كاتب اليوميات
هنا أتذكر شيئًا واحدًا، من كل ما لم أدوِّنه قط في دفتر يوميات عن صيف العام الذي بلغت فيه الحادية عشرة، الصيف السابق على موت أبي:
كنتُ أخشى سفر أمي، في عصر أيام الجمع أعود إلى البيت من المدرسة لأجدها في غرفة نومها تحزم حقيبة القطار المكتوب عليها اسمها … قالت: «أحب أن أسافر خفيفة». أجلس على حافة سريرها وهي تحزم حقيبتها، وأشاهد انعكاسات صورتها في المرآة الصغيرة المثبَّتة في البطانة الملساء لغطاء حقيبة القطار؛ معًا، بدا أننا أداة واحدة، أنا والمرآة، نمسك بتألق رفرفة ثياب أمي وهي تقطع غرفة النوم ذهابًا وإيابًا، من تسريحتها إلى خزانتها إلى حليها.
قلتُ لها: «أريد أن آتي معك.»
واصلتْ إعداد حقيبتها كأنها لم تسمعني.
نظرت لحظة إلى أعلى. قالت: «لا، ينبغي أن تذهب مع أبيك. ناقشتُ ذلك معه.»
واصلتْ ما تقوم به، طبَّقت بلوزاتها في حقيبة، وفصلتْ كل طبقة بطبقة من المناديل الورق البيضاء.
عند أي نقطة بدأتُ الكذب على أبي، إجابات عصبية متلعثمة على أي سؤال يوجهه إليَّ؟ «ماذا تفعل؟» سأل حين دخل بعد تحميل العربة ليجدني ما زلتُ أقف في المطبخ.
قلتُ: «أعمل سندوتشًا.» وأنا أتكلم، تساءلتُ إن كان يُصَدِّقُنِي، حيث إنه كان يستطيع بنفسه أن يرى أنني لم أفعل شيئًا، على الأقل حتى ذلك الوقت … لم أخرجْ حتى الخبز من الثلاجة. كانت أمي تعد لنا السندوتشات دائمًا في الرحلات التي نقطعها بالسيارة؛ تحب أن تقطعها أرباعًا قبل أن تلفها في ورق مشمع.
كان دافس ينتظرني في الشرفة الأمامية، يمسك بمحفظة فيها نصيبه. اتجهنا إلى بلازا عبر خميلة خلف المدرسة الابتدائية وعبر الطريق السريع المقسم. في الطريق أخبرني دافس أن أبانا وعده بالجلوس في المقعد الأمامي وقطع الطريق كله إلى لمبر رن.
قلتُ: «لا أصدقك.»
رد دافس: «صحيح.»
بالقرب من صناديق السلع المخفضة، لاحظتُ دفتر اليوميات لأول مرة. كان ورديًّا ساطعًا وجميلًا.
رفعته من الرف لفحصه. على الغلاف فتاة في سن المراهقة بذيل حصان يتدلَّى على ظهرها، وساقاها مرفوعتان كأنها معجبة بطريقة تشابك كاحليها، وتتحدث في تليفون الأميرة الأزرق. ترتدي بنطلون كابري. ولأن الصورة لا تضم السرير الذي يُفترَض أنها تتمدد عليه ولا الحائط الذي يُفترَض أن تسند عليه قدميها، بدت الفتاة وكأنها تُحلِّق في الفضاء في تحدٍّ للجاذبية.
«إنه دفتر يوميات فتاة»، قال دافس حين انضم إليَّ على طاولة الغداء في كرسيج، حيث اتفقنا على تناول الطعام، وقد طلبنا كوبًا من الماء المثلج، وجلستُ أمسح بمنديل ورقي مُبلل البقعة اللزجة التي تركتها ورقة السعر على غلاف دفتر اليوميات، المُغطَّى بالبلاستيك. واستغرقتُ عشر دقائق مترددًا في شرائه، حاملًا دفتر اليوميات عرَضًا من رف العرض قائلًا بصوت عالٍ من دون توجيه الكلام لشخص معين: «أراهن أن أختي سوف تحب هذا»، ثم أبرزته للصرَّاف وسألته ما إن كان يمكن لفه بغلاف الهدايا، كنتُ لا أزال منطلقًا خلال أيونوسفير قلقي، دائخًا من نقص الأكسجين في الهواء.
حين جلس دافس، شعرتُ بشيء ثقيل ثابت يستقر بجواري. أسقطتُ دفتر اليوميات في الحقيبة الورق وسمعته يسقط على الأرض بصوت ثقيل، وكأن فتاة الغلاف سقطتْ من مدارها.
قلتُ له: «إنه النوع الوحيد لديهم.»
لم أستطعْ أن أعرف إن كان دافس قد عرف أنني أكذب. بدأتُ أضيف أن مسز توكر، مدرستي في الصف السادس، نصحتْ فصلنا ذات يوم بأهمية الاحتفاظ بدفتر يوميات، وخصوصًا أننا سندخل المرحلة الإعدادية، حتى يمكن أن نتطلع ذات يوم إلى كل الأشياء المهمة التي حدثت في حياتنا. لكنني ندمتُ بمجرد أن بدأتُ هذا الكلام متذكِّرًا أن أبي قال ذات يوم إن من السهل معرفة الكذَّاب؛ لأن الكذَّاب يقول دائمًا أكثر مما يحتاج إليه.
قال دافس: «بالتأكيد، لو كان لديك ما تكتب عنه.»
