الفصل العاشر
لا تحمل الأنباء إلينا إلا كل منذِرٍ بكارثة. وهل عجبٌ أن يرسل الله الكوارث على بلدٍ مثل ماهوش؟
خرج تيمور بجيوشه فاجتاح أقصى ريفها وأدناه، وخرج علاء الدين من خوفه يهرب في البلاد طريدًا ذليلًا. ويلاه، إن علاء الدين طريدٌ بعد أن خرج من عاصمته وقصره، فأين أنتِ يا علية ابنة علاء الدين؟ لقد أنساني همُّ الحياة أن أخلو إلى خيالك وأسمو معه إلى سموات العلا. فأين أنتِ في مصاب ماهوش؟ أبكت عيناكِ حُزنًا؟ أَعُصِر قلبُكِ همًّا؟ وهل امتلأ صدركِ فزعًا؟ أنظرت إليكِ العيون بغير ستر، وتشتت عنك الحرَّاس والحُجَّاب؟ ليتكِ لم تكوني سوى هذا الخيال الذي في فؤادي فلا تصل إليكِ الأيدي، ولا تدنو منكِ حوادث الدهر. لقد جنى عليكِ أنكِ في ماهوش، فكان لكِ مصير أهل ماهوش.
وكيف أُقيمُ في هذا البلد الذي لا مكان لي فيه إذا كان خلوًا منك؟ لقد كنتُ لا أرضى بماهوش بديلًا وأنت في ذرى قصرك، فما مقامي بأرض ماهوش وقد كنتُ فيها أتنسَّم النسيم من قِبَلك؟ لقد أبيتُ الخروج من ماهوش على ظلمها حتى لا أبعُد عن ديارٍ يسطع نوركِ عليها، وتنبعث أنفاس طهرك فوقها. لقد أبيتُ أن أجيب دعوة ملوك البلاد إذ دعوني إلى قصورهم، وأصممت أذني عن نداء العلماء في أقاصي الأرض إذ نشدوني أن أعقد حلقات الدرس في مساجدهم. ولكن أأبقى بعدُ في ماهوش وقد نزحتِ عنها وليس لي مكان فيها؟
لقد دفعني غيظي بالأمس إلى عملٍ ما زلت ألوم عليه نفسي، فما كدت أدخل إلى داري بعد أن فارقني أبو النور حتى عادت الثورة إلى قلبي. إن ماهوش تذلُّني وتقهرني وتتجاهل وجودي. إن عيونها العشواء لا تعرف لي مكاني. وخطر لي أن أموت لو كان الموت في يدي. ثمَّ تصوَّرت نفسي ميِّتًا في نعشٍ يحملني الناس إلى القبر ويهيلون عليَّ التراب، فرحمت نفسي وبكيت بُكاءً مُرًّا.
ثمَّ تصوَّرت قومي بعد أن مِتُّ وأخليت مكاني بينهم في ماهوش. ألا يهزُّهم فقدي؟ ألا يشعرون بالوحشة من فراقي؟ ألا يحسُّون الندمَ على إغفالي وإهمالي في حياتي؟
واستقر عزمي آخرَ الأمر على أن أموت، فصلبت أطرافي وقلت: «أيها الموت أقبل.»
ولم يكن من الهيِّنِ عليَّ أن أُظهِر الموت وأنا حيٌّ أتنفس، ولكن الناس لا يقلِّبون الميت ولا يجرءون على جس أعضائه وتَسمُّع ضربات قلبه؛ فالموت رهيب، وللميت حرمةٌ تجعل الناس يهابون الاقتراب منه. فلما جاءت امرأتي إلى حجرتي ورأتني ممدَّدًا نادتني ولم يخلُ نداؤها من سبابي. فلم أُجِب على صراخها ولم أحرِّك شعرةً من جفني. فجاءت الحمقاء حتى اقتربت مني ووخزت صدري. فلما لم أتحرَّك ووجدتني متصلِّبًا صرخت وولولت وخرجت إلى الجيران تنعاني. ثمَّ ما لبثت أن عادت وقد رأيتها من بين جفني تلبس سوادًا من قمة رأسها إلى أخمصها، وكانت تصيح قائلةً: «يا سبعي! يا سيِّدي وصاحبي!»
ولم يخلُ قلبي من الشماتة فيها لطول ما عذَّبتني قبل موتي، ولم أسمح لنفسي بأن أرقَّ لها وأعودَ إلى الحياة، فبقيت متمدِّدًا متصلِّبًا في ستر ظلام حجرتي.
ثمَّ كان ما كان وغُسِّلت وجُهِّزت ووُضِعت على الفراش حتى يأتوا بالنعش، وكنت أسمع ما يدور حولي من الأحاديث، فعرفتُ كيف استقبلت ماهوش نبأ موتي. لم يبقَ في ماهوش رجلٌ ولا امرأة إلا أسف عليَّ وحزن لفقدي. وتحركت أريحية الناس فجمعوا من المال وأنا ميت ما لو جمعوه لي من قبلُ لكفوني مئونة الحياة، ولما بِعْت داري، ولعشت بينهم قرير العين لا أفكر في موت. وسمعت البكاء والعزاء حتى امرأتي ريمة كادت تقع على الأرض من لطم خديها. وكنت كلما أتت طائفة جديدة للعزاء كتمت أنفاسي حتى لا يغيب عني حرف مما يقولون. فخرجت من كلِّ ما سمعتُ على أن أهل ماهوش مُجمِعون على محبتي وإكرامي. وكانوا يتذاكرون فكاهاتي ويحفظون من أقوالي ما لا أذكر أنه صدر عني، فكانت تلك الساعات التي قضيتها في انتظار النعش أسعد أيام حياتي.
