العبقرية والجنون
من قبيل التناقض أنَّ العلاقةَ بين العبقرية والمرض العقلي أوضحُ من العلاقة بين العبقرية والذكاء المُتَّقِد، وأكثرُ منها غموضًا في الوقتِ نَفْسِه. ولعلَّ فنسنت فان جوخ هو المثال الأكثر شهرةً على العبقري الذي كان مريضًا عقليًّا، وعانى اكتئابًا حادًّا، وقَطَعَ إحدى أذنيه عام ١٨٨٨، ودخل المصحَّة العقلية، ثم أطلق النار على نفسه عام ١٨٩٠ وهو في سن السابعة والثلاثين حينما صار يرسم بأعلى قدراته الإبداعية، لا سيما أن تواريخ رسم أعظم أعماله الفنية تَعُود للعامَيْن الأخيرَيْن من حياته. لم يكد فان جوخ ينال أيَّ اعتراف بفنِّه خلال حياته، ثم صارت لوحاته تَحُوز القبولَ شيئًا فشيئًا باعتبارها أعمالًا ذات أهمية فنية عالية، حتى أصبحت الآن من أكثر اللوحات شهرةً في عالم الفن. لم يكن ما يعتريه من خبل عقلي متكرِّر موضعَ شكٍّ قطُّ، سواء من جانبه أو من جانب أسرته والمتعاملين معه. لكن سلامته العقلية أيضًا لم تكن موضعَ شكٍّ، كما تَشْهَدُ بذلك رسائلُه المطوَّلةُ المفصلةُ الرصينةُ التي كان يبعثها لتاجر لوحاته وشقيقه تيو ولزملائه الفنانين؛ مثل: إميل برنار، وبول جوجيه. كتب ثلاثة باحثين من متحف فان جوخ في أمستردام عام ٢٠١٠: «إنَّ حصيلة رسائله ولوحاته تُظهِر تماسكًا داخليًّا قويًّا … ولا يمكن إغفال هذه الأعمال الضخمة لاعتبارها نتاج عقل مريض. بل على العكس، لا يمكن إلا أن تُعتبَر إرثَ مفكِّرٍ عظيمٍ بحق؛ هو فان جوخ الحقيقي.» لكن رغم عقود من بحوث الطب الشرعي، سيظل التعايش المدهش بين مرضه العقلي وإبداعه الاستثنائي أمرًا صعب التفسير ما ظَلَلْنا نُحْكِم القبضةَ الفائقةَ على خيالنا المُعاصِر.
إن فكرة الربط بين الإبداع والاضطراب العقلي لها تاريخ طويل وحافل. في اليونان القديمة سأل أرسطو (أو تلميذُه ثيوفراستوس) السؤالَ التالي: «لماذا كل الرجال البارزين في الفلسفة أو الشِّعر أو الفنون سوداويون؟» وضرب أرسطو أمثلةً على ذلك بأبطال هوميروس وسوفوكليس، وأبطال الأساطير مثل أجاكس وبيلليروفون، ومن الشخصيات التاريخية الفلاسفة إمبيدوكليس وأفلاطون وسقراط. (تقول الأسطورة إن إمبيدوكليس مات بإلقاء نفسه في فوهة بركان يُطلَق عليه جبل إتنا؛ رغبةً في الوصول إلى مكانة مقدَّسة.)
أثَّرت رؤية أرسطو في مفكِّرِي عصر النهضة. كتب نويل بران في كتابه «الجدل حول منشأ العبقرية إبَّان عصر النهضة الإيطالية» أن خلال القرن الخامس عشر رأى فيلسوفُ الأفلاطونية الجديدة الفلورنسيُّ مارسيليو فيتشينو أنَّ السوداوية «هي الثَّمَن العَيْنيُّ الذي لا بد مِنْ دَفْعِهِ كي تتمكَّن مساعي الرُّوح «البطولية» من عبور الفجوة — التي لا يمكن عبورها بعقلانية — التي تَفْصِل بين الطبيعة المتناهية والزائلة والطبيعة الخارقة اللامتناهية الخالدة.» وشكسبير أدرك بديهيًّا شيئًا مماثلًا في مسرحيته «حلم ليلة صيف». يقول بطله الملك ثيسيوس: «إن للمجنون والمحب والشاعر مخيلةً مشحونةً مكتظَّةً؛ فالمجنون يرى من الشياطين ما يَفُوق سعة الجحيم الشاسع. والمحب شأنه شأن المحموم، يرى جمال هيلين في العيون المصرية. والشاعر عينه في تجوال متلهف مرهف، يَجُول بناظريه من السماء إلى الأرض، ومن الأرض إلى السماء.» ويختتم ثيسيوس كلامه بقول: «مثل هذه الخدع لها خيال خصب …»
في القرن التاسع عشر، إبَّان حركة «الرومانسية»، باتت حياة بايرون وروبرت شومان وأعمالهما — كلاهما يتسم بأنه تدميري لذاته — مثلًا تلخِّص الارتباط بين المرض العقلي والعبقرية، وهو المثل الذي زادته حالة فان جوخ دعمًا. وفي القرن العشرين، دَفَعَ ثلاثةٌ من الشخصيات الفنية البارزة في أمريكا، هم إرنست همنجواي وسيلفيا بلاث وجاكسون بولوك، حياتَهم نتيجةً للاكتئاب، وهو ما فَعَلَتْه فيرجينيا وولف في بريطانيا.
