هدية السنوات

تأليف: فو تران١

بدأ «نجوين لام»، وابنته في الثانية عشرة، يلاحظ فيها ميلًا غريبًا للعنف. حتى ذلك الوقت قدمت له سببًا واهيًا للقلق أو التفكير في أنها لا تَتَّبِعُ التقاليد بقدر ما تَتَّبِعُه أخواتها الثلاث الأكبر سنًّا. وكثيرًا ما تصوَّر أنها طبيعية لأنها ليست خرساء أو كئيبة أو مراوغة أو متمردة، ولا تتصرف كالأولاد في هذه الأمور. أصبحت بعد سنوات عديدة، زوجة وأرملة قبل أن يفهم كيف ضعف هذا المنطق؛ لأنه آنذاك يستطيع القول إن للأبوة حدودها. أبعده عقدٌ في الحرب عن أسرته، وعند العودة إلى الوطن نهائيًّا، أدرك ضآلة ما يعرف عن أبنائه الخمسة، وخصوصًا ابنته واسمها «نجوين ترام مي»، الصغرى، الأجمل، التي يحبها أكثر.

وهي في الثانية عشرة ضرب ولدان من الجيران أخاها ذات يوم. بدأ الشجار في الطريق من المدرسة إلى البيت، في ميدان مهجور خارج الكنيسة. حين وصل لام، وجدها تجلس على بقايا شجرة قديمة ويداها في حجْرها، ترسم دوائر مبهمة في القذارة بإصبع قدمها وتُشاهد الولدين ينهالان ضربًا على جسد أخيها، وهو مُلقًى على الأرض يتلوَّى. طارد «لام» الولدين ولعنهما ونسي في ارتباكه وجود «مي» في شحوب ظِل الكنيسة، ونسي بعد ذلك، والجيران يأخذونهما إلى المستشفى، أنه تركها وحدها في الميدان. فقط حين عاد ابنه إلى البيت ورقد في سريره، وفي يده جبيرة وثلاث عشرة غرزة في وجهه، تذكَّر «لام» أخيرًا أن ابنته كانت هناك وشاهدتْ كل شيء. لاحظ ذلك والجميع حول سرير الابن، ومي وحدها في الناحية الأخرى من المنزل، تلتف على الكنبة ويداها بين وركيها، نائمة بعمق.

بعد شهور، غزتْ صورتها على الكنبة عقله حين كان يحبها أكثر من غيرها. عظمتا الوجنتين الهادئتين، الفم مفتوح قليلًا، جبهة ملساء كالخزف: كان يعاوده تعبير لا مبالاة الطفولة السعيدة، ويرى أعمالها اللطيفة أكثر تعقيدًا مما ينبغي؛ وهكذا حين تحضر له سجائر من دون أن يطلب، أو تهوِّي على أمها لتنام والجو حار بعد الظهيرة، أو تُسْكِتُ في يديها رضيعًا للجيران يتلوَّى؛ انزعج لام — الذي قضى ثلاثة أيام على أرضية دغل ينتظر في هدوء وقع أقدام العدو — من مشاعر شك غامض.

عبْر السنوات، ثمة لحظات أخرى من السلوك الغريب: نظرة، إيماءة، حَدَثٌ يُغرَس بقوة في الذاكرة. ورغم ندرتها بما يكفي ليصدق أن تفاعله مبالغ فيه، رغم إيمانه بمقولة إن على الرجال ألا يُظهِروا مخاوفهم بلا داعٍ، إلا أن حبَّه للفتاة جعله حذرًا بشكل خاص.

ارتاب نجوين فان لام، أكثر من كل من عرفهم، بشأن نسيان أمور مهمة. وهو صغير قال أبوه إن: «ما يُنسَى بسرعة جدير بالتذكُّر أكثر»، ورغم عدم تصديق «لام» أن هذا ينطبق على كل الأمور، تبقى رزانة صوت أبيه في عقله. بمجرد أن أصبح زوجًا وأبًا، حامي أسرته، قرَّر أن لكل شيء قدرًا من الأهمية. احتفظ في ذاكرته بحالة الطقس في أيام ولادة أبنائه، والتواريخ الدقيقة لتعميدهم، وحقيقة أن زوجته تُصلي وعيناها مفتوحتان، وابنه يخشى الكلاب، وابنته الكبرى لم تنَم قط من دون أن تستحم مرتين على الأقل. ساعده تذكُّر التفاصيل على الانتباه إلى كلمات والده، ساعده على أن يعاني من الشكوك وعدم يقينية الأبوة.

لكن مع مي كان الأمر مختلفًا. في جنازة عمها وهي في الثانية، بكت أثناء المراسيم ولم تتوقف حتى وضع بريه الجيش على رأسها. حينذاك، وكأنها ذهلت بطيش غريب، بدأت تضحك وترقص عند قدميه والكاب الكبير متوازن على رأسها، نزل على عينيها، وظلَّت تتصرف بطيش حتى جاء دور لام ليُلقي حفنة من التراب على تابوت عمها. منذ ذلك الوقت وهو يشتري لها قبعات في المناسبات الخاصة، في زياراته للبيت وهو في الحرب، حين تخرجت في المدرسة، حين خُطِبتْ. ولم يساعده ارتباطه بذكرياتها على نسيان يوم جلوسها على بقايا الشجرة القديمة تشاهد الولدين يضربان أخاها حتى فقد الوعي تقريبًا. إذا كان من شيء فقد امتزجت الذكريات، إحداها ظل غير متبلور للأخرى.

وهكذا، بعد عقود، حين وُجِد زوج مي لعشر سنوات غريقًا في النهر صباح يوم صيفي، فزع لام لكنه لم يُصدَم. في الداخل، ربما من دون أن يعرف، انتظر هذه اللحظة سنوات.

وجدوه طافيًا على بطنه. ظهرت جثته في الفجر على الضفة البعيدة للنهر الشرقي، تتحرك مع أمواج الصباح الباكر قُرب صف من البنجالو٢ والأكواخ، وفردة صندل تلتصق بأصابع قدمه، وساقاه تلتفان في أوراق موز فاسد. كانت رؤيته صعبة في البداية مع كل النفايات وجوز الهند المكسر في الماء متناثر على الضفة، جزء في الماء، جزء في الوحل. قالوا كانت هناك زجاجة نصف فارغة من نبيذ الأرز تتراقص في المياه على بُعد عشرين ياردة منه والغطاء محكم عليها. قد تكون لأي شخص.

حين أبلغوها بالخبر لم تبكِ. حين أتوا بالجثة إلى المنزل، ربَّعت ذراعيها، وحدَّقت فيها لحظة، ثم انسحبت إلى غرفتها. في الجنازة، جلست ابنتاها، واحدة في الثامنة والأخرى في التاسعة، على جانبيها في المقعد، جلستْ جامدة بوجه خالٍ من التعبير، مثل ملكة غير سعيدة ومُبجَّلة بدرجة تجعلها لا تقبل المواساة. جاء الأصدقاء والأقارب احترامًا لها ولأسرتها، لكنهم كانوا غرباء تمامًا، لم يجدوا سبيلًا لمعرفة الأرملة وإن كانت موجودة أم لا.

شاهد لام، وهو يجلس بجوار أبنائه، وجوهًا واجمة في الحشد وحاول بأقصى جهده أن يشاركهم تعاطفهم. رأى ما رأوا: زوجة رجل مات ميتة رهيبة، أرملة شابة ربما مصدومة بدرجة تجعلها لا تُفصح عن مشاعرها. اعتقد حتى، كما فعلوا، أن الحقيقة المحتملة والأكثر عمقًا، أنها لم تَعُد تُحب زوجها الذي كان، آجلًا أم عاجلًا، سيقضي على نفسه وهو سكران بشكل أو آخر. وكان هو الشخص نفسه الذي تبول في الرواق بعد ليلة من الشراب، الشخص نفسه الذي نسي أسماء أبنائه حين سُئِل، رجلًا لم يُرَ صباح الأحد لسنوات، شخصًا يعرفون أنه لم يوفر لها بالتأكيد حياة طيبة.