لم أعرف ما أقوله. صحيح أنني لا تنتابني رغبة مُلِحَّة في تدوين أشياء إلا إذا كنتُ غضبان. ذات مرة كتبت على عجل «أنا أكره دافس» على نوتة تحتفظ بها أمي بجوار تليفون المطبخ، وبمجرد أن أدركتُ أن أبي وأمي قد يريانها قطعتُ الصفحة الأولى ومزقتها قِطَعًا صغيرة، ولم يتبقَّ إلا الصفحة البيضاء التي تحتها، وآثار كلماتي السرية لا تزال عليها بشكل خفي تقريبًا.
كنتُ محظوظًا. ونحن نقترب من منزلنا رأيت أبي يقف في الفناء الخلفي، يتحدث مع جار في البيت المجاور. ذهبتُ إلى غرفتي وخبَّأتُ دفتر اليوميات في حقيبتي الصوف، حشرْته بين شورتاتي وتي شيرتاتي. في الليل، فكرتُ فيه، آمنًا في مخبئه المظلم، وأنا أستلقي مستيقظًا، أحاول تخيُّل ما أكتبه بعد قليل في صفحاته المُسطَّرة. حاولتُ وقتًا طويلًا؛ لكنني واصلتُ التفكير بدلًا من ذلك في دفتر اليوميات الذي كانت تحتفظ به أمي وهي في المدرسة الثانوية، اليوميات التي كانت تشركني فيها أحيانًا عصر الأيام الممطرة، تحمله بحذر من الدرج السفلي في تسريحتها، كتاب صغير مغلَّف بجلد مزخرف باللون الأحمر، وعلى الغلاف كلمة «يوميات» منقوشة باللون الذهبي. أخبرتني بأنه صُنِعَ في المغرب.
بعد الغداء، بدَّلنا الأماكن أنا ودافس. جلستُ في المقعد الخلفي، أستمع إلى أبي يلعب مع دافس الألعاب التي لعبها معي قبل قليل. بعد برهة، أغلقتُ عيني وحاولتُ تخيُّل ما تفعله أمي، ربما تجلس إلى طاولة المطبخ في بروكلين في تلك اللحظة ذاتها، على ما أعتقد، تشرب قهوة بالسكر مع أختها. بمجرد أن صُوِّرَ ذلك، بدا شيئًا أود وضعه في دفتر يومياتي، أن أكتبه من منظور جلوسي على الطاولة معهما.
كانت غرفتي أصغر غرف المنزل، خلف المطبخ. اخترتُها أول مرة أتينا فيها إلى لمبر رن لأن أمي أخبرتني بأنها تذكِّرها بمخزن كبير الخدم حيث كانت تلعب بالدمى وهي فتاة صغيرة في منزل عائلتها في بروكلين، وأضافت لا يحتاج هذا المنزل الصغير إلى كبير للخدم. أحببتُ غرفتي دائمًا، على الأقل حتى ذلك الوقت، بأثاثها البسيط وصرامتها المسرحية؛ أحببتُ الاستلقاء على السرير الضيق في أوقات الأصيل والباب مغلق، أتفحص التسريحة المكسرة المصنوعة من رقائق ليفية والنافذة الصغيرة الوحيدة التي كان ظل ورقها الأخضر يظهر سريعًا بعنف حين تُلمس. أتظاهر أحيانًا بأنني أمكث في غرفة في مأوى خَرِب أو فندق قذر، مثل الفنادق التي رأيتها في أفلام الغرب. لكنني حينذاك أقف وألتقط قطعًا من جص تساقط من السقف على فرْش السرير طوال الشتاء؛ بدت الغرفة كالحة. لا تُشبه غرفتي في البيت، الغرفة التي اعتدتُ أن أُجدد ديكوراتها كل شهر تقريبًا، واضعًا لمبة كيروسين على مكتبي لأُشيع جوًّا استعماريًّا، أو أجراسًا خشبية مُعَلَّقة تهتز مع الهواء، من نور السقف لتبدو كأنها غرفة يابانية. هذه الغرفة لا تحتمل أي تغيير؛ كانت غرفة الهدف منها تغييري.
فتحتُ حقيبتي وجذبتُ دفتر اليوميات من تحت شورتاتي وتي شيرتاتي؛ جلستُ على السرير وأنا أضعه في حجري. لبرهة أحدِّق فيه فقط، وكأنني أتوقع أن يتحدث بشكل ما، رغم أن ذلك كان نوعًا من الغباء، كنتُ أعرف ذلك. كان دفتر يوميات؛ يُفترض أن أُحدِّثه. لكنني أشعر بخرس يستقر في حنجرتي، كأن شيئًا كاويًا محشور فيها، وكلما تفحصتُ دفتر اليوميات أكثر رأيتُ كم يبدو رخيصًا حقًّا، على الأقل تحت ضوء لمبة السقف العارية المزعجة. للمرة الأولى رأيتُ بِضع صفحات مفكوكة من الملزمة، وبدأ التجعيد يُشوِّه الغلاف البلاستيكي الرقيق. حتى فتاة الغلاف بدتْ حزينة نوعًا ما، ورأيتُ أن اللون الأصفر في ذيل حصانها طُبِع بشكل غير متسق إلى حد ما. ليستْ غلطتي، أردتُ فجأة أن أوضح لشخص ما … غلطة الغرفة، أو غلطة أبي، أو غلطة أمي، لأنها لم تأتِ معنا. كرهتُ، بعد ذلك مباشرة، دفتر اليوميات، أردتُ أن أُلقي به إلى الأرض وأدوس عليه.
سمعتُ أبي ينادي: «حان وقت العشاء!»
حين ذهبتُ إلى المطبخ، رأيتُ أنه يبدو سعيدًا، الرفيولي الرائعة في أطباق ورقية. يدندن أغنية تذاع في الراديو الترانزستور الموضوع على حافة النافذة.