كانت معاناة فئة العلماء ككل من المرض العقلي أقل. لكنَّ استطلاعًا أجراه الطبيب النفسي فيليكس بوست في تسعينيات القرن العشرين استند فيه إلى سِيَر حياة ٢٩١ مبدعًا استثنائيًّا توصَّل إلى استنتاج مُفاده ما يلي: وفقًا لمعايير التشخيص الحديثة، عانى أينشتاين وفاراداي درجة «معتدلة» من درجات المرض العقلي، وعانى داروين وباستير من درجة «ملحوظة» من المرض العقلي، وعانى بور وجالتون من درجة «حادة» من المرض العقلي، إلى جانب عدد آخَر من كبار العلماء. داروين — على سبيل المثال — تحمَّلَ عقودًا من المرض مجهول الأسباب، والذي يبدو أنه كان ناجمًا عن قلقه بشأن استقبال الجمهور نظريته عن الانتخاب الطبيعي.
غالبًا ما كانت القصص المثيرة التي تُروَى عن العباقرة المتميزين تشوِّه الصورة العامة للمرض العقلي والإبداع؛ فالنوادر التي تُحكَى عنهم من السهل أن تعطي الانطباع بأن الاضطراب العقلي شرط لا غنى عنه للإبداع الاستثنائي، وهذه فكرة ربما تغذَّتْ من رغبة الشخص العادي في تبرير إنجازات المبدع الاستثنائي والتقليل من أهميتها. لكن رغم كل أمثلة المبدعين التي تعزِّز هذه الفكرة، ليس من الصعب أن نعثر على مثال مضاد لمبدع استثنائي فنان أو عالِم في حقل مماثل، ولا تظهر عليه أي من أعراض الاضطراب العقلي.
وعلماء النفس لا يمكن أن يحاولوا التوصُّل إلى استنتاج صالح بشأن صحة ملاحظة أرسطو أو عدمها إلا عن طريق دراسة الصحة العقلية لمجموعات كبيرة من كبار المبدعين، الأحياء منهم أو الأموات. وسوف نتناول هنا ثلاث دراسات عن ثلاثة أشكال مختلفة من الإبداع الفني في ثلاث فترات زمنية مختلفة، هي على النحو التالي: دراسة عن الفنانين التشكيليين في عصر النهضة الإيطالية إبَّان القرن الرابع عشر وحتى القرن السادس عشر، ودراسة عن الشعراء البريطانيين إبَّان عصر الرومانسية في القرن الثامن عشر وحتى القرن التاسع عشر، ودراسة عن الكتَّاب الأمريكيين في النصف الثاني من القرن العشرين.
يتسم عصر النهضة بمكانة ثابتة بِصِفَتِهِ أَحَدَ أعظَمِ عُصورِ تفتُّحِ زُهُورِ الإبداعِ في التاريخ. ومع ذلك تعطي هذه الفترةُ انطباعًا بندرة حالات المرض العقلي بين الفنانين لا زيادتها، لا سيما إذا ما قُورِنت بالفترة «الرومانسية» التي تتمتع بالمكانة نفسها. ورغم أن المعلومات التي وصلتنا عن كبار فناني عصر النهضة مثل بوتيتشيلي وبرونليسكي، وليوناردو ورفاييل وتيشان، أكدت بما لا يدع مجالًا للشك أنهم شخصيات قوية، فلا يبدو أن هؤلاء الفنانين، ربما باستثناء مايكل أنجلو، اعتبروا أنفسهم عباقرة معزولين معذَّبين ويميلون إلى تدمير ذواتهم. يشهد بذلك أن واحدًا منهم فقط هو الذي رُوِي عنه أنه قتل نفسه، هو الرسام الأدنى شأنًا روسو فيورنتينو، ثم جرى تفنيد هذه الرواية فيما بعدُ.
بحَثَ عالم النفس أندرو ستيبتو شخصيات فناني عصر النهضة من خلال تحليل السِّيَر الذاتية التي وَرَدَتْ في العَمَلِ الرائعِ الذي ألَّفه جورجيو فاساري والمُعَنْوَن «سِيَر أكثر الرسامين والنحاتين والمعماريين امتيازًا»، والذي نُشِر أولًا باللغة الإيطالية في العقود الوسطى من القرن السادس عشر. وسأل ستيبتو نفسه: «هل رأى فاساري أنَّ الأفراد الأكثر إبداعًا مختلُّون وسوداويون، وغير تقليديين أم أنه رآهم على نحو مختلف؟»
وينقسم كتاب فاساري إلى أجزاء ثلاثة، تغطِّي الفنانين الأوائل وفناني الفترة الوسطى والفنانين المعاصرين. ومن المسلَّم به عمومًا أن المعلومات التي وردت في الجزء الأول — حتى عام ١٤٠٠ تقريبًا — غير موثوقة إلى حد بعيد؛ نظرًا لندرة المعلومات التي توفَّرَتْ لفاساري عن هذه الفترة؛ لذا تستبعد دراسةُ ستيبتو الجزءَ الأولَ من كتاب فاساري وتحصر تركيزَها على السِّيَر الواردة في الجزأين الثاني والثالث، اللذين يتضمنان سِيَر ١٢٣ فنانًا من الفنانين المتأخرين — ٨٣ رسامًا، و٣٨ نحَّاتًا، و٢٢ معماريًّا (عدد كبير من الأفراد أجادوا أكثر من مهنة) — كان من بينهم أوسع شخصيات عصر النهضة شهرةً.
