لحظات الاستبصار
كانت ومضة يَغشى بريقُها الأبصارَ؛ ففي خمس دقائق ذهبية، انطلقت مسيرتي البحثية في اتجاه جديد تمامًا، كان آخِر ما يمكن أن يخطر على بالي هو أي شيء له علاقة بكشف الهوية أو دعاوى إثبات النَّسَب. ومع ذلك، لو لم أكن لمحتُ التطبيقات العملية لذلك لكنتُ جديرًا بأن أكون أحمق تمامًا.
لا شك أن لحظة الاستبصار النموذجية هي تلك التي مر بها أرشميدس؛ إذ يُقال إنه حينما كان يستحمُّ منذ ألفَيْ سنة، فَهِم مبادئ الطفو والإزاحة، فقفز من حوض الاستحمام، وأطْلَقَ ساقَيْهِ للريح عاريًا في شوارع المدينة صائحًا «يوريكا»؛ وهي كلمة يونانية تعني تقريبًا «وجدتُها». ويشكِّل يوهانس جوتنبرج مثالًا آخَر من مجال العلوم والتكنولوجيا؛ إذ يُفترَض أن فكرة الطباعة طرأت إلى ذهنه حينما كان يراقب صدفةً عمليةَ عصرِ النبيذ خلال موسم حصاد العنب في القرن الخامس عشر. وإسحاق نيوتن، يبدو أنه توصَّلَ لقانون الجاذبية بينما كان يراقب سقوط تفاحة من شجرة في القرن السابع عشر. وديمتري مندليف، رُوِيَ أنه راح في قيلولة قصيرة بينما كان يكتب كتابًا عن الكيمياء عام ١٨٦٩، فرأى حلمًا، وما إن استيقظ حتى دوَّنَ الجدول الدوري للعناصر الكيميائية. وجيمس واتسون بينما كان يلعب بنماذج كرتونية للجزيئات الحيوية عام ١٩٥٣، أدرك فجأةً كيفية ارتباط شطرَيْ بنية الحمض النووي ببعضهما، وبناءً عليه توصَّلَ للآلية الأساسية الجزيئية البيولوجية للوراثة. وورد على لسان واتسون في كتاب «الحلزون المزدوج»: «لقد ارتفعَتْ رُوحِي المعنويَّةُ إلى عنان السماء.»
بعد أن أحتسي نصف لتر من الجعة وقت الغداء أخرج في جولةٍ سيرًا على الأقدام لساعتين أو ثلاثة، وكلما ابتعدْتُ بخطواتي، لا أفكر في أي شيء محدَّد، ولا أفعل شيئًا سوى النظر إلى الأشياء من حولي وأراقب تتابع الفصول، ويجول بخاطري، في عاطفة مفاجئة لا سبب لها، بيت أو اثنان من الشعر أحيانًا، أو مقطع كامل برمته أحيانًا أخرى، تصحبه — لا تسبقه — فكرة مبهمة عن القصيدة التي سيشكِّل جزءًا منها. ثم تمر عادةً ساعة أو نحو ذلك من الركود المؤقت، وبعدها قد تتدفق زَخَّات أخرى.