سألني: «جائع بما يكفي لتأكل حصانًا؟»
كنتُ صامتًا. شعرتُ بأنني لستُ على ما يرام وأنا أجلس بجوار المقعد الخالي المخصص لأمي. تساءلتُ إن كانت تتناول عشاءها أيضًا أم ذهبتْ إلى مكان ما، إلى سينما مثلًا مع أختها. وأنا أتخيَّلها بدأتُ أشعر بقلق لأنني أردتُ إتلاف دفتر يومياتي.
بمجرد انتهاء أبي من تناول طعامه، حمل طبقه الورقي عبْر المطبخ وألقى به في الزبالة. «دعونا نبتهج»، قال لي ولدافس.
«مثل ماذا؟» سأله دافس.
قال: «أظن أن علينا أن نتجه إلى مسارات السكة الحديد.»
أحببتُ السير إلى مسارات القطارات مع أبي. قال لي ولدافس أكثر من مرة إن المسارات تجعله يفكر في أبيه، الذي لا بُدَّ أنه مر بلمبر رن بضع مرات على الأقل، أو هكذا تخيل، على قطارات شحن الفحم.
ذهبتُ أنا ودافس لننتعل أحذيتنا الخفيفة، ثم لحقنا بأبينا في الفناء الخلفي، حين كان ينتظر بكشافه. تبعناه عبر العشب المقطوع وصف صغير من الأشجار، باتجاه كوخ المراقب، حيث خزنت أطقم الطريق السريع الملح لطرق الشتاء، ولم تعد تلك القطارات تتوقف هناك.
«بهدوء»، قال ونحن نعبر تقاطع السكة الحديد. انحنى باتجاه المسارات، كما يفعل كلما ذهب بنا إلى هناك، متظاهرًا بأنه يستمع إلى صوت قادم من بعيد لقطار من قطارات الشحن كان أبوه يركب فيها منذ زمن طويل.
سأل: «هل يمكن أن تسمعاه؟»
اكتفينا أنا ودافس بالوقوف في صمت نتفرج. لا شيء قادم. للحظة حاولتُ تخيل أبي كما كان بالضرورة وهو ولد يكبر في بايشوب، رغم صعوبة ذلك، لأنه لم يتكلم عن طفولته، باستثناء أنه قال إنه ذهب للعمل في العاشرة، ينظف عربات السكة الحديد، وفي الثانية عشرة حجز في مصحة شباب الولاية للسل. وذات مرة أخبرنا بأن أباه اعتاد أن يناديه وهو ولد صغير بكلمة «عسل».
خطا إلى قاع السكة الحديد، انزلق تقريبًا على الحصى المشحم. تحركتُ أنا ودافس باتجاهه. لم أصدق ظلمة المكان، رغم أنني حين نظرتُ إلى أعلى رأيت الشعرى اليمانية يتألق فوقي تمامًا. «اسمه الشعرى اليمانية»، أخبرتني أمي ذات يوم ونحن نجلس معًا في الفناء الخلفي لبيتنا في ليلة صيف قبل سنوات.
«هنا تذهبان»، قال أبونا حين مد يده في جيب بنطلونه. سحب قبضة عملات معدنية، أخرج منها قطع العملة. وضعتُ أنا ودافس قطع العملة على القضبان، بنسًا بنسًا، ونحن نعرف أننا حين نعود في صباح اليوم التالي، سنجدها مفلطحة متناثرة بين الأعشاب الطويلة بفعل قطارات الليل التي لن نراها أو نسمعها ونحن نيام.
في صباح اليوم التالي شاهدتُ رأس أبي منخفضة في المسار الضيق إلى خليج باين، وعصا صنارته وصندوق أدواته في يده، وسلته معلقة على كتفه، تضرب في ظهره وهو يمشي. كنتُ أجلس على السلم الأمامي آكل طعامي.
سأل وهو يغادر: «ألا تريد أن تأتي؟»
قلتُ له: «ليس الآن». قلتُ سأحاول الصيد فيما بعد، بعد تناول الطعام.
رأيتُه يمشي مبتعدًا حتى اختفى خلف قائم من الأعشاب المائية؛ حملتُ إنائي عائدًا إلى المنزل. شعرتُ بارتياح لأنني لم أذهبْ معه إلى خليج باين، حيث يلقي عليَّ مرة أخرى تعليمات عن أفضل طريقة لوضع الطُّعم في صنارتي. أكره لمس الديدان بأجسامها المشحمة المرتجفة، وأنا أدفعها من إناء الطُّعم، وأكره غرسها في الخطافات الشائكة، متأكِّدًا من أنني وضعتُ كل دودة في الخطاف في موضعين على الأقل، بحيث لا تسقط سريعًا في المياه.
ساد البيت الصمت وأنا أدخله. غادره دافس مبكرًا في ذلك الصباح؛ لم أعرف إلى أين ذهب. وكان ذلك رائعًا. أحب أن أكون وحيدًا ولا أحد حولي يراني. في العام السابق كله، بدأتُ أدَّعي المرض أيام الدراسة لأبقى بمفردي في البيت. بمجرد أن يغادر أبي وأمي إلى العمل، أجلس ساعات على كنبة الطابق السفلي، ببطء ألتهم كعك القهوة التي أصنعها لنفسي من البسكويك والسكر الأسمر والسمن حتى أشعر أنني تحللتُ في النهاية — بلا اسم، مخدَّر، بلا قيود — في الصخب والضحك التافه في ألعاب استعراضية أشاهدها في التليفزيون.
لكن آنذاك كان على القيام بشيء مهم. ذهبتُ إلى غرفتي وتناولتُ دفتر اليوميات من درج خبأته فيه الليلة السابقة. كنتُ سعيدًا لأنه بدا أفضل كثيرًا في ضوء النهار؛ حتى فتاة الغلاف بدت أكثر تألُّقًا وابتهاجًا. حملتُه إلى أريكة الرواق الأمامي مع قلم رصاص وجدتُه في درج المطبخ. تصورتُ أنه إذا رآه أحد فسأدسه بسرعة تحت وسادة.
