خليج جلفستون ١٨٢٦
في يومهم الثاني، رأى جماعة أولد بول ذئابًا كثيرةً وقيوطًا
٢ عن بُعد، قابعة على الأرض، تُبادلهم نظرات خاطفة. بدت
الحيوانات في العصر مثل سراب في شبورة موجة حرارة انبعثت من
الوادي وجعلت الأشياء تومض ولا تبدو على حقيقتها. وقف ذئب وقبع
على مؤخرته ناظرًا خلفه. لعق شرائح اللحم التي أمامه، ثم نظر
مباشرة إلى أولد بول قبل أن ينسل مبتعدًا. يحدث شيء استثنائي
تمامًا، لكن أولد بول لم يضعه في الاعتبار. كانت هناك أيام كثيرة
عليه أن يقضيها قبل الوصول إلى هذه البحيرة الكبرى التي سمع
الكثير عنها. كان هناك أولد بول ورد مون وسندمان وويتشيلد.
باستثناء شرائح لحم مجفف ملفوف في جلود، وجياد إضافية، كل منها في
حبل جانبي، لم يحملوا أمتعة. كانت جيادهم عجفاء وقوية فُطِرتْ على
الجري. لكنهم لم يكونوا جماعة ذاهبة إلى حرب أو رحلة استكشاف.
كانت جولة بسيطة وسهلة للمتعة، مغامرة، ومن يريد حمل أعباء في
مغامرة؟ بشكل خاص، اعتقد أولد بول أن القصص كانت مُبالغًا فيها:
أيام وأيام والماء في كل اتجاه؟ الطرف المُطلَق للأرض؟ اعتقد أنه
لو كان هذا صحيحًا، فهذا بالتأكيد هو الأصل الحقيقي
لوجودهم.
كان الماء ضحلًا جدًّا في النهر الأحمر؛ تركوا الجياد تشرب بعد
أن عبروا.
٣ قرب المساء جاء الظبي — منطقة سمراء مبقعة باللون
الأبيض — الأول، ثم ثنائيات وثلاثيات. بسرعة، أحيطتْ جماعة أولد
بول من الأمام والخلف بحيوانات مُتقلِّبة جدًّا كالمعتاد. أوقفوا
جيادهم ونظروا في كل اتجاه. أُعجب أولد بول بالطريقة التي قفزت
بها الظباء في أقواس طويلة رشيقة، واحدًا بعد الآخر، كأنها تلعب
لعب أطفال. لكن سندمان سحب سهمًا وأطلقه في عنق أحدها مباشرة وهو
في قمة قفزته. سقط على ساقيه الأماميتين ورقد مرتجفًا على العشب.
نزل وانتزع سهمه، ثم قطع عنقه بحركة سريعة. فعل ذلك كله بهدوء. هز
أولد بول رأسه. ضحك رد مون. ذلك سندمان الملعون.
بعد ذلك، سقط ويتشيلد تقريبًا من فوق حصانه وهو يكاد يخطو على مجلجلة.
٤ سقط الحصان فجأة وشبَّ، لكن ويتشيلد هدَّأه، هارشًا
جانب عنقه. أخبره أولد بول أن من الأفضل أن ينتبه في المرة
القادمة. أصابهم رذاذ عبر جدول صغير، وعلى قمة الارتفاع التالي
اندفع جندب في وجه أولد بول. شعر بسيقانه الصغيرة المخربشة على
خدِّه وحاول ضربه، فقفز مبتعدًا. أشار سندمان. تطلَّع أولد بول
ورأى أمواجًا من الحشرات تطير باتجاههم، وسمع صوت رفرفة أجنحتها؛
جراد وجنادب وصراصير الليل. غطَّى الركاب وجوههم بجوانب جيادهم
وانطلقوا عبْر غيمة من البق. بمجرد أن مضوا، ساروا ببطء استعدادًا
لقفزة. شمَّت الجياد رائحة دخان، رافعة رءوسها وفاتحة أنوفها. عطس
حصان أولد بول بشدة. ثم شمَّها أولد بول نفسه. على قمة الهضبة،
حيث يستطيعون أن يروا من حولهم على بُعد أميال، رأوا نارًا باتجاه
الغرب. ارتفعت مثل انحدارات وادٍ أحمر، لهبها يلتف ويتقدم. فرَّت
الحيوانات والنار تزداد، احتشد أكبر عدد من الحيوانات في مرة
واحدة بالإضافة إلى أولد بول. تلك الليلة، غفوا على فراشهم في
أيكة الحور القطني،
٥ بقايا دهن ظبي يتناثر ويتوهج على جمرات. سقطت جديلة
من شعر رد مون بين شفتيه. دخل وخرج وهو يغط في النوم. أتت نسمات
ومضت، مُحَرِّكَةً أوراق الشجر فانبعثت منها موسيقى.