على نحو أكثر درامية — مثل أي لحظة استبصار — زعم كوليردج عام ١٨١٦ أنه بينما كان يقرأ فقرة في كتاب عن «قبلاي خان» في أواخر القرن الثامن عشر، راح في غفوة من جرَّاء تعاطي الأفيون، وحينما استيقظ أبدع على الفور قصيدة «قبلاي خان: أو رؤيا في المنام» ومطلعها: (في زانادو أصدر قبلاي خان مرسومًا ببناء قبة ابتهاج …) في وقت أكثر حداثة، عام ١٩٣٢، قرر هنري كارتييه-بريسون أن يأخذ هواية التصوير مأخذًا جديًّا عندما رأى صدفةً في باريس صورةً لفتيان أفارقة يركضون، وكان مأخوذًا بالمصور الرياضي مارتن مونكاتشي. عاد بريسون بالذاكرة في حديث له في سبعينيات القرن العشرين وقال: «فجأةً أدركت أن التصوير بوسعه أن يثبت الخلود في لحظة. إنها الصورة الوحيدة التي أثَّرَتْ فيَّ. فشعرت كأن شيئًا ركلني في مؤخرتي وقال لي: امضِ قُدُمًا، هيَّا انطلق!» في عام ١٩٥٠، أثناء مشاهدة ساتياجيت راي عرضَ الفيلمِ الإيطالي «سارق الدراجة» الذي كان قد سُمِح بعرضه حديثًا في لندن، أدرك على الفور كيف سيخرج فيلمه الكلاسيكي الأول «أغنية الطريق» حينما يعود إلى الهند. كتب راي عام ١٩٨٢ يقول عن ذلك: «لقد دهمتني الفكرة وحسب.»
وكلما تعمَّقْنا أكثر في التاريخ، تضاءلت الأدلة على وجود لحظات استبصار. ففي حالة أرشميدس، لا يوجد أي دليل على الإطلاق عدا الأقوال المنقولة، وفي حالة جوتنبرج ليس هناك إلا رسالة منه يُشَك في صحتها، وفي حالة نيوتن ما من إفادة مكتوبة عن قصة التفاحة، لا شيء سوى تعليقات وُجِّهَتْ لآخَرين في سِنٍّ كبيرة، وفي حالة مندليف ثمة إبهام شديد يكتنف ذلك الحلم الذي حلم به، والذي لم يَصِلْنا على لسانه هو بَلْ رواه زَمِيلٌ له. أما في حالة حُلم كوليردج، فهناك فجوة شاسعة تَفْصِل بين نَظْم قصيدة «قبلاي خان» عام ١٧٩٧ ونشرها عام ١٨١٦، وهو ما يولِّد شكًّا في صحة كلام الشاعر عن تأليفها. وقد فحصت الباحثة إليزابيث شنايدر جميع الأدلة التي لا تزال باقية في مخطوطات كوليردج ورسائله، واستنتجت أن «قبلاي خان» نُظِمت بطريقة أكثر تقليدية، وليس في المنام، وإنما بمسودات متعددة تشي بدرجة عالية من الإدراك. ثمة باحَث آخَر لموضوع كوليردج، هو ريتشارد هولمز، لا يُسقِط قِصَّةَ الحُلْم هذه كُلِّيةً، لكنه يشير إلى أن «من الصعب أن نقتنع بأن الترتيل المنوم ذا اللغة الجزلة لقصيدة «قبلاي خان» هو «حرفيًّا» الذي حلم به كوليردج.»
رغم ذلك، لا يمكن اعتبار هذه الطرائف التاريخية مجرد أباطيل؛ لأن هناك العديد من الروايات الموثوقة عن ومضات الإلهام وَرَدَتْ على ألسنة علماء وفنانين أيضًا. يُضاف إلى ذلك، أنها تتوافق مع تجربتنا الشخصية؛ فجميعنا يعلم أن الأفكار الجيدة تبرق دون سابق إنذار من محادثات عارضة، وعلاقات تصادفية، وشطحات خيالية، وعوامل غير عقلانية مثل الأحلام.