لكن لا حيلة له في شكوكه. تخيَّل أنه غرق في نهر أسود من الوحل والوجوه، وصلواته مكرَّسة لجثة زوج ابنته، المتضخمة الطافية. هل كان خطأً، زوج مي يرقد شاحبًا، ومن الصعب التعرف عليه في تابوت أمامها والآخرون يبكون وهي تجلس هادئة بوجه عليه قناعة حزينة؟

أغلق لام عينيه بقية الجنازة. تحركت شفتاه، وكانت صلواته زائفة، ورأى أنه يستحضر ذكريات ابنته الصغرى التي لا يعرفها أحد آخر. ثمة سبب آخر لعدم نسيانه سلوكها الغريب وهي طفلة. كانت مي تتصرف بتلك الطريقة فقط في وجوده، وبدا للام أنها توقظ هذه الشخصية الساكنة من أجله، ومن أجله فقط.

منذ يوم مولدها ارتبطت به دائمًا. وهي رضيعة لم تتوقف عن البكاء إلا في ذراعيه وفي الليل تنام بجواره. وحين كبرتْ لم تعصِه أبدًا، تبعتْه أينما ذهب، وترنَّمت غالبًا بأغانٍ سمعتْه يغنيها. تركها بسبب الحرب وهي في الثانية، ولعقد من الزمان لم يرَها إلا مرتين أو ثلاثًا في السنة. في هذه الزيارات للبيت، أخبرته زوجته بمدى اختلاف تصرف مي في وجوده. تقول زوجته: «تتجادل أقل مع إخوتها وأخواتها وتنام أفضل في الليل، وأنت هنا يبدو وكأنها تنسى الرد عليَّ.»

جاء لام عادة إلى البيت في تلك الأيام ليجد أبناءه هادئين وخائفين، كأن شخصًا غريبًا وصل ليقيم في منزلهم، وقد يستغرق الأمر يومًا أو اثنين للانغماس في الحديث والضحك، والجدل معًا من جديد، وتناول الطعام على المائدة بلا قلق. باستثناء زوجته، كانت مي وحدها تبدو مستريحة لعودته إلى المنزل. سألته عن حياته بعيدًا عن المدينة والبيت، لماذا، على سبيل المثال، حارب في الريف، ويمكن أن يقول فقط إن المدينة مشغولة جدًّا ومزدحمة بأمور القتال. جلستْ غالبًا بجواره في الأمسيات وحَكَتْ قصصًا افتقدها وهو بعيد: العائلة الجديدة التي تسكن في الناحية الأخرى من الشارع، الفتاة التي كان أخوها يحبها في المدرسة، حين أمطرت ثلاثة أيام متواصلة وأغرقت الغرفة الأمامية. تحدَّث الأبناء الآخرون مع لام وربما مزحوا معه، لكن تبقى مي في صحبته من دون أن يطلب. ذات مرة، وهي في الثامنة، عاد لام بعد غيبة استمرت أربعة أشهر ليجدها مبقية على دور شطرنج منذ زيارته السابقة. رسمتْ موقفيهما على ورقة، وقبل أن يرحل في الأسبوع نفسه، واصلا الدور، وبذل جهده لتكسب.

وحين وصلت مي الخامسة عشرة (بعد سنوات قليلة من انفجار لغم مزَّق كاحل لام وأعاده إلى البيت للأبد)، اشتهر اسمها بين الجيران. نالت الكثير من شهادات التقدير والجوائز في المدرسة، ومما لا يثير الدهشة أن موهبتها كانت تُقدَّر في البيت، موهبتها في الفوز في الشطرنج والمناقشات، والاحترام الحذر لأمها، وقد ورثت منها كراهية الخسارة. أحبتها أخواتها بالطبع، لكن لام رأى بعض الحسد في أعماقهن. تزوجت أختها الكبرى في تلك السنة، وفي العرس غنَّت مي أغاني للجميع حتى فتنت القس فرقص معها في قاعة الاستقبال. قال القس فيما بعد: «من ينوي الزواج منها، إذا كان غيورًا فلن يكف عن القلق، وإذا كان كسولًا، فسيندم.» وافقه الضيوف الآخرون وكذلك لام. لاحظ أن مي حظيت باهتمام في ذلك اليوم أكثر من أختها. في نهاية الليلة، أدرك أنه لم يفقد فقط ابنته الكبرى بالزواج لكنه ربما يفقد الصغرى بأسرع مما اعتقد.

لكن لام كان يعتقد أن كل بناته منحوتات من الحجر ذاته، الكبيرة تُعلِّم الصغيرة ما تعلمته من أمها، ما ينبغي أن تعرفه النساء جميعًا. الكبرى خيَّاطة، تزوجتْ في العشرين من مدرس رياضيات غريب جدًّا، رغم كراهيتها الرياضيات دائمًا في المدرسة؛ الأصغر منها، في الثامنة عشرة، كاتبة في مستشفى، تنجذب لطبيب جديد كل شهر؛ والوسطى، في السابعة عشرة، حليمة وصريحة، تقضي أيامها منعزلة تكتب الشعر، وتساعد أمها في أعمال المنزل التي لم تعد أختها الأكبر منها تقوم بها. أكد لام لنفسه أن الاختلاف الوحيد بين الفتيات الثلاث وأختهن الصغرى أن مي الأكثر تألقًا والأكثر براعة أحيانًا (اعتادت الأم أن تقول: «مثل ابنتي اليابانية حقًّا»)، وأي شيء باستثناء ذلك مجرد اختلاف في الشخصية. لكن مي جعلته يغير رأيه من وقت لآخر.

عادتْ من المدرسة عصر أحد الأيام وسارت بهدوء إلى المطبخ من دون أن تحييه أو تنظر إليه. رأى وجهها بطرف عينه وتساءل، وهو يواصل قراءة الجريدة، إن كان ما رآه دمًا حقًّا. من الشائع في تلك الأيام أن يرى ابنه بهذه الطريقة، لكنه لم يرَ بناته بهذه الصورة أبدًا. بمجرد أن سمع صرخة زوجته من المطبخ، كان أول ما خطر بباله من فعلها.

ردت وهي تنأى بعينيها: «فعلتها فوس».

سألها: «لماذا؟» في شفتها العليا قطع طوله نصف بوصة، واحمرار شديد في وجنتها.

صرخت زوجته: «ابنة أونج بنه؟ ماذا فعلت لك تلك الفتاة؟»

«كنا نتناقش خارج منزلها، وجُنَّتْ ولعنتني وقالت إنني غبية وضعيفة. لذا دفعتها فتعثرتْ ووقعتْ، فخرج أونج بنه وصفعني.»

قال لام: «صفعك؟ بقوة جعلتك تنزفين؟» شعر بانقباض قبضته وبأظافره مغروسة في راحتيه. أوشكت مي على قول شيء آخر، لكنه لم يبقَ ليسمع.

حين وصل إلى المنزل على بُعد عدة صفوف، أسقطت زوجة «بنه» مقشتها في الشرفة وبدأت تهز رأسها ويديها في وجهه. قالت: «لا يا أَنْه لام، من فضلك، لا داعي للشجار هنا!» تكلمت وكأنها مقطوعة النفَس. «لا داعي للشجار مع زوجي!»

لم يكن لام ينظر إليها. كانت الأبواب الأمامية مفتوحة، وحيث كان يقف تحت سلَّم الشرفة، رأى شخصًا جاثمًا في ظلمة المنزل. اتجه إلى الزوجة، جاءت كلماته هادرة: «قولي لهذا الولد أن يخرج هنا.» تبدلت الصورة في الظلال.

قالت زوجة بنه: «من فضلك عُد إلى بيتك أَنْه لام.» لاحظت مفصلة نحاسية في يده اليمنى: «من فضلك يا أنْه لام.»

رفع لام صوته: «أخبريه بأنه إذا لم يخرج الآن، فسأدخل وأخرجه بنفسي.»

ظهر بنه حينذاك عند المدخل وخطا بحذر شديد إلى الشرفة. وقف محنيًا كأن هناك حملًا ثقيلًا على ظهره.

