الملاك
حين سمعت الطبَّاخةُ الدباباتِ الأمريكيةَ والعربات الآلية تقعقع على الطريق الموحلة من الغرب، خرجتْ جريًا من المطبخ إلى الفناء، بجوار الحظيرة وأخذت تلوِّح بمريلتها، مستسلمة في بهجة.
هذا ما تُخبرنا به بِتريس. في اللحظة التي تخبرنا فيها، نخشى من كشف أي قدر من الزهو، أولئك الأمريكيون، لا يختلف عنا أولئك الأمريكيون، باستثناء أن بيننا وبينهم حوالي خمسين عامًا.
نتردد في السخرية من هذا. نسخر على أية حال، نعرف أنهم ليسوا نحن، نحن بشكل شخصي لم ننقذ القديس إربيان من الألمان، لكن بتريس تتحدث وكأن الجنود الأمريكيين، الذين قطعوا الطريق مجهدين وجوعى وفزعين، أقاربنا.
حين جرت الطبَّاخة إلى الطريق تُلوِّح بعلمها المؤقت، علم الاستسلام، أطلق الأمريكيون النار عليها.
هذا ما خشيناه، حتى لو كان أصغر جزء من وعينا يقول: لا تذهب بعيدًا، الزهو الشوفيني يُهزَم بسهولة.
تضحك بتريس عند هذه النقطة من قصتها.
نضحك أيضًا، نوعًا مختلفًا من الضحك، نوعًا يُعبِّر عن الارتباك والفزع والعار من إحساسنا — مهما يكن مترددًا — بالزهو القومي. أطلق الأمريكيون النار على الطبَّاخة!
ثم فجأة تُقاطَع بتريس وهي تواصل قصتها، قاطعتْها إحدى بنات عمومتها الوصيفات تُذكِّرها بشيء عاجل، شيء لا نعرفه حقًّا، لكنه يرتبط بترتيب وليمة، موسيقيون يحتاجون شيئًا، وبتريس تتحرك، تتركنا نستوعب هذا التغير المذهل في الأحداث، المنقذون، الأمريكيون، الذين أطلقوا النار على الطبَّاخة.
نتساءل: «هل أصيبتْ؟»
نتلفت حولنا، إلى أبناء العمومة والأعمام والعمَّات يجرون حولنا، يُجهزون للعرس، وهو سبب اجتماع الجميع في نهاية الأسبوع، لزفاف كلودين وماكس. ونحن — في يأس من القصة التي لم تكتمل — هل نقف جوار العمَّات اللائي يندفعن؟ مَن هذه؟ أليست «بِتْ» ابنة عم كلودين؟ هل تعرف ما حدث للطبَّاخة؟
لا بد أن نعرف ما حدث للطبَّاخة، ليس فقط بدافع الفضول، وليس فقط لنعرف النهاية. إنها مسألة تتعلق بالزهو القومي؛ نقول ذلك مازحين بالطبع.
حسنًا، هناك الجدة، أم بتريس، جدة كلودين، وهي على قيد الحياة، وهي هنا في العرس، أم القديس إربيان. لم تمتْ، لم يطلق الأمريكيون النار عليها. هذه هي الحقيقة. علينا أن نتعزى بهذه الفكرة الآن، على الأقل حتى تعود بتريس أو نجد شخصًا آخر يُنهي القصة لنا.
فتح جان بول الموسوعة وأجفلْنا من صوت تكسير العمود الفقري. لكننا أزحنا ذلك جانبًا وأعربنا عن دهشتنا من الخرائط المُبَسطة لأفريقيا وأمريكا، مساحات واسعة من الأرض اعتقد الأوروبيون أنها أراضٍ غير متمدنة، غير مأهولة، غير مستقرة. أعربنا عن إعجابنا بالأعمدة الفرنسية الدقيقة المكتوبة بحروف متصلة، تأليف المعرفة كأنها جمال هش، معرض اللصوص والكوارث الطبيعية. أردنا لمس الصفحات بأيدينا، لكننا قمعنا هذه الرغبة الملحة وأومأنا موافقين على كل ما قال جان بول، حتى حين لم نفهم.