من ناحية أخرى، الأمر برمته لا تشكله لحظات استبصار وحدها بأي حال من الأحوال، فقد يبدو أن فكرة عظيمة «هبطت على المرء»، لكن قبل هذا يبدو أن العقل قد هيَّأ نفسه من خلال دراسة طويلة. وكل من الأفراد الذين تحدثنا عنهم ظلَّ غارقًا لفترة طويلة في التفكير في مشكلة من مشاكل المجال الذي حقَّق فيه إنجازًا في نهاية المطاف. ولعل مثال جيفريز وبصمة الحمض النووي يوضِّح هذا. وألكسندر فليمنج، الذي اكتشف البنسلين، كان يعمل في قسم علم الجراثيم في مستشفى بلندن لقرابة العقدين قبل أن يصادف فُطْر البنسليوم القاتل للبكتيريا عام ١٩٢٨. إبَّان الحرب العالمية الأولى، صار فليمنج مهتمًّا بالعثور على مضادات حيوية لعلاج تعفُّن الدم الذي يصيب جروح الجنود، وبعد الحرب بدأ برنامج أبحاث نَشِط، وفي عام ١٩٢٢ اكتشف إنزيم الليزوزيم المضاد الحيوي في المخاط الأنفي، والدموع، واللعاب. إن اكتشاف فليمنج البنسلين مثال حيٌّ على مقولة لوي باستير: «عندما يتعلق الأمر بالملاحظة؛ فالصدفة لا تختار إلا العقل المستعد.»
دَعُونا نَضَعْ تحت المجهر إحدى أشهر لحظات الاستبصار، ألا وهي اكتشاف الكيميائي الألماني أوجست كيكولي هيكل الحلقة السداسية لذرات الكربون الست في جزيء البنزين في ستينيات القرن التاسع عشر، كانت هذه خطوة حاسمة في تأسيس الكيمياء العضوية، وهي تشكِّل مثالًا ممتازًا يبيِّن مدى تعقيد لحظات الاستبصار على أرض الواقع.
خلال إقامتي في «جنت» في بلجيكا، كنتُ أعيش في شقة عزوبية أنيقة تقع بالشارع الرئيسي، لكن مكتبي كان يقع في زقاق ضيق لا يصله ضوء النهار، ومع ذلك لم يكن هذا الأمر ليزعج كيميائيًّا اعتاد قضاء يومه في المختبر. [ذات ليلة] كنتُ جالسًا هناك، أعمل في تأليف كتابي، لكن لم تكن الأمور تسير على ما يرام، كانت أفكاري شاردة في شئون أخرى. حوَّلْتُ مقعدي ناحية المدفأة ورحتُ في غفوة، فعادت صورة الذرات مجدَّدًا تتواثب أمام عينيَّ. هذه المرة كانت مجموعات أصغر تتوارى على استحياء في الخلفية، حينئذٍ ميَّزَتْ عَيْنُ عَقْلِي — التي باتَتْ حادَّة البصر بفعل رؤًى متكررة من هذا النوع — أشكالًا أكبر حجمًا في تشكيلات متنوعة. سلاسل طويلة، مندمجة غالبًا على نحو أكثر كثافة، والمشهد كله في حركة، يتلولب ويدور كالأفاعي، لكن انظر، ماذا كان ذلك؟! إحدى الأفاعي أمسكت ذيلها، ودارت بسخرية أمام عيني. استيقظتُ وقد برقت في ذهني ومضة، وفي هذه المرة أيضًا قضيتُ بقية الليلة أستنبط نتائج الفرضية.
أيها السادة، دَعُونا نتعلَّمْ كيف نحلم، وربما عندئذٍ سوف نَصِل إلى الحقيقة … لكن دَعُونا أيضًا نحرص على ألَّا ننشر أحلامنا إلا بعد أن نتدارسها بالعقل المستيقظ.
إنها صورة مقنعة — أعني أكثر الأحلام شهرةً في تاريخ العلم — ولعلها مقنعة بدرجة زائدة عن الحد قد لا تؤهلها لأن تكون صحيحة تمامًا، بل إن بعض مؤرخي الكيمياء تشكَّكوا في رؤيته لحلم اليقظة هذا بالأساس. ومع ذلك، هناك أدلة على أن كيكولي رَوَى هذه القصَّةَ لأفراد أسرته وأصدقائه مرات عديدة خلال حياته قبل أن ينشرها أخيرًا عام ١٨٩٠، وهو ما شهد به ابنه. يُضاف إلى ذلك أنه في عام ١٨٨٦ نُشِرَتْ محاكاة ساخرة معروفة استُلهِمَت من حلم الأفاعي التي تمسك ذيولها، الأمر الذي يشير إلى أن القصة كانت منتشرة على نطاق واسع في ذلك الوقت، علاوةً على أن كيكولي كان معروفًا بحرصه باعتباره كيميائيًّا، على عكس بعض معاصريه؛ لذا من غير المرجح أن ينشر حلمًا عجيبًا غير صحيح بالأساس. وإذا افترضنا أنه فعل، فما قدر الأهمية التي يمكن أن نعلِّقها على هذا الأمر باعتباره وصفًا للحظة استبصار؟!