ثمة مشكلة أيضًا بشأن مدى مصداقية فاساري شخصيًّا؛ وذلك لأن أخطاءه الوقائعية لطالما كانت معروفة للجميع، لكن هذه الأخطاء تقل أهميتها في دراسة أي شخصية عن أهمية وجهة نظره؛ ما إذا كان حقًّا قد اصطفى من بين مصادره ونقحها كي يقدِّم صورة تتماشى مع أجندته الأساسية التي تذهب إلى أن الفنانين محترفون — لا مجرد حرفيين — جديرون بالتوقير الذي تتمتع به مجالات مهنية معروفة كالقانون والكنيسة والطب. في الواقع هناك بعض الأدلة على أنه فعل ذلك. من ناحية أخرى، ورد في كتابه ما يكفي من الصفات الشاذة والسمات الكريهة بما يشير إلى أن هذه السِّيَر يمكن تصديقها بشكلها الوارد في الكتاب. يدلِّل ستيبتو على ذلك بأنه حتى الفنانون المفضَّلون لدى فاساري كانوا «من الممكن أن تَشُوبَهم الصفاتُ السلبيةُ كالكبرياء أو التقصير، شأنهم شأن غيرهم من الفنانين.» الأمر المهم أيضًا هو أن السِّيَر التي قدَّمَها فاساري أُخِذَتْ على محمل الجد، دون تشكيك، من قِبَل معاصريه الذين كانوا أنفسهم يعرفون الكثير عن الفنانين الذين وصفهم.
فحص ستيبتو السِّيَرَ الذاتيةَ لاستقصاء ٤٢ صفة مختلفة، تضمنت صفات عامة كالصدق والكبرياء، إلى جانب سمات شخصية مثل الكآبة وغرابة الأطوار اللذين يشيع الاعتقاد بأنهما يشكلان جزءًا من «المزاج الفني». مما لا شك فيه أن المواد المتاحة لم تتلاءم دائمًا مع الخطوط التي رسمها ستيبتو للاستقصاء؛ لذا فقد اعتمد في نهاية المطاف ١٣ فئة أكثر رحابة من التعقيبات التي ذكرها فاساري على شخصية كل فنان فيما يتعلق بصفات: البراعة الفائقة، الاجتهاد في الدراسة، القدرة على العمل الشاق، النقد السلبي، الشخصية الاجتماعية، التهذيب، الأناقة، الاعتدال، السذاجة، الكآبة، غرابة الأطوار، عدم الجدارة، الغرور.
تبيَّنَ أن أكثر السمات شيوعًا هي الاجتهاد في الدراسة؛ إذ اتسم بها ٤٨ فنانًا من أصل ١٢٣ (بنسبة ٣٩٪)، تليها في الترتيب سمة التهذيب (بنسبة ٣١٪). كانت الميول الاكتئابية وغرابة الأطوار غير شائعة نسبيًّا، وكذلك الأناقة والسذاجة. يقول ستيبتو: «ليس لدينا هنا سوى القليل مما يمكن أن يثبت اتسام الفنانين بمزاج سوداوي، أو وجود ذلك المخلوق المنعزل مفرط الحساسية الذي تتصوره المخيلة الحديثة.» هل يُحتمَل أن هذه الصفات كانت تُميِّز النخبةَ الضيِّقةَ من الفنانين العظماء، أعني: مجموعة جزئية من الرسامين والنحاتين والمعماريين الذين حكَمَ عليهم فاساري بأنهم بالِغُو البراعةِ بدرجة استثنائية؟ ليس الأمر كذلك، فبعد أن عزل ستيبتو هذه المجموعة ثم أعاد تحليلها، لاحَظَ أنَّ النمط الأول يزداد وضوحًا؛ إذ تبدو مجموعة النخبة أكثر اجتهادًا في الدراسة ولطفًا واجتماعيةً واعتدالًا في عاداتها من الغالبية العظمى من الفنانين، مع عدم ارتفاع في نسبة الميول الاكتئابية أو السلوكيات الغريبة. وبعد أن أعاد ستيبتو التحليل مع المجموعة المنتقاة المكوَّنة من الأحد عشر فنانًا المعروفين بأنهم مفضَّلون بالنسبة لفاساري (مازاتشو، وبرونليسكي، ودوناتيلو، وليوناردو، ورفاييل، وأندريا ديل سارتو، وروسو فيورنتينو، وجوليو رومانو، وبيرينو ديل فاجا، وفرانشيسكو سالفياتي، مايكل أنجلو)، بات النمط حينئذٍ أكثر وضوحًا. يبدو أن أعظم فناني عصر النهضة لم يكونوا على قدر ملحوظ من عدم التقليدية أو المزاجية، وإنما كانوا على عكس ذلك، مجتهدين، عاملين مُجِدِّين، مهذبين، اجتماعيِّين، أنيقين. وهذا بالفعل هو ما يبدو عليه ليوناردو بالنسبة للمؤرخين الفنيين في الفترة من ثمانينيات القرن الخامس عشر حتى تسعينياته، حينما كان يعمل في بلاط دوق ميلانو ويرسم لوحة «العشاء الأخير» — ربما يُسْتَثْنَى من هذا ما عُرِف عنه من فشل في إتمام معظم أعماله.
