رفاق الحرب
أحببتُ دائمًا الخسارة في المشاريع؛ أحببتُ تَحَمُّل مسئولية عملي. كنتُ ابنًا لأب يعمل في البحرية، في طفولتي انتقلتُ من موقع إلى موقع، واعتدتُ الانشغال بدون صحبة، بدرجة مدهشة من القناعة. كان إرنست الشخص الوحيد الذي قابلتُه في حياتي وكان أفضل مني في ذلك؛ كنتُ هاوي وحدة مقارنةً به.
ربما أصبحتُ أكثر شبهًا بإرنست. كانت حياتي فاتنة وأنا أجتهد لأكون مثله. أُعجبتُ به، وكان لأسباب كثيرة شخصًا يثير الإعجاب. بعد أن استقر بي المقام في بانكوك، اعتدتُ الكتابة إلى إرنست كل عام في الكريسماس. كتبتُ إليه ملخصات عما أفعله في العمل، ما يشغل زوجتي وأطفالي. لم يكتب إرنست قط إليَّ، لم يكتب قط إلى أحد. لماذا يثرثر على الورق من بعد آلاف الأميال شخص نادرًا ما يتكلم؟ من الصعب أن أتخيَّله يفعل شيئًا من هذا القبيل، لكنني أردتُ ذلك حتى لو عرفتُ الأفضل.
كنا في العشرينيات من العمر حين التقينا أول مرة. كانت بايدكس أول مكان أعمل فيه بعد تخرُّجي مباشرة في مدرسة الهندسة، بدأ إرنست قبلي ببضع سنوات. قال الفتى الذي استخدمني إنه سيضعني في مشروع مع الشركة، عبقري بالنسبة لشخص غير اجتماعي، هل وافقتُ؟ حين دخلتُ مكتبنا المشترك، رفع إرنست حاجبه وأومأ وبدا أنه ينظر من فوق كتفه. هزَّ يديه وعاد إلى ما كان يكتبه، وكانت نهاية اللقاء الأول بيننا.
لكنه كان يعشق العمل. بمجرد أن قيَّمني، أخذني عبر القاعة لأقابل الفني الذي يصمم الإلكترونيات لجهاز قياس الأبعاد بالليزر، جهاز يقيس المسافة من الطائرة إلى الأرض لقذف القنابل بدقة. اعتقد أنني لن أرى إلا جماله، وقد رأيتُ.
استُدعيت أنا وإرنست ذات يوم إلى مكتب داخلي كبير بستائر مُوحشة بشعة، وأخبرنا مدير المشروع بما يعرفه الجميع، أنظمة باديكس تجعل الطائرات تخرج عن مسارها في فيتنام، مكان لا تريدان بالتأكيد أن تضل فوقه. وسألنا أنا وإرنست عن رغبتنا في رؤية العالم. بعد وضع المعدات في مكانها، هل يجب وجود ممثلين فنيين للشركة؟ قال المدير: «لا نستطيع إرسال أشخاص متوسطين في مثل هذه المهام. نريد تقديم أفضل ما لدينا وهي مهمتكما.» عرفتُ أنه يتملقنا لنصدق أنها مكافأة لنا أن نُحَلِّقَ في منطقة حرب، لكني تُملِّقتُ تمامًا على أي حال. أمال رأسه وابتسم ابتسامة صغيرة ملتوية وهمهم، لماذا لا؟ لم تكن مسألة زهو، فيها رضًى شخصي بأن المواقف تسير بشكل سيئ كما توقع عمومًا.
لا أعرف ماذا قال إرنست لأسرته. كانت له أخت (تخرج في مسيرات تندد بالحرب، وقال إنها سخيفة دائمًا)، وأب وأم. كان أبوه يملك مؤسسة للتنظيف الجاف. ذلك كل ما عرفتُ. لم يكن يتصرف وكأنه في حاجة إلى أسرة أو يفهم سبب احتياج شخص إلى أسرة.
كانت سايجون صاخبة بالمرور، تفوح منها رائحة العوادم والأسفلت الساخن وشيء واهٍ ولطيف. لم أعرف كيف يشق السائق طريقه خلال التدفق المتهور للدرَّاجات والسيارات. لم أفهم أنها مدينة حقيقية، فيها طرق واسعة ومبانٍ حديثة ضخمة وقصور استعمارية فرنسية وردية، وهي في الوقت ذاته بازار ممتد يزخر بأناس في قُبَّعَات مخروطية من القشِّ يحملون أكياس الأرز على الأكتاف ويبيعون علب السجائر وثمارًا قرمزية.
«يبدو أنهم يشعرون بالبرد»، قال إرنست وهو يتطلع من النافذة. ترتدي كل النساء في الشارع بلوزاتٍ وقمصانًا بأكمام طويلة (من أجل الاحتشام، قال السائق) ولم يبدُ أنهن يعرقن أكثر، يقفن على أكوام من الآلات والموز وآنية من الحساء يتصاعد منها البخار. كل عناصر العالمين الأول والثالث معروضة على الرصيف للبيع، ولاعات بِك، زجاجات البيرة، قصب السكر. وسط فوضى المشاريع، كانت أوجه الباعة بعيدة ومغلقة. لم أعرف إن كانوا مستسلمين، أم مغتاظين، أم منهكين ليس إلا. جرى الأمر بسرعة كبيرة فلم أستطِع حتى أن أُخمن. بعض النساء جميلات جدًّا. بدا الرجال هزيلين بنظرة شرسة. لم أعرف ما حلَّ بالرجال.
وفرت لنا الحكومة مبيتًا في فندق قديم شاحب، ضخم مُرتب، في الخارج جندي يحرسه. في البهو مجموعة أرائك خشبية دقيقة مطلية بالأسود ومُطعمة باللآلئ، جلسنا عليها وانتظرنا مع أمتعتنا وكان شخص يتفحصنا. عبر الأرض الرخام، كان يزحف رجل طوى رِجل بنطلونه وكانت ساقه مقطوعة من الوِرك، يتوسل من كل من تصادف وجوده هناك. حين نقر على ركبتي أخرجتُ ربع دولار من جيبي لأُعطيه له. كانت إحدى عينيه لبنية وفارغة. حتى إرنست أعطاه عشرة سنتات.
