الفصل الثالث عشر
لم تدَع لي الأيام الأولى من مقامي في جانبولاد فَراغًا للتفكير ولا للترفيه عن نفسي؛ فقد كنت في شغلٍ شاغلٍ من أمرِ حياتي الجديدة، وما ينبغي لي فيها من وسائل العيش. فاتَّخذت لي مسكنًا في جوار صاحبي الفارس غُرفةً وفِناءً واسعًا تسطع فيه الشمس من شروقها إلى غروبها. وأعددت فيه القليل من الأثاث، ولم أنسَ أن أبعث مع بعض التجار خبرًا يُطمئِن أهلي في ماهوش، وأرسلت إليهم شيئًا من الرزق الذي أصبته.
ولما استشعرت الاطمئنان إلى حياتي الجديدة، أخذت أدير عيني فيما حولي وأتحسس أحوال البلد الذي حللت فيه.
وجانبولاد مدينة عظيمة تجتمع فيها خيرات ريف خصب، وكانت من قَبلُ تُراثًا لعلاء الدين سُلطان ماهوش، ثمَّ نزعها منه تيمور فيما نزعه من أرض السلاطين.
مسكين علاء الدين، إنني لا أذكره إلا ذكرت الدين والمكرمات جميعًا. ولكن أبر السلاطين ليس في هذه العصور أقواهم وأعظمهم؛ لأن تيمور لم يدَع عظمةً لغير سفاح الدماء. وعلية ابنة علاء الدين، إن قلبي لم يخلُ يومًا من صورتها، وما زالت تؤنس أحلامي في حِلِّي وتَرحالي.
أيها القلب اتئد، فما من حيلةٍ لك إلا أن تقنع بأطياف الأحلام، وما علية مما أنت فيه؟ ما هي إلا صورة، فلتقنع بصورتها ولتجعلها نجية وحي العلا.
قضيت الأيام في هذه المدينة أتعلَّم كلَّ يوم معنًى جديدًا. ومن غريب أمر الإنسان أن يرى في البلد الأجنبي ما لا يراه في البلد الذي وُلِدَ وعاش فيه؛ فكلُّ ما يحيط بالإنسان في بلده مألوف معروف، مع أنه قد يكون للأجنبي عجبًا من العجب.
ولست أقصد هنا أن أصفَ أهل جانبولاد لأبدي فيهم رأيًا؛ فمن ذا الذي نصَّب بعض الناس ليحكموا على البعض؟ لا، بل إنِّي أحسُّ في نفسي أشدَّ الحاجة إلى عطف الآخرين عليَّ وتغاضيهم عن عيوبي، فلستُ بمن يتلمَّس العيوب أو يَعُدُّ السقطات. علمتني الحياة أن آخذ الناس كما أراهم، فهكذا خلقهم الله، وهكذا أراد لهم أن يعيشوا. إنهم من طين الأرض لا يستطيعون أن يكونوا من ملائكة السماء، وما أحرانا إذا رأينا العيوب أن يزيد عطفنا على أصحابها ورثاؤنا لهم؛ لأننا من البشر نحس ثِقَل الطين في طبعنا. وأكرم ما يستطيعه إنسان أن يملأ قلبه بالعطف على المخطئ والآثم؛ لأن هؤلاء أحوج إخوانه في البشرية إلى عطفه.
ومع هذا كله فالحُسن والقُبح أمران يتوقفان على تقدير كل فرد، وقد يكون الشيء حسنًا في عين إنسان، فإذا به نهاية القبح في عينِ إنسانٍ آخر.
ولقد كدتُ أعدِل عن أن أقصَّ حرفًا واحدًا في وصف جانبولاد، لولا أنني أردت أن أتحدَّث ببعض ذكريات حياتي فيها، وأتأمل مناظرَ الماضي، كما يتأمل مناظر السهل مَن صعد في الجبل إلى قمَّته، فإذا لم يجد في تأمُّله درسًا يستفيده لم يخلُ من متعة الذكرى.
