جميلة
بعد موت خديجة بقليل، أحضر لي مامادو كيسًا من اليوسفي من بستان أبيه. لم أكن في حالة مزاجية تمكِّنني من أن أكون مع الورودوجو بعد ما حدث، وكل صباح والعائلات تشرع في الذهاب إلى حقولهم، تحييني زوجة أو زوج وأنا أجلس على مقعدي. يسألون: «ألن تذهب معنا اليوم إلى الحقل يا أداما؟» فألوِّح لهم بيدي، وأبقى مكاني، وأقول: «جكواديو»، ملاريا.
كان رائعًا أن أكون وحدي في القرية في تلك الأيام، ذهب الجميع إلى الحقول لكن بضع عجائز متفرقات يملن إلى مواقد العائلات. آكل اليوسفي وأشاهد السحب تنطلق عبر السماء.
توقفت الفتاة في طريقها، واندهشت لرؤيتي. لم أكن من قبل وحيدًا في القرية بهذه الطريقة: في النهار، حين لا يكون في القرية إلا النساء. طويلة ونحيلة، وقِطَع عُملة استعمارية قديمة في عقد معلَّق على ترقوتها وخيوط من خرز الكهرمان تتدلى من أذنيها الطويلتين. حول شفتيها وشم بالحبر الأسود، وشعرها على شكل ضفائر محكمة، مصفوف فيها قطع من العملة. عرفتُها بالطبع: جميلة، ابنة غير متزوجة لأب من البيول. تُعتبر جميلة أينما حلت.
قلتُ لها: «أعرف اسمك.»
«لا أتحدث الورودوجو أيها الرجل الأبيض»، ردَّتْ عليَّ بسلاسة بتلك اللغة.
«ج-ميل-لا»، قلتُ، تدحرجت المقاطع على لساني مثل أغنية.
«مَنْ أنت لتنطق باسمي، أنت فلَّاح قذر من الورودوجو. أليست أظافر أصابعك مُغطَّاة بالتربة والروث؟ ألا تعرف أنني من البيول؟»
«لستُ من الورودوجو»، قلتُ لها فابتسمت ابتسامة عريضة، «واسمك معروف في القرية كلها، رائع كالقمر والنجوم.»
«سأخبر أبي!»
«سأخبره بنفسي.»
«أخبرْه إذن، ولن يهمني شيء.»
«سآتي الليلة.»
«سأختبئ في كوخي.»
«ستسمعين صوتي.»
«سأسد أذني بالقطن.»
«ستعرفين بقلبك أنني أتيتُ.»
«سأمزق قلبي، وأُقدِّمُه طعامًا للكلاب.»
«سأُدلل تلك الكلاب لأنها أكلتْ قلبك.»
«ستعضك تلك الكلاب، لأن قلبي في أعماقها.»
«جميلة، أنزلي لَبَنَكِ. تعالي إلى كوخي. أريد أن أُريك صورًا من بلادي. أريد أن أُريك صورة أمي.»
«هل لديك صور تعرضها عليها؟ اعرضها على أبي. سوف ترى ما يقول. ولن تدحرج اليوسفي إليَّ مثل قرد من الورودوجو.»
«ومن ثَم لن تلتقطيها.»
تطلعتْ جميلة إلى الثمرة في يدها، كأنها تفهم ما تعنيه. على سبيل المثال، اعتقدتُ أنها ستُلقي بها إليَّ، لكن بدلًا من ذلك وارتْها في دثارها. قالتْ، وهي تستدير وتنصرف: «يحب أبي أكلها، ثم ماذا؟»
تناثر في الهواء الذعرُ الذي انتابني. وقفتُ وهي تتراجع، وقفت في دثار الصباح، مكشوف الصدر، وشعرتُ بحيوية مفاجئة. اقتربت عجوز محنية — أُمُّ الطبيب الساحر — تهش بطة عن المُجمَّع الذي تُقيم فيه بقطعة قماش زرقاء مربوطة في عصا، وهو ما اعتادت العجوز أن تهش به البط، رأتْني، وجميلة المنصرفة، فهمتْ شيئًا، واعتدلتْ. «أداما! ادخلْ كوخك»، وكزتني في ضلوعي بالعصا. «كونك أبيض أمر سيئ بما فيه الكفاية. لكنك مُشعِر أيضًا! غطِّ! إذا رأتْ جميلة بشاعتك فقد لا تتزوجك.»
