الفصل الثاني عشر
قمت في الصباح فتوضَّأت وصليت. وكانت الصلاة إلى جانب الغابة قرَّةَ عين؛ فهناك كنت أتمثَّل قدرةَ الله في خلق هذا الكون البديع، وكنت أصلي بقلبي وعقلي ولساني. ثمَّ أخذ الفارس يستعد للسير بعد أن أصاب شيئًا من الزاد وأشركني فيه ونحن على عَجَل، وأقبل على فرسه يمسحه ويخدمه وأنا أنظر إليه متعجِّبًا وأسائل نفسي عما جمعني به. فسرحت أفكاري فيما رأيته الليلة السابقة من نضال بين الأحياء، حتى كِدت أعتقد أن الحياة الإنسانية ليست إلا جُزءًا من حياة الغابة. وكدت أنكر ما توهَّمته من فضلٍ امتاز به الإنسان على سائر الحيوان؛ إذ أقام لنفسه نظامًا وسنَّ من القوانين ما يحمي الضعيفَ من القوي، ويكفُل الحياة للصغير والبطيء. كدت أُنكِر كل هذا، بل لقد خطر لي أن الحيوان في الغابة أسلمُ وآمنُ فيما بينه وبين نفسه؛ لأن النضال إنما يكون بين صنوفٍ مختلفة منه؛ فالأُسود لا يفترس بعضُها بعضًا، ولا يتخذ بعضها البعض خَدَمًا، ولا تفرِّق بين أنفسها بحدود، ولا تجعل في جنسها أُمَمًا يحتقر بعضها بعضًا أو تتقاتل وتتفانى فيما بينها. وهي لا تتناكر ولا تتشاحن؛ لأن الله لم يُصِبها بذلك المصاب الوبيل؛ تحريك اللسان بنطق اللغات. وليس فيها مَن يميِّز نفسه على سواه بعلامةٍ مصطلَح عليها، فلونها واحد وأنيابها متشابهة، وذيولها سواء في طولها، ولم يمتحنها الله بمحنة الملابس التي يتَّخذها الإنسان وسيلةً للتفريق والتمييز بين بعض وبعض؛ فكل فرد في الغابة مساوٍ لكل فردٍ آخر من جنسه. جعلت أفكِّر في هذا حتى بلغ بي الأمر أن تمرَّدت على الإنسانية، وجعلت أشتد في تعنيفها واتَّهمتها بأنها تداري سيئاتها تحت ستارٍ خدَّاع استعانت به على إخفاء الحقائق عن نفسها.
لقد بدا لي عند ذلك أنني أسير وراء الفارس كما يسير فرسُه من تحته، لا أملك أن أتحوَّل عنه كما لا يملك الفَرس أن يتحوَّل عنه، وأنه إنما يخدعني إذ يترفَّق بي أو يبسم في وجهي؛ فإن جوهر الأمر كله أنه أخضع إرادتي لإرادته، وليس بعد هذا مرتبة أبلغ في القسر والعدوان.
وساقتني هذه الأفكار بدفعها حتى تصوَّرت الإنسان أحمق الكائنات وأبشعها وأقساها، تمثَّلته عند ذلك عبدًا للألفاظ التي كان يحلو له منذ القِدَم أن يخدع نفسه بها. كان في العصور السالفة ينحت قطعةً من الحجر ويسمِّيها بلفظٍ جميل، فإذا هي عنده إله مقدَّس يعبده ويتقرَّب إليه، ويقوم عليه السَّدنة والكهنة يتجرون باسمه الجميل. ثمَّ ها هو ذا اليوم يجعل من الجرائم فضائلَ ويسمِّيها أسماءً جميلة؛ يسميها «الحرب» و«المجد» و«العظمة» وما هي إلا جرائم قتل ونهب وتدمير. هذا «تيمور» وما أحراه أن يكون في أعين الناس أشد المجرمين خَطَرًا، وما أجدر الناس بأن يقيِّدوه في السلاسل ويجعلوه في مأمنٍ لا يستطيع الهروب. ولكنه أفلح في أن يسمِّي جرائمه أسماءً جميلة، فاستطاع أن يفوزَ بالسلطان الأعظم في الأرض.