لكن الألمان لم يقتلوها. أطلق الأمريكيون النار على الطبَّاخة!
نتمشى إلى الرواق، نطل من النافذة ومساعدو متعهد الحفلات يرصون المقاعد والطاولات في الحظيرة، حيث يُقام حفل الاستقبال. حول الطاولات مسرح مؤقت وزهور منثورة، وشموع ومفارش بيضاء. قبل ذلك في هذا الصباح ساعدنا في كنس الحظيرة والفناء، ونقل الأثاث وغسل النوافذ، وكانت تحتاج حقًّا إلى طبقة جديدة من الطلاء. قمنا بدورنا. انضممنا إليهم وقمنا بدور مفيد. الآن نتمشى بلا هدف أو غاية، سوى أن نسمع نهاية القصة. نتجه إلى السلَّم، نتردد لحظة، نأمل أن نلمح بتريس من باب المطبخ المفتوح. رأينا جيشًا من الناس يتزاحمون ويُقلِّبون الطعام، لكن بتريس ليست هناك.
أسفل السلَّم باب يؤدي إلى غرف الجدة. قيل لنا إنها تستريح الآن، تدخر طاقتها لاحتفال الكنيسة. تسلقنا السلَّم، مُتعرجًا ومُلتفًا إلى الطابق الثاني، رواق واسع بنوافذ على جانب واحد، تطل على الفناء، وغرف على الجانب الآخر. نسمع لغط النشاط خلف باب العروس. نتمنى أن نكون هناك، لنكون ضمن «المختارين» لنقضي الساعات القليلة المتبقية قبل الاحتفال مع العروس والعريس، نساعد في تزيين الثياب ووضع أحمر الخدود، وحفظ باقات الزهور والقيام بأشياء لا تُحصى في الدقائق الأخيرة، أشياء مطلوبة دائمًا.
لكننا ضيوف، إننا الأمريكيون. طُلِب منا الاسترخاء والاستمتاع واستغلال هواء الريف في أوائل الصيف. بدلًا من ذلك، نلتفت إلى قمة السلَّم ونخترق الرواق الممتلئ بخزائن الكتب والتحف الصغيرة ونعبر الألواح الخشب إلى غرفتنا. قرَّرنا أن نغفو. نرقد، وجهًا لوجه، أنفًا لأنف، على الفراش الضيق، نتوق للدفء — الجو شديد البرودة في أجنحة الخدم! — وابتسامة، عارفين أننا لن ننام، مستحيل أن ننام وكل هذا النشاط من حولنا، عارفين أن أناسًا كثرًا يعملون تحتنا، والفراش متدلٍّ على هذا النحو، وغير مفرود، ونتململ خلال دقائق ونشعر بآلام الظهر.
إننا مرفهون جدًّا، معتادون جدًّا على وسائل الراحة في العالم الجديد، مدلَّلون جدًّا. نسخر من هشاشتنا. كيف يفعلها الفرنسيون؟ كيف يمكثون ويركزون على الأمور مهما تكن — الحب والحياة والأفكار— حين يكون فراشهم مُتدلٍّ وغرفهم مُغبَّرة؟ إننا أضعف بوضوح، غير مرنين، عاجزون عن التكيُّف. لا نعترف بذلك، لكن يمكن أن نموت على الفور الآن بسبب السجاجيد التي تمتد من الحائط إلى الحائط والوسائد الكبيرة المنفوشة.
كيف بدت هذه الغرفة والطبَّاخة تعيش هنا؟ نتخيل تسريحة صغيرة عليها صورة للعذراء، والطبَّاخة تستيقظ مبكرًا قبل شروق الشمس، تشعل شمعة وتتلو دعاءً قصيرًا. وربما تنتعل حذاءً جامدًا من الجلد، حذاءً برباط، وربما لم يكن لديها إلا ثوبان. ربما استخدمت حوض المطبخ لتغسل وجهها ثم تعد القهوة. وكان عليها أن تُطْعِم الحيوانات بنفسها، وتهتم بكل الأعمال الرتيبة في الفناء حيث غادرت كل الأيدي العاملة الثابتة لتنضم إلى المقاومة.