كنتُ أجلس بعد العشاء عادة مع مامادو تحت شجرة مانجو تمتلكها أمه، حيث أكلْنا، وتحدثنا عن الحياة إلى وقت متأخِّر من الليل. كابن ثالث، لم يكن لمامادو أي خيارات أخرى إلا البقاء في القرية ومساعدة أبيه في العمل في الحقول. لكن أحلامه كانت عريضة: يريد الذهاب إلى أبيدجان للعمل في المجال الذي يعمل فيه أخواه. يريد أن يمتلك فانلة نادي أياكس لكرة القدم وحذاءً جلديًّا وتليفونًا محمولًا، وعربة في يوم من الأيام. حاولتُ مَدْحَ مُتَع الحياة التقليدية الشريفة في قريته، فلم يسمع. تناديه أضواء أبيدجان، ثم فرنسا وأمريكا.
«سأعمل في مصنع ملابس مثل أخي، سأعتني بحقل كبير لرجل غني. أبعث ببعض النقود إلى أبي هنا، وأدخر الباقي، أفتح كُشكًا وأبيع أومليت ونسكافيه. أشتري ستريو ليسمع زبائني الموسيقى. تزورني، وأزورك في شيكاغو، في أمريكا. نكون حينذاك رجالًا كبارًا. آخذك في سيارتي، ستروين …»
«أتمشَّى. أُحيي بعض الناس»، قلتُ بصورة مُبهَمة ولوَّحت في الظلام.
«سآتي معك …»
«ابقَ هنا. اقضِ بعض الوقت مع أسفارك. ألم تُرزق في هذا الوقت بطفل آخر على أي حال؟»
«أداما، أين تذهب؟ لماذا تذهب؟ أداما، هل تشعر بأنك على غير ما يرام؟»
«على غير ما يرام؟»
«تتصرف بشكل غريب. وحين تتصرف بشكل غريب فذلك يعني أنك معتل. سأعاني من مشاكل مع الريس. أخبرني إلى أين تذهب في مثل هذا الوقت المتأخر. إذا لم تخبرني فسأتبعك.»
«ذاهب لأُحيي بوكاري.»
«بوكاري؟ البيول؟» قال وهزَّ رأسه. «الوقت الوحيد الذي نحيِّي فيه البيول حين نشتري اللبن أو اللحم. هل تريد أن تأكل لحمًا يا أداما؟ سأطلب من أبي أن يبعث إليهم ببعض اليام ونأكل لحمًا في الغد.»
«أريد لبنًا ولحمًا يا مامادو»، قلتُ بصوت منخفض.
«سنبعث في طلب الاثنين.»
«لا يمكن شراء هذا اللبن وهذا اللحم باليام.»
«لبن ولحم لا يمكن شراؤهما باليام؟ أداما، لماذا تتكلم بالألغاز؟ القمر ليس مكتملًا. لماذا تتصرف بهذه الطريقة المحيرة؟»
«أستمع إليك كل ليلة أيها الأخ الصغير. ألم يخطر ببالك أبدًا أنني قد تكون لديَّ بضعة أحلام خاصة بي؟»
«أحلام يا أداما؟»
«رغبات. إنني ذاهب لرؤية جميلة.»
رفع مامادو حاجبيه، ثم ابتسم ابتسامة عريضة وحكَّ ركبتيه. «اعتقدتُ أنك معتل أيها الرجل الأبيض. لكنك لسْتَ معتلًّا. أنت كبش. يتحول كثير من الرجال إلى كباش حين يرون جميلة. اذهبْ وجرِّبْ حظك. بسرعة ستكون صديقي مرة أخرى.»
جلستُ مع بوكاري وقتًا طويلًا والهلال يشق طريقه عبر السماء. تحدَّثتُ عن شيكاغو، عن الجليد؛ طلب أن يعرف كيفية تربية الماشية هناك. من الكوخ المعتم خلفنا، سمعتُ قهقهة من حين لآخر. ذات مرة سمعتُ صفعة وصوت طفل يصرخ معترضًا. وعاد الهدوء مرة أخرى.
قلتُ له: «أود أن أعرف الماشية كما أعرف الزراعة. إذا دعوْتَني، فسآتي وأزور قطعانكم.»
«أوه يا أداما، هذا شيء طيب. لكن ماذا عن الورودوجو الذين تعيش بينهم؟ ألن يشعروا بالغيرة لأن رجلهم الأبيض يشرب شايًا مع أحد البيول؟»
«حصلتُ على الكثير من الورودوجو. الكثير جدًّا من الجن. حفْرٌ كثيرٌ جدًّا في التربة مثل الخُلْد.»
«آه يا أداما، شيء طيب. تعالَ غدًا قبل شروق الشمس لنأخذ الماشية للرعي.»