تحرَّك لام كأنه سيصعد سلَّم الشرفة، فتراجع بنه وزوجته إلى الحائط، لكنه توقف، وصمت لحظة. أشار بإصبعه إلى بنه وتحدَّث بأهدأ ما يمكن: «إذا لمسْتَ ابنتي مرة أخرى في أي وقت، فسآتي وأضربك مثل طفل.»

كان بنه على وشك أن يتكلم، لكن زوجته طوحت يديها في وجهه لتُسكته.

احتشد بعض الناس، معظمهم أولاد صغار، قُرب المنزل للفرجة. لم يبالِ لام. وهو يبتعد (كان من الصعب أن يلاحظ معظم الناس عرجه)، رمى المفصلة النحاسية في الشارع وسمع الأولاد يتسحبون خلفه ليخطفوها. سرح لحظة قبل أن يدرك أنه ضَلَّ الطريق إلى بيته. عادت ثورته وندم لأنه تخلَّى عن قتال مستحق. يمكن بسهولة أن يقفز إلى الشرفة ويضرب «بنه» حيث يقف، ويُسقطه أرضًا بضربة واحدة. لكن ما أوقفه صورة واهية لابنة بنه خلفه في المدخل، كان وجهها واضحًا بما يكفي في ضوء العصر ليرى لام جرحًا عميقًا في حاجبها ويرى عينها السوداء المجروحة متورمة ومغلقة.

في تلك الليلة، حين نام الجميع وجلس لام يدخن في شرفته الأمامية، خرجت مي من المنزل وركعت بجواره. مالت أكثر، وفي قوس من ضوء باهت يُغَطِّي نصف الشرفة، بدا وجهها مثل اللؤلؤة.

همستْ: «أبي، بعد أن وقعتْ ركْلتُها. لذا صفعني أونج بنه. من فضلك لا تخبر أحدًا.»

(كان هناك وقت آخر، قبل ذلك بكثير، وربما لم يفكر في الأمر حينذاك. ومي في الثامنة أو التاسعة كسرتْ صدفةً تمثالَ القديس جوزيف، تمثال أمها، قدمتْه لها هدية جدتها المتوفاة وباركه القس في الكنيسة. كانا بمفرديهما في الغرفة الأمامية، تنظِّف الأرضية ويدخِّن على الكنبة، حين سمع صوت تَحَطُّم التمثال على الأرض. انتحبت فالتفتَ ليرى الدموع تملأ عينيها، ووجهها شاحبٌ ومشدودٌ. ناداها باسمها ثلاث مرات أو أربعًا، ولم تسمع. تجمدت على ركبتيها حتى اقترب منها وأمسك كوعها. اعتقد أنها تبكي خوفًا الضرب الأكيد الذي ستتلقاه من أمها. لكن وهي تركع على الأرض وتمسك بقطع الخزف في يديها الاثنتين، بدا أسًى غامض يسيطر عليها، كأنها دمرت للتو شيئًا ثمينًا لا مجرد شيء يساوي مادة أو عاطفة، دمرت القديس جوزيف نفسه، بجسد خزفي، في لحظة تهشَّم جسمه الناعم المتألق، تهشيمًا لا رجعة فيه. نظَّف لام ما تبقى ووبخها بهدوء على بكائها. ووعدها أن يقول لأمها إنه هو الذي كسر التمثال.)

قالت الشرطة إن زوج مي كان سكران حقًّا حين مات، سقط على الأرجح وهو سكران في النهر وغرق في المياه العميقة في الليل. بالنسبة للأسرة والجيران أكدت هذه الأخبار فقط ما كان مفترضًا طوال الوقت. قال شابان إنهما رأياه في كافيه يشرب مع أصدقائه في الليلة السابقة. قالت امرأة تملك فرقة بو تعمل في وقت متأخر من الليل المجاور للكافيه إنه تسكع وضايق بعض زبائنها. وأقسم أيضًا طفلان لأبويهما إنهما سمعاه يغني بجوار نافذتهما. لم يكن لدى لام مبرر يجعله يشك فيما يقوله الناس، وفي الشهور التي تلت الجنازة، حين ذُكِّر بما اعتاد أن يقوله لأبنائه، وبما قاله له أبوه، بأن «لكل شيء موضعه»، شعر بالميل إلى تصديق أن الموت كان صدفة وكان محتومًا.

لم يحب أبدًا زوج ابنته. قدَّم مباركته حينذاك لأن مي تحبه، وبكل الرومانسية العنيدة التي تميز كل الفتيات، لا تتخيل نفسها مع رجل آخر. كان الولد وسيمًا ومعتدلًا، وقال البعض إنه فاتن، لكن بمرور السنوات صار نحيلًا وانغمس بلا رجعة في رذائله. ذكَّر لام بجنود لم يكونوا في الحرب جبناء أو شجعان، جعلتهم الحرب كسالى فقط، لأنهم بمجرد رجعوهم إلى بيوتهم لم يرَ أحد، ولا حتى أحبابهم، قيمة فيهم أو تهديدًا؛ لم يكونوا رائعين بما يكفي ليكونوا محبوبين، أو أقوياء بما يكفي ليكونوا متنمرين. حكم عليهم اعتدالهم، ومثلهم كان زوج ابنة لام فاشلا، أحمق غير مؤذٍ فشل في أن يكون أبًا وزوجًا، نسي ذات مرة ابنته وهي في الخامسة في السوق، وأعطى زوجته ذات مرة زهورًا مسروقة ليعتذر لها عن ضياع راتب ثلاثة أشهر في الكوتشينة، وذهب ذات مرة للتناول الأول لابنته سكران وغلبه النوم على المقعد، في بدلة استعارها من صديق. لم يُحزنْ موتُه لام؛ بمجرد شحوب الصدمة انشغل فقط بما يترتب عليه.

قبل الغرق بشهور، ذهب لام لزيارة أحفاده عصر أحد الأيام، وهو يستدير إلى زقاق صغير يحيط بمنزلهم، رأى مي وزوجها يتجادلان بصوت عالٍ خارج المنزل. توقف مكانه متواريًا عن الأبصار، وشاهد المنظر خلف أيكة من أشجار الكستناء.

بدا زوجها يقظًا، كان صوته حادًّا مفعمًا بالحيوية، مثل إشارات يده، مطوِّحًا يده في وجه مي. وقد بدا غضبان تحدثت إليه مي دون إجفال أو استسلام. ارتفع صوتاهما، وكان لام بعيدًا جدًّا ولا يسمعهما. مرَّ بهما بعض الجيران، نظروا إليهما، وساروا في طريقهم، على ما يبدو كانت مشاجرات مألوفة لهم. بدأت مي تقاطع زوجها وتصيح فيه حين مدَّ يده فجأة وصفعها على الوجه، خادشًا وجنتها بغصن شجرة … على الحافة صرخ باسميهما. رأى مي تطوح ذراعها وتضرب وجه زوجها بظهر يدها، فتراجع، من القوة أو الصدمة، بضع خطوات. لم يستطع، وقد استعاد توازنه، إلا التحديق فيها بما يبدو من بعيد أسًى مذهلًا، كأن مَنْ لطمته طفلة لا زوجته. دخلت مي المنزل وتركتْه يقف ممسكًا بفكه. بعد دقيقة، ابتعد في الزقاق.

حاول لام أن يتبعه، لكنه فضَّل بسرعة ترك الأمور على حالها. تعرف الأسرة منذ وقت طويل المشاكل الزوجية التي تعاني منها مي، ولم يكن الشخص الذي يتدخل في شئون الآخرين. ذات يوم قال لزوجته: «إذا أذاها فسأقتله، وباستثناء ذلك أمورهما تخصهما.» ولنفسه قال أيضًا: من الأفضل ألا تعرف شيئًا عن أمورهما والوسيلة الوحيدة أن يتجاهلها. كان لام يرى أن الآباء لا يوافقون على زواج بناتهم، لكنهم يتخلَّون عنهن، وأن وظيفة الزوج بعد ذلك تقديم الدعم والحماية، ووظيفة الأب أن يحب فقط ويبقى بعيدًا.