استنتج ستيبتو أنه «إذا كان الحال كذلك، فإن الاضطراب النفسي أو عدم التقليدية أو غيرها من جوانب «الشخصية الفنية» لا يمكن أن تكون سمةً أصيلةً للإبداع.» ففي إيطاليا عصر النهضة، من المفترض أن هذه الصفات لم تكن لتساعد أي فنان في كفاحه لتحقيق دَخْلٍ يعتمد عليه ونَيْل احترام المجتمع. في المقابل، بدءًا من أواخر القرن الثامن عشر، يبدو أن هذه الصفات كانت أفضل تواؤمًا مع التطلعات الاجتماعية للفنان، ومن ثَمَّ ساعدت على توليد الاهتمام العام بالفن والحفاظ على هذا الاهتمام.
يُشِير مَسْحٌ آخَرُ للسِّيَر الذاتية تناولَ ستةً وثلاثين شاعرًا من الشعراء البريطانيين والأيرلنديين الذين وُلِدوا بين عامَيْ ١٧٠٥ و١٨٠٥ إلى وجود علاقة مختلفة كل الاختلاف بين المرض النفسي والإبداع. كتبت الطبيبة النفسية كاي ريدفيلد جاميسون التي أجرت هذا المسح في كتابها «متأثر بالنار: مرض الهوس الاكتئابي والمزاج الفني» ما يلي: «يمكن ملاحظة أن معدل حدوث اضطرابات المزاج والانتحار ودخول المصحات لدى شعراء هذه المجموعة وأُسَرهم مرتفع ارتفاعًا مدهشًا.»
تشمل هذه المجموعةُ كافةَ الأسماء المرموقة في تلك الفترة — ويليام بليك، وروبرت برنز، ولورد بايرون، وجون كلير، وصامويل كوليردج، وويليام كاوبر، وتوماس جراي، وجون كيتس، ووالتر سكوت، وبيرسي بيش شيلي، وويليام ووردزوورث، وغيرهم آخَرون — علاوة على شعراء أقل شهرةً مثل لي هانت وجيمس كلارنس مانجان وجوانا بيلي. ورغم أن حجم العينة كان أصغر بكثير من حجم عينة ستيبتو، كانت مصادر البحث في حياة الشعراء أكثر وفرةً منها في حالة الفنانين؛ وذلك لأن هذه المصادر تضمَّنَتْ رسائلَ وتقاريرَ طبيةً وتواريخَ عائليةً، بالإضافة إلى كُتُب السِّيَر الذاتية إلى جانب أعمال الشعراء المطبوعة بطبيعة الحال. جرى فحص كل هذه المصادر بحثًا عن أعراض أو أنماط للاكتئاب والهوس والهوس الخفيف والحالات المختلطة، مع الأخذ في الاعتبار الأمراض النفسية أو الطبية الأخرى (إصابة كيتس بالسل الرئوي على سبيل المثال) التي يمكن أن تُبَلْبِل التشخيصَ.
لقد وَصَفَ نَفْسَه في أوقات شتى بأنه يعاني «نزوعًا إلى الهلع غير المبرر، والتراخي الشديد، واضمحلال الهمة والفكر»، ويعاني من «مرض العلماء» وبأنه «كئيب» سوداوي.
السوداوية الهيجانية المتكررة، وسرعة الاستثارة مع حدوث «نوبات غضب» مفاجئة من آنٍ إلى آخَر، وتقلُّب المزاج والتهور، والاكتئاب المتفاقم بمرور الوقت. وتاريخ عائلي حافل بالاضطراب العقلي وحالات الانتحار.
ثمة شيءٌ مُخِيفٌ في التفكير أن شخصًا بهذه الموهبة التي يتفوَّق بها كثيرًا على أمثاله من المخلوقات، ينبغي تبعًا لذلك أن يُضْنَى تحت وطأة علَّة نفسية غريبة تُطِيح بصفاء ذهنه وسعادته، لكنها لا تستطيع أن تُخْمِد جذوة عبقريته.