في مجمع بوكاري، كانت جميلة تطحن الحبوب وأخواتها الأصغر يُشعلن النيران. احمرَّ وجهُها خجلًا حين رأتني، وسقطت يد الهاون في القذارة، أسرعت إلى داخل الكوخ، وأغلقت الباب. جلست أخواتها على مقاعدهن ووارين وجوههن بأيديهن. اهتزت أكتافهن وهُنَّ يقاومن الضحك، شهقن وأُصِبْنَ بغصة، ورنت قِطَع العُمْلة في شعورهن مثل مجموعة أجراس. بوكاري على حصيرته يُصلِّي. البيول مسلمون حقًّا، بينما الورودوجو يؤمنون به. يُصلِّي بوكاري بالعربية.
حين انتهى من صلاته، جلس لحظة يتطلع إلى سماء الصباح، ثم نهض مبتسمًا وأخذ يدي في يديه. وجهه صافٍ ومُنشرح خلف لحيته، كان في طولي، لكنه أكثر نحافة. قال: «أداما، جئْتَ مبكرًا جدًّا. مثل ابن. في هذا الوقت يأتي الأبناء إلى آبائهم في مالي.»
تبعنا الأبقار لأميال إلى حيث تتحول الغابة إلى سافانا كثيفة، وجلسنا وتحدثنا من وقت لآخر على العشب والقطيع يرعى، ونمنا أحيانًا، فقط لنستيقظ على مئات من الرءوس تخور بهدوء عن بُعد مثل الجاموس الوحشي مستريحة في هذا العالم. حدثني بوكاري عن الله، عن أن كل نعم حياته — أبقاره وبناته — جاءته من الرب، وطلبتُ منه أن يقول لي بعض الكلمات البيولية، دوَّنتُها صوتيًّا بحروف رومانية في المفكرة التي أحضرتُها. بالنسبة للغداء، تسلَّقتُ شجرة جوافة برية وجعل رداءه على شكل سلة لالتقاط الثمار التي أُسقطها إليه، وبعد ذلك ثنى بوكاري أوراق زنبق الماء من بِركة إلى أكواب واسعة وحلب البقر فيها، وشربنا السائل الساخن، السميك مثل الكريم، مثل الأمراء. حين عبرت الماشية جدولًا، خضنا معها. حين وصلتْ إلى حقل أرز للورودوجو، جرى بوكاري إلى الأمام وأبعدها عن المحصول الذهبي بالصفير والطقطقة. لم يضربها أو يؤذيها إطلاقًا. أطفاله، ويعرف أسماءها جميعًا. كان يومًا طويلًا ومرهِقًا، لذيذًا في المشي، وحين بدأت الشمس تغرب، استدارت الماشية كأنها تستدير بالغريزة. بحلول المساء، كانت الغابة جدارًا مظلمًا أمامنا مرة أخرى في الوادي، وكنتُ أُصفِّر لها وأُطقطق أيضًا، وأُربت على مؤخراتها العالية كأنها أصدقاء قدامى. امتلأت مفكرتي بكلمات من لغة البيول: شمس وقمر وعُشب وماء ونجوم. دخلت الماشية الزريبة، تخور كأنها سعيدة بالعودة إلى البيت، وحين فكَّ بوكاري العجول، اندفعتْ إلى أمهاتها، وجدتْ حلماتها، وبدأت ترضع بنهمٍ.
«الآن نُصَلِّي لله يا أداما»، قال بوكاري، ونظَّف جزءًا في الزريبة بأداة مثل أداة مَسْح الأسمنت المبلول. أخذ يدي وجعلني أركع على ركبتي. «هكذا يا أداما. اتبعني»، قال، وانحنى خشوعًا باتجاه الأرض، ولمستها جبهته. نطق بكلمات عربية، عرفتُها أيضًا لأنني سمعت الورودوجو ينطقونها يوميًّا. مع الورودوجو، كانت الكلمات مُلْتَفَّة ومُبهَمة. وكان بوكاري يعرف الكلمات بنُطْقها الصحيح.
«أنت الآن يا أداما»، قال بوكاري، وهو يجلس على كعبيه ويبتسم لي. خفضتُ جبهتي إلى القذارة، هدَّأتني برودتها وليونتها. كانت اللغة العربية كالغناء. شعرتُ بالسعادة حين نهضتُ مرة أخرى.
أمسك بوكاري يدي في طريق العودة إلى مجمعه، وشعرتُ بأنني قريب منه. كان العشاء الذي أعدَّتْه النساء في الانتظار— توه الحبوب وحساء الفول السوداني — وجميلة تجلس على مقعد قريب وتبتسم في الليل. كان شيء ما يحدث. ضغط بوكاري على يدي وقال: «طوال اليوم معي. مثل ابن.»
