عِلم الموسيقى
في «الدُّرر المنتخبات المنثورة» (ص٤٣٧–٤٥٤): «علم الموسيقى وفيه رسوم النغم وذكر أسمائها.» وفي «المنهل الصافي» (ج٥، ص٦٥٠): «علم الموسيقى، وكون العالم تعيبه، ومدح هذا العلم.»
قلت: وعلماء عصرنا يستعيبون هذا الفنَّ؛ لعدم معرفتهم به وظنهم أن هذا الفنَّ هو ما يقوله العامة من الغناء والطرب، وليس هو كذلك، وإنما هو علمٌ مستقلٌّ بذاته مشتقٌّ من العروض، وفيه أراجيز ومصنفات نظم ونثر، وهو فنٌّ صعب إلى الغاية لا يصل إليه إلا من له قوة في عصبه مع معقول جيد وذكاء وحسن صوت، ومن الأراجيز في هذا العلم قول بعضهم:
وأما علم النغمة فهو: بحرٌ لا قرار له.
وقيل إن «ابن كُرٍّ» كان لا يمرُّ به صوت مما ذكره أبو الفرج الأصبهاني صاحب كتاب «الأغاني» إلا ويجيء به ويُجيده، وكان فيه شمم وعفافٌ لم يتَّخذ صناعة الموسيقى استرزاقًا، بل فكاهة يروِّح بها نفسه. قال القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله العمري، وله به صحبة أعرف حقها له: كان يتردَّد إليَّ يتودَّد ويتفقَّد، ولقد رأيته غنَّى فأضحك، وغنَّى فأبكى، وغنَّى فأنام، ورأيت بعيني منه ما سمعته أذني عن «الفارابي» فصدَّق الخُبْر الخَبر، وحقق العينَ الأثر، ورأيت منه واحدًا سبحان من وهبه ما لا هو في قدرة البشر. انتهى كلام ابن فضل الله.
قال الشيخ تقي المقريزي: وأخبرني خال أمي القاضي تاج الدين إسماعيل بن أحمد بن عبد الوهاب المخزومي الشهير بأبي الخطباء قال: أخبرني الشيخ شمس الدين محمد بن عبد الرحمن بن الصائغ الحنفي عن (ابن كُرٍّ) هذا، أنهُ مرَّ ببغلته على طائفة يغنون فحرَّكها حتى مشَتْ على الدف والإيقاع، وهذا شيء لم يبلغه أحدٌ غيرُه.
وفي «أزاهير الرياض المريعة» في اللغة لِلبيهقي (ص١٥٩): «الموسيقى: تأليف الألحان، والموسيقار: المطرب، واللفظ يوناني.»
رسالة في علم الموسيقى
وفي «المقامات الجلالية الصفدية» (ص٢١٥–٢٢١): الموسيقى والكلام في أصلها، ومن بين هذه الصفحات — أوائل ص٢١٨ — معنى الموسيقار، وتعدد أسماء الأنغام، ثم قال: فحفظت عنه ضمائر الرسالة وكتبت منه جواهر المقالة، هذا وفي ضميري أن أسأله عن علم الموسيقى، وأصل ترتيبه في السر والإجهار، منشؤه، ومن أنشأه؟ ومن أين مبتداه؟ وإلى أين منتهاه؟ والخجل يمنعني أن أتفوَّه معه بذلك، والرجل يسلك لي في معناه أضيق المسالك، فظهرت له بارقة في أسارير وجه رجائي، وفهم عني ما أقصده من إيضاح سر معنائي، فقال: يا تامر، ألك مسألةٍ أخرى، لأوضح لك بيان ما تكسبه في الدنيا والأخرى؟ فقلت: بمن فتق صحيح ذهنك بالحكم، ورتق فصيح عقلك بالنغم، إلا ما عرفتني بالأنغام، وأصلها بالإجهار والإدغام، وما هذا النفس الجاري في آلة الطرب للجوارح، والقبس الساري بنور الأرب بين الجوانح، وكيفية ما تتلذذ به الأسماع، ومعنوية ما تتنبَّذ به الطباع، وحنين النفوس لديه، وأنين إذهاب البؤس بالميل إليه، فقال:
