الفصل الخامس عشر
أتى الليل هاجمًا عليَّ بظلامه، فزادني همًّا على همي، وشملتني رهبةٌ لا أستطيع أن أصفها، فقمت إلى صلاة المغرب، وما كدتُ أقيمها حتى سمعت على الباب طَرقًا، فزاد اضطرابي خوفَ أن يكون ذلك نذيرًا بمُصابٍ جديد؛ فقد خُيَّلَ إليَّ أنه لم يبقَ لي في هذا العالم إلا سلسلة من الكوارث تتعاقب حلقاتها عليَّ مع الساعات. وفتحت الباب في حذرٍ ثمَّ نظرت.
«أهو أنت أيها الحبيب؟» خرجت مني هذه الصيحةُ وأحسست أن شُعاعًا من النور أضاء أمامي عندما رأيت صاحبي وتلميذي كمال الدين.
جاء صديقي إلى داري من قبلُ فلم يجدني، وذهب إلى مجلس القاضي فدُفِعَ عنه دفعًا قبيحًا، فعاد إلى داري بعد أن قضى حينًا يهيم في طُرُق المدينة مهمومًا من أجلي. حمدًا لله؛ فإن المصائب تهون وإن جلَّت إذا وقف إلى جانب المرء صديقٌ وفيٌّ. لقد اطمأننت عند ذلك على أني أجد إلى جانبي رجلًا يصدِّقني إذا تحدثت، ويواسيني إذا تعذبت، ويعينني بمؤانسته إذا تحيَّرت. ولما دخلنا توضَّأ صاحبي وصلينا معًا، ثمَّ جلسنا نتحدث وأفضيت إليه بكل قصتي، وشكوت إليه عثرتي. ولله هو من صديق، لم أجده يتزعزع أو يشك، بل كان مصدِّقًا واثِقًا، وجعل يذكِّرني بالله وما هو جديرٌ به من نصرتي وجلاء غمتي، حتى أخجلني من نفسي. فما كان لي أن أبتئسَ أو أخشى؛ لأن الله عالم بأمري وهو معي ولن يخذلني.
وأشار عليَّ أن نذهب إلى القاضي لعلنا نحدِّثه في خلوة؛ فإنه إنسان وإن كان من أصحاب الخمسين، ولا بدَّ لحجة البريء أن تظهرَ وإن ساءت الظنون. فقمنا معًا وكان وقت العشاء قد اقترب، فقلنا ندرك الشيخ فنصلي معه جماعة، ونتحرَّم إليه في كنف الصلاة. فلما بلغنا القصر وجدنا عنده حرسًا كثيرًا من شُرَط وحُجَّاب وأعوان وغلمان، فلما رأونا نقصد الباب نظروا نحونا شزرًا، وأقبل بعضهم على بعض يتهامسون. فتجرأ صاحبي وتقدَّم فسأل عن الشيخ، وطلب أن يسمحوا لنا أن نراه، وتعلل بالعلل، فقال: «إن السيد يهم الساعة بالصلاة، ونحن نحب ألا تفوتنا بركة الائتمام به.» فضحك أحد الغلمان ثمَّ نظر إلى رفاقه فتضاحكوا، وعاد فنظر إلينا واحدًا بعد الآخر من أعلى الرأس إلى أخمص القدم، ثمَّ مدَّ يده إلى جُبَّتي ووضع يده في خروقها، وقال وهو يضحك: «خذوا زينتكم عند كل مسجد.» فجذبت جُبَّتي منه في شيءٍ من الغضب وكدتُ أقذفه بكلمة حانقة لولا أن تدخَّل كمال الدين متوسِّلًا يقول: «إن الشيخ — حرسه الله — لا يضنُّ على مثلنا أن نصلِّي معه؛ فنحن فقيران نريد أن نتملَّى ببركته.» فقام أحد الحُجَّاب إليه ودفعه في غلظة وقال له معنِّفًا: «اذهب إلى المسجد إن شئت الصلاة، وأمَّا إذا أردت الاحتيال على الصدقة فإننا لا نُخدَع عن مثلكما.» فملأني الغيظ وجُرحت عِزَّتي، وكِدت أثور لولا أن جذبني كمال الدين وهمس في أذني: «ليس لنا من حيلة إلا الذهاب.»
