الفصل الحادي عشر
خرجت من وطني ماهوش أسيرُ كالأعمى، والأفكار تحتوشني من كلِّ جانب، والأنفاس تكاد تمزِّقُ صدري. ونظرت حولي فرأيت ربوةَ ماهوش الخضراء تبسم للصباح؛ إذ تلقي عليها الشمس أول شعاعها الذهبي. ورأيت سماءها والسُّحب تزخرف أطرافها بنسيجٍ سحري من الفضة والذهب واللؤلؤ والياقوت. هذه السماء هي التي ملأت قلبي تسبيحًا وعلَّمتني من المعاني ما تعجز عنه كُتُب الفلاسفة ومباحث العلماء. وألقيت نظري على نهر ماهوش إذ تنحدر إليه الجداول الصافية، تتدفق من عيونٍ رائقة باردة تنبع من قمة الربوة، ثمَّ تسير في جداولها التي تلمع في مجاريها الحصباء كأنها الدرر انفرطت من عقود الحسان. ورأيت بيوتَ ماهوش على سفح الربوة تتخللها البساتين بما فيها من نبت بين قصير وطويل، وبين مورق ومجرد، قد تداخلت ألوانها وتشابكت فروعها وتعانقت أغصانها، واهتزَّت للنسيم الوديع.
هذه ماهوش لذة العين وبهجة القلب وشفاء الصدر، أغادرها وأهاجر منها لأضرب في الآفاق. فناديتُ من أعماق قلبي: «يا نفْس تجلَّدي، ويا عين أغمضي، ويا فؤاد التمس النسيان.» ثمَّ سِرت في الطريق أفكِّر فيما كان من شقائي في وطني الحبيب القاسي الذي لم أجد فيه لي مكانًا.
وفيما كنت في طريقي مُطرِقًا مُفكِّرًا أفقت على صدمةٍ عنيفة دفعتني إلى جانب الطريق، وكادت تقذف بي إلى النهر الصافي، الذي ما زال منذ الأبد القديم يجري غيرَ مُبالٍ إقامة الناس في ماهوش أو خروجهم منها. ولكني تماسكت وتعلَّقت بشجرةٍ قريبة، وتلفَّت حولي لأرى ذلك الذي كاد يحطمني بصدمته، وامتلأ قلبي غمًّا وتشاءمت برحلتي. فهذا أول الطريق أصطدم فيه وأُخبط بمثل هذه الخبطة الشديدة. فرأيت فارسًا من جنود تيمور هؤلاء أصحاب القلانس العالية، الذين يحسنون الانتفاش في ملابسهم الزاهية. وكان ينظر نحوي كأنه ينتظر مني أن أشكره على صدمته. فاعتراني إحساس لا أستطيع وصفه إلا بأنه مزيج من الخوف والغضب؛ فإنني رجل لا أحب الحروب ولا مَن يخوضونها، ولا أطيق أن أرى دجاجةً تُذبح تحت ناظري. فكيف بي وقد رأيت أمامي رجلًا من جنود تيمور الذين يملئون الأرض دماء؟ كانت نظراتي إلى الفارس تنمُّ عمَّا كان في نفسي، ووقفت أتأمله، وكان منظره في الحق عجيبًا. كان مثل الببغاء في زينته الكاملة: من قلنسوة حمراء فوقها ريشة زرقاء، من تحتها عباءة صفراء تغطي ملابسَ أخرى لا أعرفها بيضاء وخضراء، ولفَّ على وسطه منطقة سوداء، ودلَّى في جنبه سيفًا مُقوَّسًا منقوشًا بالذهب والفضة، مُرَصَّعًا بالجواهر، ومن تحته وتحت كل زينته جواد كريم لا يقل في ألوان زخرفه عن صاحبه. فقلت في نفسي: «سبحان الله! ما هذا كله؟» وجعلت أُصعِّد فيه بصري وأصوِّبه من أعلى ريشته إلى حافر جواده، وأحسست أن خوفي وغضبي قد تبدَّلا وامتلأ قلبي ضحكًا. فتبسَّم الفارس وأخذ يكلمني بلغةٍ لم أفهم منها إلا يسيرًا، فهِمْت منه أنه يريد أن يعرف مَن أنا، فقلت له أريد أن أصرفه وأتَّجه في سبيلي: «أنا فقيه.» ثمَّ هممت بالسير، فهمز جواده يسايرني وقال وفي صوته رنةُ السرور: «فقيه؟»