عاد لام إلى البيت ولم يفُه بشيء مما حدث. تعرف زوجته جيدًا ما يتعلق بزواج مي، ولم تكن الأخبار إلا لتزيد من قلقها. وفيما يتعلق بمي لا فائدة من مواجهتها، وفي هذه الحالة لم يستطِع لام أن يقرر أهمية ما رأى، وما إن كان يستطيع مساعدتها إذا احتاجت إلى المساعدة.

عزم لام نفسه على العشاء في منزل مي تلك الليلة. لم يكن زوجها في البيت، ومع أنه انتظر أن تذكر اسمه، أن تحكي عن الشجار الذي حدث بعد الظهيرة، بقيت صامتة أثناء معظم وقت تناول الطعام. توانى في المنزل، يشاهد التلفزيون مع الأطفال حتى عاد أبوهم إلى البيت يتبختر، حيَّاه بإيماءة وابتسامة حَذِرَة، وذهب مباشرة إلى السرير. جلست مي وهي تربع ذراعيها وتجاهلتْ علبة المشمش المجفف، التي تركها على الطاولة بجوارها. فقط في ذلك الوقت ودَّعها لام وانصرف.

بعد ذلك ببضعة أيام، وهو يصلح الدرابزين الخشب في شرفته الأمامية، ظهرت مي من الطريق المغبَّر وببطء صعدت إلى الشرفة. بدون كلمة، ركعتْ بجواره وأمسكتْ بأحد أعمدة الدرابزين.

مرت دقائق صمت، تقطعها توجيهاته المقتضبة. السقف المعدني المتدلي أعلى الشرفة يقيهما الحرارة. عرف من تورد جبهتها أنها كانت تتمشى خارج البيت طوال اليوم.

نطقتْ أخيرًا، بصوت اعتادت التحدث به عن الطقس: «لا أعرف ماذا تفعل بشأنه يا أبي.»

بدأ لام دق عمود في إطار الدرابزين، انثنى المسمار الكبير وأبى الدخول بشكل صحيح. شدَّه وأخرجه وقد انثنى ولم يعد صالحًا للاستخدام، حاول مرة أخرى بمسمارين آخرين، وفشل في المرتين. بصق بعيدًا عن ابنته والمسمار الثالث التالف يسقط على الأرض ويُصدر صوتًا معدنيًّا على الأسمنت. طلب منها أن تترك العمود. جلستْ بعد ذلك ويداها بين وركيها تشاهد الناس والسيارات تمر بها على الطريق الضيق الذي يحيط بالمنزل.

«لا يفعل شيئًا للأطفال أبدًا»، واصلتْ كأنها تُحدِّث نفسها، ولم يتغير الصوت العادي لنشر الخشب. «لا يبذل حتى جهدًا لتوبيخهم حين يسيئون التصرف. ويشرب يوميًّا، يأتي إلى البيت ساعة ليأكل ويغفو، يقضي كل أمسياته في البارات وقاعات البلياردو.» التقطت المسامير المثنية واحتفظت بها في كفها. «في الليل، حين يأتي إلى البيت، لا أحتمل الرائحة التي تفوح منه، أزيحه من السرير ليأخذ حمامًا. حتى لو سمعني فسيخرج وينام على الكنبة في ثياب يرتديها أحيانًا لعدة أيام.»

«ألا زال يعمل؟» سأل لام أخيرًا بهدوء ووجهه لا يزال ناحية الدرابزين.

«نعم، في جراج أخيه، لكنني لا أرى نقودًا. ولا أريد تَخَيُّل بعض الأمور التي يضيِّعها عليها.»

ترك لام المطرقة لقياس بعض الأشياء. لا يصل العمود إلى الدرابزين تمامًا. أخذتْ مي المطرقة، وضعت المسامير المثنية على الأرض، وبدأت تعدلها.

قالتْ: «منذ بضعة أسابيع، أتى إلى البيت متأخِّرًا وقال إنه جائع فتجاهلتُه، فجلس على طاولة الطعام وبدأ يكشط الأرز الجاف في قعر الإناء. كشط وكشط بتلك الملعقة اللعينة، أغاظتني جدًّا أنا والأطفال.» ارتفع صوتها مع كل طرقة مطرقة. «رفضتُ الذهاب لرؤيته فذهب إلى سرير البنات وسكب ماءً على أقدامهن. ربما لم يفزعن لكنهن انزعجن جدًّا. إذا كان في البيت أثناء النهار، أذهب إلى بيت «ليين»، أبتعد عنه.» توقفتْ. من بعيد، في الشارع، كان هناك أطفال يضحكون ويصيحون.

قالت: «يذل الأطفال يا أبي، يلاطفونه فقط. يذل نفسه أيضًا. ويذلني.»

مرر لام أصابعه على الدرابزين وأدرك أنه معوج. لعن بصوت مرتفع. حدَّق في وجه مي المكتئب وهو يمسك عمود الدرابزين بيديه في صمت. من النادر أن يراها في تلك الأيام تضع مكياجًا. اعتادت مشاركة أخواتها حب الملابس واعتادت ارتداء بلوزات زرقاء، وفي السنة الأخيرة تقريبًا، لم تهتم بملابس الأحد وهي ذاهبة إلى الكنيسة، وكانت تذهب وحدها عادة.

لاحظ أنها عدلت المسامير تمامًا. حتى بيديه القويتين لم يكن لديه القدرة أو الصبر للقيام بذلك. كَحَّ بصوت أجش وقال: «وأنا في عمره، كان لي ثلاثة أبناء لم أرَهم أبدًا وزوجة أنجبت اثنين منهم في غيابي. كنتُ على بعد مئات الأميال، ولم يكن أحد منكم بدون طعام أو ملابس ولم يتصرف مثل هؤلاء الأطفال من حولنا. أتأكد من ذلك حين أعود إلى البيت، وتحافظ أمك على الوضع حين أرحل.» قبض على الدرابزين وحاول عدْلَهُ. «أخواتك، أشكر الرب، يتصرف أزواجهن كما ينبغي. حتى زوج «ليين»، الذي يستسلم للمقامرة كعادته.»

«ليس بهذا السوء …»

«من فضلك، كفاية كلام عن زوجك هذا.»

حنت مي رأسها كما كانت تفعل وهي طفلة حين تُوبَّخ. ترك لام الدرابزين، نادمًا على حدة نبرته. هشَّ ذبابة بعيدًا عن شعرها وتمنَّى أن تكون تهدئة مشاكلها سهلة مثل أخذ زوجها جانبًا وتوبيخه، صفعه عدة صفعات ليحس.

قال: «لماذا تخبرينني بهذا كله. ليس لديَّ ما أقوله لأساعدك. تحدثي مع أمك أو أخواتك، لا أعرف شيئًا عن هذه الأمور.»

«لكن أمي لن تقول لي إلا أنها لم ترغب في زواجي منه أصلًا. ولدى ليين وهونج مشاكل خاصة، تعرفان عني ما يكفي. أردتُ فقط أن أخبرك …»

تطلَّع إليها.

«عصر أمس، رأيتُه يتبول في الشارع، على مرأًى من جميع أهل الحي …» لهثتْ وكأن تنفسها يتوقف. قالت وهي تُحدِّق في يديها: أحيانًا أتمنَّى موته يا أبي، «أتمنَّى لو أخفيه من على وجه الأرض.»

وضعت المسامير الثلاثة المفرودة قرب قدميه ونزلت من الشرفة. شاهد لام تردُّدها في الشارع، وتطلَّع للسماء كأنه يقيس حرارة الشمس، كأنه يقرر إن كان التحدي كافيًا ليتحمل أعباءها، شاهد الحذر التام في مشيتها وهي تعرج في الظهيرة بين زحام السائرين والدرَّاجات المترنحة، ابتلعها الزحام بسرعة.