ومرَّ الوقت سريعًا وأنا أنظر إلى صاحبي وأناجي هذه الخواطر المضطربة، ثمَّ رأيته قام وركب وأشار إليَّ أن أسير وراءه، فقمت خاشعًا ومضى في سبيله يهزُّ رجليه ويغني على عادته. ولو واتتني خِفَّة النَّفس لغنيت مثله، ولكن أفكاري أبعدت عني الألحان جميعًا، فسِرت مطرقًا حتى سمعته بعد حين يناديني، فرفعت رأسي فرأيته يومئ إليَّ أن أقترب منه. ثمَّ سألني هل أحب الركوب وراءه؟ فدار رأسي ولم أدرِ بِمَ أجيب. فظن الرجل أنني أتردَّد لأني لا أعرف الركوب، فتحرك وجعل يبيِّن لي الطريقة المُثلى لمن أراد أن يعلو ظهر الخيل، وعلَّمني كيف أضع رجلي اليسرى في الرِّكاب، وكيف أتحامل عليه وأثِب على ظهر الفرس، ثمَّ مدَّ يده لكي يساعدني حتى علوته من ورائه. وخشيت أن يرانا أحدٌ على هذه الحال فيسخر مِنَّا، فتلفَّتُّ حولي فلم أجد أحدًا، فسكنت وراءه وأمسكت بردائه، ووجدت بعد قليلٍ راحةً في الركوب بعد السير الذي هدَّ قواي في اليوم السابق.
واتَّصل الحديث بيننا، وكنت أجد بعض المشقة في فهْم أقواله؛ فقد كانت لكنته الأعجمية تخفي ألفاظه، ويزيدها فسادًا أنه كان أهتمَ لا يحسن النطق بالحروف. ولكني مع هذا كنت أفهم مجمل قوله تخمينًا، ولم تكن الحاجة تدعو إلى فهْم كل كلامه؛ فكان إذا أراد مخاطبتي لفت رأسه نحوي فأرى صفحة وجهه كأنها صورةٌ رسمها طفلٌ في ورقةٍ يعبث فيها، وإذا أردت أنا مخاطبته أخرجت رأسي من ورائه حتى يراني. ولست أدري كيف يرى صفحة وجهي، ولكنه كان بين حينٍ وآخر يضحك إذا وقعت عينه على عيني حتى يبدي أسنانه السوداء المنثورة في فمه. فكنت أرد عليه بضحكةٍ مثلها تخرج من ثنايا قلبي. وكان أكثر ما قاله لي لا يزيد على وصف مغامراته في الحروب مع تيمور، ويمكن الإنسان في سهولة أن يُلخِّص ذلك كله في بضع كلمات: إنه شارك في سفك دماء الكثيرين من بني آدم.
وكنت أحيانًا أضيق بحديثه، وأهمُّ بأن أقذف نفسي من ورائه لولا أن الجواد كان يسير. فكنت أحاول أن أصرف حديثه إلى معنًى لا يثير في خيالي مناظرَ الدماء، واستطعت بعد لأي أن أستدرجه إلى التحدُّث عن نفسه وعن أولاده، فوجدت ذلك الحديث أكثرَ إيناسًا لأنه دلَّني على أن الرجل كان آخر الأمر إنسانًا يعرف معنى المحبة.