كان صاحبي الفارس أول مَن عاشرتُ من أهل المدينة، وقد وجدت على طول الزمن أنه في دخيلة نفسه إنسان. عرفت فيه أمورًا كثيرةً دلَّتني على أنه من أرقِّ الناس نفْسًا ومن ألينهم شكيمةً، واسمه «طوطاط»، ويُعرف بين العامة باسم «وطواط»؛ فإن لأهل «جانبولاد» عادةً في تسمية حكامهم أسماءً يخترعونها، أو يحرِّفونها عن أسمائهم، أو يفيضون عليها بعض أفاويه من فكاهتهم. وأهل جانبولاد من أحلى الناس فُكاهةً، وهذا مما حبَّبهم إليَّ؛ فالفكاهة أولى علامات الإنسانية. وهم يجدون في فكاهتهم ترفيهًا كثيرًا مما يعانون من مشقَّات الحياة. وخواص جانبولاد لا يخشون من عامَّتها شيئًا هو أشد عليهم من هذه الفكاهة الحلوة اللاذعة.
وكان صاحبي الفارس لا يملك في بيته أمرًا ولا نهيًا؛ لأن له في بيته امرأةً تسيِّره وهو بذلك سعيد، لا يردُّ لها أمرًا، ولا يفكِّر معها في شيء، بل يترك لها قياده حتى يفرغ لما هو أجدر بعنايته شأنًا. فهو إن كان في طُرُق جانبولاد أسدًا لم يزِد في داره على أن يكون حَمَلًا وديعًا.
وكان في «طوطاط» إخلاص ومودة، حتى كِدت أَعُدُّه صديقًا، بل لقد كان له عليَّ فضلٌ فيما بعدُ لن أنساه له أبد الدهر. ولكنه رجل صاحب نزوات تثور به بين حين وحين، فإذا ثارت فلا يدري المرء إلامَ تنتهي به. وقد اعترته نزوة من هذه مرة ونحن معًا في داره، وكان قد شرب بعض النبيذ وطرب ثمَّ عربد، فعزم عليَّ أن أشرب معه. وشكرته معتذِرًا فألحَّ عليَّ، ثمَّ بالغ حتى حلف بالطلاق لأشربنَّ معه، وكان ذلك على مسمعٍ من زوجه. فوقعتُ في حيرة لم أدرِ معها ما يجب عليَّ أن أفعل، فهل أعصي الله وأقارف إثم الخمر، أم أطيع الله وأفرِّقُ بينه وبين امرأته؟
ولم يكن التفريق بينهما هو الذي يزعجني؛ لأن أكبر ظني أنه كان خيرًا له لو تزوج أخرى تكون ألينَ منها جانبًا وأرفق في التعتعة. وإنما الذي حِرت فيه هو التماس طريق الخلاص من بيته إذا أنا لم أنزل على حكمه وأبر له يمينه؛ فإن الزوجة ما كانت تتركني أخرج من دارها سليمًا. فاضطررت بعد التأمُّل إلى أن آخذ الكأس من يده، وحسِبت أن هذا يخرجني من الحرج، ولكنه أبى وأصرَّ على أن أنادمه سائر الليلة، ولم يُجْدِني معه اعتذارٌ بأمرٍ من أمور الدين أو الصحة؛ فكنت كلما أبديت له عُذرًا قطع عليَّ السبيل بيمينٍ جديدة. وجعل يعجب مني إذ أريد أن أعيش في جانبولاد بغير أن أتمتع بمباهج الحياة، وحلف لي أغلظ الأيمان أنني أكون ضُحْكة بين الناس إذا أنا لم أسايرهم في حياتهم. فأخذت الكأس ورفعتها إلى فمي ومصصت منها مصةً أظن الله يغفرها لي؛ فقد قصدت بها أن أبرَّ له يمينه، ثمَّ قمت مسرعًا فذهبت إلى الخلاء وادَّعيت أن بردًا أصابني، حتى إذا ما صِرت خارج القاعة قذفت بنصفِ ما في الكأس ثمَّ عُدت لأنادمه. وكلما رأيته ينظر إليَّ رفعت الكأس نحو فمي وقمت مرة أخرى إلى الخلاء.