النار خلفهم الآن، غادروا عند الشروق. قادوا الجياد أحيانًا
ببطء في مسارات متعرِّجة، آخذين الأمر ببساطة، أو جنبًا إلى جنب
في قفز سهل. يبدأ حصان سندمان دائمًا في العدو حين يشم ماءً، وعلى
سندمان أن يكبحه. وصلوا بعد يومين إلى بلدة مرتفعة كثيرة الهضاب،
وكان عليهم النزول من على صهوات الجياد وقيادتها حول جلاميد وصخور
من الجرانيت وتحت كتل من الصنوبر والأناناس. ظهر هذا المشهد
الطبيعي بصورة غير متوقعة، بارزًا بين الزهور البرية، ومرج عشبي
ضيق يشبه سلسلة جبال صغيرة. أقاموا معسكرًا قرب القمة، يطل بشكل
كبير على أودية الجنوب. رأى رد مون، مُتَسَلِّلًا، صفًّا من ثلاث
شاحنات أو أربع، تزحف مثل الحشرات في الغروب. مزح مع أولد بول
قائلًا من الأفضل ألا يخبرا سندمان، ألا يخبراه مهما فعل.
بعد يومين، بدأت جيادهم تشم ماءً، ترفع رءوسها وتخفضها،
تنظر بتوحش، تُزمجر، وتصعب السيطرة عليها. كانوا على منخفض
موحل، وقد احتل عشب الملح
٦ والقصب الناعم مكان القطن البري والأشواك. دفعت عاصفة
مفاجِئَة شعر أولد بول إلى الأمام، تتبَّع الرياح أمامه، تياراتها
واضحة وهي تدوِّم بين فروع عشب جونسون
٧ والصفصاف. على الفور ظهر ماء في كل مكان: بُحيرات
ضحلة وجداول ومستنقعات. توقف الرجال ومسحوا المكان. في مكان قريب،
غطَّى الإوز والغرانيق
٨ بِرْكة ضحلة، وتساقط الكثير منها، يقع بأجنحة مفرودة
وأقدام ممتدة، مستقرًّا مع رذاذ خفيف. تمايلت الطيور على المياه،
وذكَّر تسكعها وصوتها أولد بول بسرب من الديوك الرومي البرية
لمحها ذات مرة تسير باتجاه الشمال. كان محبطًا بعض الشيء رغم ذلك.
هناك مياه كثيرة، لكن لا يمكن أن تكون البحيرة الكبرى. هناك
بحيرات كثيرة في الشمال تشبهها. قال ويتشيلد قد يكون عليهم العبور
من هنا للسير أكثر باتجاه الجنوب لأن المياه ستصبح عميقة جدًّا
بعد قليل. بصيحة، ساط سندمان حصانه فجأة في المياه الراكدة، وبدأت
صرخته النافذة، رذاذ الإوز وصيحات الفزع التي أطلقها، تملأ
العالم. واحدة واحدة، ارتفعت مجموعة الإوز البري كلها وحلَّقت في
السماء، وشعر أولد بول برياح أجنحتها على جلده.
انطلقوا قبل الشروق، وهم على الجياد شحبت النجوم وتحوَّلت
السماء إلى اللون الأزرق الصافي العميق. توقف رد مون وأشار إلى
الهندي. شخص، مُلطَّخ تمامًا بالوحل، يركع على حافة بحيرة ضحلة
سطحها قاتم وصافٍ مثل مرآة. نخس الرجال جيادهم وهمسوا لها لتبقى
صامتة. نهض الهندي وحمل المياه فوق هضبة بعيدًا عن الأنظار.