جاء مامادو ووجدني خارج كوخي في تلك الليلة. جلسنا على مقعدين ودخنَّا سجائر واستمتعنا بالنجوم، آخر جزء من القمر. قال: «إيه، أداما؟ كيف كان يومك مع البيول؟»
«كان يومي رائعًا.»
«آه، هذا طيب. وهل حققْتَ تقدمًا مع جميلة؟»
«ربما»، قلتُ وهززتُ كتفي.
كان هادئًا بعض الوقت، يُفكر. كان مساءً باردًا وعند مدفأة الدكتور الساحر، تجمَّع أبناؤه حول النار يقاومون الإحساس بالبرودة، والنيران تنتصب بين أشباحهم. ثم قال مامادو، وكأنه يستسلم: «وهكذا أنت فلا شي الآن. ذلك على ما سوف يكون. هذا كما يقول الأسلاف: «حيث يكثر الطعام يتجول الكلب. وحين يشعر بألم الجوع يزحف إلى النار خافضًا ذيله».»
«تغار من البيول.»
«أغار؟ لا يا أداما. إنه مجرد مَثَل. جميل أن تستخدم الأمثال. جميل أن تتحدث وتجعل قلوبنا تعرف. أداما، ما يزعجك في هذه الأيام الأخيرة؟»
لم أرغب في قول شيء، لأُواصل كما كنا جميعًا وكأن شيئًا لم يحدث. لكن شيئًا ما حدث، وكنتُ مرهقًا من حمله. «لا أحب ما حدث لزوجة بيبي.»
«لم يحب أحد هنا ذلك.»
«لماذا لم تتركها القرية تعود إلى أمها؟»
تطلع مامادو إلى يديه. قال: «خديجة قتلت طفلها. هل نملك شيئًا نفيسًا سوى الأطفال؟ انتهت حياتها حين اختفى طفلها. حتى أمها قد تسممها. أداما، هل يمكن أن أحكي لك قصة؟ قصتين.»
حكى مامادو لي مئات القصص في السنة الأخيرة، وعشرات الأمثال.
في موسم من مواسم الجفاف ووالد أبي شاب، ذهب ثلاثة أولاد إلى الغابة ووجدوا خلية نحل في جذع شجرة. فكَّروا لحظة في العودة إلى القرية وإخبار جامع العسل، لكنهم قرَّروا غرس عصي في الخلية. جرى الولدان الأول والثاني إلى الأمام ووضعا عصويهما في جذع الشجرة، وتراجعا سريعًا إلى الطريق. وكان دور الولد الثالث. أفقده صوت النحل شجاعته، لكن الاثنين الآخرين ضايقاه، فجرى إلى الأمام بعصاه ووضعها في الخلية فانطلق النحل في سرب أسود غاضب.
«جروا خلال الغابة. إذا كانوا ينتعلون صنادل فقد فقدوها. جروا بسرعة ربما جعلت حتى ملابسهم تسقط من على أجسامهم. انطلق النحل خلفهم بصوت ينُمُّ عن الغضب. حين وصلوا إلى منطقة منزوعة الأشجار قبل القرية، صرخ الأولاد: «النحل قادم! الغضب قادم وراءنا!»
«جرى كل شيء بحثًا عن ملاذ؛ الأغنام والبط بحثًا عن العشب الطويل، العجائز إلى أكواخهن. اندفع الأولاد إلى أكواخ أمهاتهم، وأغلقوا الأبواب. خلال القرية كلها التفَّ النحل الغضبان كالدخان. عند مدفأة، أم عادت إلى البيت بعد العمل في الحقل لتستريح، وأطفالها الصغار معها. جرت إلى الأمام وإلى الخلف، والتقطت من أطفالها ما استطاعت، أخذتهم داخل الكوخ. وصل النحل. لم يكن أمامها ما تفعله سوى غلق الباب. نظرتْ من خلال شَقٍّ والنحل يهبط ويلسع ابنتها الرضيعة حتى الموت. ترى يا أداما؟»
ثم حكى لي مامادو هذه القصة: كان لدى عمه مصطفى كلبة وكانت مقتفية جيدة. كلبة رائعة حتى إن عم مامادو قدَّم لها اللحم من حين لآخر. أحبت الكلبةُ العمَّ، وإذا اقترب أحد من الرجل العجوز، ترفع الكلبة عجزيها وتعوي.
«لماذا لا تقتل تلك الكلبة اللعينة قبل أن تعض أحدًا؟» ربما جادله الناس في كوخه.