فهززت رأسي أن نعم، ومضيت في سبيلي. ولكنه كرَّر سؤاله في اهتمام. فخشيت أن ينخدع الرجل عن حقيقتي، وهو لا يعرف لغتي. فلعل لهذا اللفظ (فقيه) معنًى آخر عنده، مثل تاجر أو صيرفي أو جوهري، فيَحسَب خطأً أنني ممن يَطمع فيهم رفاقُ الطريق، فيبادر بإيقاع الأذى بي، فبادرت قائلًا: «أديب.» واخترت هذه الكلمة لأنها معروفة للناس جميعًا، ولا تحمل لبسًا، ولا يختلط على أحدٍ معناها؛ فكل الناس يعرفون مَن هو الأديب. هو الرجل الذي لا يملك من حطام الحياة شيئًا. ولكن الفارس لم يعجبه هذا اللفظ، وكرَّر الكلمة الأولى سائلًا: «فقيه؟» فملأت عيني منه وتنازعني الخوف، ولكني رأيت أنه قد بدأ يعبس. فخِفْتُ إن ضحكتُ أن يغضب، واكتفيت بأن هززت رأسي له بالإيجاب، وفوَّضت أمري إلى الله. فأسرع الرجل فنزل عن جواده وفتح لي ذراعيه، وأقبل عليَّ يضمُّني إلى صدره، ويقبِّلني بين عينيَّ، ويرطن بكلام كثير. ففهمت منه إجمالًا أنه قائد كتيبة في جيش تيمور، وأنه طالما طمع في أن يكون عنده فقيه ليكون لكتيبته زينة إسلامية. فلما عرف أنني فقيه سرَّه ذلك، وعزم على أن يأخذني معه. ثمَّ أمرني في رفقٍ أن أسير وراءه، فقلت: «سبحان الله! أهذه محنة جديدة؟» ووقفت حائرًا متردِّدًا. فنظر إليَّ وصاح بي مكرِّرًا أمره أن أسير وراءه. فلم أجد بُدًّا من السير، ومضيت في أثره مطرِقًا أفكِّر في أمري. ثمَّ قلت أعزِّي نفسي: «إن السير وراء هذا الفارس لن يغيِّر شيئًا من حالي؛ فقد خرجت من ماهوش لأسيرَ في الأرض، وسواءٌ لديَّ شرق وغرب.» وانطلقت أمشي قريبًا من ذيل جواده وأنا أكاد أغمض عيني.
وما زلنا نسير حتى مالت الشمس عن كبد السماء، وأخذ التعب يدبُّ في أوصالي، فنظرت إلى الفارس لعلي أرى عليه علامةً تبشِّر بأنه يريح جواده، فلم أجد على مظهره ما ينمُّ عن شيءٍ من ذلك؛ لأنه كان يهزُّ رجليه ويغني مرحًا. ومضى زمنٌ طويل بعد ذلك حتى بلغنا قرية، فاجتزنا بها. وفيما نحن خارجان منها طلع علينا فارسٌ آخرُ عند منعرج الطريق، فلما رآنا أقبل نحونا يسعى، وكان في زينته أشبهَ الناس بصاحبي، حتى خُيِّلَ إليَّ أنه توءمه وقد وُلِدا معًا فوق جوادَيهما. فلما اقترب الفارس مِنَّا حيَّا صاحبه ووقف حياله يحدِّثه، ثمَّ التفت نحوي وجعل يفحصني ببصره حينًا، ثمَّ عاد إلى صاحبه يراطنه باهتمام. ولم أدرِ ما كان بينهما من الحديث إلا أنني سمعت الفارس يصيح وهو ينظر نحوي: «فقيه؟»