نفكر في الجدة، ضئيلة الجسم وضعيفة جدًّا الآن، في طرقها المهذبة، لنفكر في أنها رفضت مغادرة المنزل والألمان هنا. كانت شجاعة! شابة وشجاعة! ماذا فعلنا؟ ومع سبعة أطفال، أُخِذوا في النهاية إلى نانسي، طِبقًا لترتيب الضابط النمساوي، الشخص الذي كان يتصرف بشكل صحيح جدًّا مع الأطفال، خشيت الطبَّاخة أن تُسمم حساءه أيضًا. لكن ماذا تفعل؟
نشعر بالتوتر. نحتاج إلى معرفة ما حدث للطبَّاخة. وأين الخادمة الآن؟
ورغم بقاء ساعتين على موعد الحفل، نقرر ارتداء ملابسنا. أخرجنا أشياءنا، ثوبًا، وجوربًا، وبنطلونًا سبق كيه، وتجَعَّد الآن قليلًا نتيجة السفر، وقميصًا نظيفًا. نرتدي ملابسنا، ببطء، بعناية، مستمتعين بالإحساس بالملابس النظيفة الرائعة، عملية ارتداء الملابس، كأن اليوم كله يعتمد عليها. نواصل القصة، مذكرين أنفسنا بما قالته بتريس للتو، محاولين أن نجد دليلًا في مكان على ما حدث بعد ذلك.
احتل الفرنسيون المنزل قبل أن يأتي الألمان. تصرفوا بشكل مناسب، مناسب جدًّا، مع الأسرة. عسكر معظم الضابط الفرنسيين في خيام على العشب، مستيقظين مبكرًا ليسمعوا خوار الأبقار وقد احتقنت الضروع. اقتصر وجود الأسرة في المنزل على الغرف العلوية والمطبخ، واستخدم الضباط الأروقة مركزًا للقيادة. واتخذت الأسرة من ذلك لعبة، قائلين للأطفال إنهم في أمان لأن الجنود معهم.
حين جاءت أوامر الإخلاء، طلب القائدُ من والد بتريس المغادرة، والذهاب إلى باريس، أو حتى إلى نانسي. الألمان قادمون. ناشد الوالد الأم — الجدة الآن — فرفضتْ. منزل عائلتها رغم كل شيء، ولا تستطيع هَجْرَهُ. فكرت في الولائم والحفلات التي أقامها والداها، وهي فتاة صغيرة قبل الحرب العالمية الأولى. فكرتْ في خروجها ليلة الحرب، الطلقات التي سقطت في الحديقة، الجناح الشرقي لمعهد الموسيقى وقد فجَّره الألمان بالقنابل ذات صباح. لم ترحل الأسرة حينذاك. نام أفراد الأسرة ومن بقي من الخدم في القبو. كيف ترحل الآن؟
انتظر أفراد الأسرة. رحل الفرنسيون، أخلوا المعسكر بدقة قدر المستطاع، ولم يتركوا وراءهم إلا أوتاد الخيام في الأرض العشبية. انتظر أفراد الأسرة. قاموا بأعمالهم المعتادة. وذات يوم عمَّ صمت شديد في الريف. أُرسِل الأطفال إلى القبو، مكثوا مع الوالد، وجلست الأم تنتظر في رواقها، هادئة جدًّا، صابرة جدًّا. زحفت الطبَّاخة على ركبتيها ونظَّفت أرضية المطبخ. ومرة أخرى رغبت في عمل ذلك، لا تحتمل الانتظار. بكت الخادمة في غرفتها فوق الحظيرة.
جلست الأم، تستمع إلى صوت شعر الفرشاة على الأرضية الحجرية، ووراءه صمت. مع الظلام بدأت دمدمة للآلات.
وعلينا أن نتذكر أن الأمريكيين أطلقوا النار على الطبَّاخة.
ثمة شخص يصعد السلَّم. نسمع وقْع أقدام، وتدريجيًّا يظهر رأس بشعر قصير أسود ورمادي. لم نصدق حظنا! إنها بتريس.
وهي تصل إلى الطابق الثاني، ترانا نقف في الممر ومعنا الخوذة. نُلَمِّحُ إليها بالخوذة، نُلوِّح بالخوذة. نقول، انظري، هنا دليل، هنا ما تُخَلِّفُهُ الحرب وراءها، ما تُخَلِّفُه القصص وراءها.
