الفصل الأول
مضى عليَّ أربعون عامًا وأنا على هذه الأرض، وها أنا ذا أنظر إلى ورائي، إلى هذه السنوات الطويلة، فأرى أقصاها كأنه الأمس القريب لم تمضِ عليه إلا ليلة، فما معنى الزمان وما معنى السنوات التي نَعدُّها؟ ما زلت أنا جحا الذي عرفتُه في سن العشرين والعشر، لم يتغيَّر مني شيء سوى أن صَلُبَ عودي وجَمدت مفاصلي وزِدت في الطول والعرض شيئًا، وما زلت أغضب وأرضى وأُحِب وأكره، وأندفع مع حماقة البشرية كما كنتُ أفعل صغيرًا. إن الحكمة لم تُوهَب للبشر وإن كانوا يدَّعونها.
لقد كنت أحسَب أن الأربعين إذا بلغتُها تُوفي بي على سنِّ الكمال؛ فإنها السِّن التي كان الأنبياءُ يُبعَثون فيها. ولكني لم أجد في نفسي تبدُّلًا وقد بلغتُها؛ فما زلت كما كنتُ حائرًا خائبًا أهيم في خيالي، ولا أعرف من أمور الحياة أمرًا.
لقد تعوَّدت أن أصارح نفسي ولا أخادعها، وأنظر إلى عيوبي فلا أستُرها، ولست أدري كلما تأملت أحوالي، أأبكي أم أضحك منها. لست أُحسِن في الحياة إلا أن أهيم فيها على وجهي قانعًا بما تقع عليه عيناي من مجالِي هذا الكون العجيب الذي يهزُّني بجماله وجلاله. فإذا غمرتني الهزَّة أنطقتني قائلًا: «سبحان ربي!» وأُبعِد في التأمُّل حتى أغيب عن وعيي. والناس ينظرون إليَّ وهم يسعون ويكدُّون ويتزاحمون على ما أسميه حطام الدنيا، فأراهم يمضون عني ويبسمون سخرًا، فأوشك أن أسخر منهم وأضحك من جهالتهم، ولكني أعود سريعًا إلى نفسي فأردُّها عن السخرية؛ فإني لا أدري أأنا خيرٌ منهم أم هم خيرٌ مني.
وأضيق أحيانًا بما ألقاه في مصبحي وممساي، وأُنكر ظلمَ الأحياء، وأمتلئ عليهم بالحنق أحيانًا، فإذا ما أذهلتني ضرباتُ الحياة وعثراتها وقفت بين الناس أضحك حتى يتحلَّقوا حولي ويضحكوا لضحكي. فإذا نطقتُ بما في قرارة قلبي حسِبوا أنني أهرِف وأخلِط فيزدادون مني ضحكًا. أهذا قضاء الله الذي قدَّره لي؟
لم يَهَب لي الله ما وهبه لهؤلاء الذين يضطربون في الحياة فيصارعونها، لم يهَب لي مالًا أسنُد إليه ظهري، ولا حيلةً أكيد بها وأعتمد عليها، ولا جمالًا في خِلقتي ولا بسطةً في قوَّتي. ولكنه وهب لي قلبًا يحسُّ عظمته وجلال خلقه، وكفاني هذا وحسبي!
ولست أملِك من دنياي إلا هذه الدار التي خلَّفها لي أبي من تراث أجدادي، وقد كانت بها حديقة أدركت خضرتها في صباي، ولكنها اليوم صحراءُ جرداء بلقع؛ فليس بها من آثار الخضرة إلا جذوعٌ كالحة ونخلات شعثاء، وقد تهدَّمت ساقيتُها وكُسِرَت قواديسها وانقطع ثمرُها. ومع ذلك فإنني أحبُّها ولا أرضى أن أبيع منها قيراطًا، وحسبي من الحديقة سَعَتها. بل إنني لست أرضى أن ينقطع دوران الساقية، فلا يزال الثور يدور بها ويعجبني أن أسمع نعيرها إذا صفا الليل وهدأ الكون وسطع البدر؛ فإن صوتَها يقع في أذني أشهى من الألحان، وحسبي من ساقيتي نعيرها.
وقد تهدَّم سور البيت فصار لا يحجب أهلَ الفضول ولا يمنع الدَّخيل، ولكن ما ضرَّني من ذلك والأسوار لا تُقام إلا إذا كان صاحبها يخشى على ذهبٍ عنده أو جوهر؟! وأنا بحمد الله ليس عندي منها ما ينغِّص عليَّ عيشي.