ولم يطُل بي الخوف منه بعد قليل؛ فقد شغله عني طرَبه عندما دبَّ الشراب في دمه، وكأني به قد تمنَّى لو أمسكت عن مشاركته بعد ثلاث كئوس، حتى لا أنقص ما بقي له في الدن؛ ولهذا رأيته لا يصرُّ على إعطائي كأسًا رابعة عندما أظهرت له قليلًا من الامتناع.
وكان في تلك الليلة مدهشًا. كانت أقل لفظة أفوه بها تبعثه على أن يتمرَّغَ على الأرض من شدة الضحك. وصِرت عنده من تلك الليلة من أحب الناس وأكرمهم. فصار لا يطيق البعد عني، وكلما رآني مقبلًا استعدَّ للضحك، فلا أكاد أنطق بحرفٍ حتى ينفجر مقهقهًا كما يعطس الإنسان إذا قربت من أنفه النشوق.
ولم يكفِه هذا، بل أذاع عني بين أصحابه جميعًا أنني نديم حلو الفكاهة شهي الأحاديث، وأضاف إلى ذلك قوله إنني إذا شربت ثلاثًا كنت أبرعَ الناس في المنادمة. سامحه الله، لقد كلفتني قالته هذه مشقةً كبيرة فيما بعد.
ومن أعجب العجب أن كلَّ مَن سمِع منه هذا لم ينتظر حتى يحكم لنفسه، بل اعتقد صدقه بادئ ذي بدء، فصِرت بعد ذلك لا أنطق بحرف في مكان حتى تتجاوب أصداء الضحك من كل أركانه. فلما رأيت هذا تعمدت أن أنطق بالكلام الذي لا يحتمل الفكاهة، بل لقد تعمَّدت أن أنطق بالفاتر البائخ من القول، ومع ذلك فما كنت أرى الضحك يزداد إلا عُلوًّا. هكذا الناس، قلما تجد فيهم مَن ينظر بعينيه بل يسيرون على هدي آذانهم.
ومهما يكن من الأمر فقد رُضْتُ نفسي على تحمُّل نزوات صاحبي؛ لأن حسناته تغلب السيئات، وهذا حسبه من الإحسان. وكنت أجد متعةً في مصاحبته، فجُلْنا معًا في طُرُق جانبولاد، وزرنا حدائقها ومساجدها، وأسواقها المزدحمة وأحياءها الفقيرة وأحياءها العامرة بالقصور المنيفة، فوجدتها مثل سائر بلاد الأرض، يسكنها الناس مجتمعين لكي يمكر كلُّ جار بجاره. هذه حقيقة أبدية ليس فيها جديد في جانبولاد. وكنت إذا سِرت في صحبة «طوطاط» أَسْلَم من العدوان؛ لأن الناس كانوا إذا رأوه فسحوا له الطريق، حتى في أشد الأسواق زحمة، مع أني كنت إذا سِرت وحدي لا أنجو من الدفع والخبط، وكثيرًا ما أصابتني ضرباتٌ من العصي إذا مررت بقومٍ يتعاركون. وقد كنت ذات مرة أسير وحدي في طريقٍ خالية، فسمعت قومًا يتخاصمون ويتقاتلون، فاستغاث بي أحدهم، فذهبت لكي أُعِين على السلام والوئام، وشُغلت بسماع حجج الخصمين ووزنها، وتأمُّل مواضع الحق فيها، فلما فرَّقت بين المتخاصمين بالحق، وسِرت عنهم راضيًا تلمَّست ردائي فلم أجده. فنظرت ورائي وحولي فلم أجد منه شيئًا، كأن الأرض قد ابتلعته. ورجعت إلى مكان المعركة فلم أجد أحدًا هناك سوى شيخٍ يدبُّ على عصاه، فلمَّا رآني أبحث سألني عن الخصام فيمَ كان. فقلت له إن القوم كانوا يتخاصمون على ردائي فأخذوه، فنظر إليَّ الرجل في عطفٍ ثمَّ مدَّ يده إليَّ وسألني «حسنة». فأعطيته ما كان معي وهو قليل، فنظر إلى ما أعطيته فاحِصًا، ثمَّ انصرف عني وهو يغمغم شاتمًا. هذا يحدث لي إذا سِرت وحدي، ولكني كنت إذا سِرت في صحبة طوطاط رأيت على وجوه الناس إجلالًا وأدبًا، وقد سألته في ذلك مرة فضحك وقال: «مَن أراد صلاح قوم أخافهم.»