لم تكن غرفتانا سيئتين جدًّا، بلوحات من الخيزران الهندي ونوافذ عليها شرائط على شكل حرف إكس لحفظها من الكسر. على سريري قطعة من الخشب لمواطن يُجدِّف في قارب تحت شجرة صفصاف. أين كانت تلك المملكة؟ استغرق الأمر حوالي عشر دقائق حتى لاحظتُ عدم وجود وسيلة للتبريد في الغرفة، لا توجد مروحة سقف، ولا ستائر مُسدلة، ولا كئوس ثلج في البار.
بداية من صباح اليوم الأول، عملنا في القاعدة الجوية ساعات طويلة جدًّا، وحين نعود إلى الفندق بعد حلول الظلام، أصعد وأستلقي على سريري وأستمع إلى ضجيج الشارع. كان بعضه ضجيجنا — قوات عسكرية ترافقنا وشاحنات وأصوات أمريكية صاخبة — وبعضه ضجيجهم، مقاطع حادة وعميقة. طرقتُ على باب إرنست لأرى إن كان يرغب في الخروج. قال من خلف الباب: «تقصد الآن؟» لم يكنْ شغوفًا بالخروج لكنه خرج على الفور. في البيت كان على هذا الوضع أيضًا.
عدنا بعد ذلك إلى بار الفندق، حيث تناولنا كئوسًا من البيرة مع بعض المدنيين الأمريكيين، كانوا أكبر وأغنى وتركناهم يتفاخرون أمامنا بما عرفوا. «المبدأ الأول: لا تثق في أحد. احفظه عن ظهر قلب.» نطق بهذا الدرس المُبْتَذَل كيميائي سيشغل مصانع الآيس كريم للقوات. «لكن المطاعم الفرنسية جيدة، أقول لكم أية مطاعم.» يحاول مهندس معماري له في البلاد وقت طويل، يتوق إلى مرافئ جديدة، يحاول أن يُحدِّثنا عن موتوسيكل ضخم اشتراه مقابل أغنية. وصف كل جزء في الموتوسيكل الهائل، من الأشياء القليلة التي ربما تشد اهتمام إرنست. أحسستُ ببعض البهجة من البيرة والحديث، وظَلَّ إرنست صامتًا، متجمدًا (أدركتُ فيما بعد) ازدراءً. في المصعد سألتُه إن كان قد قضى وقتًا طيبًا، فقال: «لا بالطبع. لستُ مغرمًا بالانتهازيين».
مسحتُ، كما اعتادت أمي أن تقول، الابتسامة عن وجهي. آنذاك رأيتُ ما رآه، كيف بدا الرجال جميعًا تافهين ومُنحلين، منتفخين ومتبجحين.
كانت هناك بارات كثيرة في الفنادق الأخرى، قضينا ليالينا الأولى في التنقل من بار إلى آخر. عثرت علينا النساء، وكانت وظيفة عليهن القيام بها. سألتنا مراهقتان جميلتان إن كانت المقاعد التي على طاولتنا محجوزة. «هل أنتم دائمًا بكل هذا الطول؟» قالت إحداهما لإرنست. كانت رقيقة، خصرها طويل وصوتها أجش. التقطتني الأكثر رقة وبساطة. كانت فتاتي لا تعرف إلا القليل من الإنجليزية، ولم يزعجني في تلك الليلة أن تضع قدميها الصغيرتين المرنتين على كتفي وعطرها يحاصرني من كل ناحية، ولم أستطع تتبع إلا القليل من كلماتها. ماذا تقول، هل قالت شيئًا؟ ولم أحب حتى، ليس حقًّا، بهجة اللذة التي وصلت إليها في غمرة ذلك، ولم أعد أرغب في البقاء بعد ذلك.
وأين كان إرنست؟ رأيته أخيرًا وفتاته تقوده إلى غرفة أخرى. على وجهه بسمة صغيرة بشعة. فكَّرتُ، رجل مثل بقية الرجال.
كان ينتظرني على السلَّم الداخلي في البناية حيث وفروا لنا الإقامة. سألتُ: «هل أنت على ما يرام؟»
قال: «أسرعْ. الوقت متأخر.»
قلتُ: «كيف كانت؟ هل أعجبتك؟»
لم يبالِ بالرد.
أخبرني شخص في وقت سابق من تلك الليلة، رجل كان بالغ السكر، بأنه يعرف أن إرنست في وكالة الاستخبارات المركزية. قال: «له تلك السحنة المروِّعة؛ تلك السحنة غير المعبِّرة. أعرفها في أي مكان.»
قضينا وقتًا طويلًا في المطار. تعرَّض سَمَعُ إرنست للأذى في الوطن نتيجة زئير المحركات، وكنتُ أضع واقيات للأذن مما أثار سخريته. رأى الجنود أيضًا أنني مُضحك. كنا نراقب الطائرات وهي تقلع ونركب مع الطيارين في الاختبارات. كل ما فحصناه يعمل بشكل جيد. قضينا وقتًا طويلًا في إعادة الفحص. كان إرنست منهجيًّا.
لم أشعر أبدًا براحة حقيقية في الصعود إلى تلك الطائرات. انتابني إحساس قوي بكتمان هذا الشعور. استقر الخوف في أعماقي بمجرد وصولنا. بعد وصولنا بأسبوع، انفجرت قنبلة في ملهى ليلي في البلدة في الجزء الذي نقيم فيه، مكان ذهبتُ إليه، كانت حوائطه من المرايا وصارت أكوامًا من النفاية الفضية. بدأت صديقتي في المدرسة الثانوية، بيتي، الكتابة إليَّ. قالت: «من فضلك حافظ على نفسك جيدًا يا توبي، كلنا في الوطن نفكر فيك.» وكنتُ أفكر في نفسي أيضًا.