في السنوات التي قضاها لام في الجيش، كانت مي الطفلة الوحيدة التي سألته صراحة عمن قتلهم في الحرب. تُوَجِّه السؤال بحذر تام يشبه حذر القس، وجاء أول مرة على النحو التالي: «هل قتلت أبدًا أي شخص يا أبي؟» وتطور إلى: «كم عدد مَن قتلت يا أبي؟» وبلغ ذروته في: «كيف قتلتهم يا أبي؟» في شكل أو آخر، كان السؤال المقتضَب ينتهي عادة بالطريقة نفسها:

«أيتها الطفلة السخيفة، إننا مضطرون للقتل في الحرب. وماذا تريد فتاة صغيرة من معرفة كيف أقتل الناس؟»

«ألن تقول لي؟»

«لا أحد منكم يا أطفال في حاجة إلى أن يعرف. لا مني ولا من غيري.»

توقَّع أن يسكتها هذا الرد عن المزيد من الأسئلة، وتوقَّع أيضًا أن يعود اهتمامها في الزيارة التالية. كانت فتاة فضولية، رغم أن فضولها لم يبدُ أنه نابع من احتياج مُعين للفهم، كان اندفاعيًّا ببساطة، عفويًّا مثل لازمة عصبية أو حلم مضحك. ربما سارا معًا في سوق مزدحم أو جلسا بمفرديهما في الشرفة، وربما سألته فجأة مثل هذه الأسئلة كأنها جزء من لعبة تلعبها هي ولام، تبادل أسرار تعويضًا عن الوقت الذي يقضيانه متباعدين.

ربما كان غيابه هو الذي ألهمها فضولها، وانتاب لام شعور بأن من الغريب أنه، بدوره، لم يفكر أبدًا فيها أو في أحد من أسرته وهو بعيد. في الخارج في الأجمة، يستهلكه الخوف من الموت والمرور الفارغ للوقت، لم يذهب عقله إلى زوجته أو أبنائه أو بيته. فكَّر في أمور أقل تعقيدًا، مثل التدخين في ليلة باردة ممطرة في سايجون، هذا الوخز أثناء التنفس. أو تناول صينية من الفو،٣ يتصاعد منها بخار ساخن مع أوراق الريحان الطازج والليمون، واللحم البقري النيئ يُغمس في الحساء، وردي ملتف ثم رمادي. وكان تفكيره لا يتجه حتمًا إلى أسرته بل إلى حيث كان: كتلة من الأرض المجعدة الحارة المغطاة بالأشجار والأجمات والكروم وعظام البشر، مكان نضر لا يُخفي العنف والهلع بل يخرسهما فقط. بدا أن هذا العالم المحفوف بالمخاطر ليس فيه مكان أو صبر لأفكار عن البيت، عالم منفصل تمامًا عن عالم أسرته، وبطريقة غير مبررة، لم يؤمن قط بالعالمين في وقت واحد.

ذهل لام حين تبعته الحرب إلى بيته. حين يعود أحيانًا من حيث كان لمدة ستة أشهر ويجدها تجلس على الشرفة الأمامية، يرى على وجهها تعبيرًا ينم عن أنه لم يتغير منذ التقيا آخر مرة، تعبيرًا بأنه أبوها ثلاثمائة وخمسة وستين يومًا في السنة وقد عاد للتو من تمشية قصيرة. وبعد يوم أو اثنين من عودته إلى البيت قد تسأله، في لحظة فضول فجائي، أو ربما قلق، سؤالًا من تلك الأسئلة.

في ذهنه، تتكرر اللحظة نفسها: هو وهي يسيران في الحي، في المدينة، ويدها في يده، يمرَّان بسياج المباني التي تحيط بالشوارع، يمرَّان بالمنازل المفتوحة لأي شخص ليأتي ويأكل أو يشتري منها أو ربما ينزل فيها لتناول بعض الشاي والتحدث، يمرَّان عبْر ضجيج السيارات والمشاة والمحلات والباعة الجائلين، يمرَّان بالكنيسة والجبَّانة حيث المقابر الملونة لأسرته وأصدقائه، وحينها تطرح السؤال بدون سبب، وتعاوده ذكرى من هذا النوع.

في أحد الأيام وقد وصلت قواته قرية محترقة في منطقة منزوعة الأشجار في أجمة، حيث يتصاعد الدخان في هواء مخلوط بالنابالم مثل أوشحة وكانوا جميعًا يزحفون في أماكن داخلية مهجورة في القرية، سائرين فوق الأجساد، لحم تفحَّم بعضه، وعلى البعض طبقة كثيفة من الدماء الجافة، والبعض موتى في هدوء كأنهم نيام. جرى جندي شاب، عند سماع أصوات مفاجئة أو صرخات، إلى كوخ أمسكت به النيران للتو. بكى هذا الجندي نفسه قبل أيام فقط من أجل أمه. تذكر لام بِنيته الضعيفة، كان عنقه من الخلف يشبه عنق امرأة، صوته جبان، وكان يرفض وجباته، وتذكَّر عينيه البليدتين وهو يبكي بهدوء ويطبق بقبضتيه على صدره. حدَّقت عيناه في المدخل المؤدي إلى الكوخ المبني من القش وقد التهمه لهب هائل. ترهَّل كتفاه، وبندقيته تخترق الهواء أمامه، ابتعد الجندي الصغير عن اللهب المتقافز وركَّز عينيه على مدخل الكوخ. دوَّت صرخة وحشية كأنها صوت يسقط من السماء، ثم من عمود الدخان الأسود المتصاعد من المدخل، تجسَّد حيوان تضطرم فيه النيران. تراجع الولد بضع خطوات والحيوان يتلوَّى ويرفس بأطرافه، وتنطلق منه سلسلة صرخات مدوية. كان كلبًا، يصل إلى خصر الولد تقريبًا، لونه غير واضح نتيجة موجة النيران الأفعوانية التي تتقافز بطول ظهره وأطرافه. بدا الولد لحظة في حالة ذهول رهيب من المنظر، لم يكن فزِعًا بقدر ما كان مبتهجًا. قفز الكلب عليه فجأة بشكل بشع فركله في رأسه، فارتبك وعاد إلى المدخل يتلوَّى بجنون وينبح بما يشبه صرخات خنزير. ركله الولد مرة أخرى، وربما بشكل أقوى في هذه المرة كأنه أيضًا يطفئ اللهب الذي يحرق لحمه، لكن الركلة أرسلت الكلب متسحِّبًا إلى الكوخ. ظهر الكلب مرة أخرى في الحال، ومرة أخرى ركله الولد في الصدر، فشبَّ مثل الحصان وتراجع في الدخان. كلما خرج الكلب من الكوخ ركله الولد بشكل أعنف، مغطِّيًا فمه حتى لا يختنق من الدخان، حانيًا رأسه ليتجنب اللهب. صرخ الكلب كلما ركله الولد في ضلوعه أو رأسه، بصوت عالٍ في البداية وأضعف تدريجيًّا، حتى صار في النهاية لا يصدر صوتًا على الإطلاق، مرهقًا مع كل شحنة من المدخل قبل أن يختفي أخيرًا داخل الكوخ الأسود مع نباح طويل باكٍ. تراجع الولد مبتعدًا عن الكوخ وأحد الجدران ينهار ويرسل دفعة من الدخان الأسود والنيران متشابكة باتجاه السماء، وشرارات من القشِّ المشتعِل تتناثر في الهواء. كان لام يشاهد برباطة جأش، غير متأكد مما إذا كان الألم الذي في صدره نتيجة الجوع أم الحرارة الشديدة أم ما شاهده للتو. شعر برغبة شديدة في أن يقول شيئًا للولد، يواسيه، يهينه. لكن قبل أن يتقدم، رأى الولد يسير مرة أخرى إلى الكوخ المنهار، وربما لأسباب محيرة حتى بالنسبة له، بدأ الولد يُطلِق نيران بندقيته مباشرة إلى الكوخ، يُطلِق النيران في الدخان ولهب المَدْخل المتداعي حتى فرغ ولم يستطِع أحد، حتى لام، أن يتطلع إليه، «لا»، قال لام لها دائمًا، لابنته، وقد شحبت هذه الذكرى، «لن أقول لك كم من الرجال قُتِلوا وماتوا في الحرب.»