حلُّوا جيادهم الإضافية واطمأنوا عليها وتبعوه، والبخار يتصاعد من
أنوف الجياد. حين اعتلوا قمة الهضبة، واجههم حوالي عشرة هنود وقد
سحبوا أقواسهم. مدَّ سندمان يده إلى قوسه، فأمسك أولد بول بذراعه
وبذراعه الأخرى لوَّح للخلف والأمام بودٍّ. وطلب من الآخرين أن
يفعلوا مثله. فعلوا، لكنَّ سهمًا طار بجوار أُذن ويتشيلد وارتطم
في ضفة النهر، ودُفِنَ حتى ريشته. انطلقوا إلى حيث كانت جيادهم
الإضافية تنتظر خلف قائم من الحور القطني. حاول أولد بول مرة
أخرى، حين ظهر الهنود على مكان مرتفع، أن يُلَوِّح ويُلمِّح. لا
أسلحة. بودٍّ. أخرج سندمان وويتشيلد قوسيهما وكانا مُختبئين خلف
الأشجار. حكَّ سندمان سكِّينَه متأكدًا من وجودها. سار أولد بول
أكثر إلى مكان مكشوف، رافعًا ذراعيه. حاول أن يُشير بأنهم أتوا من
الشمال، ويحاولون السير في ذلك الطريق، إلى المياه الكبيرة، ولا
يقصدون أي أذًى. فتح ذراعيه تمامًا. يستطيع ضربه في القلب. ظهر
سندمان على حصانه، يتبعه رد مون وويتشيلد. طوَّقوا أولد بول، ولم
يُظهروا أي أسلحة. أتوا في سلام. أنزل الهنود أقواسهم وأخذوا
يقتربون. قال أولد بول: تعالوا، قابِلوهم في منتصف الطريق. اعتقد
أولد بول أن الهنود غرباء، غرباء جدًّا، لا يشبهون أحدًا ممن
رآهم. كانوا مُلطخين بالشحم، دُهِن نصف وجه كل منهم بالأحمر
والنصف الآخر بالأسود، وغُرِستْ في حلماتهم قطع فضية من القصب.
الأقواس التي يحملونها طولهم. حَلَّ رد مون حصانه الإضافي، البلومينو،
٩ وذهب إلى الرجل الذي يحاول أولد بول التحدث إليه.
افترض أنه رئيسهم وقدَّم له الحصان. بدا أن حدة التوتر خفَّت.
بدأت المجموعة تصيح وتغني وتتراجع. أشار الريس ليأتوا. وهم
يفكون جيادهم الإضافية، قال أولد بول إن البحيرة الكبرى جديرة
بهذا.
طوال الليل وحتى الفجر، رقص الهنود كثيرًا من أجلهم، أجن
رقصة رآها أولد بول. هزت النساء شخاشيخ من قواقع السلحفاة النهاشة
مربوطة بعصا عليها سيور من الجلد، وعزف بعض الرجال على مزامير
بسيطة مصنوعة من القصب. الأصوات التي تشبه أصوات الطيور جعلت رد
مون يبتسم. كان هناك قارعو طبول ومغنون، يصدر بعضهم صوتًا حزينًا
منخفضًا من قواقع قرنفلية. بالطبع، لم يكن لأي صوت منها معنًى
بالنسبة للشايين،
١٠ لكن يبدو أنها أسعدتْ ضيوفهم. أحاط الراقصون بنار
هائلة، مالوا للخلف أو لفُّوا في كل اتجاه، على ما يبدو من دون
تصميم أو غاية، يثبون أحيانًا في اللهب. ارتدى بعضهم جلدًا غريبًا
يحمل ألوان قوس قزح وعقودًا من الأسنان. طارت الشرارات في شعر
راقص فقفز وصرخ وأخذ يصفع رأسه وهو يواصل حول النار. افترض
الشايين أن ذلك جزءًا من الرقصة. قُدِّمت للضيوف أطباق من شرائح
اللحم المشوي والجمبري والمحار. أراهم الريس كيف يسلخون اللحم
بأداة خشبية تشبه الملعقة ويغمسونه في ملح البحر المبلور في تجويف
في لوح حجري. اعتقد سندمان أنه لم يتذوق أبدًا شيئًا بهذا المذاق
الرائع وأكل حتى انتفخت معدته. أتى الهندي الذي رأوه ينقل الماء
في ذلك الصباح إلى سندمان وأشار إلى أنه هو الذي كان يشرب، وأنه رأى
صُورهم على سطح الماء. أخبر سندمان الآخرين، وضحكوا كثيرًا أثناء
الرقص وعزْف الموسيقى.