فخفق قلبي خفقةً شديدة، ونظرت إليه مندَهِشًا، ثمَّ أحسست أن الضحك يكاد يغلبني، فملكت نفسي وقلت باسمًا: «نعم فقيه.» فنظر إليَّ صاحبه وجعل يحادثه، ثمَّ سمعت الحديث يحمى والألفاظ تسرع فيما بينهما، ثمَّ رأيت الرجلين يجرِّدان سيفيهما ويقف أحدهما حيال الآخر وقفةَ الحرب والنزال. فدبَّ الأمل إلى قلبي وقلت لعل هذا أول الفرج؛ فليس للفريسة من أملٍ إلا إذا تطاحن عليها الوحوش. ووقفت أنظر إليهما متفرِّجًا، وكانا مثل ديكين وقفا ليتناقرا. ولكني لم ألبث إلا قليلًا حتى رأيت المنظر يتحوَّل فجأة تحوُّلًا كريهًا؛ فإن الفارسَين لم يقفا وجهًا لوجهٍ إلى نهاية المعركة المرة، بل رأيت صاحبي الأول يتجه نحوي مُجرِّدًا سيفه ليقتلني؛ نعم ليقتلني أنا. ونظر قبل أن يُتمَّ عمله إلى قرينه وقال له ما معناه: «سأقتله حتى لا يكون لي ولا لك.» ففهمت من هذا أن ما بينهما من الجدال كان في شأني، وعلمت أن صاحبي أراد أن يحسم الخلاف الذي بينه وبين صاحبه بأن يبقر بطني. وكان لا بدَّ لي من الدفاع عن نفسي بما استطعت، فصحت قائلًا: «حاسب، ماذا تريد؟»
فتوقَّف الرجل وجعل يبيِّن لي قصده في لهجةِ الاعتذار. فقلت متكلِّفًا الهدوء: «هذا رأي غير صائب.»
فردَّ عليَّ بكلامٍ كثير يحاول به أن يُفهمني أنه لا يريد إلا العدالة؛ فإنه لا يليق عدلًا أن أكون فقيهَ غريمه بغير حق؛ لأنه قد سبق إلى وضع يده عليَّ. فلم أُرِدْ أن أجادله في ذلك، والعدالة على أية حال أمرٌ نسبي يختلف الناس في فهْم معناها؛ فيراها القوي من زاوية، والضعيف من زاويةٍ أخرى، ولا سبيل إلى تلاقي نظرتَيهما. ولم أجد وسيلةً تنجيني من هذه العدالة إلا أن أجرِّدَ لها لساني وحيلتي. فقلت وأنا أرتجف: هذا كلام حسن. ولكن ألا ترى أيها الشجاع أن تحتفظَ بي حيًّا؟ فإني أقدر على أن أنفعك، وتستطيع أن تجِدَ فيَّ خيرًا كثيرًا.
فنظر إليَّ غيرَ مُصدِّق، فقلت له مُسرِعًا: أنا رجلٌ شاعر، أقدر على أن أرفع من شأنك حتى يراك الناس سيدَ الخلق، وأقدر على مدحك بما لا تتصور أنه فيك، فيصدِّق الناس أنك أفضلهم وأسمحهم وأعلمهم وأعقلهم وأحكمهم وأشجعهم.
ولست أدري أَفَهِمَ قولي أم لم يفهمه، ولكني رأيته قد لان ورقَّ لي، فأتبعت قولي: إنك رجل باسل بغير شك، وتستطيع أن تقاتلَ خصمك حتى تقتله أو تعجزه. فإذا تم لك ذلك سِرتُ وراءك شرقًا أو غربًا كما تشاء.
ولكن هذا الرأي لم يعجبه، فأطرق مفكِّرًا وهو يتأفف، ثمَّ رفع رأسه بعد حينٍ وقد تهلَّل وجهه كأن فكرةً موفَّقةً سنحت له، وتقدَّم نحوي باسمًا ووضع يده على كتفي قائلًا: «عفارم!»