خرجت يومَ بلغتُ الأربعين إلى ظاهر ماهوش لعلني أستوحي في ذلك اليوم ما يحيل جدبي إلى خصب، أو يُدخِل نورًا إلى ظلام القلب. وكان الربيع يخلع على الريف رداءه، وحقول البرسيم الخضراء تتموَّج تحت أذيال النسيم رطبةً يانعة، والفول يملأ الهواءَ عطرًا من نُوَّاره الجميل، ومروج القمح كأنها لوحةُ فنانٍ أبدع في مزج ألوانه فهي زبرجد في ذهب، وحوافي النهر ترقص بما عليها من أعشاب وأزهار. فلو شئتُ أن أتغنَّى بما وقعت عيني عليه من الجمال لما أبقيت موضعًا لغيره من الحديث. وحسبي أن أقول إنه السحر الساحر، وسبحان مبدع الكائنات. فسِرت صامتًا وقلبي يثرثر وروحي يحلق حتى بدا لي العالَم كلُّه كأنه ذرةٌ على ساحل المحيط، وهانت عندي الحياة وما فيها من هموم صغيرة. حقًّا ما أصغر همومَ الحياة!
كنت أميل إلى العودِ الضئيل من العشب فأرفعه إلى عيني وأحاول أن أرى ما فيه من جلال الإبداع، فيرتد عنه بصري حسيرًا. وأرى الذبابة على العود أو البعوضة فوق الورقة أو النحلة ترف على الزهر فأتأمل الإبداعَ بعد الإبداع، وأُغمِض عيني خوفَ أن يعشيَها نور الجلال، فأصيح بغير وعي: «يا ألله!»
ورأيت شجرةَ جميز على جانب الطريق، وكنت كثيرًا ما أستريح فوقها إذا تعِبتُ من طول جولتي؛ وتلك عادةٌ تعوَّدتها منذ صغري؛ فقد طالما كنت أقضي الليل راقدًا بين الغصون كأنني بعض الطيور في أوكارها.
وجلست أقلِّب نظري في الأفق البعيد وفي ظل الشجرة القريب، فما وقع إلا على جليلٍ من المعاني تومض في ومضات كنار الجبل إذ آنسها موسى؛ فلا أكاد أسمو بنظري إلى قبسٍ منها حتى يرتد طرْفي كليلًا.
وفيما كنت في مجلسٍ أهيم في مدارج السماء إذ جذبتني حركةٌ على الأرض، فالتفتُّ إلى الطريق فإذا بي أرى موكبًا يحيط بهودج، وهو متَّجه نحو ماهوش مقبِلًا من ناحية قصر نزهة السلطان، فكدت أصرِف النظرَ عنه وأعود إلى هيامي في فضائي، ولكن ما أعجب الإنسانَ إذ ينقلب من السماء إلى الأرض يجذبه إليها عنصر الصلصال! كان الموكب باهرًا لا تقع فيه العينُ إلا على وهجٍ من الحرير والجوهر أو بريقٍ من الحديد والذهب. فخشعتُ في مكاني وجلستُ أرقبه حتى مرَّ وصار الهودج حيالي، فإذا بي أرى الستر مُزاحًا، وألمح من ورائه فتاةً سبحان الخالق القهار! كان وجهها سافرًا عن فلقةٍ من بدر، أبيضَ في حمرةٍ كأنه وردةٌ تتفتح في الربيع. وكانت تنظر إلى المروج الخضراء باسمةً، وترمي بلمحاتٍ من عينين لا أستطيع أن أصوِّرَ ما فيهما من حلاوة. فخفق قلبي خفقةً أحسست منها كأنه غاص في صدري، وصحتُ صيحةً مكتومة: «أهذه علية؟» وأغمضتُ خشيةَ الفتنة، ولكن عينيَّ لم تطاوعاني — غفر الله لي — فعُدت أنظر إلى تلك الخِلقة البديعة وعاد قلبي إلى خفقانه، وعادت إليَّ ذكرى عزيزة فهزهزت كياني. إنها علية الحبيبة حقًّا. والتفتت الفتاة فاضطربت غدائرُ شعرها الأسود حول عنقٍ في بياض الزنبق، ورأيت جبينها الواضح وأنفها الجميل وكانت تزيح جانب الستر بأناملَ منعمةٍ فوقها معصمٌ أنيق يتوهَّج بالجوهر. فدار رأسي حتى كدتُ أسقط من مجلسي، وتعلَّق بصري بأعقاب الموكب حتى غاب عن عيني. فنزلت، ولا أدري إلى أين أسير، شاخصًا إلى الهودج كأنني أنجذب نحوه قسرًا. وسرح خيالي إلى أيام شبابي إذ كنت أهيم بمن استأثرت بفؤادي؛ علية التي بهرتني وفتنتني. أواه! إنني لا أذكرها إلا خفق قلبي وأضاء الكون حولي. كانت علية في شبابي عُلالةَ النفس إذا صحوتُ، ومؤنسةَ الأحلام إذا أغفيت. كنت أقف الساعات أنتظر حتى تمر عليَّ، فإذا مرَّت سِرتُ وراءها مباعِدًا حتى تغيب عن عينيَّ، ثمَّ أعود فأقف حيث كنت، فأبقى ساعاتٍ أخرى حتى ترجع لكي أتزوَّد منها بنظرةٍ أخرى. لشد ما كنتُ سخيفًا شقيًّا إذ ضعفتُ وجبنتُ وتركتُ منافسي السمج يفوز بها. وا أسفاه عليَّ وعليها! فإن ذلك المنافس أشقاني وأشقاها. ما كان أشد حمقي وسوء حظي إذ ترددت ولم أجاهد لأنتزعها منه انتزاعًا! نعم كنت فقيرًا وكان غنيًّا، وكنت قبيحًا وكان جميلًا، وكنت هينَ الجاه وكان وجيهًا. ولكني كنت أملِك حبي وقلبي، وكان ذلك خيرًا لها من ماله وجماله وجاهه. ولم يمهلها الأجلُ فاهتصرها في رونق الشباب وسرتُ وراء نعشها، فكان قلبي يدمى حتى شيَّعتُها إلى قبرها. عفوكِ يا علية؛ فقد كنتُ مذنبًا تَعِسًا، أو لقد كان هذا قضائي. ولقد خُيِّلَ إليَّ بعد أن فقدتُها أن قلبي قد أُغلِق وجَمُد واستقر على بلواه، وما كنت أحسِب أنه سوف يخفق مرةً أخرى، ولكنه في ذلك اليوم خفق وتوهَّج فيه القبس الخابي.