كرهَنا طيارو القوات الجوية. كانوا مغرمين بحكي قصص مروِّعة قدر ما يستطيعون — عن جنود مشوَّهين لا يكفون عن الصراخ طوال رحلة العودة، وثعابين البامبو القاتلة في ركن الطيارة، وأطفال على دراجات يلقون حقائب مدرسية مشحونة في شاحنات أمريكية — وقالوا إننا ينبغي أن نتحدث إلى رجال المشاة إذا كنا نريد حقًّا سماع الكثير. قوات خاصة بقلادات الأذن، فتيات في الثامنة من العمر يغوين رجالًا ويوقعن بهم في كمائن، هل سمعنا عنهن؟ قلتُ: «يا يسوع. أيها المسيح المقدس.» اعتقدتُ أنهم يبالغون في الأمر من أجلي (لمَّا يكن ذلك من أكليشيهات الحرب بعد) لكن إرنست لم يجفل.
قال الطيار: «تعود الطائرات إلى هناك طلعة كل صباح، مبكرًا، في الوقت الذي تشتري فيه كرواسون لتتناول فطورك.»
قال مساعد الطيار: «لكننا نعشق طائراتنا. هل تعشق هذه الطائرة؟»
قال إرنست: «أعشقها حقًّا.»
نظر الطياران، كل منهما إلى الآخر، ونحن ننقضُّ على مقدمة الطائرة أولًا. حفظَنا حزاما مقعدينا فقط، مغروسين في بطنينا، من أن نُلقَى في ركن الطائرة. حتى إرنست صرخ: «اللعنة! أوه، اللعنة!»
كنا نرتفع بسرعة كبيرة، وتطوَّح رأسانا إلى الخلف، قامت الطائرة بدورة مرتجة تثير الغثيان واندفعت من جديد، لم تكف عن الانطلاق. صِحتُ: «كُفَّ عن هذا، الآن فورًا!» ويحتمل أن ذلك كان بتحريضهم عليَّ. اعتقدتُ أنهما في سبيلهما إلى قتلنا جميعًا، لماذا يفعلون ذلك؟ حاولتُ أن أَكُفَّ عن الصراخ «كُفَّ عن هذا». بدوتُ مثل مدرِّس للصف الأول. لكن لماذا لا يتوقفان؟
«هل استمتعتما بذلك؟» قال الطيار حين عُدنا إلى الاستواء مرة أخرى. «ألم يعملها أحد منكما على نفسه؟»
لم نفعلها. كان إرنست شاحبًا يتصبب عرقًا. قال: «رائع، رائع جدًّا.»
حسدتُه. على الجميع في فيتنام أن يمروا بعملية تقوية؛ حتى المدنيين الذين يعملون لدى المقاولين الأمريكيين تحدَّثوا عن مدى ضعفهم في البداية. لكن إرنست وصل بغلافه الخاص.
«هذان الرجلان مجنونان»، قال حين عدنا إلى الأرض، ونحن نتناول القهوة (كان يعتقد أنه مشروب يُهدئ) في أحد مطاعم القاعدة الجوية.
قلتُ: «لماذا أتينا إلى هنا؟ لم يكن ينبغي أن نأتي.»
اعتقدتُ أنه سيتكلم عن حرب دائرة. كنا نعمل في صناعة دفاعية، استمرَّت ولم نَبُح بأننا نؤمن بضرورة الحروب عمومًا. يمكنك ألا تسمح لأُناس معينين بالابتعاد عن أمور مُعينة. اعتقد إرنست أن العالم يتكون عمومًا من هؤلاء الناس، لكنه كان يكره الشيوعيين خاصة. لم يكن هناك من يقول له إن لديهم أفكارًا صحيحة. قال: «إنها أخبار سيئة.»
قال: «أردتُ أن أسافر. حين استخدمتني بادكس، قالوا إنني سأسافر.»
«هذا السفر؟»
قال: «لترى الناس.»
تسافر؟ أي ناس؟ تجوَّل حقًّا بالكاميرا، رقم خيالي معقد بعدسات إضافية، واستخدم مقياسًا للضوء. التقط غالبًا صورًا لمبانٍ، بقدر ما رأيتُ، مكتب البريد، دار الأوبرا، السفارة الأمريكية بالطوق الهائل من آنية الزهور. صمم مكتب البريد الرجلُ الذي صمم برج إيفل وكان سقفه مقوَّسًا بالغ الروعة. ثم ماذا؟
وكم فيتناميًّا تحدثتُ إليهم؟ كم محادثة أجريتها؟ كانت دائرة معارفي ضيقة بصورة لافتة. بقدر ما تحدثتُ إلى مومس تدعو نفسها مس مي، وعامل الفندق، ومتسول معوَّق يأتي يوميًّا إلى الفندق، بعينه الوحيدة المطموسة وتلعثمه.
وسط تلك الأيام الطويلة، تُقتُ إلى «بيتي»، وكنتُ أرتجف حين تكتب إليَّ، أحبطتْني رسائلها. رسائل لا تُذكِّرني فقط بزواجها بل بما لم أحبه فيها في البداية أيضًا. كانت رائعة لكنها سطحية وأحيانًا حمقاء بمعنى الكلمة. كذبتُ على نفسي حين كنا معًا — مقرِّرًا أنها تتمتع بذكاء خاص أو أنها أكثر حدة مما تكشف عنه لغتها — وأذهلني أن هذا هو الكذب الذي كان إرنست متحرِّرًا منه. بدت حياته في نظري حرة جدًّا ونظيفة جدًّا.
يستطيع وصف كل المحلات في صف من المحلات سار خلاله للتو. في الليل، ونحن عائدان إلى الفندق، يمنعني من دخول الطريق الخطأ والتوهان في شبكة من الشوارع المتشابهة. يعرف دائمًا اتجاه النهر أو المسافة بيننا وبين بناية كاتدرائية نوتردام. كان هنا أكثر مني، على ما اعتقدتُ.