وفي هذا حقٌّ كثيرٌ بغير شك؛ فقد خلق الله في الإنسان غرائزَ كثيرة، والخوف من أعجبها أسرارًا؛ فهو يتشكَّل في شتَّى المظاهر كما يتصور الجنِّي في صور الإنسان والحيوان. فالخوف يتخذ حينًا شكل الحب، وقد يتخذ شكل الإجلال أو الولاء أو الأدب، وهو يحمل كل هذه الأسماء مع أنه ليس في الحقيقة سوى الخوف. ولكن هذا الخوف لا يطغى على الطباع إلا إذا انعدم الحب الصحيح، والخير كله لا يكون إلا في الحب، ولا تكون الكرامة ولا الصلاح ولا الإنسانية إلا في المحبة.
وقد أطلعني صاحبي «طوطاط» على حقيقةٍ فذَّة في جانبولاد لم أشهد مثلها في بلد من البلاد التي رأيتها؛ ذلك أني رأيت بعض بيوتها تحمل فوقها أعلامًا مختلفة الأعداد، فبعضها يحمل عشرة، والبعض يحمل عشرين أو أكثر، والبعض لا يخفق فوقه إلا علم أو علمان. وكانت البيوت التي لا تعلوها أعلام بيوتًا ضئيلة حقيرة المنظر. فوقع في نفسي من ذلك شيء من العجب؛ فعهدي بالأعلام أن تكون زينةً يُقِيمها الناس إذا أرادوا احتفالًا بمرور السلاطين في المدينة. وسألت صاحبي عن سرِّها، فقال في دهشة: «ألم ترَ هذا من قبل؟» فقلت له: «لعلي رأيته، ولكني لم أتنبه إليه.»
فكشف لي عن ذلك السر الخطير الذي تمتاز به جانبولاد، فقال: نحن هنا لا نتساهل في أمرٍ من الأمور، كل شيءٍ هنا مُقرَّر على نظام مرسوم، هكذا يحكم تيمور دائمًا.
فانتقل بي خاطري فجأةً إلى الغابة التي رأيتها في طريقي، وتذكرت صرخة الفريسة المسكينة.
وقلت لصاحبي في حماسة: لا شك في أن النظام أساسُ العمران. فقال وهو يرفع صدره ويميل برأسه في كبرياء: هنا طائفتان تحكمان جانبولاد: الأولى نحن.
ثمَّ أشار إلى نفسه إشارةَ زهو.
فقلت في هدوء: طبعًا.
فقال: ولكل أميرٍ مِنَّا علامةٌ تميِّزه؛ فمنَّا صاحب الريشة، ومِنَّا صاحب الريشتين، ومِنَّا صاحب الثلاث.
ثمَّ توقَّف ليرى أثرَ كلامه على وجهي.
فقلت وأنا أنظر إلى ريشته: نعم صاحب الثلاث.