لست أدري، أعادت علية إلى الحياة وكانت هناك في الهودج تمر أمامي؟ لقد رأيت في الهودج عينيها وجبينها وغدائر شعرها ولفتة جيدها. أكنتُ أهذي إذ رأيتها ولم يكن ذلك إلا خيالًا؟ أم لقد مرَّ الهودج حقًّا أمامي وبدت صورتها حيالي؟
وسرت بين الحقول أهيم ولا أحسُّ مواقعَ قدمي، ولا أرى شيئًا مما يحيط بي حتى تنبَّهت إلى صوتٍ يناديني، فتلفتُّ كأني أستيقظ من حُلمٍ فإذا بي أرى صديقي أبا النور أمامي.
لكَ الله يا صديقي! فليس لي في ماهوش كلِّها قلبٌ أطمئن إلى رحمته غير قلبك. فلما نظرت إليه بادرني قائلًا: أين كنتَ منذ الصباح؟
فقلت في ارتباك: على الأرض حينًا، وفوق الشجرة حينًا.
فقال في عطف: وإلى أين؟
فتلفتُّ حولي لأعرف أين كنتُ، ولكن اضطراب حواسي كان يذهلني، فقلت: إن شئتَ الحق، فإني لا أدري.
فأخذني من ذراعي وخرج بي يسير نحو الطريق، وعند ذلك تبينتُ أنني كنتُ أسيرُ في حقلٍ حديثِ عهد بالري، وأنا أغوص فيه وأخبِط على غيرِ هدًى.
فلمَّا صرنا على الطريق قال صاحبي: أتحب العودة إلى ماهوش؟
وما كنتُ لأنصرف عن الصورة التي ملأت فؤادي، فسألتُ قائلًا: أرأيت هذا الموكب الذي مرَّ بي؟
فلم يَزِد على أن قال: نعم رأيته.
ثمَّ سكت، كأن الأمرَ لا يستحق إلا تلك الكلمة القصيرة. فأعدتُ قائلًا: أوقَعتْ عينك عليها؟
فنظر أبو النور نحوي بعينيه الفاترتين وقال متعجِّبًا: مَن تعني؟
فانطلق لساني قائلًا: علية.
فأحسست يدَه تشتد على ذراعي وقال في رحمة: هو موكبُ ابنة السلطان يا صديقي.
ثمَّ حرَّك شفتيه يقرأ هامسًا.
فلم أشعر إلا وقد اندفعتُ أصفُ محاسنَها، وكنت أتعجَّب من الحرارة التي تتدفق في بياني. نعم كانت نفسي تعجب من نفسي.
وزادت قبضة صاحبي على ذراعي شدةً، وخُيِّلَ إليَّ أنه يحاول أن يسندني، فتمالكت نفسي وأمسكت لساني وسِرتُ إلى جانبه صامتًا وهو يقودني، وعُدت إلى صورة الهودج أتمثَّلها وأتأمل محاسنها، ثمَّ صحتُ فجأة: أهي ابنةُ السلطان حقًّا؟
فحرَّك أبو النور شفتيه، ولكني سمعته يهمس مستغفِرًا.
فأعدتُ سؤالي عليه، ولم أُرِد به إلا أن أعرف إذا كان صاحبي قد رأى الموكبَ حقًّا؛ فقد داخلني الشكُّ أن يكون ما رأيته من أشباحِ وهمي، ولكنه قال: هكذا قال حُرَّاسُها.
فهدأت نفسي قليلًا وعُدت إلى صورة الفتاة أناجيها. وما ضرَّني أن تكون تلك علية التي أحببتها في شبابي، أو أن تكون ابنةَ السلطان أو غيره من الخلق؛ فلم أكن أطمع في غيرِ صورتها، وتلك قد احتواها قلبي، وحسبي.