تومئ بتريس وتبتسم، وتُرينا ما في يديها، ثوب وصيفة من حرير أخضر خفيف. تنقله إلى الغرفة التي فيها العروس. تعدنا إيماءة بتريس بأنها عائدة.
أذهلنا التوقع. أخذنا نُقلِّب الخوذة. نحاول وضعها على رءوسنا، ضَغْطُ ثقلها على الجمجمة مثل ذكرى. مثل تاريخ. نسخر من تفكيرنا بعمق. إننا أمريكيون رغم كل شيء. يُفترَض أننا أضحوكة في أغلال التاريخ. يمكن أن نسلخ التاريخ كما يُغير الثعبان جلده، ونتركه للآخرين ليهتموا به.
لكنه هنا في أيدينا صلب وثقيل وأخضر.
تأخذ بتريس الخوذة من أيدينا برقة، وتُقلِّبها، وتقول بصوت عالٍ، جونسون. تقول: أحببنا الجنود الأمريكيين. كان ذلك يعني العودة مع الوالد إلى البيت. كان يعني الشيكولاتة واللبان. لم نعرف اللبان من قبل أبدًا.
نفكر في اللبان كأنه فكرة جديدة. نتذكر مضغه ونحن أطفال، نبلع كتلًا لا تُحصى من اللبان وقد جمد نتيجة مضغ لا ينتهي، والخوف من ألَّا نهضمه.
نقول: نعم، نعم، وماذا عن الطبَّاخة؟ ماذا حدث لها؟
تضرب بتريس بيدها وتضحك. أوه، لا شيء. حين جاء والأمريكيون كانوا فزعين يطلقون النار على كل ما يتحرك. لكن بمجرد الاقتراب منها رأوا أنها مجرد سيدة بمريلة فكفُّوا عن إطلاق النار.
من المؤكد أننا نشعر بالراحة، لم يؤذِ أولئك الجنود الأمريكيون الفزعون الطباخة. لكن فينا جزءًا صغيرًا يبدو محبطًا، تحوَّلت الدراما إلى كوميديا، إلى مهزلة. هل الأفضل أن يكون الجنود الأمريكيون فزعين لا مفترسين؟
لماذا تركوا هذه الخوذة وراءهم؟
تقول بتريس: لا أعرف. وتستدير لتهبط السلَّم.
نضع الخوذة بسرعة ونتبعها، لا نريد أن تتركنا مرة أخرى وسط القصة.
ماذا حدث للخادمة والجدة؟ هل بقيتا مع الأمريكيين؟
أوه، نعم. والأطفال، عُدنا جميعًا مع الوالد. وعلَّمَنا الجنودُ الأمريكيون البيسبول. أعتقد أنهم كانوا ضجرين تمامًا.
تنطلق بتريس إلى المطبخ، وتتركنا عند قاع السلَّم. نفكر في دخول المطبخ، لكننا، وقد ارتدينا ملابسنا، لا نريد المخاطرة بتعريضها للبقع أو انسكاب شيء عليها. نتحول إلى الجهة الأخرى ونمشي باتجاه الشرفة. يَنْفُذُ ضوء الشمس إلى الممر الرخام ويندفع الأطفال فجأة من الأبواب وحول الأركان، يطاردهم أبناء عمومة أكبر أو أمهات منزعجات بشدة. نبتسم مرتبكين، نود أن يوقفنا أحد ويتحدث إلينا؛ لم يقترب أحد ونحن نمر من الردهة والأبواب إلى الشرفة.
تمتد الشرفة عبر واجهة المنزل. في مركزها، حيث نقف الآن، سلالم تؤدي لممر ممهد بالحصى ثم إلى العشب. بطول سورها تماثيل حجرية لملائكة، تماثيل ملتوية بشكل مبهج، متجمدة في وضع حركة. نلمس أوجهها، مقطَّعة ومثقبة نتيجة الطقس والبلى؛ جلودها الحجرية دافئة تحت الشمس.