عام ١٨٥٨، قبل وقت طويل من إنجاز كيكولي، كان قد نشر بحثًا وضع فيه مخطَّطَ نظريته الهيكلية، عن كيفية ارتباط ذرات الكربون رباعية التكافؤ بحيث تشكِّل سلسلة جزيئات مفتوحة («أليفاتية»)، تلاه نَشْرُ أولى مجلدات كتابه العلمي عام ١٨٥٩–١٨٦١، لكنه خلال هذا الوقت لم ينشر أي شيء عن بنية جزيئات السلسلة المغلقة («الأروماتية») كسلسلة البنزين، باستثناء إشارة وحيدة مبهمة للغاية تبين أنه يفكِّر في المشكلة. ويبدو أن كيكولي رأى حلمه في أوائل عام ١٨٦٢ أو على الأقل قبل أن يتزوج في يونيو من العام نفسه (وذلك لأنه يشير في كلامه إلى «شقة العزوبية»)، لكنه لم ينشر فعليًّا شيئًا عن هيكل حلقة سلسلة البنزين المغلقة إلا عام ١٨٦٥-١٨٦٦، أي بعد نحو ثلاث سنوات من رؤيته الحلم.
شهدت هذه الفترة — أواخر خمسينيات القرن التاسع عشر ومطلع ستينياته — نموًّا هائلًا في صناعة الأصباغ من قَطِران الفَحْم، وفي صناعات البترول أيضًا. فاتسع علم الكيمياء العضوية سريعًا في المختبرات الكيميائية، وكانت بعض المركبات الأروماتية المكتشَفَة حديثًا شبيهةً على نحو ظاهر بمادة البنزين (التي اكتشفها فاراداي عام ١٨٢٥ في زيت النفط المضغوط)، لكن كان هذا العلم الجديد لا يزال يحتاج إلى نظرية حاضرة عن التركيب الكيميائي تلائمه. وكان عدد كبير من الكيميائيين غير كيكولي يحاولون اكتشاف التركيب الجزيئي للبنزين. جوزيف لوشميت، على سبيل المثال، اقترح عام ١٨٦١ ثلاث صيغ بديلة للبنزين، لم تتضمن أيٌّ منها هيكلًا حلقيًّا، لكن لوشميت اختار أن يرمز إلى البنزين بدائرة كبيرة؛ كي يوحي بأن هيكله لا يزال غير معروف. وأرشيبالد كوبيه افترض عام ١٨٥٨ هياكل حلقية لمركبين عضويين مختلفين، لم يكن البنزين أحدهما. كان كيكولي غير مقتنع على الإطلاق بعملهما، لكنه لم يُفصِح عن أسباب ذلك إلا بالقدر القليل، سواء في المواد المطبوعة أو في المراسلات. يبدو أنه تعمَّدَ أن يحتفظ بآرائه حول هذا الموضوع لنفسه، مع البقاء على اطلاع كامل بالأفكار المنافسة. لكن يُفترَض أن تخمينات لوشميت وكوبيه وغيرهما من الكيميائيين كانت ضمن العديد من الأفكار التي تزاحمت داخل عقل كيكولي، بينما كان يعمل على كتابة مجلد آخَر من كتابه عن الكيمياء العضوية، إلى أن أخذَتْه غفوةٌ أمام المدفأة في إحدى أمسيات عام ١٨٦٢.