ثمَّ لوى عِنان فرسه وأسرع إلى صاحبه، وسرتُ وراءه في لهفة، فسمعته يقول له: «أتذكر الكلب الأسود الذي أودعتَه عندي؟» فقال له الفارس باهتمام: «نعم بلا شك، وأنا في حاجةٍ إليه.» قال له صاحبي مبتسمًا في خبث: «إذا أردته فانزل لي عن هذا الفقيه.» وأشار إليَّ. وصمت قليلًا ثمَّ قال: «وإلا فإني قاتل كلبك عند عودتي.» وكانت هذه الكلمات كالصاعقة إذا انقضَّت على الرجل. فنزل عن جواده مترنِّحًا وجثا على ركبتيه، وجعل يتوسَّل إلى صاحبه بكل كلمة رقيقة أن يُبقي على كلبه، وأن يفعل بي ما شاء. ثمَّ مسح دمعةً ثارت في عينه، وسلَّم لصاحبه بغير قيدٍ ولا شرط. ولست أُنكِر أنني قد رققت للرجل في حزنه من أجل كلبه، وشيَّعته بنظري وهو منصرف عَنَّا وفي قلبي مودة له ورحمة.
ولم يَطُل بنا الوقوف بعد ذلك، فسار صاحبي المنتصر في طريقه، وأمرني أن أسيرَ وراءه، وجعل يهزُّ رجليه ويُغني. وسِرت وراءه في شيءٍ يشبه الذهول، أتحرَّك بلا وعي كالآلة الصمَّاء.
وكاد النهار ينصرم وأنا أجرر قدمي وراء الجواد، وتمشَّى التعب في مفاصلي وعروقي، واستولى الضيق على نفْسي، ولاح لي الفضاء مثل لجة البحر الهائج لا تقع العين فيه إلا على سرٍّ مجهول. ثمَّ أقبل الليل بعد أن كادت نفْسي تُزهَق، فدعوتُ الله أن يبعث الفرج. ونظرت إلى الفارس في حقد، وأخذت أتلو بعض آي من القرآن. وما كان أشد فرحي عندما رأيته يقف فجأةً كأن شيئًا أمسكه، ونزل عن جواده وجعل يمشي وينظر حوله ليختار مكانًا للمبيت. وكُنَّا قد بلغنا جانب غابة عظيمة لا تبلغ العين آخرها، قد اكتست أرضها بالعشب الأخضر، وتشابكت في أعلاها الغصون. فجلست لألقف أنفاسي وأريح أعضائي. ولم يلبث الظلام أن أرخى سدوله، ثمَّ طلع القمر وكان شعاعه يفيض على الغابة جمالًا باهرًا. وهدأ حرُّ النهار إلا ما بقي منه كامنًا في الهواء إذا هبَّ رُخاء من الغرب. وأخذ نور القمر يزداد حتى تخلل فرجات الأغصان، وكسا البساط العشبي الذي تحتها، وتراقصت الظلال وتلاعبت كلما هبَّت نسمة من النسمات. فاسترعى ذلك الجمال بصري وجلست ساعة أتأمله. وكانت المتعة التي أصبتها كافية لإزالة تعبي واضطرابي، وشعرت بنشوةٍ تملأ صدري، ورأيت صاحبي الفارس قد خلع قلنسوته ووضع جَعبته وإداوتَه على الأرض، وأطلق فرسه يرعى، وجعل يسير في أطراف الغابة يجمع الأحطاب. فاسترحت إلى منظره الإنساني وأنس قلبي إليه، وأخذت أنفاسي تعود إلى هدوئها، ودبَّ البِشر إلى نفسي.
ولما شعرت بما داخل نفسي من الخفة قمتُ متَّجِهًا إلى الفارس وقلت له مستعيرًا لفظه: «عفارم أيها الشجاع!»
ولم أقصد من قولي شيئًا سوى أن أحدِّثه، وما كدت أفاتحه بهذه الكلمة حتى استجاب وأقبل على حديثي مُنطلِقًا كأنني فككت بالكلمة عقدةَ لسانه. وسأعيد ما قاله لي بلغتي؛ فقد كانت لغته رطانة لا تُفهم إذا نقلتها عنه نصًّا. قال باسمًا: سأهيئ لنفسي طعامًا وشرابًا، نعم فإني أهيئ طعامي بيدي دائمًا، ولا أحب أكلًا إلا إذا طبخته وسويته، ومازجت بين ما يُقلى منه وما يُسلق، وقدَّرت مِلحَه وذررت عليه الأفاويه بمقدار.