في اليوم التالي، سحب الريس وثلاثة آخرون أربعة زوارق وشرعوا
جميعًا: أولد بول والريس في زورق؛ سندمان ورد مون وويتشيلد
ومرشدوهم في الزوارق الثلاثة الأخرى. انطلقوا في قناة إلى ممر
ضيق، ثم إلى خليج واسع، قطعوه. بمجرد الوصول إلى الشاطئ الآخر،
أرْجحَ كل اثنين الزورق على رأسيهما وتبعوا جميعًا طريقًا متهرئًا
عبر البلميط
١١ ورأوا العشب. حين وصلوا إلى رافد متسع، استقلوا
الزوارق مرة أخرى. وأولد بول يُجدِّف، فكَّ الريس شبكة لدنة من
نبات الكروم وفَرَدَهَا في المياه. حين وصلوا إلى الشاطئ المقابل
وخرجوا، كان في الشبكة ثلاث سمكات كبيرة وعشرات من الجمبري السميك
بشوارب طويلة. دفعوا القوارب إلى الشاطئ وقلَّبوها. والمضيفون
يشرعون في إشعال النار وتقطيع السمك، انطلق الشايين عبْر قصب
السكر إلى منطقة خالية من الأشجار، حيث امتدت أمامهم قُبة هائلة
من الأزرق والأبيض، زئير الأمواج المتكسرة، ووميض الرمال. لم يظهر
على وجه أولد بول أي تعبير، لكن قلبه قفز من مكانه. مشوا جميعًا
على الشاطئ، رأوا نوارس تندفع وتغطس. التقط سندمان قوقعة ونفخ
فيها بصوت مرتفع. جاء على الفور أحد الهنود مهرولًا من بين الأجمة
ليعرف ما حدث، ثم تراجع. مشى أولد بول إلى حافة المياه. أحبَّ
الطريقة التي تبعت بها طيور الشاطئ صغيرة الأطراف المياه وهي
تتدفق إلى البحر، ثم تسير على أطراف أصابعها بجنون عائدة والأمواج
المتكسرة تعود مرة أخرى. هكذا تجري الأمور، مزح مخاطبًا ويتشيلد.
ألقى سندمان القوقعة، نزع لفافة الساقين،
١٢ وأسرع فجأة إلى المحيط، يصرخ ويشتت الطيور. جرى حتى
وصلت المياه إلى صدره، ثم اندفع في الموجة التالية. ظهر على السطح
مُبْعِدًا الشعر عن وجهه، وبصق ملء فمه مياهًا. صرخ: مالح. ضحكوا
جميعًا. هناك حقًّا، كما اعتقد أولد بول، مياه على مرمى البصر.
الطرف المُطلَق من الأرض. تغطس الشمس، كرة أرضية ضخمة وضعت
سُلَّمًا برتقاليًّا على الأمواج. وأولد بول يدخل المياه رأى عشب
جونسون وأعشابًا شاطئية متراكمة، ورآها جيدة بالنسبة لهم.
تَذَوَّق المياه في البداية على كَفِّه، ثم شرب كمية صغيرة.
فكَّر: قليل من الملح جيد بالنسبة لك. كان الماء دافئًا قُرْبَ
الشاطئ وباردًا بعيدًا عنه وشديد البرودة حين اندفع ولمس القاع
الرملي. وهو يطلع إلى سطح المياه، رأى سندمان يفرِّج رد مون
وويتشيلد على خدعة. حين دومَّتْ موجة، بيضاء بلون الكريم، طفا
سندمان على ظهره وترك الموجة تحمله قرب الشاطئ. صاحوا جميعًا
وقضوا وقتًا طيبًا. تمايل أولد بول في الماء، متسائلًا من أي
اتجاه جاء الرجال البيض وكم تبعوهم. كم تبلغ مساحة بلادهم، وكم
تبعد؟ على أي أنواع من المراكب أبحروا؟ كم من الأيام استغرق
الإبحار؟ فحص الأفق بدقة بحثًا عن قوارب ولم يرَ شيئًا، وأعشت هالة
الشمس بصره مؤقتًا.
سلقوا الجمبري وشووا السلحفاة النهاشة حول نار على الرمل وناموا
على حصائر من العشب فرشها مضيفوهم. جَدَلَ سندمان شعره متطلعًا في
مرآته الصغيرة أحيانًا. انبهر الهنود بها، وتطلَّعوا فيها بالدور
إلى أنفسهم، لكن سندمان لم يتخلَّ عنها. في الصباح، كانت الشمس
أرجوانية منقطة، وقد زادت الرياحُ القوية شدةَ الأمواج المتكسرة.