لديه ثلاثة أطفال، ولد وبنتان. سألتُه عن حبهم للمدرسة. «يحبون المدرسة حين تكون هناك مدرسة.» قلَّدتُ في صمت الطلبة الشغوفين يرفعون أيديهم، لكنه لم يفهمني في البداية. يبدو أن أطفاله ممتازون، لم يندفعوا أبدًا في الإجابة، «لا يريدون الوقوع في خطأ، ولا يريدون أيضًا التباهي.» أبهجتني هذه الفكرة عن التصرف وذكرتُها لإرنست. جعلتْني أفكر في نفسي. كنتُ جبانًا ومتواضعًا بالنسبة لولد أمريكي، وكان ذلك يسبب الكثير من الفزع لأسرتي.
غاب «كان» عن الفندق بضعة أيام، فسألتُ رئيسه إن كان مريضًا. قال مدير وردية الصباح: «رحل.»
«هل هو بخير؟»
قال: «رحل.»
إرنست هو الذي أخبرني أنه سمع أنه ممن زرعوا قنبلة في تاكسي رينو عادي ملون بالأزرق والأصفر، انفجرتْ أمام فندق آخر ودمرت اللوبي وجزءًا من المخبز المجاور. قال إرنست: «كانت فوضى دموية هائلة. كان في اللوبي أناس كثر.»
عرفتُ ذلك اللوبي بأرضيته الفسيفساء. كان أجمل من فندقنا، يمكث فيه الزائرون من كبار الضباط أحيانًا. ذهبتُ إلى هناك للشرب. ربما قتلني «كان»، أراد أن يقتل رجالًا من أمثالي. «كان» الذي عرفْته.
قال إرنست: «استيقظ يا دورثي.»
كانت قصة قديمة لكنها جديدة بالنسبة لي. لم تكن لديَّ فكرة بالطبع عمَّا يؤمن به «كان» أو مدى إيمانه أو أن لديه قدرة على التضحية. بدا معتدلًا جدًّا ومَدنيًّا يستمتع بالعالم بسخرية. أفشى سر مجموعة «كان» شخص آخر (لم يكن هناك ما يدفع إلى أن هذه الخيانة تمت بالإكراه)، هكذا عرف إرنست القصة.
قال إرنست: «رحل «كان»، كأنه ميت.»
كانت لإرنست تعبيراته الخاصة، تختلف عن تعبيرات جندي. لم تكن كوميدية شنيعة (لا شيء عن الأشخاص الهشِّين)، أو باردة أو مداهِنة. ولم يكن على وشك أن يريحني.
أردتُ أن أكون مثل إرنست. كتبتُ إلى «بيتي» وأمي في الوطن: «أخذَنا الطيارون في جولة مفاجئة، قمنا بجولات صباح أمس. أمر رائع جدًّا. يمكن أن أقول لك!» اعتمدتُ على إرنست، ربما أكثر مما اعتمدتُ عليه في الوطن. كان لأمسية مع أي شخص آخر — فئات تقنية أخرى أو مقاولين من القطط السمان الذين استرخوا في البارات — قسوتها دائمًا. في البداية اعتقدتُ أنني في سبيلي إلى التحول في ذلك الاتجاه؛ أردتُ الحيوية مثل أي شخص. لكنني لستُ سكيرًا حقيقيًّا — بعض الناس ليسوا سكريين — وبمرور الوقت لم أعدْ أرغب في الخروج كل ليلة، مع كل ما كنا نقوم به. كانت لي طموحاتي، كنتُ رغم ذلك كتلة غير متشكَّلة. اخترتُ أن أكون مهندسًا، بمسطرة حاسبة، من ناحية لأنني لا أُحب عالم التجارة، حيث التباهي جزء من مبادئ السلوك. اهتممتُ نوعًا ما بأن أكون عبقريًّا (رغم معرفتي بأنني حصان أسود بالنسبة لهذه الفئة)، ليحترمني الناس ويتركوني لمناهجي الخاصة. أردتُ أن أكون مثل إرنست؛ أردتُ الثناء وركنًا خاصًّا بي، الاثنان معًا.
عملنا بكل جهدنا في تلك الأسابيع. استمرَّ تدفُّق المعلومات الجديدة، بيانات متناقضة، جلسنا إلى مكاتبنا نحاول حلها. سعدتُ بوجودي في الداخل، رغم انبهاري بالشوارع. امرأة ذات أسنان مجوفة تبيع مشروبًا أمريكيًّا مسروقًا ومعجون أسنان على قائم، ولد يُلَمِّعُ الأحذية يتوسل بنبرة أنفية لعوب، عجوز يسير بدرَّاجة محمَّلة بحقائب من الحبال بها بطيخ، يصيحون عليَّ لأشتري منهم، لأعطيهم نقودًا. لماذا كنتُ هناك إذا كنتُ أذهب فقط للتمشية في سمنة أجنبية شاهقة، طولي المُتْخَم الغافل؟ هل عرفتُ أنهم هناك، هل عرفتُ أين أنا، أين نقودي؟ خفتُ من هذا كله. وكان عندي المبرر لذلك.
بقينا في المكتب طوال الليل، نحاول فهم مقاييس وجداول وخرائط وكل ما لدينا من سجلات اللاسلكي. في لحظة اعتقدتُ أنني على وشك التوصُّل إلى إجابة، وبعد ثانية تُهتُ من جديد، دُختُ ولم أعد أفهم الأرقام. نخر إرنست، كما يفعل حين يركز. أصدر أصوات ليِّنة يصدرها الناس وهم نيام. كان أصفى المهندسين، الذين قابلتهم في حياتي، ذهنًا وينبغي أن يكون قادرًا على التوصُّل إلى هذا الخلل الدفين، إلى إبرة في كوم من القش، إذا كان هناك من يستطيع ذلك. كان خطأً بشريًّا، لا بُدَّ أن يكون قابلًا للحل بيد إنسان.
سمعنا في اليوم التالي أنهم سيرسلوننا إلى القاعدة الجوية في دا نانج لفحص المزيد من الطائرات. أرسلتُ إلى أمي رسالة طويلة مليئة بثرثرة غبية؛ حتى هي، ولم تكن تعرف الكثير، تعرف أن دا نانج منطقة منزوعة السلاح تقريبًا، وهو اسم تردد في التليفزيون وفي تقارير المعارك الثقيلة والخسائر الثقيلة.