ثمَّ استمر يضرب الأمثال مما صنع، ويذكر الصنوف وتواريخ صنْعها، وهو في أثناء ذلك يذهب ويجيء يجمع الأحطاب في ضوء القمر. فقلت له باسمًا: «هذا بديع، ولا شك في أنك رجل ماهر.» فنظر إليَّ مسرورًا وبدت نواجذه السوداء من فمه الأهتم، ثمَّ مال على جعبته وأخذ ينكشها قائلًا: «ليس هنا إلا بقايا مجفَّفة، ولو كان في الوقت فسحةٌ لكان عشائي لحمًا طريًّا.» ثمَّ أشار بيده إلى الغابة وقال: «سأريك في الغد إذا بقينا هنا كيف أسدِّد الرمية، وكيف أثبِّت الطير في كبد السماء.»
فقلت له باسمًا: «إن مَن كان مثلك لم تعصِ له الوحوش أمرًا.»
فقال مرتاحًا: «وإذا شئت فإني أريك كيف أطعن بالرمح، وكيف أحطِّم بالدبوس؛ فإني صاحب السبق في هذه الفنون جميعًا.»
فضحكت ضحكةً لأخفي الرِّعشة التي سَرَت في جسمي، وقلت مبادِرًا: «لا، لا، ليس في هذه الحال التي نحن فيها ما يدعو إلى رمحٍ أو سيف.»
فمضى في حديثه، وجعل يصف لي مغامراته ومنازلاته، وكلما بدا على وجهي أثرٌ من قوله زاد حماسة، حتى كان أحيانًا يمسك عن العمل لكي يشير بيديه. وفطنتُ إلى أنني أضيِّع عليه بعض وقته، فانتهزت فرصةَ سكوته لحظةً وهو مشغول بقدْح زنده ليوري به نارًا، فتسللت ذاهبًا نحو الغابة، ووقفت أتأمل أشجارها، ومالت نفسي إلى أن أجولَ فيها جولةً ثمَّ أعود بعد أن يكون صاحبي قد هيَّأ طعامه.
وسِرتُ في الغابة، وكان للهواء فيها عطرٌ خفيف من رائحة الأوراق والأزهار، وكانت ألوان الشجر مختلفة وأشكاله متباينة، فمنه ما كان غزير الورق، ومنه ما كان عاريًا، ومنه ما كان ضخم الجذع وما كان دقيقًا يتسلَّق متوكِّئًا على غيره. وجعلت أتنقل في الغابة من بقعة ضاحية يغمرها نور القمر إلى أخرى ظليلة تتراقص فوقها الظلال، وكان الليل الساجي يفعل في نفسي فعل السِّحر، فلم أشعر بمرور الزمن ولا بطول السير، ولم أتلفت إلى ورائي لأنظر أين صرت من صاحبي، حتى رأيتني بعد حينٍ أمامَ صخرةٍ وعرة لم أنظرها إلا عندما صرتُ على خطوات قليلة منها، كأنها خرجت فجأة من جوف الأرض لتعترضَ سبيلي. فاتَّجهت نحوها فوجدتها ربوةً مهشمة مدببة الجوانب كأن سطحها كلَّه من أنياب وأظفار، وهي تنطوي على كهفٍ يبعث الرهبة في النفس، تخرج من ثناياه قناة فيها ماءٌ صافٍ كأنه بلُّور مُذاب، ينساب جاريًا وهو يُغنِّي بخريرٍ يلذُّ للأسماع، خافت يشبه التهانُف بالضحك في مزاح العذارى. وكان يهبط إلى حوضٍ من الصخر مُهشَّمٍ مصقول يلمع النور فوقه، فإذا هو يبدو أخضرَ مثل قطعة من الزبرجد من أثرِ ما عليه من الطحلب الدقيق. فوقفت لحظات أتأمل المنظر البديع، وكانت عيني لم تقع من قبلُ على مثله، فشملتني نشوة، واهتزَّت نفسي طربًا، ونسيت ما كان من هجرتي ووحدتي، حتى لقد نسيت جوعي، ووجدتني أدندن بالغناء. وتواردت عليَّ الألحان المشجية، فجلستُ على جانب الصخرة وغِبت في غمرة أشجاني، وجعلت أقلِّبُ عيني وأتمتع بالمنظر، وملأت صدري من الهواء العطر، ووجدتْ كلُّ حواسي نصيبًا من اللذة من خرير الماء مُنسابًا في جداوله، إلى ريح الزهر المشتعل في خمائله، إلى لون الورد الناعس في غلائله.