فقال مبادرًا: ستكون لي بعد قليل ريشةٌ أخرى. لا شك أن تيمور يزيدني ريشةً إذا عاد من حربه مع بايزيد. وسيعود بعد قليل. ألم تسمع منذ أيام أنه أسره ووضعه في قفص من حديد؟
فخرجت مني صيحة: قفص من الحديد؟
فقال باسمًا: نعم. وسيأتي به إلى هنا لنراه في قفصه، ثمَّ يذهب به بعد ذلك إلى سمرقند لكي يجعله في طليعة موكبه العظيم.
ثمَّ نفخ صدره وعبس.
فقلت بغير وعي: بايزيد في الموكب؟
فصاح بي غاضبًا: نعم، إنها آية لمجد تيمور.
فلم أشأ أن أجادله في هذا الأمر، فقلت: نعم.
فقال وكأنه نسي ما كان يحدِّثني فيه: سينظر الناس إلى عاقبة مَن يقاوم تيمور. هو الأسد الذي لا يُقاوَم، والنَّسر الذي لا يُسامَى. وليس لأعدائه إلا القهر والفَناء.
فهززت رأسي وفي حلقي غصة ولم أملك جوابًا، وضاق صدري بأنفاسي، وعادت إليَّ صورة الغابة.
فقال صاحبي مستمرًّا: فإذا عاد تيمور إلى هنا رأينا عدوَّه في القفص، وشفينا النفوس من كبريائه المحطَّمة.
فقلت له: إنك تكرهه. هل رأيته؟
فرفع حاجبيه وقال: ولِمَ أراه؟
فأردت أن أبعُد به عن هذا الحديث، فقلت له: وإذا عاد تيمور وضع لك هنا ريشة أخرى؟
وأشرت إلى قلنسوته. فتذكَّر ما كان فيه من الحديث وقال: نعم. ريشة أخرى هنا.
فقلت مشجِّعًا: وثالثة ورابعة.
فضحك حتى تراجع إلى الوراء وقال: «إنما هي ثلاث ريشات ليس بعدها إلا الأذناب.» فصِحت ضاحكًا: الأذناب؟
فقال ضاحكًا كذلك: نعم ذَنَب واحد أو اثنان أو ثلاثة. هؤلاء هم أعلى الفرسان، ليس فوقهم سوى تيمور.
فقلت بغير تفكير: إذن فالأذناب في القمة.
فقال موافقًا: ثلاثة أذناب ليس بعدها إلا تيمور.
فقلت: وماذا يحمل تيمور العظيم؟ حدوة فرس؟ سيف؟ سن فيل؟
فقال ضاحكًا من جهلي: لا، بل هي عمامة كبيرة.
ثمَّ نظر إلى عمامتي وقال: أكبر من هذه.
فشعرت بشيءٍ من الكبرياء وضحكت قائلًا: ثوب آخر يجعلها كعمامة تيمور.
فضحك صاحبي كعادته إذا سمع كلماتي، وضرب بيده على كتفي وكأنه نسي كلَّ الحديث الذي كان بيننا، فقال: سيكون موكبه عظيمًا بغير شك، وسيعطيني بعد ذلك ريشة أخرى.
فخشيت أن يعود إلى وصف سيده العظيم، فقلت له مذكِّرًا: هؤلاء هم أصحاب الريش والأذناب، هؤلاء هم الطائفة الأولى.
فقال وقد تذكَّر: نعم، وأمَّا الطائفة الثانية فهم أصحاب القدور.
فصحت ضاحكًا: قدورٌ فوق الرءوس؟ مساكين!
فعاد إلى الضحك وقال: لا، لا، بل هي قدور ملأى بالذهب الأصفر الصافي. كلما جمع أحدهم قِدْرًا ختمها ووضع على داره عَلمًا جديدًا يدلُّ على أن قدوره الذهبية قد زادت واحدة.
فهززت رأسي وقلت كالحالم: قدور ملأى بالذهب!