قال إرنست: «سننتقل إلى منطقة مزعجة.»
قلتُ: «أليست مجرد مهمة مكتبية. لم يذكروا رحلات إضافية في بادكس.» لم نستطِع أن نشكو للجنود من حولنا، حيث كنا القطط المدللة في الحرب.
«إلى اللقاء سايجون»، قلتُ ونحن في المطار.
«أراك فيما بعد يا تمساح»، قال إرنست مخاطِبًا المدينة.
كانت دا نانج مدينة كبيرة أيضًا، كما تبيَّنَ، لكننا لم نكن فيها حقًّا. بيتنا الجديد في القاعدة الجوية، بعيدًا في طريق قذر قرب مطار ممتلئ بالغبار الأصفر، وعن بُعد سلسلة منخفضة وطويلة من الجبال. وفروا لنا الإقامة فيما يبدو أنها قرية من البنجالو الساحلية، أكواخ مكونة من طابقين مصفوفة على الطريق من الجانبين، مجموعة مبانٍ قليلة التكاليف.
جاء إرنست بحقيقة ونحن لا نزال نحمل أمتعتنا إلى غرفتينا. قال: «هذا المطار في دا نانج، إذا استطعْتَ إحصاء كل شيء، به حركة مرور أكثر مما في أي مطار في العالم.»
قلتُ: «بقعة كبيرة خاوية، شعبية جدًّا.» على صفيحة زبالة قرب كوخنا شخص ما كان يبيض بالرش «ليس بيتي، أَمُرُّ به فقط.»
لم نكن بالطبع في هذا الخراء معهم. كانت لدينا فكرة غامضة عن ذلك الخراء. حسنًا، يعرف العالم كله الآن، أليس كذلك، ما جعلْنا الجنود يقومون به. لا لم أرَ قط قرية من هذه القرى. حولنا مشهد طبيعي تفحَّم من القذف، وبذلتُ قصارى جهدي لأساعد طائراتنا على أن تُفَحِّمه، كان ذلك الجزء على ما يرام معي. صرتُ أكره رؤية الرجال يخرجون من القاعدة. يمكن دائمًا سماع المروحيات الطبية، فوق الرءوس، ترجع بالجرحى والموتى. أرسلناهم واقتلعناهم.
في السادسة من صباح اليوم التالي ونحن ذاهبان إلى مكتبنا، كان ينتظرنا في الخارج مُقدم في السطوع الضبابي. قال: «تطور جديد. قد يكون هناك سبب يجعل اثنين بارعين مثلكما يعثران على شيء.» وُجِد عامل فيتنامي في المطار حيث لا يُفترَض أن يكون. كان نائمًا تحت إحدى طائراتنا. ربما كان التخريب هو الإجابة هنا على اللغز الكبير. ربما كان شغل القرود مستمرًّا طوال الوقت.
غمرني إحساس بالارتياح — كانت الاستجابة الأولى لي — ليست غلطتي، ليست غلطتي قط. لم يسقط الطيارون لأنني غبي. قال المقدم نستمر في العمل أيضًا، سيستجوبون هذا الشخص ويخبروننا بما يتوصلون إليه من معلومات.
ومرَّ أسبوع ولم يقل أحد شيئًا. واصل إرنست العمل وكأن هذه المعلومة الجديدة لم تُكتشَفْ. اعتقدتُ أنه يريد فقط أن يشغل نفسه. سمعنا من عدد من الرجال المجندين حول المكتب أن الرجل الذي اعتقلوه اسمه شو نام، واسمه يعني العم الخامس. كان يُفترَض أنه عم السيدة التي أعدت الحساء. ربما كانوا جميعًا أقارب، لم نعرف.
اختفتْ أيضًا، ولم نستطِعْ لومها لأنها توارتْ. كان أسبوعًا مملًّا للغاية. حين عدتُ أنا وإرنست من المكتب في الليل، كنت أقفز من أي صخب، وكان الليل صاخبًا. إذا كان هذا الرجل نجح في الوصول إلى المطار، فمن الممكن أن يتتبعنا أي شخص. قال إرنست: «يستطيعون دائمًا.» احتقر قفزي. قال: «اهدأْ». فكرتُ، ليس للمرة الأولى، أن بادكس اختارت إرسالنا لأننا الشخصان غير المتزوجين. كنتُ وحيدًا جدًّا. لم أعرف أنني وحيدٌ إلى هذه الدرجة.
بحلول يوم الاثنين، رغم أننا لم نسمع شيئًا رسميًّا، أعطتنا الإشاعة بقدر ما احتجنا. لم يكن السجين متعاونًا. المقدم، الذي بعث بطياريه الممتازين في تلك الطائرات، لم يستطع أن يجعل السجين يُجيب وألقوا بالرجل من مروحية. رجل المارينز الذي حكى لنا القصة قدَّم النكتة السخيفة التي قدمها المارينز، «حصل على توصيلة مجانية إلى قريته، بسرعة.» بدأتُ أسعل حين سمعتُ هذا، خنقني الهلع، لم أعرف ماذا أفعل أمام الآخرين. صارت عينا إرنست خاويتين، افترضتُ أن الخبر سقط في بئر الظلام الذي كان في أعماق إرنست دائمًا.
لماذا صدمتنا هذه البشاعة؟ ألا نعرف أي حرب كانت هذه الحرب؟ عرفنا الآن. غضبتُ لأن رجل المارينز أخبرنا. سمعْتَ دائمًا أن أشياء معينة تبقى سرية. جئتُ مستشارًا، لا لأكون في الحرب. ثُرتُ على رجل المارينز وأنا أسعل.