وحين جلستُ وفتحتُ دفتر اليوميات — كنتُ على استعداد لكتابة موضوعي الأول — صدمني خواء صفحاته البيضاء المسطرة. ماذا يفترض أن أكتب فيه؟ الشيء الوحيد الذي أستطيع التفكير فيه هو الغياب الغريب المؤلم لأمي، وكيف جلستُ في الصيف السابق بجوارها على الأريكة نفسها، نقرأ الكتاب المكثف «خلاصة القارئ» وقد وجدته في العلية، وهي تقلب أعدادًا قديمة من مجلات الموضة، وتتوقف أحيانًا لتعلق على زوج من الأحذية أو فستان شبه رسمي كانت معجبة به إعجابًا خاصًّا. وكان ذلك موضوعًا لا أستطيع وضعه في دفتر يومياتي. ماذا في ذلك؟ موضوع غبي … حالة منتهية.
فكرت في أنني ربما لو تناولت بعض الطعام فقد أشعر بسكينة. دخلتُ لآتي بقطعة خبز من رغيف رأيتُه على طاولة المطبخ. أكلتُ الخبز بسرعة وأنا أقف هناك؛ ثم أكلتُ شريحة أخرى، وأخرى، ثم شريحة أخرى. رأيتُ أنني أكلتُ كثيرًا من الخبز وقلقتْ لأن أبي قد ينزعج لأنني أكلتُ كثيرًا، لكن ذلك لم يجعلني أتوقف … وضعتُ شريحة على الطاولة وأخذتُ ألفُّها حتى تحولت إلى عجين من جديد، ثم أكلْتها أيضًا لأنها كانت أحلى بهذا الشكل، أقرب إلى الحلوى.
بمرور الوقت عدتُ إلى أريكة الرواق وشعرتُ بتبلد. قلتُ لنفسي يجب أن أتمدد، لأنني شعرتُ بإرهاق شديد إلى درجة لا أستطيع معها أن أكتب، حتى لو شعرتُ بشيء صعب وملحٍّ يتصارع في أعماقي، ويقول لي إنه ينبغي عليَّ أن أدوِّن على الأقل شيئًا على الورق، حتى لو كان شيئًا ابتدعتُه حيث إنني لستُ متأكِّدًا من قدرتي على التفكير في شيء حقيقي يمكن قوله. فتحتُ الدفتر لأحاول مرة أخرى، وشعرتُ أنني أسوأ بمجرد الإمساك به. ربما رميتُ نقودي بشرائه. ربما ارتكبتُ خطأً شنيعًا. ماذا إذا احتجتُ النقود لشيء آخر؟
عند ذلك سمعتُ دافس يعود إلى المنزل من الباب الخلفي، يضحك ويتحدث مع شخص لم أتعرف صوته. دسستُ دفتر اليوميات تحت إحدى وسائد الأريكة بصعوبة ودخلتُ إلى المنزل.
«بابا ينتظرك»، قال دافس حين دخلتُ المطبخ حيث يقف مع صديقه فرانك، ولد من أهل المكان قابله أثناء صيد السمك في الصيف السابق. بعد اللقاء الأول بينهما كانا يخرجان للتنزه عصر كل يوم تقريبًا، وكميات كبيرة من الطعام مربوطة في أحزمة عسكرية متبقية لديهما، وأذهب إلى المزادات الريفية في السيارة مع أمي، التي تحاول أن تضيف إلى مجموعتها من الزجاج المقطوع.
«أراك على خير»، همهم فرانك في اتجاهي وهما يغادران المكان.
كنتُ وحدي من جديد، ولم أكن متأكِّدًا مما أفعله مع نفسي. لا أريد العودة إلى دفتر يومياتي. لا أرغب في قراءة كتاب. وليس في المنزل شيء طيب للأكل سوى رغيف، أكلتُ منه كثيرًا بالفعل. أسفتُ لحظة لأنهما لم يطلبا مني الذهاب معهما.
وحينذاك قرَّرت أن أتبعهما في الطريق المتجه إلى خليج باين. في البداية لم أسمعهما أمامي ولا حتى حين توقفت في أول منطقة منزوعة الأشجار وسط الأعشاب المائية، حيث يتخلص الناس أحيانًا من إطاراتهم القديمة. وحين وصلتُ إلى المنطقة الثانية منزوعة الأشجار — ولاحظتُ أن شخصًا ترك سيارته القديمة فيها، عربة مُحطَّمة عتباتها صدئة تقريبًا — سمعتهما يضحكان. خطوت إلى الأعشاب المائية. ورأيتهما يجلسان متجاورين على حافة خليج باين يتبادلان الحديث وهما يخلعان حذاءيهما وجواربهما ويطويان أرجل البنطلونين الجينز الأزرق. سارا في الماء — لا يبدو أن برودته صدمتهما — وبدآ يخوضان باتجاه صخرة يجلس أبي عليها ليصطاد.
ثم رأيْتْ دافس وقد بدأ ينزلق على القاع الحجري الطحلبي للخليج، رأيتُ دوامات صغيرة من الماء الأبيض تضرب عند كاحليه، ونظرة هلع تبرز على وجهه. تساءلتُ إن كان فرانك يرى الهلع أيضًا.
فكرتُ لحظة أن أنادي لأحذر أخي، فجأة متذكِّرًا المرات التي لعبنا فيها هذه اللعبة معًا، مشيدين سدودًا صغيرة من أفرع الأشجار والغصون الصغيرة ونعود فيما بعد لندمرها.
لكنني ظللتُ صامتًا.