وأخيرًا دخلنا ريف جانبولاد، وكان منظره بهيجًا. كان الهواء يهب على البساط الأخضر فيتموج سطحه كما يتموج أمام هبات النسيم. وكان الزهر يتخلل الخضرة بين أحمرَ وأبيضَ وأصفر، ومن فوقه ترفرف الفراشات متنقلة متقلبة تتواثب كأنها تلاعب الزهرات فوق أعوادها وتضحك منها إذ هي لا تستطيع أن تثبَ وراءها. فملأني المنظر مَرَحًا واهتزَّت نفسي بعواطفَ نقلتني إلى عالمٍ من الأحلام، فنسيت الفارس وحديثه، وانطويت على نفسي أتأمل ما طُبع فيها من الصور البديعة، وتصوَّرت علية ابنة علاء الدين وقلت في نفسي: «أين أنتِ الآن يا ملاك السماء؟ وأين انتهى بك المطاف الذي شرَّدك إليه تيمور؟» فما صحوت من تأمُّلي إلا على وكزةٍ في صدري، فإذا بصاحبي يدفعني بمفصل مرفقه دفعًا مؤلِمًا. فقلت له وأنا أكظم غيظي: «ماذا تريد مني؟»
فقال لي في حنق: «ألا تسمع؟ أقول لك انزل. انزل وأحضر اثنتين من هذه.»
فلم أفهم وقلت له مستفهمًا: «اثنتين من أي شيء؟»
فأدار وجهه نحوي وقال: «نعم. اثنتين من هذه …» وأشار برأسه إلى حقلٍ مزروع بالكرنب. ما كان أعجب صاحبي هذا في تقلُّب نزواته!
وكان الحقل يانعَ الخضرة يغطِّيه كرنب كبير تفتَّحت أوراقه الخضراء عن قلبٍ أبيضَ صافٍ، فقلت متردِّدًا: «بكم؟»
فوكزني مرة أخرى وقال: «انزل. هات اثنتين. ألا تفهم؟»
فلم أجد مهرَبًا من وكزه إلا بأن أتحرَّكَ وأهمَّ بالنزول، وكان لا يزال واضعًا قدميه في الرِّكاب يهزهما والجواد سائر به قُدُمًا. فصحت به: «قفِ الفرس.»
فشدَّ اللجام ورفع قدمه اليسرى من الرِّكاب، ثمَّ ساعدني على النزول. ولست أدري ماذا فعلت؛ فقد وقعتُ عن ظهر الجواد وتشبَّثت بالفارس حتى كدت أوقعه معي، لولا أنه دفعني فوقعت على الأرض وحدي، وقمت أنفض التراب عن ثيابي، ثمَّ اعتدلت وفي وجهي شيءٌ من التحدِّي، فصاح بي غاضبًا: «أسرع ثمَّ الحق بي.» وهمز الجواد وسار في طريقه، فلم أجد بُدًّا من الطاعة، وتلفَّتُّ حولي فلم أجد أحدًا، فمِلت إلى طرَف الحقل ونزعت منه كرنبة قريبة، وما كدت أفعل حتى سمعت صوتًا يصيح بي: «ماذا تفعل؟»
ثمَّ خرج رجلٌ من عريشٍ في أقصى الحقل وجاء يجري نحوي. فنظرت نحو الفارس فوجدته بعُد عني ولا يزال يهزُّ رجليه فوق الفرس، فوضعت الكرنبة على الأرض وأسرعت لألحق به. ولكن صاحب الحقل لم يدعني، وجرى ورائي وهو يصيح ويهدِّد ويشتم، حتى أدركني وأخذ بتلابيبي. وسمع الفارس الصوتَ فالتفت ووقَّف الفرس، ثمَّ لوى عِنانه وأقبل نحونا مُسرِعًا. وكان الرجل يدفعني في صدري ويكيل لي السباب كيلًا، ثمَّ رفع هراوة في يده وكاد يهوي بها على رأسي، لولا أن الفارس همز جواده وأدركني. فلما رآه الرجل أرخى يده وأنزل هراوته وأطلقني من قبضته، وقال في خوفٍ وهو ينظر نحوه: «هل هذا معك؟»
ثمَّ قال للفارس في خشوع: «هل هو معك يا جندي؟» فأقبل عليه صاحبي وأخذ يقتصُّ منه بما شتمني به، ورفع يده بالسوط. فصاح الرجل: «لم أعرف أنه معك.» ثمَّ جرى نحو الحقل فرفع الكرنبة التي قطعتُها وقلع معها ثلاثًا أخرى وجاء يحمل كلَّ اثنتين في يدٍ من يديه الغليظتين، حتى قدَّمها إليَّ؛ أربعَ كرنبات عظيمة منفوشة.