واصلْنا العمل. فضَّل إرنست الاستغراق في العمل، وأردتُ التحصن في تلك الأجمة معه. نصح بحسابات جديدة، واصلنا العمل فيها معًا وكانت تقترح حلًّا جديدًا ميكانيكيًّا تمامًا. أراد إرنست النظر داخل الطائرة مرة أخرى. استغرق الأمر يومين لأجعل أحد الرجال يفك له نظام التوجيه الثابت؛ كل من كان يستطيع أن يفعل ذلك مشغول بإصلاح طائرة معطَّلة، ليس متسكِّعًا يُلبِّي لنا نزواتنا. حين وافق في النهاية رجل مرهَق بالعمل عاري الصدر، يرتدي شورتًا، تبعه إرنست إلى ركن الطائرة ووقفتُ في الخارج. كنتُ في وضع استعداد لأرفع صوتي بالاقتراحات، وكان الجو حارًّا رغم أنني كنتُ في حظيرة الطائرات. كنتُ على وشك العودة إلى المكتب حين خرج الاثنان.
سمعتُ نفسي أقول: «نؤدي عملنا فقط». كنا نحن الاثنين جامدين وبعيدين كما كنا دائمًا.
قلتُ: «الحقيقة اللعينة أن إرنست يتمتع بذكاء رهيب يفوق ذكاء أي شخص يعرف. إذا كان لدى المارينز إحساس لمنحوه مكافأة ضخمة، ضخمة على العمل الذي قام به.»
قال الرقيب: «تموت لتحصل على مكافأة». لم يكن يضحك.
إرنست، الذي لم يأكل طعام البحر، التقط لحم البقر المشوي الموضوع أمامه ولم ينظر. تساءل في غيظ كيف أن شخصًا ما اقتطع من الأركان ليوفِّر ثمن مسامير قلاووظ، كيف تجلَّت حقارة الجنس البشري مرة أخرى بسبب الزيف والرياء والكذب. كَرِهَ كل الخدمات العسكرية لهذا السبب، كَرِهَ كل مَن كانوا على الطاولة.
كان المُقدِّم يناقش جسد نادلة. ما مقدار الحساء الذي تحتاج إليه ليكبر ثدياها؟
فكَّرتُ في أننا إذا كنا توصَّلنا إلى العُطل قبل ذلك، فربما كان العم الخامس لا يزال على قيد الحياة. ماذا استغرق منا كل هذا الوقت؟ لم أتخلص من هذه الأفكار. لا أعرف أنها يمكن أن تنتابني.
«سوف يرسلوننا إلى الوطن الآن»، قلتُ لإرنست في نهاية المساء، ونحن نسير إلى صف الأكواخ التي نقيم في أحدها، وكان كل منا قد تناول قدرًا كبيرًا من البيرة.
«يرسلوننا ماذا؟» قال. لم يكن سمعه سليمًا قط.
قلت: «تَذْكَرَة عودة من بلاد العجائب هنا.»
لكن صوتي غرق في هَبَّةٍ رعدية. قلتُ: «ستُمطر الآن. أكره هذه البلاد.»
كانت هناك هبَّات أقوى، واحدة بعد الأخرى، ومضات من ضوء برتقالي، وحزمة ضوضاء تكسير وصفير — أي غبي كنتُ — أصوات صواريخ. لم تكن عاصفة. كنا في هجمة صاروخية لعينة. هبطت خطوط من اللهب في مكان ما خلفنا. نظرتُ خلفي إلى الأشجار المحترقة وجريتُ.
لم يجرِ إرنست معي. حين التفتُّ برأسي وجدتُه يقف ثابتًا تمامًا، شبح مدني أخرس في الظلام. إرنست! صحتُ فيه مناديًا، ثم عُدتُ في الليل الممتلئ بالدخان وقبضتُ على ذراعه وجذبتُه معي، تحركْ! أمامنا رجال آخرون يصيحون. كان أثقل من أن أجرَّه، أضخم مني بكثير. أردتُ أن أتركه، لم أرغب في أن أموت وأنا أساعده. ثم بدأ يجري، يبدو أنه تذكَّر فجأة.
اعتقدتُ أننا أصبحنا في مأمن بمجرد دخول البناية، وكانت محاطة بأكياس الرمل من جانب واحد. عرف إرنست على الأقل أن يرتدي سترته الواقية وخوذته على الفور. وجهه مشدود وخالٍ من التعبير. يفترض أن نذهب إلى خندق لكن بدا أن فكرة البقاء في مكاننا أفضل. نظرتُ حولي بحثًا عن غطاء وسحبتُ الملاءات فوقنا. فاحت رائحتنا معًا تحت ذلك الغطاء.
واصلتُ القول: «هل أنت بخير؟ هل أنت بخير؟»
قال: «أنا بخير.»
تساءلتُ إن كانت ألياف الملاءات سريعة الاشتعال. كل أعضائي تنبض، تضرب تحت الجلد. والآخر، الجسد الساكن الذي معي — جسد إرنست — يعلو ويهبط ليتنفس. بدا إرنست، في شحوبه وعرقه، مثل حيوان يُحدِّق، مثل دب ينتظر انتهاء هلعه متجهمًا.
أفزعني أن أراه بهذه الصورة. لم أعتقد قط من قبل أنه جدير بالشفقة، مثل الآخرين. لم أحتمل ذلك.
«هل أنت مستريح؟» قلتُ. أحاول أن أمزح.
قال: «أنا بخير.»
كان الناس يموتون طوال الوقت من حولنا، لا أعرف لماذا اعتقدتُ أننا أكثر أمانًا. بدوتُ أحمق، أكثر الناس سذاجة في البلاد. أحمق في حفرة مع دب.
لم يبتسم إرنست.
«ربما تأتي إيلا. هل تعتقد أنها ستأتي؟»
لم أكن سعيدًا بطرح هذه الأسئلة. لماذا لم يسألني إرنست؟ مَن في العالم كله فعل ما يمكن أن أعتمد عليه؟ قتل الجنود بعضهم البعض في حرب، ولم أمتعض.
هزَّ رأسه. دفعت خوذته الملاءات.
«هل لها آراء بشأن الحرب؟ هل تعرف شيئًا عن آرائها؟»
توقف الضجيج في الخارج. جلسنا في انتظار المزيد.
قلتُ: «بعد عشر سنوات مع شركة تسجيلات واحدة.»
كنتُ أتحدث إلى نفسي. ماذا توقعتُ؟ لم أكن الشخص الذي يعرف أن يتوقع أن يكون إرنست شخصًا مختلفًا.