انزلق دافس؛ أمسك به فرانك. ضحك فرانك ورشَّه دافس بالماء. ثم بدآ يخوضان باتجاه أبينا، يمسك دافس كيس الغداء على رأسه بالطريقة التي يحمل بها الجندي بندقيته في المياه العميقة.
ابتعدتُ عن حافة الأعشاب المائية. وحين خرجتُ إلى الفضاء رأيتُ أبي يشاهدني.
لوَّح. لوحتُ، يدي نشطة فقد أثار البعوض تيارًا هوائيًّا مفاجئًا من بين الأعشاب المائية. ولم أذهب أبعد. لم أعرف إن كنتُ أُلَوِّحُ بيدي محيِّيًا أم مودِّعًا.
على أية حال، لم أستطع كتابة كلمة. ولا كلمة واحدة طوال الوقت.
لكن في معظم الأوقات كنتُ أجلس حتى ينتابني شعور شديد بالوحدة لا أتحمله. ثم أتجول إلى المخزن العام لأشتري عرق سوس أحمر وقِطَعًا من البسكويت، وأنا أعدُّ قطع العملة التي معي وأعيد عدَّها، قلقًا من أن تنفد مدخراتي بسرعة كبيرة؛ أو أمشي إلى قضبان السكة الحديد عبر المنصة الخشبية القديمة، مُحدِّقًا في أعماق أستطيع رؤيتها من خلال فجوات التقاطعات. حملتُ الدفتر معي، وقد طويته في نطاق البنطلون وغطَّيته بقميص المعسكرات الذي أرتديه. لكن الدفتر يُغيظني أحيانًا وأنا أمشي، وحين يحدث ذلك تسيطر عليَّ رغبة مفاجئة في إلقائه على القضبان، رغم أنها الرغبة تملؤني على الفور بالشعور بالخزي، وكأنني ضبطتُ نفسي أريد قتل شيء صغير لا حول له ولا قوة. ذات مرة وأنا عائد إلى البيت من تمشية جريتُ إلى مسز بورفيس، أرملة قابلتُها أنا وأمي في مزاد علني في الصيف السابق. دعتْني إلى منزلها حيث جلسنا في الرواق، نشرب شايًا بالسكر وتفرجني على سجل قديم ممتلئ بصور لها ولزوجها الراحل. حين وقفتُ لأنصرف قررتُ أن أفرِّجها على دفتر اليوميات، لكنني أخبرتُها بأنني وجدتُه للتو على قارعة الطريق. قالتْ وهي تتفحصه: «لا أعرف، يبدو جديدًا وفخمًا.»
وبالنسبة لأبي: عرفتُ أنه منزعج مني. في كل أصيل حين يعود إلى البيت من الصيد، يأتي إلى غرفتي ويقف في المدخل، كأن هناك ما يود قوله. لكنني أواصل القراءة، ممددًا على سريري، وبطانية من الصوف الخشن مطوية بإحكام تحت إبطي كما علَّمني. وبعد أن يستدير وينصرف أغلق الكتاب وأستمع له وهو يعبر المطبخ إلى الحوض. كنتُ أسمعه يفتح الحنفية وأسمع المياه تندفع وهو يبدأ تقطيع التروت الذي اصطاده في ذلك اليوم وتنظيفه.
وانتابه الغضب في عصر اليوم الرابع.
حين عدتُ إلى البيت من تمشية عند قضبان السكة الحديد وجدتُه في الفناء الخلفي يروي العُشب بخرطوم الحديقة، كما يفعل أحيانًا، ليعود بعد ذلك ويفتش عن الزواحف الليلية التي تظهر والتربة مُبللة.
قال بمجرد أن رآني: «أخبرني بما يحدث.»
«ماذا تعني؟» سألتُ منزعجًا من أن يكون قد وجد دفتر اليوميات بطريقة ما، حتى رغم شعوري بثقة أنه كان معي، مطويًّا في نطاق بنطلوني. وكان عليَّ أن أقاوم الرغبة المُلحة في أن ألمسه لأطمئن نفسي.
قال وهو ينظر إليَّ مباشرة: «لم تأتِ لتصطاد كما طلبتُ منك.»
قلتُ له: «لكنني ذاهب.»
قال: «بالتأكيد، متى؟»
«سوف أذهب.»
قال: «هذا ما تقوله.»
كنتُ أقف فقط، أُبدِّل بين قدميَّ. لو كان مثل أمي فربما صرفتُ انتباهه بأن أطلب منه أن يحكي لي قصصًا عن نفسه، لكن ذلك لا يُجدي معه نفعًا.
بمجرد انتهائي من تناول الطعام استأذنتُ. لم أتوقف عن التفكير في الدفتر. حتى رغم أنني أعرف أنني أعدتُه إلى الدرج في الثانية التي عدتُ فيها إلى المنزل، أريد التأكد من أنه هناك، بالطريقة نفسها التي كان على أمي أحيانًا أن تلف بها بالسيارة وتعود إلى البيت، قلقة من أن تكون تركتْ سيجارة مشتعلة وقد وقعتْ على السجادة.
كنتُ أحب صيد اليراعات؛ أحب جمعها في برطمانات بأغطية أزودها بثقوب لدخول الهواء. في الليل تصنع البرطمانات مجرَّات صغيرة مُشعة قد تموت في الصباح.
ذهبتُ إلى شجيرات زهر العسل في الفناء الجانبي، حيث ترفرف اليراعات بين الزهور البيضاء والصفراء العطرة؛ مددتُ يدي وانتزعتُ واحدة تحوم وتومض في الجو. ثم تذكرتُ حيلة أخبرتني بها فتاة في المدرسة. قالت إذا أخرجْتَ بطن اليراعة وألصقتها بإصبعك فيمكنك أن تصنع منها دبلة، لأن اليراعة حين تموت يستمر بطنها يومض.