وكان العجوز يقول: «إنها صيادة رائعة. الأفضل في القرية. أحب أساليبها الغريبة.»
وقع العجوز مريضًا ورقد في الفراش. بدأت الكلبة تتجول في غيابه، حملت. تطلع الناس من كل ناحية إلى كوخ العجوز بحثًا عن علامات الشفاء. كان يعمل بجدٍّ طوال حياته؛ مع أرباح القطن اشترى ما يرغب الناس في شرائه: راديو صغيرًا، رداءً هولنديًّا مرنًا، عددًا من القرعات يمكن استخدامها في أغراض كثيرة. حين مات، حرست الكلبة بيت كوخه بغضب يجعل أي شخص لا يجرؤ على الاقتراب منها والاستيلاء على أشيائه في الليل. ثم أتى ابنه من القرية المجاورة، سومينا، جَمَعَ ما يخصه ودفن أباه.
خلا الكوخ ولم يبالِ أحد بإطعام الكلبة. إذا تجرأ أحد واقترب من الكوخ، تنهض وتنبح. انتشرت موجة سعار بين كلاب القرية وسيطرت عليها أيضًا. حين مضى الدكتور الساحر في القرية لقتل الكلاب بمنجله وجد كلبة العجوز أنجبت ستة جِرَاء. فطمتهم بشكل ما. تتبع كثير من أهل القرية، بدافع الفضول، الدكتور الساحر وهو يمزق الكلاب المريضة إربًا. تبعوه إلى كوخ العجوز، أتت الكلبة من مكانها بين الأغصان تنبح وترغي وتزبد من فمها. بضربة سريعة في عنقها قتلها الدكتور الساحر. توارت الجِرَاء بين الأغصان وعاد الدكتور الساحر إلى بيته.
بعد بضعة أيام، خرجت الجِرَاء من جديد. نبحت وعوت مثل الكلاب الكبيرة، وانتصب شعرها. أُصيبت هي الأخرى بالسعار. مضى الدكتور الساحر ليقتلها، لكن الجميع قالوا: «لا، ماذا يمكن أن تفعل؟ إنها صغيرة.»
لأسبوع يذهب الناس إلى كوخ العجوز والجِرَاء المسعورة تخرج من بين الأغصان على أرجلها القصيرة، تنبح وترغي وتزبد كالكلاب الكبيرة المسعورة. تخيَّل، هذه الكائنات الصغيرة تتصرف كأنها أكبر مما هي عليه؟ لم يرَ أحد مثل هذه الكلاب الصغيرة الغضبى. ضحك الجميع. ثم أصيبت الكلاب بالهزال وماتت وحدها.
«ترى يا أداما؟» سألني مامادو وهو يُنهي قصته. وقف وفَرَكَ البوبو الذي يرتديه وكأن حكي القصة أخذ شيئًا ما منه. «لست غيورًا من البيول. أعرف أن حياتك هنا صعبة. لكن عليك أن تعرف أن حياتنا صعبة أيضًا. تجوَّل الآن. لكن لا تلف مثل النحل إذا كنْتَ لا تنوي أن تلسع. لا ترغِ ولا تزبد من فمك إذا لم تكن لك أسنان تعضُّ بها. ليلة طيبة يا أداما. نمْ واحلمْ بجميلة. تقدَّمْ. سأكون سعيدًا حين تعود.»
لم يجعل الورودوجو الأمر سهلًا بالنسبة لي. أينما سرتُ في الأيام التالية، لم أسمع إلا «صباح الخير أيها السيد بيول»، كيف حال زوجتك البيولية الجميلة؟» ذهبتُ إلى بوكاري ورعينا الماشية. بدا أن جميلة تُقَرِّبُ مقعدها منا أكثر في كل ليلة.
لا أستطيع القول إن جميلة دخلت أحلامي كما ينبغي أن يحدث في حب حقيقي، لكنها كانت جميلة واستمتعتُ بالتوتر. استمتعتُ أيضًا بوجودي مع البيول. الطعام الذي يأكلونه، النبرة اللينة في لغتهم، حتى الصلاة لله مع بوكاري في الزريبة كانت تشبه الهروب من عالم الورودوجو الذي أعيش فيه.