جلست هناك وقتًا لا أدري أقصيرًا كان أم طويلًا، ثمَّ شعرت فجأة بشيءٍ من الرهبة يمسُّني من السكون العميق الذي حولي، فما كدتُ أتنبَّه له حتى خُيِّلَ إليَّ أنني في عالمٍ صاخب مضطرب. سمعت خفق الأوراق على الأعواد، ووسوسة النسيم بين الغصون، وخشخشة الحشر بين الحشائش، فاضطرب خيالي ووقف شعر رأسي، ولم أطقِ البقاء مكاني، وهممت بالرجوع إلى موضع صاحبي، فنظرت حولي لأرى الطرق التي جئت منها فلم أجد أمامي إلا غابة شجراء، وضوء القمر يسطع من فوقها ويتخللها. فخُيِّلَ إليَّ أن المكان قد امتلأ أرواحًا من الجان تتلاعب وتتواثب من حولي، وأسرعت في سيري وأنا أتلفَّت ورائي ولا أتبين لي طريقًا. وفيما أنا كذلك لاح لي عن بُعد شيءٌ يتحرك، يشبه أن يكون قِطًّا أو فهدًا أو ظبيًا أو ذئبًا أو غير ذلك مما يسير على أرض الغابات يلتمس قوتًا. فشعرت بوجهي يتَّقد، ورفعت يدي لألتمس جبيني فوجدته باردًا تبلله قطرات من العَرق. وحاولت أن أشجِّعَ نفسي بأن أسمع صوتي، فحاولت أن أغني، ولكن الألحان شردت عن ذهني، وجعلت ألوم نفسي على هذا الفزع الذي لا سبب له، وأجاهدها بكلِّ ما استطعت أن أتذكره من الحِكَم. ولكن ذلك كله لم يُجدِني شيئًا.
ثمَّ سمعت صوتًا لا شكَّ في أنه كان صوت حيوان مسكين يعاني الآلام المبرحة بين أنيابِ عدوٍّ مفترس أو مخالبه أو أظافره. فوقفت حيث كنت وجعلت أستمع. وأمسكت أنفاسي فسمعت الصرخات تتوالى في فزع، ثمَّ سمعتها تضعف قليلًا قليلًا ثمَّ انقطعت فجأة. لقد استسلم الحيوان المسكين بعد أن ضعُف واسترخى وخضع لما لا حيلةَ له فيه، وذهب إلى المصير المحتوم في جوف الوحش المفترس، كما ذهب ألوف وألوف من أسلافه على مر الدهر الطويل.
ولم يكن من العجيب أن يسطو حيوان على آخَر في الغابة؛ فإن هذا هو قانونها الأزلي. ولم يكن من العجيب أن أجِدَ مثلًا جديدًا من احتيال الكائنات على اقتناص الرزق؛ فإن قانون الغابة كان دائمًا هكذا: مَن عزَّ بزَّ، ومَن غلب افترس، ومَن استطاع صيدًا اصطاد، ومَن قَدِرَ على الروغان راغ. ولكني مع هذا اهتززت هزةً عنيفة عند سماع ذلك الصوت. فلما عاد السكون العميق إلى الغابة خُيِّل إليَّ أن ذلك الصمت أكثرُ ضجةً من أعنف الهيعات في معامع الحرب. وصِرت كلما خطوت خطوةً تمثَّلت حولي نِضالًا مُتَّصِلًا فيه فتكٌ وفيه فَناء وفيه مطاردة وهروب. وكلما مررت بكومةٍ من الأوراق الجافة وسمعت بينها خشخشةً تمثَّلت لي صورةُ معركة دامية بين قوي وضعيف أو بين سريع وبطيء. ولجَّ بي التصوُّر حتى ضاقت نفسي بالسكون الشامل الذي لا ينطوي على سلام بل يستر تحته حربًا متَّصِلة قاسية.