لم أكن متأكدًا من قدرتي على القيام بذلك، لكنني أوليتُه كل انتباهي، في البداية نزعت الأجنحة من جسد اليراعة ثم وضعتُ بطنها، لا يزال يومض، في بنصري الأيسر. وحين نظرتُ بطرف عيني أدركتُ أن البطن المتألق لليراعة يبدو تقريبًا مثل سوليتير أصفر من الماس ورثته أمي بعد موت أمها. تساءلتُ: لكن من يرث السوليتير بعد موت أمي؟ لا يمكن أن يذهب إلى ولد أبدًا.
تطلعتُ ورأيتُ دافس لا يزال يقرأ تحت ضوء الرواق. سرتُ عبر الفناء باتجاهه محتفظًا بيدي اليمنى ثابتة قدر المستطاع.
«انظر»، قلتُ وأنا أفرِّجه على ما صنعتُ.
رفع عينيه عن مجلته لبرهة وحدَّق في إصبعي. قال: «ذلك غباء.»
قلتُ: «لا. إنه جميل.»
ثم سمعتُ باب الحاجز يُغلق بقوة وحين تطلعتُ، رأيتُ أبي يخرج من المطبخ إلى الرواق. بسرعة أدرتُ يدي، وسقط بطن اليراعة في العشب. للحظة رأيتُه ينطفئ مثل وهج عُقْبِ سيجارة.
سأل أبي: «ماذا تفعل؟»
«أقدم لليراعات شيئًا تأكله»، قلتُ له. لأثبت له، انحنيتُ وانتزعتُ حفنة من العشب لأضعها في أحد البرطمانات.
قال: «اعتقدتُ أيها الأولاد أنكم تحكون قصص أشباح. ذلك ما اعتدتُ أن أفعله أنا وأخي بعد حلول الظلام. هل سمعتم في أي وقت «كَفَّ القرد»؟ أحببْنا «كَفَّ القرد» دائمًا.»
قلتُ له: «رأيناه في التليفزيون.»
قال: «أوه.» ثم تقدم من الرواق إلى الظلام. قال لنا: «أريد منكم أيها الأولاد أن تساعدوني في البحث عن زواحف الليل.»
طلب من دافس الذهاب إلى الرواق الأمامي ليأتي بكشافات وعلبة قهوة مليئة بالقاذورات يحتفظ فيها بالطعم الحي. حين انصرف دافس، التفتَ إليَّ، وقال: «ربما لا تهتم بالمساعدة في هذا، حيث لا يبدو أنك تجد رغبة في نفسك لتأتي وتصطاد السمك، أقصد.»
«أريد أن أساعد»، أخبرتُه، رغم أن ذلك لم يكن صحيحًا. أكره البحث عن زواحف الليل. أكره أن أضعها في قبضتي، رَطِبة وملساء، أول ما تظهر من الأرض، وأكره الطريقة التي تُمزَّق بها إربًا إذا تعصبتُ واندفعت إليها بقوة شديدة أو بسرعة كبيرة.
عاد دافس من جانب المنزل حاملًا علبة الطعم وكشافين، يضعها في جيوب بنطلونه. وأضاء كشافًا ثالثًا كان يضعه تحت ذقنه وهو يمشي، بحيث بدا وجهه المضاء هزيلًا يشبه وجه الشبح. «أووووه»، يئن مثل شبح وهو يأتي باتجاهنا: «حصلْتَ على ثلاث أمنيات في كَفِّ القرد …»
قال أبي: «حسنًا، كفى. لنعملْ.»
للحظة وقفتُ بلا حراك، كأن كلمات دافس ألقت بروعة جعلتني ساكنًا. أعرف أمنيتي إذا مُنِحتْ لي أمنية واحدة: من فضلك أريد أن أبدو، حتى ولو لهذه الساعة، ابن أبي. عرفتُ أن الوقت أزف. عرفتُ أن عليَّ أن أرجوه.
وسمعتُ صوتي يتحدث، صوتًا مكتومًا، كأنه يأتي من بعيد. «سأبحث في السباخ.»
رأيتُ دهشة أبي مما قلتُ قدر دهشتي بالضبط. يعرف أنني أخاف من كوم السباخ. كان في أكثر أجزاء الفناء عتمة وبُعْدًا، قرب مجموعة أشجار تفصل منزلنا عن موقف الواجن ويل. قال دافس وفرانك لي ذات يوم إن الفئران تذهب لتأكل هناك وقد جذبتها نتانة التحلل؛ وقالا إن الثعابين السمراء تحب أن تعشش هناك بحثًا عن الدفء المنبعث من التحلل. لكن الزواحف الليلية أيضًا توجد هناك بكثرة. أعرف ذلك.
سأل أبي: «هل أنت متأكد؟»
قال دافس مشتكيًا: «ليس عدلًا. قال أبي إنه يريد أن نعمل هذا معًا.»
قلتُ لأبي: «نعم أنا متأكد.»
قال: «حسنًا.»
أعطاني كشَّافًا وبدأتُ أبتعد.
قال: «انتظر.» خلع كاب الصيد، الكاب الذي أضاف إليه ألسنة بخياطة اليد، ووضعه على رأسي. قال لي: «امشِ بهدوء. فتح عينك.»
عبرتُ الفناء وأنا أمشي بهدوء. فتَّحت عيني.