كان تأخُّره في نشر نظريته يعود في جزء منه لأسباب شخصية؛ فقد تُوفيت زوجته أثناء الولادة عام ١٨٦٣، تاركةً إيَّاه مع ابنه الرضيع والشعور بالاكتئاب ووهن العزيمة، لكنه كان إلى جانب ذلك في انتظار أدلة تجريبية تشير إلى وجود مُركَّبات جديدة يمكن التنبؤ بها استنادًا إلى الهيكل الحلقي للبنزين. وهذه لم تظهر إلا عام ١٨٦٤ من خلال عمل اثنين من علماء الكيمياء ركَّبَا الإيثيل والأميل فينيل، وهما مركبان مشابهان للبنزين من حيث التركيب والخصائص التي توقَّعَها كيكولي على أساس نظريته التي لم تكن حتى ذلك الحين قد نُشِرت بعدُ. منحته هذه النتائج التجريبية الجديدة دفعة إلى العمل، وشجَّعَتْه على نشر نظريته في يناير من عام ١٨٦٥.
لكن المثير للحيرة، أن بحثه الذي نُشِر عن هذا الإنجاز بدأ بزعمه أن نظريته عن السلسلة المغلقة تشكَّلَتْ «بالكامل» عام ١٨٥٨، أي قبل وقت طويل من الحلم الذي راوده في شقته في «جنت» — علاوةً على أن هذا البحث لم يؤكِّد على الهيكل الحلقي للبنزين، ولا على هياكله المشتقة المحتملة. ومع ذلك، لا مجال لإنكار ورود ذكر حلقة البنزين في هذا البحث. في ذلك الوقت كانت نظرية كيكولي عن المواد الأروماتية تزداد إحكامًا كلما زاد تفكيره فيها، وكأنها «كنز لا ينضب» على حَدِّ قوله لأحد طلابه في أبريل عام ١٨٦٥؛ ففي غضون أشهر من العمل في المختبر، تمكَّنَ هو وطلابه من الإعلان عن تأليف مركَّبين جديدين (البولي برومو والبولي أيودو بنزين) يوضِّحهما الهيكل الحلقي لنواة البنزين. في عام ١٨٦٦ نشر كيكولي رسومات ثلاثية الأبعاد للبنزين، وسرعان ما نالت الحلقة القبول من حيث المبدأ من جانب كافة علماء الكيمياء العضوية تقريبًا، لما استوفته توقعاتها النظرية من تأكيدات تجريبية واسعة النطاق.
كان مفهوم الحلقة على الأكثر هو الذي أتى عبر هذه العملية شبه الواعية أو اللاواعية، وهو مفهوم … لم يأتِ دون سوابق. والنظرية نفسها لم تُوضَع إلا على نحو متأنٍّ، أو يمكن أن نقول بمعاناة، على مدى عدة سنوات قبل أن تُدوَّنَ لأول مرة عام ١٨٦٦.
هذا التطور التدريجي يبدو لنا صفةً معتادة في الإنجازات الإبداعية عند فحص تاريخها فحصًا تفصيليًّا. فقد ينطوي الإنجاز — أو لا ينطوي — على لحظة استبصار واضحة، لكنه دائمًا ما يكون مسبوقًا بفترة طويلة من التفكير والجهد، ودائمًا ما يكون متبوعًا بتمحيص مكثَّف وتطوير. وإليكم مثالين آخَرين على ذلك، أولهما من العالم القديم، والثاني من أواخر القرن العشرين.