أخذوا جميعًا غَطْسًا ليفوقوا ثم انطلقوا.
حين عادوا إلى المعسكر، اجتمع حشد حول ولدين اصطادا سمكة كبيرة.
لم يرَ أولد بول أبدًا كائنًا بهذا الشكل؛ ببشرة تبدو ملساء بدلًا
من القشور، سمكة أطول من الولدين؛ في ظهرها وبطنها قوس بارز. كانت
عيناها مفتوحتين، ركع أحد الولدين على ركبتيه وباعد ما بين فكيها.
صاح رد مون: لها أسنان مثل دُب! اعتقد أولد بول أنها تبدو مفترسة
بعينيها المائلتين وصفوف أسنانها المقوَّسة. أشار أحد الولدين إلى
أن السمكة تعيش عادة في المياه الكبيرة، لكنها جاءت عبْر القناة
ووقعت في الفخ. استطاعا رؤية زعنفتها تتحرك ببطء فوق المياه
الضحلة، فأصاباها بالسهم.
أخبر أولد بول الريسَ بأنه وأصدقاءه عليهم أن يرحلوا اليوم في
رحلة تستغرق سبعة أيام، وأنهم يُقدِّرون كل شيء وسوف يكونون
أخوتهم. ذهب أولد بول إلى حصانه وتناول سكينًا ثقيلًا بيد
مُطَعَّمَةٍ بخرز يلمع وأعطاها للريس، وخلع الريس عُقد الأسنان
الذي يلبسه وأعطاه لأولد بول. أشار الريس إلى فمه، ثم إلى السمكة
التي يَجُرُّها الولدان إلى القناة لتنظيفها. في التو، بدأ الرقص
والغناء مرة أخرى، واعتلى الأطفال ظهور البلومينو حول محيط
المعسكر. قال أولد بول لرد مون: لو لم نكن لنغادر الآن ما كنا
لنبرح هذا المكان أبدًا. يرقصون طوال الليل. يُغني الهنود ويرقصون
حتى والمجموعة تنصرف، أربعة جنبًا إلى جنب، وجيادهم الإضافية
خلْفهم. وقف الريس وبعض الآخرين على قمة هضبة صغيرة وشاهدوهم،
ورفعوا أيديهم لتوديعهم.
بمرور الوقت شَحَبَ صوت طبول الهنود وامتزج بصوت رعد بعيد.
هبَّت الرياح الشمالية جالبةً معها أمطارًا خفيفة انغمستْ في
الرطوبة الضاغطة وتحوَّلت إلى هواء بارد. أمطرت نقطٌ كثيفةٌ ظهر
أولد بول. طارت أسراب إوز يصيح إلى الشمال في تشكيلات متهادية على
شكل
V. متطلعًا خلفهم، قال رد مون يبدو أن عاصفة قد تَهِبُّ في
خلال ساعة. وجد الرجال ملاذًا في بستان سرو كثيف. مرَّ ويتشيلد
بجاموسة جافة، لذيذة بعد أن تناولوا مؤخرًا أطعمة بحرية. بعد ساعة
اشتدت الأمطار ومالت قمم الأشجار إلى الشمال نتيجة استمرار
العاصفة. تشبَّعت أجساد الرجال بالمياه ولم يكن أمامهم سوى
الانتظار. حين حل الظلام، سحبوا جيادهم في دائرة وتكوَّموا
داخلها. أنار برق أزرق الجياد برهة؛ كانت رءوسها منخفضة وعيونها
مغلقة، كأنها غارقة في النوم. ذكَّرت الأمطارُ الأفقية، العصف
الرهيب للرياح، أولد بول بإعصار حدث في شبابه، لكن في ذلك الوقت،
مرَّت الرياح والأمطار بسرعة، رغم شدتهما. استمرت هذه العاصفة
وقتًا أطول. سمع أوراق الأشجار تُنزَع من فروعها، ثم غصن كبير
يسقط مع مرعة
١٣ شريرة! كأنها كانت على جديلة، قَلَّ المطر وعادت
الأشجار لشكلها الطبيعي. انقشعت السحب لتكشف عن دائرة زرقاء
نقيَّة تدوِّم فيها نوارس وخرشنات.