قال تامر بن زمام: فقلت: يا من تعلق في العلوم، وتنمق في المنثور والمنظوم، اشرح لي معنى أصولها، وأوضح لي مدغم فصولها، وكيفية ترتيب البردات، ومعنوية تهذيب الأوازات، وفروع تركيب البحور والشواذات، وتنكيت أركانها المرصَّعة، على توقيت العناصر الأربعة، وقانونها بالاختلاط، للأربعة أخلاط، ومطابقتها للبروج الاثني عشر بالتخفيف، وإن كان ضعيف، وما هذا اللفظ المدغم، والحرف المعجم، الذي لم يكتمل منه كلمة لتعلم، فقال:
قال الراوي: فتحققت معنى فضيلته، وتيقنت مجنى وسيلته، وقلت: عرِّفني بالفرق بين الموسيقة، والموسيقي، والموسيقار من تنوع في فنون، فقال:
قال الراوي: قلت: فاشرح لي ما ورد فيها، ومن اتخذها وأباح منها ما أباحه وما لا يباح. فقال: اسمع فصلًا في المعنى، الأنغام هي الألحان، وقد وُضعتْ ثلاثون لحنًا؛ من البردات اثنا عشر، والإقرارات ستة، والشواذات اثنا عشر، وبعد الثلاثين مما عمل من التلحين فهو مسروق.
ومما ذكر عن «وهب بن منبه» عن الألحان أن نبي الله داود عليه السلام كان يقرأ «الزبور» — وهو أحد الكتب الأربعة — بسبعين لحنًا، كل لحن لا يشبه الآخر، وكان يحنن الطيور إليه، وتصطف على رأسه، وتتساقط في مجلسه، وتستأنس الوحوش إليه، وتحفُّ به الأنعام والهوام والجن والأنس، وتسبح معه الجبال، فلا ينفصل مجلسه إلا وقد مات من الناس خلق كثير، حتى إن الرجل كان إذا خرج إلى مجلس داود يوصي أخاه أو جاره: «إنني متوجه إلى مجلس داود، فإن أنا مت فوصيتي إلى أهلي كذا وكذا.»
وكان أيضًا إذا قرأ «الزبور» يقف الماء الجاري، ويركد الهواء، ويعرق المحموم، ويفيق المغمى عليه، وكل هذا من حنين الأرواح إلى ما كانت تأنس في الأزل من نغمات دوران الأفلاك، فافهم ذلك.
ويروى أيضًا أن إبليس — لعنه الله — لما رأى الناس في العبادة في زمن داود عليه السلام، صنع جنسًا من الملاهي كالمزامير المختلفة الأصوات والأرغن والعيدان والمزاهر والجنوك، وغيرها من أصناف القوانين واللعب، وهي اليوم بأيدي الناس، ثم أمر أجناده من الشياطين أن تضرب بها بين السفهاء — من لا دين لهم — ليستميلهم عن العبادة ويشغلهم بالملاهي في زمن داود عليه السلام، حتى لا يمضوا إلى مجلسه حسدًا من إبليس — لعنه الله — فكل من يصغي إليها على نوع من المنكر فهو مخطئ، وكل من سمعها اشتياقًا إلى ما كان عليه في الأزل على الوجه المشروع من باب الفقر والتصوف والعبادة والتوحيد فهو مصيب، والله أعلم.
قال تامر بن زمام: فكسبت منه هذه الفائدة، وكتبت عنه الفضيلة الزائدة، وفارقته شاكرًا، وللوْذعيَّته ذاكرًا، وودعته وداع الأحباب، وفارقته فراق الأصحاب.