قَتَلَ اثنان من الستة والثلاثين شاعرًا — توماس تشاترتون وتوماس لوفيل بيدوس — نَفْسَيْهِمَا، وأُودِع ستة، منهم كلير وكاوبر، المصحة العقلية أو مستشفى المجانين، وظهرت على أكثر من نصفهم شواهد قوية تدل على اضطرابات المزاج، بايرون مثلًا. وأظهرت المقارنات التي أجرتها جاميسون بين المجموعة المصابة بالأمراض العقلية وعموم الناس في تلك الفترة؛ أن نسبة احتمال إقدام الشعراء على الانتحار تَفُوق نسبتَها لدى عامة الناس بخمس مرات، وأن احتمال إيداعهم المصحة العقلية أو مستشفى المجانين أكثر بعشرين مرة على الأقل، وأن احتمال إصابتهم بمرض الهوس الاكتئابي أكثر بثلاثين مرة. تضم هذه المجموعة الأخيرة إلى جانب بايرون: بليك، وكوليردج، وشيلي. سبعة فقط من بين الشعراء الستة والثلاثين — أقل من رُبُعِهم — لم تظهر عليهم أي أمارات تشير إلى وجود اضطراب ملحوظ في الحالة المزاجية لديهم، ولم يكن هؤلاء السبعة من بين أكثر شعراء المجموعة شهرةً.
مَسْحُنا الثالثُ يتناول كُتَّابَ القرن العشرين، وكان أول محاولة علمية لتشخيص العلاقة بين الإبداع والاضطراب النفسي لدى الكتَّاب الذين ما زالوا على قيد الحياة. على مدى عدة سنوات، بدايةً من أوائل سبعينيات القرن العشرين، أَجْرَتِ الطبيبةُ النفسيةُ نانسي أندرياسن (كانت في الأصل أستاذة في أدب عصر النهضة) لقاءاتٍ منظَّمَةً — مستندةً إلى معايير التشخيص النفسي المنهجي — مع الكُتَّاب في نُزُل يقع في «ورشة كتَّاب أيوا» المعروفة والمحترمة. قابَلَتْ أيضًا مجموعةً ضابطةً من أشخاص لا تتطلب مِهَنُهم مستوياتٍ عاليةً من الإبداع، ومتقاربين مع الكُتَّاب من حيث التعليم والسِّنِّ. جَرَتْ مقابلةُ كُلِّ شخص على حِدَة، لا في مجموعة. في بادئ الأمر، كان هناك ١٥ كاتبًا و١٥ فردًا في المجموعة الضابطة، لكن هذا العدد تضاعَفَ فيما بعدُ ليصل إلى ٣٠ كاتبًا و٣٠ فردًا ضابطًا، وهذا عدد ليس أقلَّ بكثير من الستة والثلاثين شاعرًا راحلًا الذين درستهم جاميسون. ومن نافلة القول أن الكُتَّاب الذين قابلَتْهم نانسي (الذين ظلُّوا غير معروفين في الدراسة المنشورة) لم يكونوا من النخبة الاستثنائية التي ينتمي لها شعراء جاميسون، لكن بعضهم كان قد حقَّق شهرة واستحسانًا على الصعيد القومي في الولايات المتحدة، في حين كان البعضُ الآخَرُ خريجين أو مدرسين في ورشة العمل. (نال خريجو «ورشة أيوا» ست عشرة جائزة بوليتزر منذ عام ١٩٤٧، وتتضمن هيئة التدريس: جون بيريمان، وجون شيفر، وروبرت لويل، وفيليب روث.)
بدأت أندرياسن بفرضية عملية تذهب إلى أن الكتَّاب بصحَّة نفسيَّة جيِّدة بوجه عام، لكن معدل الإصابة بمرض انفصام الشخصية في عائلاتهم أعلى من نظيره لدى المجموعة الضابطة. كانت على دراية من دراسات موثوقة أُجرِيت على أطفال متبنين مولودين لأمهات مصابات بالفصام، بالمقارنة بأطفال متبنين آخَرين مولودين لأمهات طبيعيات من الناحية العقلية؛ بأن مرض الفصام معروف بأنه مرض وراثي؛ فنسبة ١٠٪ من الأطفال المتبنين المولودين لأمهات تعاني الفصام كانوا يعانون المرض نفسه رغم نشوئهم في بيئة عادية، وهذه النسبة تقابِل نسبة تقل عن ١٪ هي معدل الإصابة بالفصام لدى عموم السكان. يضاف إلى ذلك أن مرض الفصام الوراثي ظهر واضحًا لأندرياسن في عائلات: أينشتاين، وجيمس جويس، وبرتراند راسل. وقد أفاد أيضًا طبيب نفسي أيسلندي بأن المرض موجود وسط أقارب الأفراد الناجحين المدرجين في الموسوعة الأيسلندية للشخصيات المشهورة.
كان الرأي السائد بين الأطباء النفسيين في أوائل سبعينيات القرن العشرين أن المَيْلَ الوراثيَّ نحو الفصام قد يَظْهَر في شكل حادٍّ، شكل المرض، أو في شكل خفيف هو الإبداع.
