة الأخيرة ليس على سفينة بل على موجة هائلة، جعلتهم يرسون على بقعة هائلة من هذا الشاطئ المذهل. تغزو الأفكار رءوسهم، تتحرك مع صرخات النوارس، فوضاهم الملحدة.

تعتقد ماري أنها يمكن أن تنتزع جيمس الصغير وتهرب إلى جزء من مدينة كويبك الغريبة وتعمل خيَّاطة (عرفت من الكلام على السفينة أن هذا العمل مطلوب)، وتُربيه بنفسها وكأنها أمه.

يفكر أندرو بما يكون عليه الحال هنا بالنسبة لرجل حر، دون زوجة أو أب أو أخت أو أطفال، دون أي عبء على ظهره. ماذا يفعل عندئذٍ؟ يقول لنفسه لا ضرر، بالتأكيد، لا ضرر في التفكير في ذلك.

سمعتْ أجنيس نساءً على السفينة يقولون إن الضباط الذين يراهم المرء في الشارع هنا هم بالتأكيد أجمل رجال العالم، وإنهم أكثر عشر مرات أو عشرين مرة من النساء. مما يعني أنه يمكن للمرأة الحصول على ما تريد منهم؛ أي الزواج. الزواج من رجل لديه ما يكفي من المال بحيث يمكن لها أن تركب عربة وتُرسل هدايا إلى أمها. إذا لم تكن متزوجة ولديها طفلان.

يعتقد والتر أن أخاه قوي وأجنيس قوية، يمكنها أن تساعده في الأرض وترعى ماري الطفلين. من قال إن عليه أن يصبح فلَّاحًا؟ حين يصلون إلى مونتريال يذهب ويلتحق بشركة خليج هدسون٢٠ ويرسلونه إلى التخوم، حيث يعثر على الثراء إضافة إلى المغامرة.

شعر جيمس الكبير بردة وبدأ النواح صراحة: «كيف نغني أغاني الرب في أرض غريبة؟»

هؤلاء المسافرون مدفونون — كلهم إلا واحدًا — في مقبرة كنيسة بوسطن، في إسكِستنج، في بلدة هلتون، أونتاريو،٢١ على مرأى البصر غالبًا، والسمع، من الطريق السريع ٤٠١، للوهلة الأولى على بُعد بضعة أميال من تورنتو، ربما يكون أكثر الطرق ازدحامًا في كندا.

جيمس الكبير هنا، وأندرو وأجنيس. بالقرب منهم قبر ماري، وقد تزوجت رغم كل شيء من روبرت موري ودُفنت بجواره. كانت هناك ندرة في النساء ومن ثَم كوفئن في البلاد الجديدة. لم تنجب هي وروبرت أي أطفال، لكنه تزوج بعد موتها المبكر من امرأة أخرى وأنجب منها أربعة أولاد يرقدون هنا، موتى في الثانية وفي الثالثة وفي الرابعة وفي الثلاثين. الزوجة الثانية هنا أيضًا. شاهد قبرها عليه كلمة «أم»، وشاهد قبر ماري عليه كلمة «زوجة».

أجنيس هنا، وقد بقيت على قيد الحياة حتى أنجبت الكثير من الأطفال. في رسالة إلى اسكتلندا، تعلن موت جيمس الكبير في ١٨٢٩ (سرطان، لم يكن هناك الكثير من الألم حتى قرب النهاية «دمر جزءًا كبيرًا من وجنته وفكه»)، ويذكر أندرو أن زوجته شعرت بتوعك في السنوات الثلاث الأخيرة. ربما تكون هذه طريقة ملتفة للقول إنها أنجبت في تلك السنوات الطفل السادس والسابع والثامن. ربما استعادت صحتها، عاشت حتى الثمانين.

يبدو أن أندرو حقق نجاحًا، رغم أنه حقق انتشارًا أقل من والتر، الذي تزوج فتاة أمريكية من بلدة مونتجمري، في ولاية نيويورك. كانت في الثامنة عشرة حين تزوجتْه، وماتت في الثالثة والثلاثين بعد ولادة طفلها التاسع. لم يتزوج والتر مرة أخرى، لكنه نجح في الزراعة وعلَّم أبناءه، وضارب في الأراضي، وكتب رسائل إلى الحكومة يشكو من الضرائب. استطاع، قبل موته، العودة إلى اسكتلندا، حيث صور نفسه يرتدي ملابس منقوشة ويمسك بباقة من الأشواك.