وأطرقت أفكِّر في هذا النظام العجيب. فما أغلى هذه الأعلام التي لا يُرفَع أحدها إلا إذا كان تحته قِدْرٌ من الذهب. وذهبت بي الأفكار مذاهبَ شتَّى في تصوُّر حال جانبولاد، حتى هزَّني صاحبي وقال لي: «انظر إلى هذا المنزل.» وأشار إلى بيتٍ على يساري، فوجَّهت نظري إليه فاتِرًا فرأيته قصرًا عظيمًا تلمع جدرانه وتبتسم بساتينه، ورأيت فوقه خمسين عَلمًا تخفق في الهواء في مرح وكبرياء. وقال «طوطاط»: «هذا بيت صاحب السيف. كلمة واحدة منه تكفي لأن تطيح الرأس عن الجسد؛ فهو صاحب الأعلام الخمسين، قاضي جانبولاد.»
فاعترتني قشعريرة من سماع هذا القول، وجعلت أفكِّر في أمري وأمر الناس، وموضعي في هذا البلد الذي تكفي فيه كلمة من صاحب الأعلام الخمسين لأن تطيح الرءوس عن الأجساد. ولكني ما لبثت أن هدأت نفْسي؛ فإني جئت إلى جانبولاد لاجئًا، ولا ينبغي لي أن أتكلَّمَ ولا أن أُناقش، فإذا لم تعجبني هذه الحال فباب المدينة مفتوح أستطيع أن أخرج منه إلى حيث شئت. ولم يكن أولى بي من أن أضع لساني بين فكيَّ وأطبق عليه شفتيَّ. وعند ذلك تبيَّن لي ما يعتري الغريب من الذِّلة، ولو كنت في ماهوش لما رضيت لنفسي إهدار الكرامة؛ فإني كنت هناك أتكلم وأنتقد وأسخر أحيانًا، ولم أسمح لأحدٍ أن يكمَّ فمي. ولاحت لي الحياة في ماهوش عند ذلك أحبَّ حياةٍ على الأرض، واشتد حنيني إليها، وأطرقت حزينًا أستعيد ذكراها.
ولاحظ صاحبي وجومي وإطراقي، فقال لي: أراك تعبت!
وكنت قد تعبت حقًّا، فقلت له: صدقت.
فأشار إلى مكانٍ مزدحم في جانب السوق وقال: هلمَّ نسترِح قليلًا.
فترددت قليلًا؛ فما كان ينبغي لي أن أجلس على قارعة الطريق؛ فإن هذا مُذهِب للمروءة.
ولكن صاحبي مضى في وجهه حتى جلس، وأخذ يصفِّق بيديه فجلست معه ونظرت حولي أدير عيني في الجلوس، فلم أرَ فيهم شيئًا يستحق التأمُّل. كانوا جميعًا جالسين بعضهم مسترخٍ في صمت وبعضهم يتخاصم في صخب، فملت على «طوطاط» وقلت له: أليس في المدينة مَن يرى في هذا النظام رأيًا؟
فقال في دهشة: ماذا تعني؟
فقلت: أعني أن جانبولاد مدينة عظيمة، وفيها خلقٌ كثير لا أعلام لهم ولا ريش. فما حظُّ هؤلاء منها؟
فقال في بساطة: مَن تقصد؟ هؤلاء العامة؟
فقلت منكسرًا: نعم، مَن لا ريش لهم ولا أذناب مثلي.
فقال ضاحكًا: هؤلاء قد عرفوا كيف يصمتون.