١٤ بعد جلبة العاصفة، جاءت صرخاتهم إلى أولد بول ببطء،
ثم بوضوح رهيب. تتساقط الأمطار بانتظام من على الغصون. فكُّوا
جيادهم واعتلوا ظهورها من جديد، توَّاقين لتعويض ما فاتهم والوصول
إلى أرض مرتفعة.
حولهم من ناحية برك من المياه، تشبه المرآة في الضوء
الساطع. بدا لأولد بول أن الشمس حطَّمت كل نقطة من الرذاذ نثرها
حصان رد مون وهو يندفع. خلف ظهورهم سحب كثيفة وطبقات من الأمطار
تبتلع السماء الزرقاء. انطلقت المجموعة لتحتمي بمبنًى طيني يرتفع
مهجورًا قُرب حافة رافد، ذكَّر أولد بول بمنازل رآها في الغرب،
على الناحية الأخرى من الجبال، وهو في رحلة تجارية منذ عدة سنوات.
عاش فيها رجال بيض يرتدون أروابًا. دخلت المجموعة رواقًا، وذُهِل
أولد بول لأنه لم يرَ سقفًا. سحب كثيفة منقطة تتسابق فوقهم في
الشفق الأرجواني، قريبة جدًّا حتى إن أولد بول تمنَّى أن يُرْبَط
بواحدة ويطير إلى بيته. انهارت الحوائط الطينية على الأرض، ولم
يتبقَّ سوى الواجهة؛ لكنها حمتهم من الرياح والأمطار، وقد تعرَّضوا
لها مرة أخرى. اجتمع الضيوف في عواصف مستمرة، كانت الأمطار تتساقط
مائلة إلى ناحية، هبط الظلام. ساعات والرياح والأمطار تعصف بالطوب
الطيني. ببطء، بدأ يذوب من أعلى، وتساقطت جداول حمراء على الجوانب
وتجمَّعت في أخاديد تحت أقدامهم. وقعت كتلة من الطين والقش على
حصان ويتشيلد، فجأر وقفز. أخذ يرفس بقوة بطرفيه الخلفيين، صافعًا
البناية بقوة، فانهار الجانب الشرقي كله. مُرتبِكًا، لفَّ الحصان
في دوائر بعصبية، بطرق متنوعة، حتى تحدث إليه ويتشيلد وحكَّ عنقه
وهدَّأه. جثم الشايين وظهورهم إلى الحائط الغربي، وابتعدت جيادهم
عن المطر وخفضت رءوسها. ثم انخفضت الرياح، وتوقفت الأمطار فجأة.
تطلع الرجال إلى الجنوب. كانت السماء قرنفلية. أثارت هَبَّةٌ من
الهواء البارد رذاذًا قويًّا من المطر الثلجي، وناظرًا إلى القذائف
البيضاء، رأى أولد بول أنها وصلت إلى كواحلهم في ماء البحيرة
الضحلة المتدفقة. دوَّى البرق فوق رءوس الجياد فقفزت. فرس سندمان
المرقط، وقد ارتعشت أُذناه، سِمِعَ الصفارة أولًا، بعيدة لكنها
تزداد قوة. مرة أخرى دوَّى البرق في الهواء فوقهم. ومرة أخرى قفزت
الجياد. تحوَّلت الصفارة إلى زئير. نظروا حولهم في كل اتجاه، أعلى
إلى سقف السماء المنخفضة، وإلى البحيرة الضحلة. أشاروا جميعًا في
وقت واحد. سقطت حبال رفيعة راقصة، ثلاثة حبال، من السحب المخدوشة
ترفرف على شجرة كبيرة. بدأت الشجرة تميل إلى الخلف ببطء، تنثني
وكأنها تُسحَب مغناطيسيًّا. حين بدأت قمَّتها تفرش الأرض، تَمدَّد
الجذع وكتل بيضاء تمامًا بحجم شجرة ضخمة مُشققة، اندفعت وأصابت
الجدار الطيني. اركبوا! صاح رد مون.
قفزوا الجدار الجنوبية. تشابكت خلفهم الحبال الثلاثة في خرطوم
سميك، أصدر دويًّا وهو يسقط على الأرض. رش عليهم طينًا وصخورًا.
