تعْليم الغِناء
في «الأغاني» (ج٥، ص٩، تعليم الجواري للغناء) كانوا لا يُعلِّمونه إلا للصُّفر والسود
من
الجواري، وإبراهيم الموصلي أول من علَّم الجواري المثمَّنات. قال المؤلف: أخبرني الحسين
بن
يحيى، قال: حدثنا حماد عن أبيه، وأخبرني علي بن عبد العزيز عن ابن خرداذبَّة، وأخبرني
إسماعيل بن يونس عن عمر بن شبه، جميعًا عن ابن إسحاق، قال: لم يكن الناس يُعلِّمون الجارية
الحسناء الغناء، وإنما كانوا يُعلمون الصُّفر والسود، وأول من علَّم الجواري المثمَّنات
أبي،
فإنه بلغ بالقيان كلَّ مبلغ، ورفع من أقدارهن، وفيه يقول أبو عيينة بن محمد بن أبي عيينة
المهلبي، وكان قد هَوِي جارية يقال لها «أمان» فأغلى بها مولاها السَّوم، وجعل يُرددها
إلى
إبراهيم وإسحاق ابنه، فتأخذ عنهما، فكلما زادت في الغناء، زادَ في سَومِه، فقال أبو
عيينة:
قلتُ لما رأيتُ مَولَى أمانٍ
قد طغَى سَومهُ بها طُغيانا
لا جزَى الله الموصِلِيَّ أبا إسـ
ـحاقَ عنَّا خيرًا ولا إحسانا
جاءنا مرسلًا بوحي من الشَّيـ
ـطَان أغلَى به علينا الْقِيانا
مِن غناءٍ كأنه سكراتُ الـ
ـحُبِّ يُصبي القلوبَ والآذانا
وقال فيه ابن سبابة، وهو (صوت) غُنِّيَ به:
ما لإبراهيمَ في العلم بهذا الشأن ثانِ
إنَّما عُمرُ أبي إسحاقَ زينٌ للزَّمانِ
جَنةُ الدُّنيا أبو إسحاقَ في كلِّ مكانِ
فإذا غنَّى (كلما شَاء) أجابته المثانِي
١
مِنه يُجنَى ثمرُ اللهوِ ورَيحانُ الجنانِ
لإبراهيمَ في هذا الشعر لحنان: خفيف ثقيل بالبنصر، وخفيف رمل بالوسطى، عن عمرو
والهشامي.
وفي «الأغاني» (ج٥، ص٢٥): السماع من وراء الستار، شيء من عادة الخلفاء في ذلك.
وفي ص٣٢ (إذن الرشيد خلف الستار، لإبراهيم الموصلي بعد استماع غنائه) قال دعبل بن
علي:
لما ولي «الرشيد» الخلافة وجلس للشرب بعد فراغه من إحكام الأمور، دخل عليه المغنون، وكان
أول من غناه إبراهيم الموصلي بشعره فيه وهو:
إذا ظُلَمُ البلادِ تجَّللتنا
فهُارونُ الإمامُ لها ضياءُ
بِهارَونَ استقام العَدلُ فينا
وغاض الجورُ وانفَسَحَ الرَّجاءُ
رأيتُ الناسَ قد سكَنُوا إليه
كما سكنت إلى الحرم الظباءُ
تَبِعتَ من الرسول سبيلَ حق
فشأنك في الأمور به اقتداء
فقال لهُ الرشيدُ من خلف الستارة: أحسنت يا إبراهيم في شعرك وغنائك، وأمر له بعشرين
ألف
درهم.
لحن إبراهيم في هذا الصوت ثقيل أول بالسبابة والوسطى، عن أحمد بن المكي.