حين وصلتُ إلى السباخ تجاوزتُ سياجًا سلكيًّا يحيط به، وغطستْ قدماي حتى الكاحلين في أرضية طرية. وجَّهتُ ضوء الكشاف ذهابًا وجيئة عبر السطح. أينما سقط الضوء رأيتُ حركات صغيرة فجائية: عنكبوتًا من عناكب الخشب يكافح في زلال لزج يصقل قشرة بيضة؛ ديدانًا شاحبة تلتهم أوراقًا رطبة. ثم سمعتُ موسيقى، صوتًا واهيًا لأغنية تعزف في صندوق الموسيقى في الواجن ويل. الصعب ألا أفكر في أمي، ألا أتخيلها تجلس على البار بثوب صيفي أبيض تأكل إسباكتي وتمسك كأسًا من البيرة محلِّقةً. «أقدم زوجتي الجميلة»، يقول أبي دائمًا حين يقدمها لأصدقائه صيادي السمك: «أقدم زوجتي، ماريا الجميلة.»
تطلعتُ، على الناحية الأخرى من الفناء، أبي يمسك بكشاف لينير لدافس، وكان يجثو في محيط واسع من شعاعه. ينزل دافس يده باتجاه الأرض ويجذب أحد الزواحف الليلية.
أردتُ أن يراني أبي. جثوت في السباخ ومددت يدي لأجد فجأة زواحف ليلية كثيرة تظهر في وقت واحد من جحورها الهوائية، كأن خروجها استجابة لأمر واحد. وأنا على وشك أن ألمس واحدًا، مستعدًّا لالتقاطه من جحره، سقط شيء ما باتجاهي فجأة — ورقة شجرة؟ — سقطتْ على كتفي.
التفتُّ لأتطلع: ضربَتْ أجنحته وجهي. التصق، مهما يكن، بنسيج قميصي، محاولًا أن يُخلِّص نفسه. انتفضتُ ونهضتُ برهة لأراه مرة أخرى على ياقتي. شعرتُ بعنف حركاته وهلعه على حلقي يضرب ويضرب.
صرختُ: «ابعدْ عني!»
أتى أبي يجري وشعاع كشَّافه يلف بجنون في الظلام، كما في حالات الطوارئ.
توسلتُ إليه: «أبعدْه عني. أبعدْه!»
وجَّه الكشَّاف على ياقتي، حيث يكافح الكائن، وأجنحته الخضراء الشاحبة تضرب بعنف.
من خلال أشعة الكشَّاف رأيتُ أبي يتفحصني؛ رأيتُ كيف أبدو في عينيه.
قال: «عثة القمر.» مد يده إلى ياقتي والتقطها بأطراف أصابعه. فجأة بدت صغيرة وتافهة. ارتفعت وطارت مبتعدة.
قال: «ظننتُ أن ثعبانًا لدغك.»
قلتُ: «وأنا أيضًا. هذا ما اعتقدتُه أيضًا.» عرفنا نحن الاثنين أنني أكذب.
همهم: «ادخلْ.»
أطفأتُ كشافي وسرتُ عائدًا عبر الفناء. وأنا أمرُّ بدافس، هَمَسَ بشكل درامي: «أووووه، إنها لعنة كف القرد.»
لم أرد بكلمة. حين وصلتُ إلى الرواق لم ألتفت لأتطلع إلى أبي.
فتحتُ ببساطة الباب الخلفي ودخلتُ المطبخ، أجفلتُ من السطوع المفاجئ لنور السقف. حين تكيفت عيناي رأيته. رأيته هناك على طاولة المطبخ. دفتر يومياتي. وجده شخص ما وأخذه من خزانتي، وكان يستلقي هناك، يستلقي هناك ليس إلا، في الهواء الطلق، بجوار زجاجات الملح والفلفل.
جلستُ إلى طاولة المطبخ معظم وقت الصباح، كما لو كنتُ أُوَدِّعُ الدفتر. ولم أستطع الجلوس هناك إلى ما لا نهاية. هناك ما أفعله، شيء تخيلته في الليلة السابقة وأنا أستلقي يقظًا في غرفتي.
انتظرتُ حتى انتهيتُ من تناول الغداء. ثم كدَّست أطباقي في الحوض وذهبتُ إلى غرفة التخزين حيث يضع أبي بنادقنا الديزي بي بي بعيدًا عن متناول أيدينا مباشرة. أخذتُ بندقيتي وحملتها إلى أريكة في الرواق الأمامي. وبدأتُ تنظيفها، بالضبط كما علَّمني أبي، في البداية بقطعة تنظيف ببضع قطرات من الزيت الثقيل، ثم غرس القطعة مباشرة في الفوَّهة على الماسورة الطويلة لتنظيف الفتحة. حين قمتُ بذلك، فتحتُ أسطوانة صغيرة من الورق من طلقات بي بي وسكبتها في كفي؛ وضعتُ الطلقات ببطء في أنبوبة التعمير الضيقة المثبَّتة في قاعدة ماسورة البندقية.
حملتُ البندقية المشحونة إلى الممر باتجاه خليج باين، بعد المنطقة الأولى منزوعة الأشجار وخلال الأعشاب المائية. عند المنطقة الثانية منزوعة الأشجار توقفتُ. دفعتُ بقوة على رافعة التصويب ورفعتُ البندقية في وضع مستقيم، مصوبًا على العربة القديمة الخربة.
أطلقتُ النار. أصابت الطلقة الأولى الزجاج الأمامي للعربة. ضغطتُ الزناد مرة أخرى وأصابت الطلقة الثانية الزجاج، وحين رأيتُ أن هدفي كان صائبًا ورائعًا، شددتُ الزناد مرة بعد أخرى، حتى تحطَّم الزجاج الأمامي إلى شبكة فضية وتهشَّم ناثرًا أجزاءً صغيرة من الزجاج على لوحة العدَّادات. أحببتُ الطريقة التي بدا عليها. سِرتُ ناحية باب القيادة وأطلقتُ الرصاص على النوافذ أيضًا، ثم أطلقت الرصاص على اللوح الجانبي حتى تشقق وتحطَّم، وسِرتُ إلى الجانب الآخر وكررتُ كل ما قمتُ به من جديد. في النهاية، صوَّبتُ على حلية مُجنحة على الكبوت الصدئ. لكن لم أُصبها تمامًا.