ولم يقل لها قط. بمجرد استبعاده من الحرب، تلاشى فضول مي ورأى أنه كان بالضرورة نزوة طفولة، فتاة صغيرة تقفز قفزة خيالية إلى عالم الكبار، وقد فعل ذلك وهو ولد. لا شيء مزعج. تذكَّر أسئلتها مرة أخرى، بعد أن غرق زوجها بعد ذلك بعقود، وأدرك مدى صعوبة أن يسألها عما سألتْه عنه ذات يوم.

حاول. طرح السؤال في ذهنه مرات كثيرة، بطرق عديدة، محتفظًا به ربما للنهاية في انتظار محادثة طويلة قد تدور بينهما في ركن معتم من خياله، وحين اقترب منها أخيرًا، لم تبدُ الكلمات صحيحة، لا يمكن أبدًا أن تبدو صحيحة، هكذا تصرف مرة أخرى كما لو لم يكن هناك خطأ، وكأن هذه الشكوك في عقله طبيعية بالنسبة لأب في لحظات الزهو والهيام.

مر عام بعد الغرق. التقى أفراد العائلة يوميًّا، وتناولوا الطعام معًا، وواصلوا القيام بما كانت تقوم به العائلة قبل الموت، ولم يذكروا زوج مي إلا نادرًا. بدا للام أحيانًا أن صمت ابنته قمع لنوع من الأسى ربما كانت تعاني منه؛ في أحيان أخرى بدا النسيان وسيلة للحفاظ على حرمة الميت، عدم ذكر البؤس الذي كان يسببه لها زوجها. انتقلت مي إلى منزل لام مع أبنائها لأنهم لم يكن لديهم ما يكفي من المال ليعيشوا وحدهم. ببيع منزلها، بدا أن كل آثار زوجها تُرِكتْ أيضًا. لم يبقَ سوى معرفة مقموعة لما حدث.

قد يبحث لام من وقت لآخر، حين ينتابه الشك، عن دليل على شيء خفي، ثغرة في لا مبالاة مي. سأل زوجته وأبناءه إن كانوا رأوها في أي وقت تبكي أو سمعوها تتحدث عن زوجها، لكنهم لم يروها ولم يهتموا بذلك. قد تقول زوجته: «تبكي على مَن، ذلك الأحمق الحقير؟» ربما سأل لام حتى حفيداته إن كُنَّ قد شعرن بأن أمهن بدت على حالها معهن، إن كانت قد بدت في أية لحظة في السنة الأخيرة سعيدة أو غاضبة أو حزينة أكثر من المعتاد. لكنهن هززن رءوسهن الصغيرة فقط بشكل غامض، وبدا أنهن أيضًا تقبَّلن الموت الملائم لأبيهن. بحث لام في وجوههن وتذكَّر المرة التي صفعت فيها مي إحدى الفتيات بعنف لسبب تافه ثم ضمتها وبكت: أم وابنتها في عناق أخرق، تبكي واحدة من الألم، والأخرى من الألم الذي تسببتْ فيه. قالت زوجة لام: «لن تبكي ابنتك على ذلك الرجل، ولا تتوقع منها ذلك. إذا كنْتَ مثله ما بكيتُ عليك أيضًا.»

ذكر لام أحيانًا زوج مي ليرى إذا كان ذِكرُه يؤدي إلى رد فعل. ربما يقول أثناء العشاء: «لم يأكل زوجك أبدًا لحومًا بشكل كافٍ»؛ وقد يسأل وهي تكوي له قمصانه: «ألا يشبه هذا القميصُ القميصَ الذي اعتاد زوجك أن يرتديه؟» لكنَّ مي في كل مرة تقول لا أو نعم وتواصل بثبات ما تفعله.

قرر في مسألة معينة إذا كان ما يفكر فيه صحيحًا فسوف يسامحها، قد يبقى سرًّا بينهما. قرر أن يستريح من الفضول الذي يشغله وعزم على أن يسألها مباشرة حين يقترب منها.

وبعد ذلك سيطر عليه كسل معين، لأنه من حينها تصوَّر الكلمات الصحيحة، لكنه لا يستطيع النطق بها؛ أدرك، قلِقًا وحذِرًا في وقت واحد، أن ما يود الارتياح منه لم يكن الفضول، بل عدم يقينية خيبة أمله. كان الكسل مجرد عرَض من أعراض الخوف، ومع ذلك ذكَّر نفسه بأن يجرِّب تهديد الإجابة، ونهاية رائعة في حتميتها، وكان عدم اليقين وإنكار الذات يسببان ألمًا فضَّل احتماله، مع أن البديل لا يمكن أن يسبب له قدرًا أكبر من الأذى، وكان هذا هو السبب الذي يحول دون طرح السؤال، وما كان له أن يُطرَح. وتذكَّر كل تلك اللحظات في حياتها حين كانت تكشف له، وله وحده، عن طبيعتها الغريبة، تلك الانحرافات الشخصية التي اتسمت بها دائمًا، ودَّ لو يصدق، كانت موجودة دائمًا: الرقص مع القس وهي في الخامسة عشرة من عمرها، شراء سجائر له وهي في الثامنة، وضعت على رأسها بريهًا كبيرًا جدًّا في جنازة، وأخذت تضحك وترقص عند قدميه. تذكَّر هذه الصور، احتفظ بها بقوة في صدره، ثم آمن هو نفسه بأن المعنى والارتباطات التي تصورها في الذاكرة جسور واهية، وأن إفساد ذكرى طيبة يعني إفساد الذكريات كلها. وهكذا، بشكل أناني، ليس بسبب شكوكه ربما كان على خطأ، ولأنها قد تسلِّم بالحقيقة، لم يسألها أبدًا.

مرَّت السنوات العشر التالية في تتابع هادئ. بدا أن لام، بالتغاضي عن الفترة التي قضاها بعيدًا عن بيته، عاش ثلاث حيوات مع أسرته — حياة طفولة أبنائه، حياة زواج أبنائه، ثم حياة أبناء أبنائه — وكانت حياته الأخيرة الأقل روعة والأسهل. كان له اثنا عشر حفيدًا، كانوا جميعًا أصحاء وسعداء، وفيهم، فيما يبدو من حيوات الصغار، استعد لمواجهة نهايته الحتمية. كثيرًا ما اتهمته زوجته بالكسل، بأنه «يجلس في القارب ويتفرَّج على الآخرين يسبحون»، ولم يقل إلا إنه عجوز جدًّا، لا يحتمل البلل، والمشهد من القارب جميل. أحيانًا، انبهر حتى بسمكة تحت الماء، غافلًا عما فوق السطح وما بدا ضخمًا في الأعماق؛ ورغم أنه لم يتجاهل الماضي أو ما ينتظره قط، تعلَّم أن يرضى بالحاضر طالما كان الآخرون حوله آمنين وقانعين. وبهذا الموقف واجه أمورًا شاقة حين اعتلَّ ذات صيف.

رقد في السرير معظم اليوم وعلى ساقيه بطانية رقيقة وبجواره مروحة كهربية. كانت زوجته تنظر إليه كلما كحَّ، ويتوقف أبناؤه كل ساعة لأسباب تافهة ليكونوا بجواره. صحيح أن المرض لم يصِبه بهذه الصورة من قبل، لكنه عرف وأكد للجميع أنه سوف يتحسن خلال أسبوع أو اثنين على الأكثر. ربما أكثر من أي شيء آخر كان دائمًا متأكدًا مما يتعلق بصحته، تعرَّض لمخاطر كثيرة في حياته بشكل يجعله لا يشك في ذلك الآن، حتى في سن متقدمة.