كم كان هادئًا؟ لم أثق بالهدوء.
قال: «النقود.»
شعرتُ بانتصار صغير حين سمعتُ صوته. مدرِّبًا انتباهي على إرنست، محاولًا ثَقْب ثُقْبٍ في جدار صمته، أخرجني من نفسي قليلًا، وشعرتُ ببعض الارتياح. أظن أن إرنست لم يعرف هذا النوع من الارتياح قط. ولن يعرفه.
قلتُ: «صغيرة في العشرين.» فَرَدَّ إرنست نفسه ووقف في خوذته وصدرته، وأخذ يسير باتجاه غرفته.
قلتُ: «تغادر بهذه السرعة؟ تتركني في موضعي هنا؟»
همهم: «طابت ليلتك»، واستدار. لم أتوقع أن يكون مختلفًا. وغضبتُ لأنه لم يكن أكثر إنسانية. فقط مرة، هذه المرة الوحيدة، ألا يستطيع أن يحاول؟
مبكرًا في صباح اليوم التالي، وأول شعاع من الضوء ينفذ من النافذة، سمعتُ كلام إرنست، خلال الحائط. سواء كان يتحدث إلى نفسه أم يُصَلِّي. كان أي شيء ممكنًا. «… أنا بخير»، قال. كان هناك طنين خلفه. «سخونة رائعة وموسم المطر يبدأ، وهو لا يبرِّد الأشياء حقًّا.» كان يُسجِّل شريطًا. «الطعام ليس بالغ السوء. لا أكتب وقررتُ إرسال شريط. ربما كان عند سوزان كاسيت أو يمكنك شراء واحد لسماعه. يمكن أن نرسل شرائط ونرد بشرائط. في الليلة الماضية أخرجنا أشياءنا لأن صاروخًا سقط في منطقتنا. لديك العنوان. غني الآن. باي.»
ربما لم يكتب إلى عائلته منذ سنوات. من الحقائق القليلة المعروفة عنه أن لديه مشكلة في الكتابة، كان يخطئ بشكل فظيع في الهجاء وكانت جُمَلُهُ قصيرة دائمًا وتتسم بالطفولة. لا بُدَّ أنه ارتجف حتى العظام ليُرسل شريطًا … ليذكرهم، ليحتلوا موقعًا في ذاكرته كجمهور. ستسعد عائلته بالشريط وتفزع.
لم أعتقد أننا سنقضي هناك وقتًا كافيًا لأي شخص ليرد عليه، لكنهم أبقونا في دا نانج ثلاثة أسابيع أخرى. صارت طرق القاعدة موحلة حين سقطت الأمطار، وانزلقتُ في حفرة نتجت عن صاروخ وأُصيبت ساقي، القشة الأخيرة، على ما اعتقدتُ. تجادلنا أنا وإرنست كل ليلة، حين نكون وحدنا، عن الحرب. لم أكف حقًّا عن الخوف من الشيوعية — لا، كنتُ أكثر خوفًا، كنتُ أفزع حقًّا من كل شيء تقريبًا — لكنني توقفتُ عن رؤية القضية، اعتقدتُ أن القضية ضاعت. بتكلفة باهظة، باهظة. قلتُ إننا كنا ننشر الشر ولا نحتويه. «ماذا يعني ذلك؟» قال إرنست. تحدَّث عن الصين الحمراء والروس السوفيت، هل عرفتُ عدد من قتلهم ستالين في المعتقلات؟ اختفى سبعة ملايين في أربع سنوات من التطهير. قلتُ: «ما علاقة ذلك بالأمر؟» تجوَّلنا وتجوَّلنا. التزم (كما عرفتُ) بمبادئه. لم أقل شيئًا عن العم الخامس يهدئه. قال إنني عاطفي جدًّا. من الصعب أن أجادل مع شخص استبعد المشاعر. لا بُدَّ أنه اعتقد أنه كسب في كل مرة.
حين وصل مظروف إلى إرنست من والديه، انتظر حتى الليل ليُشغِّل الشريط، واستلقيتُ في سريري واستمعتُ إلى أصوات تأتي من الحائط. قالتْ أمه: «يا لها من مفاجأة مدهشة أن نسمع صوتك». قال أبوه: «يسعدني كثيرًا أنك تستمتع بعملك». قالتْ أخته: «صار الكلب بدينًا جدًّا». يمكن أن ترى أنهم مهتمون به جدًّا.
كلما سألتُ إرنست إن كان قد ردَّ عليهم، يهزُّ رأسه، لكنه شغَّل الشريط ليلة بعد أخرى. من خلال الحائط الرقيق، تعرَّفتُ على تتابع أصواتهم، طبقات الصوت المختلفة بالترتيب.
قبل العودة إلى الولايات، طِرنا إلى بانكوك أسبوعين للراحة والاستجمام. لم نعرف صاحب الفكرة، لكننا هبطنا في تايلاند في حالة ذهول. كم بدت المدينة لنا مزدهرة ورائعة. الشوارع حارة وكريهة الرائحة مثل شوارع فيتنام تمامًا، ربما أكثر حرارة، لكن رِقة الناس مُدهشة والجو مشمس. لم يكن هناك من يكرهنا بقدر ما عرفْنا. لم أتغلب على هذا الشعور. شعرتُ بالخفَّة والجنون فقط وأخذتُ أتجول.
كان لفندقنا حديقة صغيرة في الفناء، وكان إرنست يحب الجلوس في الخارج وشُرب قهوة التايلاندية المسكَّرة التي يصنعونها بلبن مركَّز. يقضي بضع ساعات يقرأ في «بانكوك بوست» و«هيرالد تريبيون». لم يكن مستعدًّا لتصوير أي معبد من المعابد المُذَهَّبة أو أطفال المدارس في زيهم، قال: «ليست هناك معطيات جديدة، لكنني كنتُ متوترًا، أريد أن أتجول.»