لكن المقابلات التي أجرَتْها أندرياسن أَظْهَرَتْ أنَّ ما من شخص واحد من بين الكتَّاب الثلاثين في «ورشة كتَّاب أيوا» لديه أي من أعراض الفصام. بدلًا من ذلك، بلغت الغالبية العظمى منهم — ٨٠٪، مقارنةً بنسبة ٣٠٪ من المجموعة الضابطة — المعيارَ التشخيصيَّ المنهجيَّ لاضطراب المزاج الحادِّ: سواء المرض ثنائي القطب أو الاكتئاب أحادي القطب. (كانت النسبة المئوية لدى المجموعة الضابطة مرتفعةً بدرجة مثيرة للاستغراب؛ نظرًا لأن النسبة الطبيعية لدى عامة الناس تتراوح بين ٥٪ و٨٪). فمعظم هؤلاء الكتَّاب تلقَّى علاجًا، سواء كان ذلك من خلال دخول المستشفى، أو زيارة العيادات الطبية وتعاطي الأدوية، أو العلاج النفسي. واكتشفت أيضًا أن نسبة اضطرابات المزاج والإبداع لدى أقارب الدرجة الأولى (الأبوين والأخوة) للكتَّاب أعلى بكثير منها لدى أقارب الدرجة الأولى لأفراد المجموعة الضابطة.
كانوا عادةً يتبعون جداول أعمال غايةً في التشابه، يستيقظون صباحًا ويكرسون جزءًا كبيرًا من وقتهم للكتابة خلال الساعات الأولى من النهار، وكانوا نادرًا ما يسمحون ليوم أن يمر من دون كتابة. وبوجه عام، كانت لهم علاقة وثيقة بالأصدقاء والعائلة.
مما لا شك فيه أن الكثير منهم مرُّوا بفترات من الاضطراب الحاد في المزاج. الأمر المهم، أن هذه الفترات، رغم ما كانت تُحدِثه حين تأتي من إعاقة للإبداع، لم تكن دائمة أو طويلة الأمد.
ربما كانت في بعض الحالات تزوِّد الكاتب بمادة خصبة يمكن أن يعتمد عليها فيما بعدُ، مثلما يقول ووردزوورث عن الشعر: «مشاعر تُستَحضَر في هدوء.»
والأفراد المبدعون متضاربون بوجه عام في رؤيتهم لهذه النظرية الأخيرة؛ إذ لم يحدث أن ادَّعَى أَحَدٌ أنه يستطيع إنتاجَ أعمالٍ رائعةٍ حينما يكون مكتئبًا اكتئابًا حادًّا. لكنَّ القليلين رغبوا في التحرُّر تمامًا من شياطينهم، رغم خوفهم من أن ينضب معين إبداعهم. ومما لا يبعث على الاستغراب أن موقفهم إزاء مرضهم العقلي كان مركَّبًا؛ ففي حين أنهم متحررون من أي توهُّم بأن مرضهم سبب في إنتاج إبداعهم، تراهم يشكون أن ذلك المرض رفيق لا سبيل للانفصال عنه، ولا بد من تقبُّله وربما الاحتفاء به.
قال شاعِرُ مطلع القرن العشرين راينر ماريا ريلكه قَوْلَتَه الشهيرةَ: «إذا ودَّعتني شياطيني، فأخشى أن تلحق بها ملائكتي أيضًا.» وحينما قيل للفنان إدفارد مونك (راسم لوحة «الصرخة») إن العلاج النفسي يمكن أن يخلِّصه من كثير من متاعبه، ردَّ قائلًا: «إنَّها جُزْءٌ مِنِّي ومِنْ فنِّي، ولا يمكن فَصْلُها عنِّي، هذا سيُطِيحُ بفنِّي. أودُّ أن أحتفِظَ بتلك المعاناة.» وعالم الرياضيات والاقتصاد الحائز على جائزة نوبل جون ناش — الذي صارت إصابته بالفصام البارانويدي موضوعًا لكتابه «عقل جميل»، والفيلم السينمائي المأخوذ عنه — عندما سأله عالِمُ رياضياتٍ زميلٌ شكَّاكٌ: «كيف أَمْكَنَك أن تصدِّق أنك مجنَّد مِنْ قِبَل مخلوقات من الفضاء الخارجي كي تنقذ العالم؟!» فردَّ قائلًا: «لأن أفكاري عن الكائنات الخارقة طرأت لي بنفس الطريقة التي طرأت لي بها أفكاري الرياضية؛ لذلك أخذتُها على محمل الجد.» حتى أينشتاين أقَرَّ بضرورة أن نَقْبَل معاناةَ النَّفْس مثلما نَقْبَل ابتهاجاتها في بحثه عن نظرية النسبية العامَّة، التي جعلته يعاني مرضًا شديدًا.