يمكن القول إن اختراع الكتابة الذي لا يُعرَف له صاحبٌ هو أول إنجاز؛ وذلك لأنه هو الذي لولاه لما صار للتاريخ، أو العلم، أو الأدب أي وجود (إلا بالطرق الشفهية). كيف حدث هذا الاختراع الخطير؟ يبدو أن «الكتابة البدائية» — أي العلامات القادرة على التعبير عن مجموعة محدودة من المعاني، وليس عن لغة منطوقة كاملة النطاق — وُجِدت خلال العصر الجليدي الأخير، متخذة شكل الرسومات الرمزية في الكهوف والنقوش على الصخور والعظام المحزَّزة، التي قد يرجع تاريخها لعشرين ألف سنة. (تَشْمَل الأمثلةُ الحديثةُ على «الكتابة البدائية» الرموزَ المستخدمةَ في النقل الدولي بالمطارات، والرموزَ الرياضية، والرموزَ التي يستخدمها الموسيقيون.) أما «الكتابة الكاملة» — أي منظومة العلامات القادرة على التعبير عن أي فكرة — فأرجح الظن أنها بدأت منذ نحو خمسة آلاف سنة في المدن الممتدة في بلاد الرافدين (العراق حديثًا)، في شكل كتابة بالصور ورموز أخرى تطوَّرَتْ سريعًا بدرجة معقولة لتتخذ شكل علامات مسمارية منقوشة على ألواح الطين. ظهرت الكتابة الهيروغليفية المصرية بعد وقت قصير للغاية من ظهور الكتابة المسمارية، حوالي عام ٣٠٠٠ قبل الميلاد، ربما تحت تأثير بلاد الرافدين المجاورة، ولو أن هذا الربط ليس له ما يثبته.
كان الإنجاز الذي حوَّل الكتابة من بدائية إلى كاملة متمثِّلًا في كتابة «الريبوس» (أي الكتابة المقطعية: استخدام رمز معين ليرمز إلى الكلمة أو إلى مقطع منها، ولا يرتبط بمعناها، لكنه يشبه صوت نطقها). تأتي هذه الكلمة من كلمة لاتينية تعني «بواسطة الأشياء». وتتيح طريقة «الريبوس» كتابة الكلمات المنطوقة على أساس أجزائها المكونة — الأحرف المتحركة، والأحرف الساكنة، والمقاطع، وهلم جرًّا — التي لا يمكن كتابتها تصويريًّا (بطريقة البكتوجراف). ومن خلال طريقة «الريبوس» يمكننا أن نجعل أصوات أي لغة تُرَى بطريقة منهجية، ويمكن أيضًا أن نرمز إلى مفاهيمها المجردة. وهذا النوع من كتابة الكلمات بات مألوفًا اليوم في ألعاب دمج مقاطع أصوات الصور، وأيضًا من كتابة الرسائل النصية الإلكترونية. فمثلًا الكلمة الإنجليزية «بيتراي» بمعنى يخون تُكتَب على النحو التالي: صورة نحلة وتُنطَق بالإنجليزية «بي» + صورة صينية وتُنطَق بالإنجليزية «تراي»، وكلمة «بيفور» (ومعناها قبل) في الرسائل النصية يمكن أن يحل محلها الحرف الأبجدي «بي» + رقم أربعة «فور». وفي الهيروغليفية المصرية الحافلة بكلمات «الريبوس»، تُنطَق صورة «الشمس» (التي ترمز لها دائرة داخلها نقطة) بصوت (رع) أو (ري)، وترمز لإله الشمس «رع»، وهي أيضًا الرمز الأول في الهجاء الهيروغليفي للفرعون الذي نعرفه باسم رعمسيس (رمسيس) العظيم.
كيف ابتُكِرت طريقة «الريبوس»؟ يعتقد بعض العلماء أنها نتجت من بحث واعٍ لشخص «عبقري» سومري مجهول عاش في مدينة أوروك (أرك في الكتاب المقدس) عام ٣٣٠٠ قبل الميلاد، في الزمان والموقع اللذين ظهرَتْ فيهما أَقْدَمُ الألواح الطينية، واللذين على ما يبدو شَهِدا الكتابةَ الكاملةَ. وبعضٌ آخَر يفترض أنها من اختراع مجموعة من المسئولين الحكوميين والتجار الأذكياء. لكن لا يزال آخَرون يعتقدون أنها كانت اكتشافًا عرضيًّا، ليست اختراعًا، والكثيرون يعتبرون أنها نتيجة التطور الطويل الذي شهدته الكتابة البدائية، لا نتيجة لحظة استبصار لمخترع معين. وهذه كلها افتراضات منطقية؛ نظرًا لشحِّ الأدلة المتوفرة بشأن هذا الأمر، ونحن على الأرجح لن نعرف أبدًا أيها صحيحة في الواقع.