فطعنتني كلمته طعنةً شديدة، وخُيِّلَ إليَّ أن عذاب الجحيم نفسه أهونُ عليَّ من الإقامة في بلدٍ ليس لي فيه إلا أن أصمت. وجاء عند ذلك خادم المكان يحمل القهوة. وكنت أحبها فأقبلت عليها أرشفها، وشُغِلَ عني صاحبي بمساومة بعض الباعة الذين جاءوا يعرضون سلعهم يحملونها في أيديهم أو فوق رءوسهم، وكانت مساوماته أشبه الأشياء بالنضال، حتى لم يخلُ بعضها من الدفع باليد والسباب. وكان الباعة رجالًا يستطيع أحدهم إذا شاء أن يدير ساقية بزنده، ولكنهم كانوا لا يحملون من السلع إلا يسيرًا لا يزيد ثمنه على دريهمات. ففهمت عند ذلك السر الخفي؛ فهمت كيف يرضى العامة في جانبولاد بأن يقيموا فيها خاضعين، ويضعوا ألسنتهم داخل أفواههم؛ فليس بهم من حاجةٍ إلى الكلام لأنهم في شُغلٍ عن ذلك بهمِّ اقتناص الرزق الضئيل. وجمع صاحبي كومةً كبيرة مما اشتراه من أصنافٍ كثيرة مختلفة الألوان، ولم يبقَ له إلا أن يشتري ليمونًا، فتنبَّهت على صوته وهو يشاحن البائع ليأخذ منه ليمونة عاشرة، فلما سخا له البائع بها أعطاه دانقًا ثمَّ التفت إليَّ وقال: أُفٍّ لهؤلاء الباعة! ما أشد لجاجتهم!
ولما رآني مشغولًا عنه هزَّني بيده وقال: أراك غارقًا في تفكيرك.
ثمَّ أخذ يجمع السلع ويضعها في منديل كبير، ولكن المنديل لم يتَّسع لها، فقلت له باسمًا: هذا حِمْل كبير.
فقال وهو يغمز بعينه: عندي الليلة بعض أصحابي، وحبَّذا لو كنت معنا.
فتذكَّرت الليلة التي عربد فيها عليَّ، وفهمت من غمزة عينه أنه يشير إلى الكئوس الثلاث التي ظنَّ أنني شربتها، ولم أجد جوابًا أرُدُّ به، فاستمر قائلًا: هم جميعًا من أصحابي المقرَّبين ويسرُّهم وجودك بينهم. لقد سمعوا عنك وهم يحبُّون أن يتمتعوا بحديثك. وعلى فكرة، هم جميعًا من أصحاب الأعلام، وليس أولى بك من مصاحبتهم.
ومال عليَّ هامِسًا: لا تبعد عن مجالسة أصحاب الأعلام إذا شئت أن تكون لك أعلام في جانبولاد.
فأثارني قوله وقلت: «ما هذه الأعلام التي جعلت جانبولاد لها كل هذه القيمة؟ وما هذه القدور المختومة التي في باطنها الذهب؟ إنها لا تزيد على قدورٍ مملوءة بالرمل أو الطين ما دامت مقفلة.»
فضحك طوطاط حتى كاد يستلقي على ظهره، ثمَّ قال: سيتغيَّر رأيك إذا أصبحت من أصحابها.
فقلت في عناد: وما الذي يشقُّ عليَّ في ملء عشرات من القدور بالحصى؟ إن قِدرًا من الخزف لا تزيد على الأخرى إذا كانت مختومة.
فعاد إلى ضحكه وقال: لن تستطيع.
فقلت: وما الذي يمنعني؟
فقال وهو لا يزال يجمع بضاعته: الذي يمنع من السرقة.
فقلت: ولكن السرقة جريمة.
وكان قد قام ونادى رجلًا يسير أمامه، فأمره أن يحملَ له بضاعته، فجمعها الرجل في حِجر ثوبه، ونظر صاحبي إليَّ في عَجَلةٍ وقال: «ستكون وليمة مرحة، وأرجو أن تؤنسنا بصحبتك.»
وكأنه نسي كلَّ الحديث الذي كان بيننا، فسار وسِرت معه، وجعل يحدِّثني عن صنوف الطعام التي يُعِدُّها لوليمته، حتى بلغنا المنزل فاستأذن وسار إلى داره وهو يغني، والحمَّال يزحف من ورائه بحِمْله الثقيل.