ركنتُ البندقية وعدتُ إلى المنزل بيدين خاويتين. بمجرد وصولي إليه تناولتُ الدفتر من فوق طاولة المطبخ وعدتُ به إلى المنطقة منزوعة الأشجار. فتحتُ أحد أبواب العربة ووضعتُه في المقعد الأمامي، ثم تراجعتُ حتى وضعتُ فتاة الغلاف في مرمى البندقية. أطلقتُ النار عليها أيضًا مرة بعد أخرى حتى انطمس دفتر اليوميات وانفصل الغلاف البلاستيك عن الدعامة الكرتون، وتمزَّقت الصفحات البيضاء.
فيما بعد، تناولتُ العشاء مع دافس. سخنَّا علبًا أخرى من الرفيولي حيث نبَّهنا أبونا إلى أنه سيأتي متأخرًا، سيتوقف في الواجن ويل لتناول البيرة مع رفاقه. بعد العشاء، ذهبتُ إلى الغرفة الأمامية لأنتظر على الكنبة البالية. كنتُ شغوفًا بأن أحكي لأبي كيف مارستُ مهارة التصويب كما شجعني.
سمعتُه في الرواق قبل أن يدخل. من الطريقة التي قبض بها على باب الحاجز عرفتُ أنه غضبان. «أين أنت؟» نادى وهو يدخل المنزل. نادى باسمي.
انتابني الهلع. كانت الغرفة مظلمة، والوقت متأخرًا. قلتُ أخيرًا: «أنا هنا.»
فجأة كان أبي يقف في المدخل. «ماذا بحق الجحيم اعتقدْتَ أنك تفعل؟» ألحَّ. «ماذا بحق الجحيم جعلك تعتقد أنك تستطيع تدمير شيء ليس ملكك؟»
كنتُ أعرف ما كنتُ أعتقد أنني أفعله: كنتُ أحاول أن أرضيه. حتى الآن، وأنا أتطلع للماضي، أعتقد ذلك بصدق. لكن ماذا يمكن قوله حينذاك؟ كنتُ آمل أن أتحول إلى ابن قد يحظى بحبه؟
زاد صمتي من غضبه. جأر: «العربة اللعينة ليست ملكك!» قال إن العربة ملك شخص من عُمَّال الحانة في الواجن ويل. ليست عربة خردة. كانت تسير بشكل رائع. قال إنه كان يتناول البيرة ويعالج مهامه اللعينة حين جاء رجل لم يرَه من قبل وأخبره بما فعلتُ، كيف كنتُ عند الخليج أُطلِق الرصاص على العربة حتى دمرتُها. سأل: «وبحق الجحيم بمَ ترد؟»
رأيت أنه يحاول أن يهدأ حتى رغم اهتياجه. استمعتُ فقط إلى صراخه. بعد برهة، أنهك نفسه ووقف في النهاية صامتًا. حتى ذلك الوقت لم يكن قد لاحظ أن الغرفة التي يقف فيها مظلمة. مد يده وأشعل لمبة الطاولة.
سأل: «هل هناك ما يمكن أن تقوله لنفسك؟»
قلتُ: «لا.»
قال: «أريد منك أن تذهب مباشرة إلى السرير. وسأذهب وأفحص بنفسي.»
عرفتُ ما كان يقصده: كل ليلة في لمبر رن قبل أن نذهب أنا ودافس للنوم، نقف أمامه ليتفحص جسمينا بحثًا عن حشرات قد لا نلاحظها نحن.
كان يفك غطاء لمبة الطاولة بجوار الكنبة ويحني رأسي في قوس النور، ويفرق شعري بأصابعه ويتفحص فروة رأسي.
قال: «قف.»
وقفتُ. بدأتُ أخلع ملابسي كما أفعل كل ليلة: في البداية حذائي وجوربي، ثم بنطلوني، ثم قميصي، إلى أن أقف عاريًا. رفع لمبة الطاولة وحرَّكها إلى الخلف وإلى الأمام عبْر جسمي متفحصًا الصدر والظهر والساقين والفخذين. شعرْت بأنني على ما يرام وكأن ليس هناك شيء يتعلق بي لم يكن مرئيًّا له. شعرتُ بحرارة المصباح على جلدي.
فكرت: أكرهك. أكرهك، أكرهك.
بالرجوع إلى الوراء، لستُ متأكِّدًا من كنتُ أكره أكثر حينذاك، وأنا أقف هناك؛ أبي أم أمي أم نفسي. في تلك الليلة لم أعرف أن أبي سيموت فجأة بعد وقت قصير من فشل في الكبد، أو أن دافس سيوضح لي أنه لم يكن هو بل مسز بورفيس التي أخبرت أبي أنها رأت دفتر اليوميات معي، أو أبدأ حتى بشق الأنفس ما يصبح أسرار حياتي.
عرفتُ فقط حرارة اللمبة وهي تمر على جسدي العاري. فكرت: أكرهك. أكرهك، أكرهك. لم يعد لديَّ دفتر يوميات. لكن للمرة الأولى شعرتُ وكأنني أحتاج دفترًا بالفعل، احتياجًا حادًّا وغير مألوف في الوقت ذاته. لم أكن أحتاج أن أتكلم إلى أمي في غيابها؛ لم يكن الأمر أنني أردتُ فعل شيء. للمرة الأولى، أردتُ أن أُدوِّن شيئًا، شيئًا حقيقيًّا، حتى لو لم تكن لديَّ فكرة عن الكلمات التي أستخدمها ذات يوم في القيام بذلك.