ثمَّ جاء صديقي أبو النور، وكان غائبًا يُعِدُّ لي جهازي ويختار موضع قبري، وجاء يحمل أكفاني وحنوطي، ولم ينسَ أن يفرش لحدي بالرمل والحناء ليكون أرفق بجثماني. ولما دخل عليَّ جلس إلى جانبي، ولم أسمعه يتكلم أو يشهق ببكاء أو يتحدث برياء، ولكني كنت أعرف أنه حزن لفراقي حُزنًا أعمق من الدمع والرثاء. وقد شعرت بيده تجسُّني على حين فجأة، كأنه لم يؤمن بموتي. وكانت يده كلما اقتربت من وجهي أحسست رغبةً شديدة في أن أقبِّلَها. ولمت نفسي على أنني خدعته كما خدعت الناس، وأدخلت على قلبه الحزن من أجلي، حتى كدت أهمس له بالحق لولا أنني خِفت من افتضاح أمري.
ثمَّ حُمِلت بعد أن تمَّ تجهيزي ووُضِعْت في النعش، وسار المشيِّعون من أمامي ومن خلفي، بعضهم ينشد الشعر وبعضهم يتلو القرآن، وبعضهم يحدِّث جاره في شئون تجارته أو سيرة جيرانه. وكان للمشهد ضجيج عظيم ينبئ بما فيه من عدد عديد. وما زلت محمولًا في طرق ماهوش وأنا أعرف كلَّ موضع حُمِلت فيه، مما كان يصل إلى سمعي من أصوات الأسف يبعثها النساء والصبيان من بيوتهم. فهؤلاء جميعًا أهل ماهوش الذين لم أجد وسيلةً إلى العيش فيهم حتى اضطُررت إلى أن أموت موتًا. وأخيرًا بلغ المشهد إلى جانب النهر — نهر ماهوش — من ناحية الجسر الأعظم، فخفق قلبي لذلك النهر الذي طالما خفق لمنظره وأنا حي. وكنت منذ يومين قد رأيته فاض وعلا حتى صارت أمواجه ترتطم بالشاطئ ويُسمع عجيجها عن بُعد ميل. وكانت العادة أن يخوض الناس فيه حتى يبلغوا الجانب الآخر حيث جبَّانة المدينة. ولكن النهر لم يسبق له أن علا وفاض كما فعل منذ يومين.
وأحسست عند ذلك وأنا في نعشي تردُّدًا واضطرابًا في الذين يحملونني كأنهم خافوا أن يخوضوا في الماء الثائر. وكان ذلك الجزء من النهر عميقًا، ولو خاضوا فيه لغرقوا وغرقت معهم، ولا أنكر أنني خشيت على نفسي أن يخطئ المشيِّعون خطأً لا يُداوى. وكنت أعرف في النهر موضعًا آخر لم يبلغ الماء فيه إلا عُلوًّا ضئيلًا؛ إذ هناك صخرة كالجسر تعترض مجراه. فتجلَّدت وتمطيت وشددت نفسي من أربطة الكفن، وقمت برأسي حتى رفعت الغطاء الحريري الذي فوق النعش. ولما أشرفت على المشيِّعين صحت فيهم قائلًا: مِن هناك، مِن هناك، فالمخاضة عن يساركم.
وكانوا في شغلٍ ينظرون إلى النهر ويتحاورون كيف يجتازونه، فما كادوا يسمعون صوتي حتى ارتفعت منهم صيحةُ فزع وتفرَّقوا يلتمسون السُّبل كأنهم قطيعٌ من شياهٍ طلع عليهم ذئب كاسر. ورمى الحمَّالون النعش في عنفٍ حتى أحسست عظامي تقعقع، فإذا بالمكان يخلو فلم يبقَ فيه إلا صديقي أبو النور وواحد من القراء كان لا يستطيع جريًا.
فأخذ أبو النور يفكُّ عني أكفاني بأناملَ مضطربة من الفرح وهو يقول: لم يصدِّق قلبي أنك مُتَّ حقًّا.
وبعد قليل سكنت صدمة الخوف عن الناس فعادوا نحوي ولهم ضجيج وعجيج، يقذفونني بوابلٍ من ألفاظ التقريع والتأنيب. ولا عجب في ذلك؛ فقد رأَوا أنني لم أزل حيًّا، وعبارات المودة لا تُساق إلا إلى الأموات.
فقمت بينهم متستِّرًا بأكفاني، وحاولت أن أعتذرَ إليهم مما سبَّبت لهم من المتاعب، وبالغت في ذلك حتى خُيِّلَ إليَّ أنهم قد عفَوا عني. ثمَّ طلبت منهم أن يعطوني ما جمعوه من المال من أجلي، وما أخذوه من الناس باسمي، حتى لا أضطر أن أموت مرة أخرى، فانهالوا عليَّ بالشتائم وسمَّوني محتالًا وضُحْكة وخائب الرجاء، ثمَّ انصرفوا عني.
فعُدت نحو داري أتوكأ على صديقي أبي النور وأجرُّ أذيال أكفاني، وأنا أقطِّع نفْسي أسفًا وغمًّا، ولم أجنِ من وراء كل تدبيري شيئًا.
وكان أبو النور أشدَّ ألمًا مني؛ فكانت الدموع تتساقط على ثوبه كأنها سمط متصل، والأنفاس تهز صدره هزًّا عنيفًا بعد أن كان هادئًا صامتًا. وقضى معي تلك الليلة حتى طلع الفجر ولم يفارقني لحظة، ذلك الصديق العزيز!
أمَّا أنا فقد عزمت على أن أهاجرَ من ماهوش، فلن أبقى في بلدٍ لا أجد لي مكانًا فيه، حتى إن الموت نفسه لم يفسح لي بينهم محلًّا.