يوم جميل لعرس، يقول كل منا للآخر ونثب فوق السلَّم نازلين، ممسكين بالأيدي، نشعر وكأننا صغرنا مرة أخرى، مثل أطفال هاربين من مهام الكبار وأغراضهم. نجري عبر الممر، يتطاير الحصى خلف أحذيتنا، وعبر العشب، أسفل أسفل أسفل إلى حافة البركة.
وقد تقطَّعت أنفاسنا، نتوقف ونتلفت حولنا، نتطلع خلفنا إلى القصر، يمتد الآن مقابل السماء مثل مريض مخدَّر … نعم، نعم، قد نكون في عهد سابق، حيث يشرب الناس الشمبانيا من الأحذية، ويندفع الأمريكيون أفواجًا إلى أوروبا. نقول: إذا حرفْتَ عينك اليمنى لتمحو السيارة التي بجوار المنزل، يكون الوضع بالضبط وكأننا في عهد سابق. نتخيل عربات خفيفة وعربات تجرُّها الجياد تأتي عبر البوابات وعبر الممر، وتقف عند سلالم الشرفة، لينزل منها المسافرون الأغنياء لتناول الشاي، لتناول العشاء، لحفلة.
من حيث نقف على العشب، تُظلِل أيدينا عيوننا من الشمس، مثل تحية عسكرية، نشاهد نشاطًا في الحركة خلف نافذة الطابق الثاني. العروس ووصيفاتها. العريس ورفاقه. تستمر الاستعدادات ويستمر الزمن. نتطلع إلى الخلف، مُحدِّقين في الشمس، لكن ماذا نرى، المبهم، القصة شبه المعروفة، رغبتنا، مثل الأطفال، عنيفة ومتقلِّبة.
بعد الحفل، نركب عائدين مع ابن عم عطوف وزوجته. محشورين في المقعد الخلفي في السيارة، نستمع إليهما يُعبِّران عن الإعجاب بالعرس ونشارك معهما قدر المستطاع. كانت كلودين رائعة، جميلة جدًّا وهادئة. ماكس — ماكس في بدلة رسمية! يا لها من نكتة! من كان يتوقع أن نرى هذا اليوم؟ والجدة، في المقعد الأمامي في الكنيسة — الكنيسة الضخمة الكالحة بأقواس حجرية تمتد بعيدًا فوقنا حتى ضاعت الأصوات ولم ترجع من السماء الرحبة. الجدة ضئيلة جدًّا وفي موضعها الطبيعي. والأحفاد — في ملابسهم! صُنعت ملابس خاصة بهم! — حين تمت دعوتهم إلى مذبح الكنيسة، ساروا مثل عرض للمهرجين والمازحين الفرحين. هذه الروعة الرسمية، هذه البهجة غير الموقرة في الوقت ذاته.
ونحن نقدم هذه الملاحظات ونستمع إلى ابن العم وزوجته، تتحول السيارة إلى طريق خاص طويل، مُظلل بأشجار الحور، يؤدي إلى القديس أربيان. أمامنا مباشرة نرى البوابات الحجرية، لكننا لا نرى المنزل، الأخشاب سميكة جدًّا والطريق طويل جدًّا. بدا كأننا نقترب منه للمرة الأولى. حين نمر عبر البوابات ويظهر القديس أربيان قريبًا وكبيرًا، نشعر ببرودة ظِلال أشجار الحور، واضطراب في المعدة لا يوصف إلا بأنه حب. الجميع في السيارة صامتون، لا صوت إلا صوت حكِّ إطارات السيارة في الحصى، ثم، ببطء، صوت أثيري شاحب لبيانو يعزف من مكان ما في المنزل.
جاءوا في عربة تجرُّها الجياد، نتعجب كيف بدا الأمر تمامًا كما تخيلنا، كأننا في عصر آخر. أطفال صغار، أطفال أبناء العمومة، محمولين في العربة مع الزوجين. يرغب الكل في دورة، يرغبون في أن يكونوا كالعروس والعريس، في المركز، في بؤرة الانتباه، أو على الأقل في مجال رؤية هذه الأسرة الملكية.