بالغتُ في الاهتمام بجُرحي البسيط المقزز فلم أرَ شابَّتين تايلانديتين قدمتا باتجاه أريكتي حتى قالتا: «هل أنت بخير؟ لا نعتقد أنك بخير.» ارتبكتُ لأنني ضُبِطتُ وأنا أُعري ساقي الغريبة المشعرة؛ كان سلوكي أسوأ هنا. قالتْ إحدى المرأتين: «أنت مصاب؟» لم يبدُ أنهما عاهرتان، كانتا ترتديان ملابس تشبه ملابس عاملتين في مكتب، بلوزتين بسيطتين مجعدتين وتنورتين ضيقتين.
قالت إحداهما: «نحن ممرضتان. هل توافق أن نُلقي نظرة؟ لن نؤذيك.»
رفعتا الضمادة وظهر عليهما الامتعاض وهمهمتا، يا له من مأزق. كانتا واثقتين تمامًا بأن عليهما أن تعودا بي إلى المستشفى التي تركتاها للتو. قالتا: «لن تزعجنا. لا بأس. ركبتُ تُكتُك بجوار بشرتهما الرقيقة وابتسامتهما. إحداهما اسمها بوا، فتاة جاءت من الشمال لتدرس هنا، والأخرى اسمها تون، تعيش في ثانون ويسوت كاسات مع أسرتها وأصبحت زوجتي بعد ذلك.»
في الطريق إلى المستشفى، حين ألقيت نظرة أفضل إلى تون، فكَّرتُ في روعة اليوم الذي أعيشه. اعتقدتُ أن المرأتين ستوصلانني فقط إلى المستشفى، لكن على الأقل كان لديَّ انطباع تركته تون، مثل أمنية طيبة لعلاقاتي المستقبلية في الولايات. رغم أنني لم أرَها إلا وهي تمرُّ بي، أحبها حتى الموت. غنينا ذلك في المدرسة. كانت لديَّ فكرة مسافر بأن شيئًا زائلًا يباركني.
جعلني ذلك أكثر تعقيدًا. اعتقد أفراد أسرتي أنني مجنون حين أعود إلى أمريكا لأتخلَّى عن وظيفتي وأستدير لأعود إلى بانكوك. اعتقدوا أن الحرب فعلتْ فيَّ شيئًا، وقد فعلتْ. ألم تحاول صديقتي الرائعة بيتى أن تجعلني أستقر، لكنني كنتُ «السيد بارد جدًّا»، «السيد لا تأسرني»؟ لكنني كنتُ أريد أن آوى إلى عشٍّ.
كان صحيحًا أن فيتنام حرَّكتني باتجاه تون. يمكن أن يجعلك الخوف المستمر ترى العيوب الحقيقية للاستمرار وحيدًا في الحياة. رغم أإنني لن أنصح إرنست بشكل خاص بأن يأخذ عني هذا الدرس. قال: «إذا كان ذلك ما تريد»، حين حدثتُه عن الخطوبة، وكان رأيه حسنًا في تون أيضًا.
لم يكن زواجي وحياتي في قارة أخرى أنشودة رعوية بالطبع. كان فيها هضابها ووديانها. وتَّرتْنا مشاكل وظيفتي وكانت لنا مشاكل مع ابننا. في فترة من أسوأ فترات حياتي، كنتُ أتردد على مُعالِج، فتًى رائع من شيكاغو، وتصادف أن قال إنني شخص انعزالي بشكل غير عادي، مما جعلني أتساءل إن كنتُ مثل إرنست رغم كل شيء. استغرقتُ بعض الوقت في شرح شخصية إرنست للمعالج (على حسابي) وقال لي إن إرنست، بقدر ما يستطيع أن يقول لي، يبدو مثل شخص مُصاب بمتلازمة اسبرجر. اختلال عصبي بيولوجي، مثل الإصابة بداء التوحد. لعل شعبي عانى منه. قلتُ: «حسنًا، هناك أنواع كثيرة من الطرق نعبِّر بها عن إنسانيتنا، أليس كذلك؟» تساءلتُ كيف يشعر إرنست إذا عرف أن لشخصيته سببًا ماديًّا، ربما سيتحدى، رغم تفضيله العالم القابل للقياس.
هناك من يقولون إن أينشتاين كان مصابًا بمتلازمة اسبرجر. لستُ متأكدًا من أنني ما زلتُ أؤمن بالعباقرة، بالأنواع الأعلى من عمالقة العقل، لكنني أعتقد أن إرنست ربما كان نابغة. في أيامنا الأخيرة في فيتنام، كتبنا تقارير عن المسامير القلاووظ موضع الخلل (يعرف الرب ما آلت إليه هذه التقارير)، وكتب إرنست بضعة أسطر من التقريع بحروف كبيرة ضد احتيال المُصَنِّعين: رُخْصٌ مميت، طمع يقتل. بادكس التي اشترت المسامير القلاووظ لرُخصها لا يجب أن تُمتدَح. يا لها من حياة يعيشها إرنست، حياة نقية لا تشوبها شائبة، بطريقته.
أقمتُ عرسًا رائعًا جدًّا في بانكوك، لم يكن كبيرًا لكنه كان أنيقًا وجميلًا، بعثتُ بمجموعة من الصور إلى إرنست، الذي عاد إلى بادكس في فينكس. لا أعرف إن كان قد استلمها، لأنه لم يرد بكلمة، اخترتُ صورًا بدت فيها تون مدهشة بشكل خاص، ولم أبدُ فيها بشكل مضحك جدًّا. لم يكن ليحسدني، عرفتُ ذلك، لكنني أردتُ أن يرى.
«انظر إلى الأمريكي الطائش»، كتبتُ. ماذا يفعل هذا الرضيع؟ ربما فكر في ذلك إرنست وهو يتطلع إلى الصور، يتطلع إليَّ مُحاطًا بغرباء مبتسمين كانوا أقاربي بالزواج، بالحركة غير المسموعة والجميع يتحدثون. تخيَّلته يهز رأسه على الفوضى الملوِّثة لمستقبل كنتُ أُصِرُّ على أنني أريده. كم كان عنيدًا. دائمًا حين أفكر فيه يسيطر على نوع من الحسد. رغم كل شيء، هذا ما حدث.