(١) مدح وهجاء
وقد ذم الشعراء ومدحوا كثيرًا من المغنين والمغنيات، قال أحدهم يذم مغنيًا:
ومغنٍّ باردِ النَّغـ
ـمةِ مُختَلِّ اليدينِ
ما رآه أحدٌ في
دار قوم مرَّتين
صوته أقطعُ للذ
ات مِن سَطوَةِ بَين
وقال ابن الرومي أيضًا في هجو مغنٍّ:
فظلتُ أشربُ بالأرطال، لا طربًا
عليه، بل طلبًا للسُّكر والنَّومِ
وقال آخر في هجاء مغنِّية، غنَّت قبيحًا، وضربت قبيحًا:
غناءٌ تستحق عليه ضربًا
وضربٌ تستحق به غِناها
وقال الصاحب بن عباد في هجو مُغنٍّ اسمه «ابن عذاب»:
أقول قولًا بالاحتشام
يفهمه كلُّ مَنْ يَعيهِ
ابنُ (عذَاب) إذا تغنَّى
فإنني منهُ في أبيه
ولأبي تمَّام في وصف مغنية عوَّادة:
حَمِدْتُكِ ليلةً شَرُفت وطابت
أقام سهادُها ومضَى كَراها
سمعتُ بها غناء كان أوْلَى
بأن يقتادَ نفسي من عَناها
ومُسمِعَةٍ يحارُ السَّمعُ فيها
ولم تُصمِمه لا يُصَمم صَداها
مَرَت أوتارَها فشفَتْ وشَاقت
فلو يَسطيعُ حاسُدها فَداها
ولم أفهم معانيها ولكن
وَرَت كبِدي فلم أجهل شجَاها
فكنتُ كأنَّني أعمَى مُعَنَّى
يُحبُّ الغانياتِ ومَا رآها
وقال كشاجم في بُحَّةَ حلْق المغنِّي:
أشتهي في الغناءِ بُحَّةَ حَلْقٍ
ناعِم الصَّوتِ مُتعَبٍ مكدودِ
كأنين المُحبِّ أضعَفَهُ الشَّو
قُ فضاهى به أنينَ العود
لا أحبُّ الأوتار تعلو، كمَا لا
أشْتَهي الضَّرب لازمًا للعمود
وأحبُّ المجَنَّباتِ كحبِي
للمبادي موصولة بالنشيد
كهبوب الصَّبا توسَّطَ حالًا
بين حالين: شدةٍ وركود
وقال الناجم:
شَدوٌ ألذُّ من ابتدا
ءِ العَينِ في إغفائها
أحلَى وأشهى من مُنَى
نفسٍ وصدقِ رجائها
وقال محمد بن بشير:
وصوتٍ لِبَنِي الأحرا
ر أهلِ السِّيرة الحسنَى
شَجٍ يَستَغرقُ الأوتا
ر حتَّى كلَّما تَفْنَى
فما أدرِي اليدَ اليسرَى
به أَشقى أم اليمنَى؟
وقلنا لمغنيه
وقد غنى على المثنَى
ألا يا لَيت هذا الصو
ت حتى الصبح لا يَفنَى
فقد أيقظَتِ اللذا
تُ عينًا لم تزل وسنى
وما أفهم ما يعني
مغنيه إذا غنى
ولكِنيَ من حُبي
له أستحسن المعنى
وفي «خلوة المذاكرة» للصفدي (ص٤) مقطعات في المغنين، وفي «نهاية الأرب» (ج٥) ما قيل
في مدح الغناء. قال الثعالبي:
غناؤك يهزم جيش الكروب
وعيناك للناس عذر الذنوب
فويل القلوب إذا ما رَنَوْت
وإما شدوت فويل الجيوب
وقال أيضًا:
وسائلة تسائل عنك، قلنا
لها في وصفك العجب العجيبا
رنا ظبيًا وغنَّى عندليبًا
ولاحَ شقائقًا ومشى قضيبًا
وقال عكاشة يصف قينة:
من كف جارِية كأنَّ بنَانَها
من فضة قد طُرِّقت عُنَّابًا