كل ليلة وجميلة تجلس أقرب إلينا، يبدو أن توترها يقل. هل أتزوجها فعلًا وأبقى معها في أفريقيا زوجة لي؟ هل أصطحبها إلى أمريكا، وأعود معها ومع أطفالنا إلى القرية في عربة طويلة، حاملًا الهدايا للجميع؟ كانت مصارَعة العجول وتَتَبُّع القطيع عملًا شاقًّا، مطلوبًا كأي عمل آخر. ذات صباح توسلتُ قائلًا لبوكاري إنني في حاجة إلى راحة بصوت مُرتفع يكفي لأن تسمع حيث تقف تصحن الحبوب. تمنيتُ ألا تغلق أذنيها عما أقول كما وعدتْ ذات يوم.
جلستُ على مقعدي خارج كوخي في القرية الخاوية، أنتظر جميلة. أتت على الفور. إذا اعتقدتُ أنها ستندفع بين ذراعي من وراء ظهر أبيها فأنا مخطئ. وقفتْ عبر الفناء كما وقفتْ من قبل، والقرعة الواسعة على رأسها، ويداها في خصرها. دحرجت ثمرة يوسفي إليها فالتقطتها. قشَّرتْها، أكلتها، وبصقت البذور. ثم قالتْ: «لماذا أنت في كوخنا دائمًا أيها الرجل الأبيض؟»
قلتُ بالبيولية: «القمر والنجوم». تورَّد خداها خجلًا رغم إرادتها. للحظة بدت العينان المخططتان بالكحل لا تشبهان عيني طائر جارح بقدر ما تشبهان عيني غزالة.
«هل هناك قمر ونجوم حيث تعيش أمك؟»
«أداما، كفاية. ألا تفهم؟ معنا، يجب إخبار الأم بعد الكلام مع الأب.»
«مانكونو بعيدة. لا أعرف حتى أين توجد مانكونو.»
«إيه؟ لماذا إذن فعلْتَ هذا كله. انسَ أيها الرجل الأبيض. يجب أن أبيع اللبن الذي معي.»
تركتها تبدأ في الابتعاد عني ثم ناديت وراءها: «القمر والنجوم، سوف أَهُبُّ حتى إلى باماكو إذا كانت أمك تعيش هناك.» دحرجتُ ثمرة يوسفي أخرى بين قدميها. تطلعت إليها وتطلعت إليَّ وضيقتْ عينيها.
«لماذا تضايقني؟»
قلتُ: «ج-ميل-لة.»
«توقف! إن ذلك يزعج أذني.»
«جميلة، تعالي إلى هنا. أريد أن أُريك شيئًا ما. صورة لأمي. إذا كان عليَّ الذهاب لرؤية أمك فعليك أن تأتي وتتطلعي إلى أمي.» دخلتُ إلى ظُلمة كوخي، انتظرتُ وبدأ قلبي يدق بقوة. بسرعة جاءت مرة أخرى وثمرة اليوسفي في يدها. أنزلت القرعة من فوق رأسها إلى الأرض، ورأيت الذباب يمتص نداوة قماشها الرقيق، الذي تُغطِّي به اللبن مثل جواهر سوداء. حدَّقتْ من تحت سقف مدخلي وقالت: «فرِّجني هنا.»
«ليس هناك»، قلتُ من ظلال كوخي، «هنا. هذه لك لتريها وحدك. أريد أن أريها لك هنا.»
حدَّقت في الفناء الخالي، عضَّت شفتها، وحنت رأسها تحت السقف ودخلت. قدمتُ لها مقعدًا فجلستْ عليه. كانت قدماها مغبَّرتين وبدت أصغر إلى حد ما بالقرب مني. حدَّقت في كل ما حولها بدون أن تلتفت بوجهها، ورأيت كوخي من خلال عينيها: حصيرة بالية من السعف، ناموسية مُعَلَّقة عليها من السقف، صندوقي حيث أحتفظ بأشيائي الغربية: تي شيرتاتي والبنطلونات الجينز، وزجاجات من أقراص الملاريا، ومفكرات؛ ثم منجلي وفأسي ذات اليد القصيرة، ملابس الحقل، إنائي الخزفي الذي أضع فيه الماء، بندقيتي والطلقات، الدلو الذي أستخدمه للاستحمام. إذا كانت تأمل في رؤية شيء ما هناك يكشف لها عن روحي فقد أُصيبتْ بخيبة أمل. كان لديَّ أقل مما لدى معظم الورودوجو. نقَّبتُ في الصندوق المعدني وأتيتُ لها برزمة صغيرة من الصور. نظرت إليَّ بحذر، وركعتُ وقدَّمتُ لها الصور.
«أمك بدينة!»
«ليست بدينة جدًّا.»
«هل هذه زوجتك يا أداما؟»
«أختي.»
«هل هذه قريتك؟»
«بشكل أو بآخر.»
«ما كل هذه المياه؟»
«ذلك هو المحيط.»