الأمر المؤكَّد، من الأدلة الأثرية، أن الكتابة البدائية وُجِدت قبل الكتابة الكاملة بزمن طويل، وأن الحروف المسمارية استغرقت قرونًا كي تكتسب القدرة على تدوين فكر متطور كالشعر. وأقدم أشكال الأدب الذي وصل إلينا اليوم في العالم، بالكتابة المسمارية السومرية، يعود تاريخه إلى نحو عام ٢٦٠٠ قبل الميلاد، ولو أن قراءة هذه الألواح القديمة لا يزال في منتهى الصعوبة؛ لأن النص لم يكن يعبِّر تمامًا عن اللغة. بعبارة أخرى، لا بد أن وقتًا ما، في أواخر الألفية الرابعة قبل الميلاد، قد شهد إنجازًا في عملية الكتابة بظهور طريقة «الريبوس»، رغم أن الكتابة تبدو للعيون المعاصرة عمليةَ تطورٍ تدريجيٍّ حدثت على مدى الألفية الثالثة، دون أي لحظة استبصار.
بالتحرك خمسة قرون قدمًا، سنجد أن شبكة الويب العالمية التي أُطْلِقَتْ عام ١٩٩٠-١٩٩١ استغرقت نحو عشر سنوات كي تُخترَع، بدءًا ببرنامج كمبيوتر تجريبي يشبه شبكة الإنترنت ويُعرَف باسم «إنكواير»، كتبه تيم بيرنرز-لي عام ١٩٨٠ على اعتبار أنه «إنترانت» (أي شبكة داخلية) للفيزيائيين العاملين في المختبر الأوروبي لفيزياء الجسيمات. يتذكر بيرنرز-لي عام ١٩٩٩ هذا بقوله: «كانت الشبكة نتاجَ عددٍ كبير من التأثيرات على عقلي، والأفكار نصف المتشكلة، والحوارات المتعددة، والتجارب التي تبدو ظاهريًّا منفصلةً عن بعضها.» وهو يتعمد أن يتجنَّبَ التحدث عن لحظات الاستبصار؛ إذ يقول في مذكراته «نسج الشبكة»: «دائمًا ما يسألني الصحفيون ماذا كانت الفكرة الحاسمة، أو ماذا كان الحدث الاستثنائي، الذي منح الوجود شبكة الإنترنت في يوم من الأيام، بينما لم يكن لها وجود في اليوم الذي يسبقه. فيشعرون بالإحباط عندما أقول لهم إن الأمر لم يتضمن قطُّ لحظة استبصار.»
ومع ذلك، الظاهر أن العديد من الإنجازات تضمَّنَتْ بالفعل لحظات استبصار. (ربما يمكن أيضًا أن نستخدم مصطلحَ «تجليات» الذي يفضِّله الفيزيائي الحائز على جائزة نوبل ليون ليدرمان.) لا شك أنها حدثت في اكتشاف نيوتن الجاذبيةَ عام ١٦٦٥-١٦٦٦، وفي فكِّ شامبليون رموزَ الكتابة الهيروغليفية المصرية في شهر سبتمبر عام ١٨٢٢، وفي اكتشاف داروين الانتخابَ الطبيعي في شهر سبتمبر عام ١٨٣٨، وفي اكتشاف أينشتاين النسبيةَ الخاصة في مايو عام ١٩٠٥، وفي اكتشاف واتسون الآليةَ الجزيئية البيولوجية للوراثة في فبراير عام ١٩٥٣. وبصرف النظر عن الاسم الذي نختار أن نسميها به، مَرَّ كل هؤلاء العباقرة بنفس لحظة الاستبصار المفاجئة عقب فترة طويلة من الدراسة المكثَّفَة.