كانت مي تأتي لزيارته يوميًّا. وكانت تعيش مع أختها الثانية وأسرتها. في بهو منزلهم، الذي يمتد إلى الشرفة، تقوم الأختان ببيع ملابس يشتريانها رخيصة من مراكز التسوق في سايجون. تذهب مي إلى سايجون مرتين أسبوعيًّا وتشتري ما تستطيع من الأقمشة والملابس أثناء تجولها. وتقضي بقية الأسبوع، كل يوم ما عدا الأحد، تبيع الأحذية وفُرَش الأسنان والصابون، وكل ما تستطيع الأختان عرضه في المكان المحدود. وتساعد أيضًا في شئون المنزل وترعى بنت أختها وأبناءها. تزوجت بناتها وتركنها لأسرتها الجديدة، وتزوجت الصغرى منذ أيام فقط. لم تتزوج مي نفسها مرة أخرى أبدًا، رغم العروض من رجال مختلفين على مدار السنوات. كان لام سيسعد إذا تزوجت، وكان في داخله إحساس معين من السلام لأنه يعرف أنها لن تفعل أبدًا. ربما كانت هذه هي العلامة الوحيدة على حدادها الشخصي.

في اليوم العاشر من مرضه، جاءت إليه بصور زفاف ابنتها. كان لام شبه نائم في السرير، لكنه سمع مي تتحدث إلى زوجته في الغرفة المجاورة. كان الشخص الوحيد في العائلة الذي لم يحضر الزفاف، وشعر أنه يتذكر ذلك بقوة وهو يستمع إلى حديثهما.

قالت مي بإعجاب: «بدت الصورة مدهشة، لكن هذا المصوِّر تقاضى ضعف ما تقاضى في صور زفاف هونج! وهو يفعل ذلك على سبيل الهواية.»

«بالمناسبة»، قالت زوجة لام. اقترب وقع خطوات من الغرفة. رأى لام زوجته تدخل الغرفة وتمد يدها إلى الدرج العلوي في التسريحة حيث تحتفظ بكيسها. وقفت الأم والابنة في المدخل، تتهامسان، ولا تدركان أن لام يرقد ويشاهدهما. «خذي»، قالت زوجة لام وأعطت مي بعض النقود.

«لم أقصد أن تدفعي ثمن الصور يا أمي.»

«حسنًا، كنتُ أنوي أن أعطيك النقود على أية حال. أنفقْتِ الكثير على الزفاف.» وزوجته تعود إلى الغرفة الأمامية، رأى لام مي تعيد النقود إلى الدرج العلوي. تبعتْ أمها وصار صوتاهما صاخبين مرة أخرى في الغرفة المجاورة، تبدو الأم والابنة أكثر تشابهًا مع مر السنين.

«لم أخبرك بما حدث أمس»، قالت مي مقهقهة. «تقترب تلك المرأة الضئيلة المجنونة، منا وتنقِّي أفضل أحذيتنا وكأنها تنقِّي فاكهة ما يقرب من عشر دقائق، وتسألني إن كان لديَّ المزيد في المنزل. أتركها وأذهب لألقي نظرة وحين عدتُ رأيتها تجري إلى الشارع بحذاء تضمه إلى صدرها.»

«سرقتْه؟»

«رأتها «شي لوان» تجري به وصاحتْ في ابنها ليطارد المرأة، لكن الولد قال إنها تاهت وسط الزحام. لم يعرفها أحد من الجيران. والمضحك أنني ذهبتُ إلى السوق بعد الظهر فوجدتُها هناك تسير باتجاهي وهي تنتعل ذلك الحذاء.»

ضحكت زوجة لام: «هي حقًّا؟»

«المرأة ذاتها! والحذاء حذاؤنا بالتأكيد. سرتُ أمامها فتجمدت حين عرفتني. اعتقدتُ أنها ستجري مرة أخرى، لكنها وقفتْ دون حراك، في هلع تام. أخبرتُها بأنني عرفتُ ما فعلت وألححتُ على دفع ثمنه لي فورًا. سألتني عن المبلغ وحين أخبرتُها، قالتْ ليس معها ما يكفي. أخذتُ ما كان معها بالإضافة إلى حزمة من خبز فرنسي كانت تحت ذراعها، وانصرفتُ.» قهقهت مي. «لم أرَ أبدًا أحدًا يخاف مني إلى هذا الحد، عجزت المرأة عن الكلام.»

قالت زوجة لام: «احذري الآن، لن يكنَّ أبدًا بهذا الضعف والغباء.» سمع لام صوت صندل زوجته على الأرضية القرميد. «أخرج لأشتري قهوة وأنت هنا. اذهبي وفرِّجي أباك على الصور.»

«هل هو نائم؟»

«لا أعتقد ذلك.»

«هل يبدو أفضل؟»

لم يسمع لام رد زوجته. وخرجت من المنزل.

ظهر رأس مي في مدخل غرفته، وحين رأته مستيقظًا، ابتسمت واقتربت من السرير.

«معي صور الزفاف يا أبي»، قالت هامسةً تقريبًا. سحبت كرسيًّا بجوار سريره وجلست في مستواه. لاحظ في رأسها شعرًا رماديًّا بأكثر مما يتذكر. لكن لم يبدُ على وجهها التقدم في العمر إلا قليلًا، لا تزال بشرتها العاجية خالية من العيوب. ببطء وضعت صورة بعد أخرى على صدره.

كانت الأولى لحفيدته وعريسها يقفان خارج سيارة مع بعض ضيوف الفرح. ترتدي أوبي أحمر وتقف ورأسها مائل، صورة من أمها في شبابها. الصورة الثانية يجلسان في السيارة وسعف نخيل يُهوِّي في النافذة الخلفية. كان العريس يبتسم بشكل أخرق، والأوبي الذي ترتديه حفيدة لام، متألق على المقاعد الجلدية البيضاء، وكانت تتطلع بحزن في الكاميرا كأنها تبكي.

تفحَّص لام كل الصور وتخيَّل الروائح والأصوات في ذلك اليوم، ما كانت عليه الشمس فوق أكتاف الناس، الأفكار التي وراء ابتساماتهم. حين وصل إلى الصورة التي يقف فيها العريس والعروس مع آبائهما وأجدادهما، سقطت يداه.

«هل وجدت مصورًا جيدًا كما قلت لك؟»

«ابن «بالو» التقط الصور. المصوِّر المحترف يطلب الكثير كما تعرف.»

«لكن هذه الصور، بعضها ساطع جدًّا، وهذه ليست واضحة.»

«إنها جميلة يا أبي.»

قال: «لكنني قلتُ لك …» وتوقف حين أدرك كم يبدو مزعجًا. لاحظتْ ولم تنطق بكلمة أخرى.

تفرَّج على الصور مرة أخرى، وشعر أنها تُحدِّق فيه، كأنها تتطلَّع إلى تشوهات في وجهه. صارت لحظات صمتها وتفحصها ملحوظة في النهاية ومربكة. كانت المرة الثالثة في ذلك الأسبوع التي تأتي فيها وحدها بجوار سريره بهذه الطريقة الهادئة، قريبة بشكل مزعج من شخص استعد للطقوس الأخيرة.

سعل وشعر بألم في صدره؛ سعل مرة أخرى، وكما بدا دائمًا تأتي كل سعلة أكثر عنفًا. أمسك بمجموعة الصور إلى صدره الذي يخفق.

قالت مي: «يا أبي.» بلع ريقه ليُسلِّك حنجرته وتوقَّع منها أن تُلفِّق اعتذارًا له. «يجب أن أقول لك شيئًا اعترفتُ به للكاهن منذ سنوات، لكنني أشعر الآن أنه ينبغي عليَّ أن أعترف به لك أيضًا.»

في وجهها رأى لام فجأة عِلته. مرت سنوات كثيرة منذ آخر مرة حمل صوتها هذه النبرة الجادة، وجعلته لحظة تعرف، لا تفسير لها، على ما كانت على وشك أن تقوله، يكتم أنفاسه. كم مضى عليه منذ عبرت هذه الأفكار عقله؟ لم يستطع أن يقرر إن كان ينبغي أن يرفض أن يسمع أم يذعن لكلمات طردها منذ فترة طويلة من عقله.

قالت: «منذ سنوات»، وكان صوتها بليدًا مثل دعاء محفوظ. «أود أن أقول لك كيف مات باو. أريد أن أخبرك بهذا»، وتطلَّعت إليه كأنها تطلب الموافقة على الاستمرار. أومأ صامتًا.