«شعر أمك في لون الأرز الناضج.»
«إنها تصبغه.»
«كيف يبدو الثلج؟»
«يبدو باردًا مثل القمر.»
«أين العشب؟»
«بعيد عن المكان الذي نعيش فيه.»
«لمن هذا الحمَام؟»
«ليس مِلْكًا لأحد. يعيش على هذا النحو. لا أحد يأكله. العجائز اللائي تركهن أبناؤهن يحببن أن يُطعِمْنَه الفول السوداني ويتحدَّثن إليه.»
«هل هو مكان طيب للعيش فيه؟»
«أحيانًا.»
«لا بد أنكم أغنياء جدًّا لدرجة أن لديكم حمامًا لا تأكلونه، وتتركون العجائز يرمين المحصول له.»
بدون أن ندرك جلسنا متجاورين على الأرض. وتلامست أصابعنا مرة بعد الأخرى وأنا أعطيها الصور، وهي تشير لي إلى أشياء فيها: حذاء أحمر تنتعله فتاة في خلفية صورة، امرأة ترتدي قفازًا أخضر. كانت تفوح من جميلة رائحة خفيفة من القشدة والزبد، الخرز الكهرمان في حَلَقِها أصبح مألوفًا لي، والوشم حول شفتيها، كأن كل النساء يضعنه.
«ما هذا؟ كلب في سرير؟ هل أمريكا غنية جدًّا لتنام الكلاب في أَسِرَّة؟»
«كيف يمكن أن أعيش في هذه البلاد القذرة حيث تنام الكلاب في الأَسِرَّة؟» قالتْ جميلة مائلة عليَّ وهي تضحك. كان جسمها دافئًا، وثقيلًا تقريبًا. وحولنا في كل موضع على الأرض صور لمكان بعيد، يَرُدُّ الناس فيها إلينا النظرة في مشهد رمادي من الخرسانة والثلج. لمستْ جميلة صورة لأمي بظهر يدها، وكأنها تُريد أن تتعرف على منحني وجنة أمي. بقيتُ قُرْبَ جميلة كما بقيتْ قربي.
«لن أعجب أمك لأنني سوداء.»
«ستعجب أمي أي واحدة أختارها.»
«سوف أسحق لها توه الحبوب وصلصة الفول السوداني.»
«قد تحب ذلك.»
«سوف أُعدُّها لها بحيث لا تلمس أمك أبدًا إناءً بقية حياتها.»
«لا أظن أن أمي فعلتْ ذلك منذ فترة طويلة.»
«وكيف يمكن أن أُجامل أختك؟»
«يمكن أن تَجدلي شعرها.»
أظلم ظِلُّ المَدْخَل. كانت العجوز، وعصاها في يدها تهشُّ بها البط. حدَّقت في الداخل حتى تتكيف عيناها. «فلا موسو، اخرجي من كوخ أداما. خذي لبنك قبل أن يروب. اذهبي إلى منزل أبيك»، قالتْ بصوت منخفض، صارم لا ينم عن غضب. خرجت جميلة وساعدتْها العجوز في حمل القرعة على رأسها. ثم خرجتُ أيضًا لأشاهد جميلة وهي تبتعد.
قالت العجوز لي: «يا أداما، أليست لديكم نساء من حيث أتيت؟»
«لدينا يا أمي.»
«لماذا إذن تزعج هذه الفتاة؟»
«أنا لا أزعجها يا أمي.»
هل أحببتُ جميلة؟ أحببتُ أفريقيا، أحببتُ وجودي في الحقول مع بوكاري وماشيته، اليدين الحنونين اللتين يضعهما على مؤخراتها. أحببتُ صوت الأطفال وهم يغنون في الليل، الستارة الطويلة من النجوم. أحببتُ الغابة وأحببتُ وجودي فيها. أحببتها وهي تُمطر والهواء بالغ النقاء، ولا مثيل له إطلاقًا.
بعد يوم طويل مع بوكاري، وبعد دخول القطيع الزريبة والخوار، تمنيتُ له ليلة طيبة، وحييتُ الجالسين عند المواقد هنا وهناك، ثم وجدتْني جميلة في الظلام. سِرْنَا في مسارات بين أعشاب طويلة على حافة القرية مثل حبيبين من زمن قديم، القمر يتهادى فوقنا. خشيتْ أن تشعر بالبرد في أمريكا ووعدتُها بأن أشتري لها معطفًا لتبقى دافئة. ضايقتها بأنها يمكن أن تبيع اللبن في تلك المتاهات الفولاذية التي رأتها في الصور، بأنها يمكن أن تصطاد ذلك الحمام الذي لا يملكه أحد وتبيعه أيضًا. ضحكتْ وضربتني على يدي، هذه الفتاة الموشومة من مالي.