فقلت له حانقًا: «ومَن سألك أيها الأحمق أن تأتي بكل هذه؟» فانفجر الرجل كأنه أراد أن يفرغَ كل غيظه فيَّ وقال صائحًا: «خذ فاحمل. خذ أيها الكسول.» ثمَّ جعل يدفع إليَّ واحدة بعد أخرى، وهو كلما أعطاني إحداها شتم شتمةً جديدة ودفعني في يدي إذ يناولني. فلما فرغ منها انصرف عنَّا وهو يغمغم. وجعلت أحتال على طريقةٍ أستطيع بها أن أحمل حِملي، وقضيت في ذلك حينًا أضعه في أشكال وأوضاع وهو ينفرط ويتساقط، حتى استطعت أخيرًا أن أجمع كلَّ كرنبتين على كتف وأمسك رأسيهما بيدي من أمام، ونظرت إلى الفارس منتَصِرًا. فارتاح لما رأى وقال لي: «عفارم!» ثمَّ ابتسم وهمز جواده وسار وسِرت خلفه ولم يبقَ ثمَّة أملٌ في ركوبي.
لم نلبث أن أوغلنا في ريف جانبولاد، وكثُر الناس على الطريق وفي الحقول، وكانوا كلما مرَّ بي أحدهم نظر إليَّ نظرةً طويلة يتأمَّلني وأنا سائر وحِملي يهتزُّ فوق كتفي مع حركة جسمي، ثمَّ يرفع كُمَّ ثوبِه إلى وجهه ليخفي تحته ضحكته. فكنت كلما مررت بواحد منهم نظرت إليه، حتى إذا رأيته يرفع كُمَّه بادرت كذلك بضحكة، فترتفع على أثر ذلك قهقهةٌ صريحة مرحة كانت ترن في أذني أحلى رنين. أيها الأشقياء من بني الإنسان، التمسوا الضحك كلما أحسستم بالرغبة في البكاء، التمسوا الضحك كلما شعرتم بدبيب اليأس بين ضلوعكم؛ فإن اليأس لا يلبث أن يذوب تحت نُوره الساطع.
هذا أمر مجرَّب عرفته من طول ما قاسيت في الحياة.
واقتربنا بعد حين من قرية، وكانت الشمس قد عَلَت في كبد السماء واشتد الحر، فتحرَّك الفارس في سرجه ونزل إلى ظل شجرة في جانب ساقية على مقربة من القرية، واخترت لنفسي مكانًا معتزلًا، وجلست أنظر إلى الحقوق وإلى الناس ممن يذهبون إلى القرية أو يخرجون منها.
ثمَّ تنبَّهت على صوت صاحبي يناديني: «هو. ألا تسمع؟» وكان إلى ذلك الوقت لم يسألني عن اسمي. فعذرته في جفاء ندائه لي، ونظرت إليه مستفهِمًا. فأشار إليَّ بيده أن أذهب إليه، ثمَّ قال: «ألم تَجُع بعدُ؟» وكنت بغير شك جائعًا، فهززت رأسي أن نعم، وحسِبت أنه كان يخفي طعامًا في موضعٍ لم أره، فقال لي: «إذن ماذا نفعل؟» ففاجأني سؤاله ولم أُحِر جوابًا. أيسألني أنا عمَّا نفعل؟ وهل سِرت وراءه من ماهوش لأدبِّرَ له طعامه؟ ونظرت إليه والعجب مرتسم على وجهي، فأعاد قوله: «ألا تسمع؟ ماذا نفعل؟» فقلت له: «إذا لم نجد أكلًا فلا يمكن الأكل.» فلم يعجبه ردي وقبض وجهه وأطرق قليلًا، ثمَّ رفع رأسه باسمًا وغمز بعينه مشيرًا نحو القرية. فثارت في نفسي شكوكٌ كثيرة، وهززت رأسي مُستَفْهِمًا. فضحك وقال: «اذهب إلى هناك، فالتمس لنا طَعامًا.» وكأنَّ حجرًا قد أصاب رأسي عند ذلك، فتراجعت أترنَّح وصِحت: «ماذا؟» فأعاد عليَّ قوله وإيماءته وبسمته، فزادت حيرتي. إن أهل القرية كثيرون يبلغون المئات أو الألوف، وقد عجزت عن صاحب حقل الكرنب وحده، فما بالي بهؤلاء جميعًا؟ واستقرَّ رأيي على الإباء. ولم يكن الجوع شاقًّا عليَّ؛ فقد تعودت صوم رمضان، فلن أعجز عن صيام يوم واحد. ولكن الفارس صاح بي: «ماذا يؤِّخرك عن السير؟» فتجرَّأت وقلت: «إنني لا أملك نقودًا.» فنظر إليَّ نظرةً فيها ازدراء، ولكنه سكن لحظةً يُفكِّر، ثمَّ لمعت عيناه وقال متحَمِّسًا: «عفارم! خُذ هذه فبعها واشترِ بثَمنها.» وأشار إلى الكرنب. فسُمِّرت في موضعي ولم أتحرَّك؛ إذ كانت هذه أخت الأخرى، ولا خيار بين البيض الفاسد. فلما رأى الرجل أنني لا أتحرَّك قام وهزَّني من كتفي هزَّة عنيفة وصاح بي: «هو، لا تضيِّع الوقت.» فلم أجِد بُدًّا من الطاعة، وحملت الكرنب وسِرت به نحو القرية. فلما دخلتها وجَدْتُ جُدرانًا من الطين قد رُصَّت رَصًّا ليس فيها سوى فتحات صغيرة أذكرتني بيوتَ الدجاج. ورأيت الدواب تخرج منها فحسِبتها حظائرَ الماشية جُعِلَت في طرَفٍ من القرية. ولكني كلما سِرت لم أرَ إلا جُدرانًا مُتشابهة، ورأيت الناس يدخلون ويخرجون منها بثيابهم المتربة وعيونهم الرمصاء. مساكين هؤلاء، هل يكون بينهم مَن يشتري الكرنب؟ وسِرت حتى بلغت آخرَ القرية، فوجدت بَراحًا من الأرض فيه أطفال يلعبون بكرةٍ يتقاذفون بها. وكنت أحب الأطفال منذ خلقني الله، ولا أرى منهم أحدًا حتى أذكر ولدَيَّ عجيبًا وجميلة. ما كان أشوقني إليهما، وما كان أشد حنيني إلى رؤيتهما! لقد تركتهما منذ يومين طويلين كأنهما دهرٌ من الدهور، وكنت لا أدري كيف أمسيا ولا كيف أصبحا، ولا أعلم هل أصابا عَشاء أم فاتهما العَشاء والإفطار. الله لهما من حبيبين، فهو أشفق عليهما مني وأبرُّ بهما. وتقدَّمتُ نحو الأطفال وأنا أمسح دمعتي، ووقفت أنظر إليهم وشفتاي تختلجان وقلبي يخفق.