بدأتْ: «خرجتُ إلى الكافيه لأبحث عنه في تلك الليلة»، ثم توقفتْ. تحدِّق في مجموعة الصور على صدره. بدا ترددها احتياجًا للإفصاح، احتياجًا إلى قول ما كانت على وشك قوله بطريقة ربما تصورتها بشكل مختلف. واصلتْ ببطء: «لم يكن هناك سبب مُعين في تلك الليلة لذلك، باستثناء شعور انتابني يفوق ما شعرتُ به في معظم الليالي. أخبرني أحد أصحاب الكافيه بأنه رأى «باو» يسير باتجاه أحواض السفن، فاتجهتُ إلى هناك. وجدتُه في النهاية، يقف على رصيف خاوٍ ممتد في البحر عند نهاية رصيف الميناء وفي إحدى يديه قارورة يحدِّق في المياه. يا إلهي، في تلك اللحظة، وددتُ أن أجري وأدفعه إلى الحافة، لأُريه مدى بشاعته.» كان وجه مي هادئًا رغم انقباض يديها بشدة على سرير لام. «وأنا أقترب منه، التفتَ وتطلَّع إليَّ ولم يتكلم، كأنه لم يتعرف عليَّ، وبدأ يتراجع بشكل أخرق، فتعثَّر وسقط في الماء. جريتُ إلى الحافة ونظرتُ إليه وهو يمسك بدعامة من دعامات أحواض السفن ويبصق الماء وينتفض كأنه لا يعرف أين كان. لم يقل شيئًا، ولم يصرخ، ولم أعرفْ إن كان يستطيع أم لا. تطلعتُ حولي في هلع بحثًا عن وسيلة لإخراجه. كنتُ أعرف أنني لا أستطيع القفز في الماء وإنقاذه، فكرتُ في الصراخ على أي شخص، أي أحد يأتي ويساعدني. وحينذاك أفلتت يده من على ساق حوض السفن وبدأت المياه تجرفه. غطس ثم عاد يشهق على المياه. للحظة بدا كأنه تذكَّر فجأة كيف يسبح وبدأ يضرب في المياه بشكل أخرق، لكنه غطس مرة أخرى وحين طفا أصدر صرخة رهيبة، وصرختُ باسمه. لكنني وقفتُ فقط وشاهدتُه، لم أستطِع طلب المساعدة. كان يتحرك أبطأ، وكنتُ أسمعه يسعل ويشهق، وعويله القصير …»

خفضت مي رأسها إلى ركبتيها، ثم اعتدلتْ مرة أخرى. لم تكن تبكي، كان وجهها لا يزال هادئًا. أخذتْ نفَسًا عميقًا، وتحوَّل صوتها إلى همس. «لم أتزحزحْ، أتذكر أنني حبستُ أنفاسي واستمعتُ إليه يصارع في المياه، ثم ابتعد عن الحافة ولم أعدْ أراه. لكنني تطلعتُ مرة أخرى، والمياه تجرفه بعيدًا عن حوض السفن، وللحظة اعتقدتُ أنه ينظر إليَّ مباشرة. اختفى في الظلام، فاستدرتُ جريًا إلى البيت. لم أنَم تلك الليلة. لم أتكلم إطلاقًا في اليوم التالي، وكان من حظي أن يجدوا الجثة في الصباح، بذلك كان لديَّ ما يُبقيني صامتة ولا يسأل الناس عن السبب.»

توقفتْ. كانت تتطلع إلى لام كأنها تجادله. لم يعرف تمامًا ما تجادل بشأنه، لكنه شعر فجأة ببرد وصمت مريح. فجأة شعر بالسنوات العشر الأخيرة من حياته وكأنها وهم، وكأنها مُصطنَعة. تساءل كيف للحقيقة أن تُغير الأمور، وما إن كان الجهل أفاد أسرته أو أفاده. يمكن أن يشك في قصة مي، لكن لم تعد الإرادة المطلوبة لذلك موجودة. ازدهرت صورة وحيدة في عقله: صورته منذ زمن بعيد وهو يدفع ابنه وهو في العاشرة ليغوص في حوض ليتعلم السباحة. سوف أنقذك إذًا … وقفز في الماء ليفعل مثله، خشي الولد فيما بعد أن تصاب عيناه، وبعد سنوات تخيَّل لام، كما تذكَّر آنذاك، الماء البارد يبتلع الولد، وضُغِطتْ كل مخاوفه في لحظة ثم انفجر على الفور ليس غضبًا من والده — وإن كان هناك — لكن في صمت.

«أبي.»

«نعم؟»

«ماذا تعتقد في هذا؟»

همهم: «ماذا أعتقد؟»

«لم أخبرْ أحدًا. أعرف، ما فعلتُه مُرَوِّع. لا يُغتفَر. لكنني أعتقد أيضًا … أعتقد أيضًا أن تلك الليلة مثل شيء وهبني الرب إيَّاه. مثل هدية.» تحدَّثتْ ببطء، كأنها تنتظر مقاطعته. قالت: «هل ذلك خطأ؟ هل أنا مخطئة حين أعتقد ذلك؟»

رد بصورة مبهمة: «لا.»

سمع صوت زوجته في الخارج ترد على جارة وتضحك.

نظر مرة أخرى إلى صور الفرح وهمهم: «كان ينبغي أن تأتي بمصور أفضل كما قلتُ لكِ.»

أحنت مي رأسها، انزلقت بعض الصور عن صدره فالتقطتْها ببطء واحدة بعد الأخرى، ووضعتها مُرتَّبةً على السرير.

دخلتْ زوجة لام الغرفة. قالتْ مخاطبة مي: «كنتُ أتحدث إلى شي لوان، وقد أخبرتني أمس بكل شيء.»

قالت مي دون أن تتطلع إليها: «أجل.»

«قالتْ إن ابنها جرى بأقصى ما يستطيع لكن تلك المرأة سبقتْه.» ضحكتْ زوجة لام من قلبها: «أظن أن من المناسب أن يكون للصوص سيقان سريعة.» دخلت إلى المطبخ وهي لا تزال تضحك.

مالت مي مقتربة من لام وقالت: «آسفة، كنتُ نادمة لأنني لم أخبرك.» هز رأسه بوهن، ثم سعل مرتين قبل أن تتحدث مي مرة أخرى، كأنها تتوسل استجابة أفضل: «أبي؟»

«هل تعرفين»، بدأ وفي اللحظة ذاتها لمعت في ذهنه صورة أخرى، واضحة تمامًا بعد أن نُسيتْ سنوات: بريهه القديم، أسمر غامق ومناسب، مزين برأس نمر مهدِّد وأنيابه مبالغ فيها. فكر كيف صار؟ هل ضاع؟ هل أحرقته زوجته حين سقطتْ سايجون؟ ربما دفنتْه؟

قال مرة أخرى: «هل تعرفين أنك في جنازة عمك منذ سنوات وسنوات، وعمرك عامان فقط، وضعْتِ بريهي على رأسك وضحكْتِ ورقصتِ رقصة سخيفة أثناء المراسيم؟ رفضْتِ خلعه بقية اليوم. تعرفين أن هذا ما جعلني أشتري لك كل تلك القبعات وأنت صغيرة.»

ضحكتْ مي فجأة، بأسًى إلى حد ما، ثم توقفت. «لكن يا أبي»، قالت كأنها غير متأكدة من أنها في حاجة إلى تفسير، كأن المسألة مجرد نسيان من جانبها: «مات العم فونج قبل أن أولد. لا بُدَّ أنك تتذكر ليين أو هونج وليس أنا.»

١  فو تران Vu Tran: ولِد في سايجون عام ١٩٧٥م، ونشأ في أوكلاهوما. العنوان الأصلي للقصة The Gift of Years.
٢  البنجالو bungalows: نوع من البيوت التي تتكون غالبًا من طابق واحد، وأحيانًا من طابقين.
٣  الفو pho: نوع من الحساء باللحم والمكرونة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