وتمنَّيت لو تمزَّق هذا الصمت عن زمجرةِ الأسود وضحكات الضباع وفحيح الأفاعي؛ فقد كان ذلك أرفقَ بنفسي لأنه لا يخدعها بمظهرٍ كاذب من سلامٍ مموَّه خدَّاع. وبدت لي الحياة الإنسانية عند ذلك جنةَ نعيم إذا قيست بالحياة في هذه الغابة الساكنة؛ لأن الإنسان قد أقام قوانين تحمي الضعفاء من الأقوياء، وتبيح للبطيء أن يسعى على بطئه، وللصغير أن يبقى على هوان أمره. وأسرعتُ في سيري وأذهلني الاضطراب عن التفكير في مكاني أو في المآل الذي ينتهي إليه سيري، وجعلت أخبط بين الشجر خبطَ عشواء، لا أبالي أين تحملني قدماي. ولم أتنبَّه إلا فجأة وقد لاحت لي بين الأشجار عن بُعد أنوارُ لهيب تسطع فوق الجذوع والأغصان. فعادت إليَّ صورةُ صاحبي الفارس، فاتَّجهت إليه، وكان السير قد أجهدني واضطراب الفكر قد نال مني، فأحسست بتعبٍ شديد يشيع في أعضائي، وتمنَّيت لو اتَّخذت من بعض أكوام الورق الجاف فِراشًا. ولكني تحاملت على نفسي حتى بلغت مكان الفارس، فوقفتُ لحظةً أنظر إليه وهو منصرف إلى إعداد طعامه، ينحني على النار ليضع فيها أعوادًا تزيدها ضرامًا، ويميل عليها ينفخ فيها ورأسه الأصلع يلمع في ضوئها والشرر يتطاير من حوله. فلما أحس بمقدمي رفع رأسه وهو يبسم سرورًا، حتى بدت أسنانه السوداء من تحت شاربيه. فارتميت إلى جانبه خائرَ القوى، وخرجت مني آهة نفَّست بها عن صدري. فقال لي بعد أن نفخ في النار نفخة: «لقد سِرتَ طويلًا.» فقلت له في صوتٍ ضعيف: «أما نضج طعامك؟»
فقال في مرح: نعم كاد ينتهي، حساء وأرز بقطعة من زند البقر.
فقلت له: هنيئًا مريئًا.
فقال وهو يبلع ريقه: وسنبوذج ولوزينج.
فقلت ضاحكًا: إنها وليمة.
فضحك وقال وهو يشير إلى زقٍّ من جلد المعز: وكأس من النبيذ المعتق.
فقلت مبادرًا: أمَّا هذا فلا شأن لي به.
وما كدت أنطق بهذه الكلمة حتى خجلتُ خجلًا شديدًا؛ لأن لفظي خانني. كنت حقًّا شديد الجوع، ولكن ما كان ينبغي لي أن أدعو نفسي إلى طعامه. وكأنه قد لحظ خجلي فقال لي مترفِّقًا: ستذوق طعامي وستحكم على مهارتي.
فسرَّى عني وقلت مبتَسِمًا: أشكرك، إنك رجل كريم. فنظر إليَّ مسرورًا، وهزَّ رأسه مرتاحًا إلى مديحي، وكشف غطاء القِدْر وجعل يقلِّب ما فيها بخنجره وهو يمص شفتيه، ولا أكتم أن رائحتها كانت تنفذ إلى أعماق صدري طيِّبةً شهية، وأخرج قطعةَ لحم فجسَّها بظفره ثمَّ أعادها إلى القِدْر، وتحرَّك في مجلسه وفرك يديه مسرورًا وقال: «سيكون عشاء عظيمًا.» ثمَّ قام يهيئ السفرة، فقمت معه لأساعده، وما هو إلا قليل حتى كُنَّا نتسابق في التقام الطعام.
ولم يقُم الفارس عن طعامه حتى شرب أكثر زقه وتركه على الأرض مفشوشًا، وكنت قد أمتعت نفسي بالطيِّبات وأثنيت على طعمها ورائحتها، وكان القمر لا يزال في كبد السماء، فقمت لأصلي ما فاتني من الأوقات. وجلسنا بعد ذلك نتسامر، حتى طالت ظلال الأشجار تحت القمر المنحدر، واشتد برد الليل فتلففت في ثيابي، واضطجعت فوق كومةٍ من الحشيش الجاف وتغطَّيت بشيء منه، وعمد صاحبي إلى كومةٍ أخرى ففعل كما فعلت.