كم كان في هؤلاء من أمثال ولدي؟ وهل كان فيهم مَن تركه أبوه وهاجر من القرية كما هاجرت؟ مساكين هؤلاء الأبرياء، كانوا يلعبون في أسمالهم البالية، ويفركون أعينهم الرمصاء بأيديهم الملوثة. وتأملت وجوههم الشاحبة. لقد كانت جميلة لو امتلأت لحمًا ودمًا. ونظرت إلى أقدامهم السوداء، لم تكن سوداء وإنما هو الطين الكثيف الذي كان يُغطِّيها بلونه الكالح القاتم. مساكين هم، ما كان أظرفهم في تواثبهم وتضاحكهم وتعابثهم! وتحرَّكت نفسي إليهم فلم أملك أن اندفعت نحوهم لكي أشاطرهم ما هم فيه، وأعلِّمهم كيف يسددون الرمية؛ فقد كنت في صباي عميدًا للصبيان في لعبهم. وما كدت أقترب منهم حتى سُدِّدَت إليَّ الكرة من يد أحدهم، فوقعت في صدري وصدمتني صدمةً كِدت أصرخ من ألمها. لم تكن كرةً، عَلِم الله، بل قطعة من الطين اليابس القاسي. فوقفت ووضعت الكرنب على الأرض لأمسح ما علِق بثيابي من الوسخ، وما كاد الشياطين يبصرونني أفعل هذا حتى علا ضحكهم وأقبلوا عليَّ يُصفِّقون ويستعدُّون لكي يتَّخذوني هدفًا لقذائفهم. فخشيت على نفسي وحملت الكرنب مُسرِعًا ورجعت من حيث جئتُ وأنا أسمع تناديهم وتضاحكهم وتحريض بعضهم بعضًا على أن يسرعوا لتسديد قذيفة جديدة ليدركوا مني متعةً أخيرة قبل منصرفي. وكان قلبي مع ذلك لا يزال يخفق حنينًا إليهم عندما بلغت أقصى الميدان وبعُدت عن مدى رمايتهم.
عُدت بعد ذلك إلى نفسي وذكرت الكرنب والفارس، وجعلت أفكِّر في طريقةٍ أحمل بها مَن يستطيع الشراء من أهل القرية على شراء سلعتي، فتذكرت الباعةَ في وطني ماهوش وهم ينادون على سلعهم بالأسجاع والنغمات المطربة، ويَصِفونها وصفًا شعريًّا يحبِّبها إلى الشارين. فجعلت أنادي على الكرنب وأتغنَّى به وأستعير له كثيرًا من صفات الزهر والعطور والحرير. ولست أدري ما الذي حمل أهل القرية على أن يجتمعوا حولي ويضحكوا كلما سمعوا ندائي، كأنني كنت أناديهم لأضاحكهم. ومضى وقتٌ طويل وأنا أسير والناس يسيرون من ورائي نساء وصبية وشُبَّانًا، ولم يتقدم أحدهم للشراء حتى يئست وعزمت على الرجوع خائبًا. ولكني فكَّرت في ثورة صاحبي إذا عُدت إليه بغير طعام، فنظرت إلى الجمْع الذي كان حولي وسكتُّ عن الغناء، وقلت لهم بكلام ساذج: «ألا يريد أحدٌ في هذه القرية أن يشتري كرنبة مني؟» فضحكوا جميعًا، واقتربت مني عجوز فقالت ضاحكة: «فعل الله لك، هل تريد بيعًا؟ لقد كُنَّا نحسب أنك تغني إعجابًا بخضرك.» فأجبتها منكسرًا: «أسأل الله لك الستر يا أماه، لم يكن بي إعجاب، بل لقد ضقت بها وثقلت على كاهلي، وإنما غنيت ليشتري الناس مني على عادة قومي في ماهوش.» فضحكت وضحك سائر مَن حولي وتصايحوا فيما بينهم: «غريب غريب.» وتواثبوا إليَّ من كل ناحية يُقلِّبون ملابسي ويجسُّونها ويمسحون أيديهم عليهم، وجعلوا يمطرونني بالأسئلة عن وطني، ومتى جئت وإلى أين أذهب. ولم أستطِع أن أجيب عن شيء من ذلك كله، بل شعرت بضيق شديد وصِحت بهم في شيءٍ من الضجر: «هذه كرنبات فاشتروها مني بدريهمات أشتري بها طعامًا.» وكأنهم سمعوا مني مُزاحًا، فصاحوا ضاحكين