قبل أن تُكتَشَف عرضًا فائدة أملاح الليثيوم لعلاج الهوس عام ١٩٤٨، وقبل أن تُكتشَف أنواع أخرى من العقاقير مثل الريزيربين والكلوربرومازين في خمسينيات القرن العشرين لمكافحة مرض الفصام، لم يكن أمام مَن يعانون هذه الأمراض خيار سوى أن يتصالحوا مع مرضهم، لكن بمجرد أن توفَّرَتْ أدوية يُعتمَد عليها، تعيَّنَ على المبدعين أن يتَّخِذوا قرارهم بشأن مزايا تناوُلها وعيوبه.
اثنان فقط من كتبي الثمانية كتبتهما وأنا أتعاطى مضادات الاكتئاب؛ لذا أجد أنه من الصعب جدًّا أن أميِّزَ بين تأثير الدواء وحدوث تطور في أسلوبي الخاص من حيث الابتعاد عن الزخرفة والاتجاه نحو مزيدٍ من البساطة (التي تَفُوق غيرَها من الأدوات الأدبية فيما تتطلبه من براعة قصوى، وما تتسم به من صعوبة بالغة). وحتى لو ثبت أن مضادات الاكتئاب أثَّرَتْ سلبًا على قدرتي الشعرية، فسأظل أتناولها. فبعد أن ظللت كالميت الحي طوال عدة أشهر، فإن مجرد أن أقدر على الكتابة معجزة ولا شك، وما يهمني حقًّا هو مساهمتي في مجال الإبداع، وليس القياس الموضوعي لمدى تميز أعمالي.
تشكِّل مسألة الإنتاجية مقابِل التميز مثارَ اهتمامٍ ملِحٍّ بالنسبة لعلماء النفس لما تُلقِيه من ضوء على طبيعة العبقرية. فالهوس قطعًا يزيد الإنتاجية، لكن هل يمكن أن يعمل أحيانًا على تحسين الجودة أيضًا؟ إذا كان الشخص المبدع يتَّسِم بتدفُّق دائم من الطاقة والثقة بالنفس، فسيبدو من المعقول أن يُحدِث الهوس تأثيرًا إيجابيًّا على عمله. من ناحية أخرى، يرجح أن الهوس يعرقل عمل المَلَكة الانتقادية اللازمة للإبداع الاستثنائي، والتي تنقح بهدوء ما أُبدِع بحماس.
بعبارة أوضح، هل يعزِّز الجنونُ العبقريةَ أم يُضعِفها؟ أخذ العالم النفسي روبرت وايزبيرج هذه المسألة في الاعتبار، وحلَّل في دراستين منفصلتين إنتاجَ اثنين من كبار الفنانين: ألحان روبرت شومان وقصائد إميلي ديكنسون. سبق تشخيص حالة هذين الفنانين بأنهما يعانِيان الاكتئاب الهوسيَّ (الاضطراب ثنائي القطب)، ولو أن هذا مؤكد في حالة شومان أكثر منه في حالة ديكنسون. فقد حاوَلَ شومان الانتحار أكثر من مرة وأنهى حياته القصيرة في مصحةٍ للأمراض العقلية؛ حيث امتنع عن تناول الطعام حتى الموت عام ١٨٥٦. في المقابل، كانت حياة ديكنسون أكثر تقليدية وأطول إلى حدٍّ ما، لكنها ظلَّتْ منعزلةً طوال عقدين من الزمن تقريبًا قبل وفاتها عام ١٨٨٦، ونُشِر كلُّ شِعْرها تقريبًا بعد وفاتها.
بين عامَيْ ١٨٢٩ و١٨٥١ كان شومان يكاد يتناوب بين مزاجَي الهوس الخفيف والاكتئاب، وهذا استنادًا إلى تقارير أطبائه، ورسائله، ورسائل معارفه، وغيرها من الوثائق التاريخية. بالطبع ليس من الممكن تشخيص حالته المزاجية في جميع الأوقات، علاوةً على أن هناك حالات مزاجية معينة استمرت لأقل من عام كامل، لكن يمكن تقرير مزاج سائد خلال معظم سنوات فترة شومان الإبداعية. صحيح أن عدد مؤلفاته في كل عام لا تعكس هذين المزاجين على نحو صحيح، لكن فترة إبداعه شهدت ذروتين عام ١٨٤٠ وعام ١٨٤٩؛ إذ لحَّنَ خلال سنوات الهوس ٢٥ عملًا فنيًّا أو يزيد، وهذا أكثر بكثير مما لحَّنَه في أي عام. تتوافق أولى هاتين الذروتين — والتي ألف فيها العديد من الأغنيات — مع زواجه من كلارا فيك، وكان متوسط عدد مؤلَّفَاته الموسيقية في سنوات الهوس الخفيف يقارب خمسة أضعاف متوسط عددها في سنوات الاكتئاب.