وكأن يمناها إذا نطقت به
تلقي على يدها الشمال حسابًا
وقال ابن الرومي:
وقيانٍ كأنها أمهاتٌ
عاطفاتٌ على بَنيها حواني
مطفلاتٌ وما حملن جنينًا
مرضعات ولسن ذات لبان
كلُّ طفل يُدعى بأسماءَ شتَّى
بين عود ومِزهر وكِرانِ
أمَّه دهرَها تترجمُ عنه
وهو بادي الغِنى عن الترجُمانِ
وقال أيضًا:
كأنَّما رِقَّةُ مسموعِها
رقَّة شكوَى سبقتْ دمعهْ
غنت فلم تحتج إلى زامرٍ
هل تُحْوَجُ الشمسُ إلى شمعة؟
كأنَّما غنَّت لِشمس الضحى
فألبستها حُسنها خِلعة
وقال كشاجم أبو الفتح محمود:
أفدي التي أهدتْ لنا
شمسَ الضحى والليلُ حالكْ
مملوكةٌ جلتْ فليْـ
ـسَ يَفِي بقيمتها الممالك
عرضت فأعطت عُودَها
ضربًا يعرِّض للمهالك
وتبعتُها فتَصرَّفت
بالضَّرب في كلِّ المسالك
ويئست من إدراكها
فجعلتُ صوتي عند ذلك
قصرَت يدي عنكِ الغدا
ةَ فكيف لي بيَدٍ تنالُك
وقال أيضًا:
بدَت في نِسوَةٍ مثل الْـ
مَهَا أدمجنَ إدماجا
يجاذبِنَ مِن الأردا
فِ كثبانًا وأمواجًا
ويسترنَ من الأبشا
رِ في الدِّيباج ديباجا
وقضبانًا من الفضـ
ـة قد أثمرتِ العَاجا
وقد لاثت من الكورِ
على مِفرقِها تاجًا
فلمَّا طفنَ بالمجلـ
ـس أفرادًا وأزْواجًا
تجاوَبن فغنينَـ
ـكَ أرمالًا وأهزاجا
وحرَّكن مِن الأوتا
رِ إمساكًا وإدماجًا
فلا لومٌ على قلبـ
ـك إن هُيِّجَ فاهتاجَا
وفي «لطف السمر في القرن الحادي عشر» (ص٣٧٧): سماع الطير لصوت «مصطفى بن تنكر» وتهافتها
عليه حين كان يغني، لإجادته ألحان ما يغنيه، ومشاهدة المؤلف ذلك.
وفي «الأغاني» (ج٢١، ص٢٣٧): كون الظباء النافرة كانت تأتي لاستماع ألحان صوت مخارق،
فإذا
سكت عادت لنفارها وشردت.
وفي ص٢١١: ص٢١٤ من مجموعة شعرية يرجح أنها للعصفوريِّ ولعلها منقولة من «مطالع
البدور»: مقطَّعات في المغنِّين والعوَّادين مدحًا وهجوًا.
وقال الناجم مادحًا:
طفِقَت تغنينا فخِلْنا أنَّها
لسرورنا بغنائها تَعنينا
وقال أبو هلال العسكري:
وهيجتْ ليَ من شجوٍ ومن فرحٍ
أيدٍ نثرن على الأوْتار عُنَّابا
لا عيب في العيش إلا خوف غيبتكم
إن السرور إذا ما غبتمو غابا
وقال أبو عون الكاتب:
تشدو فيرقص بالرءو
س لها ويزمر بالكئوس
وقال عليُّ بن عبد الرحمن بن يوسف المنجم في عوَّادة:
غنَّت فأخفت صوتها في عُودها
فكأنما الصوتان صوتُ العود
غيداءُ تأمر عُودَها فيطيعها
أبدًا، ويتبعها اتباع وَدُود
أنْدَى منَ النوَّار صُبحًا صوتهُا
وأرقُّ من نشر الثَّنا المعهود
فكأنما الصوتان حينَ تمازجا
ماء الغمامةِ وابنةُ العنقود