وقالت إحدى البنات: «غنِّ لنا مرةً أخرى يا عم.» فغضبتُ ونظرت إليها في ألمٍ وكِدت أصيح صيحةً أخرى مؤنِّبًا، ولكني سمعت من ورائي صوتًا ينادي: «عفارم!» فعرفت الصوت ونظرت إلى ورائي في فزعٍ وأردت أن أشكو إلى الفارس ما لقيت، ولكني رأيت وجهه يتحرك بالغضب، ورأيت شاربه يهتزُّ كشارب القط إذا كشَّر، ولم أدرِ إلا وقد اقترب مني وأخذ الكرنب فألقاه على الأرض في عنف، فتحطَّم وتطايرت أجزاؤه وتناثرت أوراقه الرطبة البيضاء، ثمَّ صاح في وحشية: «ما هذا؟»
وما كاد الجمع يراه حتى انفض من حولي، فجرى النساء والصبية وهم يصرخون، وانصرف الرجال يتلفتون إلى وراء. فقلت له وقد غضبت: «ماذا؟» فصاح بي صيحةً لم أفهم معناها، ثمَّ مضى إلى أقرب منزل فطرقه وخرجتْ إليه امرأةٌ فأمرها أن تُحضِرَ له طعامًا، فأسرعت داخلة إلى الدار ولم تبطئ حتى جاءت إليه بما عندها من خبز وجبن وبيض. وما كان أشد عجبي عندما رأيت المنازل المجاورة كلها قد فُتِحَت، وأقبل الناس منها يسعون زَرافاتٍ ووُحْدانًا، وكلٌّ منهم يحمل شيئًا في يديه أو في صفحةٍ أو قرطاس، وأخذت أجمع ما يأتون به حتى لم أدرِ كيف أحمله. وسار الفارس في كبرياء إلى خارج القرية عائدًا إلى ظل الشجرة، وسِرت وراءه أحمل ما استطعت حمله في يدي، وسار الناس من ورائنا في موكبٍ يحملون ما جاءوا به حتى بلغنا مجلسنا، فألقَوا ما معهم وهم يتأدَّبون ويُظهِرون المودة، ثمَّ ساروا سِراعًا كأنهم يلتمسون النجاة. ووالله لو كنت وحدي لقضيت النهار كله في سيرٍ، ولعُدت آخرَ النهار بمَعِدة خاوية.
أكلنا هنيئًا، ثمَّ جلسنا نتسامر، وقد عادت أخلاق صاحبي إلى الموادعة، ولم أتمالك أن سألته: «أيعرفك أهل هذه القرية؟ إنهم قد أكرموك حقًّا.» فقال وهو يضحك: «إنهم لا يعرفون إلا هذه الريشة.» ثمَّ طأطأ رأسه وهزَّ ريشته الزرقاء، وقال وهو يبتسم ابتسامةً هادئة: «إذا أردت أن تعيش فاعرف كيف تعيش. خُذ ما تستطيع قسرًا. اعرف كيف تأمر ثمَّ تملأ جيبك. املأ جيبك ما استطعت، ثمَّ سِر رافعًا رأسك. خُذ ضريبتك أنى وجدتَ إليها سبيلًا.»
نعم هكذا الدنيا، وقد كانت هدايا المساكين مُنذ القِدَم ضريبة.
وبعد أن قضينا في الراحة ساعةً قُمنا إلى السير، وأبيت أن أركب عندما سألني الفارس أن أفعل، بل شكرته وسِرتُ على قدمي أتأمل ما قاله لي، وقلَّبت نظري في الريف وما فيه من جمال الطبيعة، وتمنَّيت لو كان أهل القرية بعض حيوان الحقل. لقد كانت قطعان الماشية ترعى في المرج الأخضر سمينة بيضاء ناصعة أو صفراء فاقعة، تسرُّ النظر بما عليها من كسوة نظيفة حباها بها الله جل وعلا.
ومرَّ وقتٌ طويلٌ وأنا سائر أفكِّر فيما يقع عليه بصري، حتى سمعت صوت صاحبي يناديني، فنظرت إليه فرأيته يشير بأصبعه إلى الأفق. وكان النهار قد انقضى إلا أقله، وأقبل الليل وأخذ النور يتضاءل، ولاحت على الأفق مدينةٌ كأنها صورةٌ رسمها صانع ماهر فوق طومار كاغد. وبعد قليل لمعت الأنوار تبص خافتة من بعيد منثورة على الأفق في غير نظام. وخفق قلبي عندما سمعت الفارس يصيح وهو يشير إلى المدينة «جانبولاد».