ولكي يُقيِّم وايزبيرج المؤلَّفاتِ الموسيقيةَ من حيث جَوْدتها، لا عددها، أحصى عددَ التسجيلات المتوفرة لكل لحن، وكلما زادت التسجيلات المتاحة، كانت جودة اللحن مرتفعة. كان بوسعه أن يختار طُرُقًا أخرى للتقييم، مثلًا عدد مرات تقديم اللحن في برامج الحفلات الموسيقية، أو تقييمات خبراء المجال؛ كقادة الأوركسترا أو الموسيقيين أو المؤرخين الموسيقيين أو النُّقَّاد، لكن الميزة في طريقة عدد تسجيلات اللحن أنها أكثر سهولةً في القياس، وترتبط إلى حدٍّ كبير بطرق قياس أخرى؛ مثلًا تكرار مناقشة العمل الفني في تحليلات نقدية موسيقية. ومن ثَمَّ فإن إحصاء عدد تسجيلات اللحن أكثر من كونه مجرد مقياس لمدى رواج اللحن.
يشير وايزبيرج إلى أنه «إذا كانت فترات هوس شومان قد حسَّنَتْ عملياته الفكرية، فإن عدد تسجيلات الألحان التي أبدعها خلال سنوات هوسه أكثر بالضرورة، في المتوسط، من تلك الخاصة بالألحان التي أبدعها خلال سنوات اكتئابه.» لكن تحليله لا يدعم هذه الفرضية؛ وذلك لأن متوسط عدد تسجيلات الألحان التي أبدعها شومان خلال سنوات هوسه مجتمعة هو في الواقع مماثل تقريبًا لمتوسط عدد تسجيلات الألحان التي أبدعها خلال سنوات اكتئابه مجتمعة. بل إن أقصى عدد للتسجيلات سُجِّلَ في سنة من سنوات الاكتئاب، و«ليس» في سنة من سنوات الهوس. وخلاصة القول هي: رغم أن شومان كان خلال سنوات الهوس متحمسًا للغاية لأنْ يؤلِّف موسيقاه؛ وبالتالي أبْدَعَ ألحانًا أكثر بكثير خلال هذه الفترة، لم يؤدِّ تحمُّسُه هذا إلى تحسُّن جودة إبداعه.
أخضع وايزبيرج ديكنسون وشِعْرَها لشكل مماثل من تحليل كَمِّ القصائد المكتوبة أثناء سنوات الهوس والاكتئاب والسنوات الطبيعية علاوةً على تحليل نوعيتها أيضًا، وذلك بناءً على ما حدَّدته أدلة ظاهرية كمراسلات ديكنسون مثلًا. كتبَتْ ديكنسون مُعْظَمَ قصائدِها في فترة الثماني سنوات بين عامَيْ ١٨٥٨ و١٨٦٥، حينما كانت في المرحلة العمرية من ٢٨ إلى ٣٥ عامًا. تقع هذه القصائدُ في مرحلتين مدة كل منهما أربع سنوات، فَصَلَتْهما عن بعضهما أزمةٌ عاطفيةٌ. هذه المرَّة، كان مقياس الجودة متمثلًا في عدد مرات ظهور القصيدة في أكثر من اثنتي عشرة مجموعة شعرية من المجموعات التي نُشِرَتْ خلال القرن العشرين (بدلًا من عدد تسجيلات اللحن). وكما حدث في حالة شومان، تبيَّنَ أنه يوجد اختلاف شاسع في كَمِّ الإنتاج الشعري، وتمثَّلَ هذا الاختلاف في ارتفاع الإنتاج خلال سنوات الهوس. لكن على عكس ما تبيَّنَ في حالة شومان، وُجِدَتْ بعض الأدلة التي تُشِيرُ إلى أن القصائد التي أُبْدِعَتْ خلال سنوات الهوس كانت أعلى جودة؛ ومن ثَمَّ فإن نتائج تحليل ديكنسون تختلف عن نتائج تحليل شومان، بل إنها تقدِّم شيئًا من الدعم لفكرة أن الهوس قد يزيد من الإبداع، ولو أنَّ قِصَر فترة الإنتاج الرئيسي لديكنسون — ثماني سنوات مقابل أكثر من ٢٠ سنة في حالة شومان — يجعل تحليل حالتها أقل دقةً وإقناعًا.
من المستحيل تأكيد وجود ارتباط قاطع بين المرض العقلي والإبداع في الوقت الحاضر، وعلماء النفس والأطباء النفسيون متباينون للغاية في تقييمهم لهذا الأمر، وكلهم متفقون، مع شكسبير، على أن هناك شيئًا ذا علاقة بالجنون يمكن أَنْ يُثْرِيَ فَهْمَنا للعبقريَّة، لا سيما لدى الشعراء. يقول آر أوكسي في المسح المتوازن الذي أجراه: «يبدو أن التصور القديم بأن العبقرية ترتبط بالجنون لم يكن عاريًا تمامًا من الصحة، حتى إذا كانت بعض التفسيرات التي قُدِّمَتْ في هذا الصدد عقيمة.» والكثيرون مقتنعون بأن الارتباط ناشئ من الانتخاب الطبيعي، الذي من المؤكد أنه لا بد أنه يُعزِّز الإبداعَ كَسِمَةٍ تطوُّرِيَّةٍ مفيدةٍ. لكن في الوقت الراهن، ما من اتفاق على تفاصيل الموقع الدقيق للارتباط بين الإبداع والجنون.