ركل أولد بول حصانه وضربه بالسوط لينضم إلى الآخرين؛ أبحر غصن
شجرة أعلى الرأس. اندفع رد مون وويتشيلد وسندمان إلى الخليج، بهدف
عبوره عند البوغاز الضيق. كان عميقًا، ولم تعرف الجياد مواطئ
أقدامها، ترنحت وحاولت السباحة. في الحال أظلمت الدنيا مرة أخرى،
غلَّف الأرضَ ظلٌّ. صاح أولد بول، ابتلعت الرياح صوته. شعر كأنه
رُفِعَ عن حصانه، أو شعر بأنه يرتفع هو وحصانه. وفجأة، لم يكن
هناك حصان وسندمان يحوم فوقه، وفمه مفتوح في صرخة صامتة، ووجهه
قناع من الذهول. وصل كل منهما إلى الآخر لكنهما ارتدا. طفت ثلاثة
أسهم تشير إلى أعلى بجوار أولد بول على مستوى العين، تبعها فأر
مستنقعات يترنح وانقلب حصان رد مون رأسًا على عقب. شعر أولد بول
أنه انقلب، دورة واحدة بطيئة وهو يضرب في الهواء، وغطس تحت الماء.
فتح عينيه برهة، رأى منتصف الليل. غطس أعمق وأعمق حتى اصطدم ظهره
بالقاع الطيني. توقف لحظة، صعق، قبل أن يدرك أنه لا يستطيع
التنفس. في هلع فجائي قفز مبتعدًا عن أرضية الرافد، يركل بساقيه
ويُطَوِّح بذراعيه. ارتفع وارتفع، وحين اعتقد أنه لا يستطيع البقاء
أكثر من ذلك من دون تنفس، شَقَّ سطح الماء، لاهثًا يتقيأ الماء،
وذراعاه تطوِّحان. كانت السماء مظلمة، لهبوط الليل. قبض على جذع
شجرة يتراقص بجواره في التيار الثائر. في البداية طفا بسرعة بين
ما بدا أنها انحدارات؛ ثم هدأ الماء، ثم توقف، ونزل إلى الشاطئ
على أرضية وادٍ صغير. ترنَّح على قدميه، غاص في الوحل. كان الجو
ساكنًا وهادئًا. ينبض رذاذ فضي من النجوم في سماء يميل لونها إلى
الأبيض. بدأ يمشي، باتجاه الشمال على ما يأمل. صرخ مرة، هل هناك
أحد؟ لكن تردد فقط صدى هذه الكلمات وعاد إليه: هناك، هناك، هناك
…
لم يرَ سندمان أو رد مون أو ويتشيلد مرة أخرى، لكنه كثيرًا ما
حلم بهم، حتى وهو عجوز. استغرق الأمر منه عشرة أيام ليصل البيت،
راكبًا آخر ليلتين على حصان لاطفه من حافة معسكر في ظلمة
الليل. حين تأكد أنه في مقاطعته، استرخى، وأخذ يهلوس تقريبًا،
وتأرجح بين النوم واليقظة. على هذا النحو وجده أهله حين وصل:
يعتلي ظهر الحصان مترهلًا عليه، ووجهه مدفون في عرف حصانه.
بلا قميص أو حذاء، يرتدي عُقدًا غريبًا من الأسنان أصدر صوتًا
منخفضًا حين سحبوه من فوق الحصان. في النهاية، تعافى على حساء
الذرة ولحم الظباء. لم يتحدث عن الرحلة لبعض الوقت، وفي النهاية
أخبر زوجته ورفاقه المقربين بكل ما حدث. كانت هناك رقصات من أجل
سندمان ورد مون وويتشيلد كل مساء. تدريجيًّا اكتسبت الرحلة خاصية
تُشبه الحلم في عقله، وأحب الأبناء والأحفاد أن يسمعوا قصص السمكة
التي في لون الفيروز، والخنازير الصارخة ذات الأنياب، والطيور
التي تكلمت وريشها الأصفر والأزرق ومناقيرها البرتقالية. كان
يزخرف الأمور حين يتحدث إلى الأطفال، الذين يصيبهم الهلع حين
يسمعون عن رجال بيض من مختلف العوالم، رجال يركبون السفن الكبيرة
ذات الأشرعة التي تلاطم الأمواج ويرتدون أروابًا سمراء ويعيشون في
منازل طينية، وعن سمك كبير بأسنان كبيرة حادة مثل أسنان الدب.
احتفظ بعقده دليلًا.
حلم أولد بول بهذه الأشياء، ولم يكن هو نفسه غير مُقتنِع
على الإطلاق.