على الحجر الذي يخلِّد ذكرى أندرو وأجنيس يظهر أيضًا اسم ابنتهما إيزابيل، وقد ماتت عجوزًا مثل أمها.

ولدت في البحر.

هنا أيضًا اسم المولود الأول لأندرو وأجنيس، الأخ الأكبر لإيزابيل.

مات جيمس الصغير خلال شهر من نزولهم إلى كويبك. اسمه هنا، لكن من المؤكد أنه لا يمكن أن يكون هنا. لم يكونوا قد حصلوا بعد على الأرض حين مات؛ لم يكونوا حتى قد رأوا هذا المكان. ربما دُفِن في مكان ما على الطريق من مونتريال إلى يورك أو في تلك البلدة الجديدة المحمومة ذاتها. ربما في مقبرة مؤقتة تم الرصف فوقها الآن، ربما دون شاهد في ساحة كنيسة، حيث وُضعت جثث أخرى ذات يوم فوق جثته. مات نتيجة حادث مؤسف في الشوارع المزدحمة، أو من حمى، أو دوسنتاريا أو أي علَّة، وكانت من الحوادث المدمِّرة الشائعة بالنسبة للأطفال في زمنه.

١  أليس مونرو Alice Munro (١٩٣١–؟): كاتبة كندية. والعنوان الأصلي للقصة The View from Castle Rock.
٢  فيف fife: منطقة تقع إلى الشرق من اسكتلندا.
٣  ليث Leith: مقاطعة في أدنبره، اسكتلندا.
٤  الإتريك Ettrick: منطقة على حدود اسكتلندا.
٥  هويك Hawick: بلدة جنوب شرق اسكتلندا.
٦  بيبلز Peebles: بلدة على حدود اسكتلندا، كانت سوقًا تجاريًّا.
٧  فيفشاير Fifeshire: منطقة في اسكتلندا بين لسان تيري ولسان فورث.
٨  لسان البنتلند Pentland Firth: قناة ضيقة بين شمال شرق اسكتلندا وجزر أوركني Orkney.
٩  جرينلاند Greenland: جزيرة تابعة للدنمارك، شمال الأطلنطي. بحر سرجاسو Sargasso: جزء من شمال المحيط الأطلنطي وهو هادئ عادة نتيجة لوجود الكثير من الأعشاب البحرية.
١٠  فلودين Flodden: هضبة في شمال إنجلترا على حدود اسكتلندا، شهدت معركة في ١٥١٣م، هُزم فيها الاسكتلنديون وشهدت مذابح مروِّعة.
١١  نوفا سكوشيا Nova Scotia: مقاطعة في شرق كندا.
١٢  إيكونومي Economy: اسم لعدة أماكن في إنديانا وبنسلفانيا في أمريكا ونوفا سكوشيا في كندا.
١٣  الفورث Forth: نهر جنوب وسط اسكتلندا يمتد شرقًا إلى لسان الفورث، مدخل إلى بحر الشمال.
١٤  رؤساء اسكتلندا The Scottish Chiefs: رواية تاريخية تأليف جان بوتر (١٨٠٩م). وليم والاس Wallace (١٢٧٢–١٣٠٥م): وطني اسكتلندي قاد المقاومة ضد الإنجليز وسيطر على اسكتلندا سنة ١٢٩٨م.
١٥  نيوفوندلند Newfoundland: مقاطعة شرق كندا.
١٦  دبر اللورد: في الأصل Laird كلمة اسكتلندية تعني صاحب العزبة، عن كلمة lord الإنجليزية.
١٧  أشجار السمن rowan: أشجار أوروبية صغيرة زهورها بيضاء وثمارها حمراء كالتوت.
١٨  الريل reel: رقصة سريعة من أصل اسكتلندي.
١٩  كويبك Quebec: مقاطعة في شرق كندا.
٢٠  خليج هدسون Hudson: بحر داخلي شرق وسط كندا يتصل بالمحيط الأطلنطي.
٢١  أونتاريو Ontario: مقاطعة شرق وسط كندا. تورنتو Toronto: عاصمة أونتاريو وأكبر مدنها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