ونحن متكئون نرشف الشاي ذات ليلة، وقد اكتمل القمر في النهاية، قال لي بوكاري: «أنت مثل ابني حقًّا يا أداما. اطلب ما تريد ويكون لك.»
ذهبتُ إلى بيت مامادو. أهملتُه فترة طويلة، لكنه لا يزال ينظف لي مقعدًا. ابتسم وسأل: «آه، سيد فلا شي! وقت طويل. هل الماشية بخير؟»
«أعتقد أنني أريد أن أتزوج جميلة.»
تلاشت ابتسامة مامادو. تطلَّع إليَّ باهتمام. كانت الليلة مظلمة، ونيران الموقد تومض فيها. قال: «جميلة بالغة الجمال. هادئة وتعمل بجدية. أي رجل يتمناها زوجة له.»
«أريدك أن تُكَلِّم بوكاري من أجلي.»
«هل هذا يعني أنك ستكون بجواري دائمًا؟»
«ربما.»
«وهل أنت متأكد من أن ذلك يسعدك؟»
أومأتُ.
«ماذا يحدث الآن؟»
«ننتظر. سوف يرسل كلمة إلى مانكونو، وتُقرر الأم. هذه طريقتهم.»
صارت الأيام طويلة. تجنبتُ مجمع جميلة طبقًا للعُرف، وتجنبتْني. ساد سكون في القرية. عرفتُ من النظرات الطويلة التي يلقيها الناس على أنهم يعرفون. ولم أعرف رأيهم في ذلك. لكنهم ما عادوا ينادونني «السيد بيول» بعد ذلك، حيث إنها لم تعد نكتة. ليالي طويلة أستلقي مستيقظًا في ظُلمة كوخي، شعرتُ بأنني سأقترف خطأً فظيعًا إذا لم أستطِع حل ذلك الآن. ثم رأيتُ جميلة في خرزها ودثارها وقِطَع العُمْلة عبْر القرية، تنحني إلى الخصر وتسحب الماء من بئر، وفكرتُ في نفسي، تلك امرأتي.
ذهبتُ إلى العمل في الحقول مع الجيران لتمضية الوقت. لسبب ما. سعدتُ بوجودي مع الورودوجو مرة أخرى، نُغنِّي أغاني الحقل، والعودة إلى ذلك الإيقاع المألوف. نظرتُ إلى صور أمي وأختي من حين لآخر في كوخي. بدتا مثل أناس لم أعرفهم أبدًا. جاء بيولي صغير يقظ أسود من مانكونو على قدميه. وصلت الكلمة أخيرًا. جرت الغمغمة في القرية. انتظرتُ تحت النجوم مع مامادو وصول الرسول إلى كوخي ليخبرني بما تتحول إليه حياتي.
كان طويلًا ونحيلًا. يرتدي رداءً من الساتان الأخضر بزركشة ذهبية مطرزة حول العنق. وقف أمامنا مثل أمير من الصحراء. قدَّم له مامادو مقعدًا، فرفض. قال: «إذا كان الرجل الأبيض يريد ابنة بوكاري فابنة بوكاري له. تلك كلمة أمها. انتهى.»
لأسابيع لم يحدثني أحد في الأمر. ثم ذات ليلة ونحن نُشْعِل السجائر ونسند على شجرة المانجو بعد العشاء، قال لي مامادو: «لبن أم لحم يا أداما. في تلك الأوقات فقط نتعامل مع البيول.»
أومأتُ وأنا أُدخن سيجارتي وأتأمل النجوم.
جاء بائع خرز متجول بعد ذلك ببضعة أيام بحكاية. كنتُ في الحقول ولم أرَه. وقعتْ فتاة بيولية جميلة في مانكونو في حب رجل أبيض، وتعرضت للاحتقار. لبضعة أيام أصابتها عِلَّة شديدة ثم صارت في حالة طيبة من جديد. الآن صارت مشهورة لأنها تُعطي صدقات من اللبن لمتسولين مصابين بالبَرَص في سوق مانكونو. حين يسألها الناس عن السبب، تقول لأن المصابين بالبَرَص يُذَكِّرُونَهَا بالرجل الذي أحبته. رأى القرويون أن الحكاية لذيذة. استوقفوني من حين لآخر خلال السنوات التالية ليحكوها لي، ضاحكين بصعوبة ليذكِّروني بأنها لم تكن قصة مضحكة على الإطلاق.