يقدم شخص للعروس والعريس كأسين من الشمبانيا وهما في العربة. يقدم أفضل الرجال نخبًا. كان في كرسي بعجل يحتاج إلى الحمل على الدرجات الحجرية. يقول لنا بعد ذلك إنه أُصيب بشلل في ساقيه في حادث سيارة.
في صحتك، نرفع كئوسنا ونرشف النبيذ. من خلفنا، يأتي صوت مثل تَكَسُّر موجة على شاطئ صخري، ثم ينفجر أبيض مرفرفًا حول رءوسنا. هناك في البداية صراخ، ثم ضَحِكٌ ولغط، والحمام يطير فوقنا، يميل ويدور في سرب، ثم يلف حول المنزل خارج مجال أبصارنا.
يتناقش الاثنان المجاوران بإنجليزية مخلوطة بنبرات فرنسية. ومع ذلك الارتباك يأتي إحساس بالراحة. تشحب الموسيقى ويُدعى الجميع إلى طاولة البوفيه لتناول الفاكهة ومزيد من الجبن والشيكولاتة.
خارج الحظيرة، الجو مظلم الآن. أَكَلْنَا وشربنا لساعات. نشعر حقًّا بأننا من القرون الوسطى في تكريسنا للمتعة. يتحدث الضيوف ويضحكون بصوت مرتفع، وهم يعرجون خلال الفناء. بدأ شخص في عزف الموسيقى في المنزل؛ تُضاء الشموع بطول الممر وفي المنزل. يبدو الهواء مُنعِشًا بشكل عجيب ونحن نتسكع في الخارج، نتمايل بجانب الحظيرة.
ثمة صوت صفير حاد ثم فرقعة. نشحب، ما هذا؟ انقطع الصوت لحظة، كأن الهواء تلاشى، ثم نشاهد نافورة خلف المنزل ينبعث منها ضوء ملون. نتجه عائدين عبر الطريق وخلال الفناء. يتحرك الآخرون جميعًا باتجاه المنزل. يُطلَق المزيد من الألعاب النارية، تدور وتتلوَّى مثل ثعبان، ثم تفرقع تفرقع تفرقع وهي تنفجر فوق المنزل.
يتزاحم الضيوف في الشرفة، والعروس والعريس أيضًا، يقفان وسط المجموعة مثل ملكة نحل تحيط بها الشغالات. نتطلع جميعًا، وأعناقنا مشرئبة إلى السماء، ستارتها الخلفية غير المحدودة. تعكس عيوننا في منمنمات تيارات باقات الألعاب النارية وومضاتها. إننا صامتون، مفعمون بالرهبة، خاضعون لهذا العرض الرائع للقوة.
مثله، نوافق، لكننا لا نريد أن يكون مثله. نريد بدلًا من ذلك أن يكون على هذا النحو، مثل عرس، مثل الشمبانيا والشيكولاتة، لحوم جاهزة على شكل طواويس، طبَّاخة ترفض الحديث مع الألمان، أمهات يواجهن الاحتلال بشجاعة، وأوجه الجميع في ضوء السماء.
تُشير لنا بتريس إلى الطرف البعيد من الشرفة. تضع يدها على رأس ملاك حجري، وإبهامها يتتبع تقعره.
تتحدث ونندفع إليها، ونميل رءوسنا لنسمعها بشكل أفضل.
نُذهَل. لا ننطق بكلمة. اندفاع للفرقعة والصفير، تنفجر الألعاب النارية في ختام عظيم من الضوضاء والألوان. نتطلع أعلى وأعلى بصيحات الإعجاب.
حين ننظر إلى أسفل من جديد، نجد الضيوف يعودون إلى المنزل. موسيقى ورقص حتى الفجر، ويمضي العروس والعريس بهدوء إلى النوم، والجدة أيضًا وذكرياتها. يتسكع وحدهم السكارى الذين ينكرون نهاية الأشياء، يتمسك كل منهم بالآخر، يبتسمون بسأم، يلتقطون الحاجز المدمَّر.
لن نرغب في الاستسلام. نتمشى بطول الممر الممهد بالحصى في الشروق الضبابي. بجوارنا، تبقى خدود الملائكة وأذرعهم وسيقانهم وقد امتلأت بالطلقات متجمدة في وضع الطيران، متحملة حتى أكثر من هذا.