وسِرنا معًا مطرقين حتى بلغنا المنزل فصلينا، ثمَّ جلسنا نقرأ الأوراد، وما هو إلا أن انصرفت إلى الله بقلبي حتى حلَّ فيه السلام ونسيت كلَّ ما كان.
وكأن وحيًا قد هبط عليَّ فألقى في روعي أن أذهب وحدي إلى القاضي، وأحسست في نفسي يقينًا أنني إذا ذهبت إليه لم يستطِع أحدٌ أن يقف في سبيلي. فقمت واستأذنت صديقي، ورجوته أن يصبر حتى أعود إليه، وسِرت قُدُمًا برأسٍ مرفوع وقلبٍ يجيش ونفسٍ تتحفَّز حتى بلغت قصر القاضي. وما كان أشد عجبي إذ وجدت الباب خاليًا ليس عليه حُرَّاس ولا غِلمان، فدفعت المصراع فانفتح، وأدخلت رأسي من فرجة الباب فلم أجد أحدًا وراءه، فدخلت ورددت المصراع، وكان الظلام كثيفًا، فسرت أتحسس مواضع خطواتي حتى اجتزت مدخل الفِناء، فوجدت بابًا آخرَ فدفعته فانفتح وظهر من ورائه بستان من فاكهة ونخل وريحان، وكانت الدار تشرف عليه محيطة به، وعلى نوافذها مشربيات بديعة تبدو أمام العين مبهمةً في الضوء الخافت المنبعث منها. وسِرت في غيرِ تردُّد وأنا أتعجب أن يكون القصر خاليًا صامتًا. فأين حُرَّاسه؟ ولمَ أُخفيت هكذا أنواره؟ إنها تبصُّ بصيصًا من وراء السجف تنمُّ عن قناديل مئات تزهر من داخل الأبهاء، وصعدت في السُّلَّم على حذرٍ حتى انتهيت إلى مدخل البهو، فما هذه الأصوات المختلطة؟ كانت أصوات الضحك والغناء تتجاوب ويحملها الهواء في أمواجٍ متعاقبة، فتخف حينًا ثمَّ تعلو حينًا، كأنها آتية من عالَم بعيد. وزاد بي العجب وقويت في نفسي رغبة الاطِّلاع، وازدادت القوة التي في صدري دفعًا ففتحت بابَ البهو، فإذا قاعة يضل فيها البصر، طولها ثلاثون ذراعًا وعرضها عشرون، فُرِشَت بأبدع الأثاث وغُطِّيَت نوافذها بخالص الحرير، وأحسست تحت قدمي طنفسة لينة تغوص بي كلما خطوت، ورأيت في صدر القاعة بابًا يأتلق النور من ورائه، وتفوح العطور من قِبَله. فكانت رائحة المسك تتضوع منه مختلطة بأبخرة العود، وكانت الأصوات الناعمة يمازجها صوتٌ أجشُّ له رنين النحاس. وسمعت رجلًا يضحك ضحكةً ناعسة بين كركرة صداحة، كأنها من سجع الطير. وعادت الموسيقى فكانت سِحرًا وفتنةً، فلم أستطِع إلا أن أقف مكاني، وقد غلبني طربُها؛ فقد كنت منذ صباي مولعًا بالغناء. وكدت أنسى أنني دخلت القصر خلسة، وأنه لا ينبغي لي أن أطيل الوقوف، ثمَّ أفقتُ بعد حين وعادت إليَّ نفسي، فسِرت إلى الأمام خُطواتٍ وأنا أتعجب. فما للقاضي والغناء؟ وما هذه الأصوات الناعمة التي تسحر الهواء؟ وفكَّرت في العودة خاشيًا من عاقبة هذه الجرأة. ولكن شيئًا في قلبي دفعني فلم أستطِع خلافه. ثمَّ رأيت باب القاعة يُفتح من أقصى أركانها، فخفتُ أن يراني أحد، فأسرعت إلى أقرب ستار فتكمشت وراءه، وجعلت أطل برأسي من مخبئي. فرأيت غِلمانًا وجواري يحملون صحافًا وكئوسًا، ثمَّ اقتربتْ من موضعي فتاةٌ مثل فلقة القمر، تخطر في أثوابٍ من الحرير الأحمر والأصفر، فلم أتمالك أن نظرت إليها نظرة، ثمَّ أغضيت وقلت: سبحان مَن خلقها وسوَّاها! وكتمت أنفاسي حتى بعُدتْ عني، فاختلست إليها نظرةً أخرى فرأيتها تحمل ثيابًا وتضعها على أريكة، ثمَّ رأيتها تعود خفيفة رشيقة كأنها مهاة في الصحراء، أو ريم شارد من كناسه. ولما بعُدت عني أطللت برأسي وراءها حتى فتحت الباب ودخلت منه، فنظرت من الفتحة فإذا في صدر الحجرة قلنسوة حمراء، ومن تحتها السيد القاضي — حرسه الله — في هالةٍ رائعة المنظر، من مُؤنِساتٍ أوانِسَ ونَدامى صِباح. ورأيت أمامه طاسات من المُدَام ونقولًا وفاكهةً وأزهارًا، وقماقم من عطور، وأحقاقًا من غالي، فكدتُ لا أصدِّق عيني، وثارت الوساوس في نفسي، وتساءلت أفي يقظةٍ أنا أم في منام. وجعلت أقرص كفي وأضرب بيدي على وجهي، حتى تحققت أني في صحوة، وأنني أرى السيد القاضي بعينه وذقنه وفصه ونصه، فقلت: أهذا هو الذي يحاكمني؟ ويقتصُّ للعدالة مني؟ وامتلأت غمًّا وهمًّا؛ فقد علمت أن أقسى القضاة في إيقاع حد الخمر مَن ذاق لذَّتها وأحسَّ سورتها. وجررت نفسي والألم يعصر قلبي، فخرجت من وراء الستار لأعود أدراجي تاركًا إلى الله قضائي. ومررت في سيري بالثياب التي ألقتها الفتاةُ على الأريكة، وكانت تبرق في الضوء المنبعث عليها من بعيد، ونظرت إلى ثيابي نظرةً قصيرة فرأيت جُبَّتي وقميصي وقد حال لونهما وانكمشت أكمامهما وتفزرت جوانبهما، وتهتك أعلاهما وأسفلهما، فعذرت الحُجَّاب في منعي ودفعي، واستقر رأيي على أن أقترضَ ثياب الشيخ قرضًا حتى أستطيع إذا لبستها في الصباح أن أجد إلى بابه سبيلًا. وليس عليَّ من بأسٍ إذ أنا اقترضتها عارية، ثمَّ رددتها إلى السيد من بعدُ سليمة طاهرة. وخطفت الثياب وسعيت بها جريًا، ثمَّ قفزت في رحاب القصر قفزًا حتى بلغت الفِناء، وخرجت أعدو حتى بلغت داري وأنا أتلفت إلى ورائي. وكان صاحبي كمال الدين لا يزال في حجرتي يغطُّ في نومه، فلم أشأ أن أوقظه؛ فإن متْعتَه في الصباح تكون أعظم إذا رآني أطلع عليه في بريق تلك الثياب.
ولما ذهبت في الصباح إلى مجلس السيد الشيخ، وقفت عند الباب أريد الاستئذان، فقام الحُجَّاب يسارعون، وحنَوا لي الهامات، وهزُّوا لي القلانس، وأطرقوا لا ينظرون إلى وجهي، وفتحوا الباب على مصراعيه، ووقف بعضهم عن يمين والبعض عن شمال حتى دخلت. وكان السيد في صدر المجلس، فوقع بصري عليه ووقعت عينه في عيني، ثمَّ رأى ملابسه تلمع عليَّ، وعرف أنني رأيت كل شيء، ففغر فاه كأنه يهمُّ بالصياح، ثمَّ أخذ يجمع ثيابه ويلتمس رداءه، ثمَّ تحرك قائمًا يبرق بعينيه ويختلج في خُفَّيه، وأقبل نحوي فاتحًا ذراعيه، وانطلق في تحيةٍ طويلة مؤهِّلًا مسهِّلًا مُرحِّبًا مُستبشِرًا، حتى تلاقينا في وسط القاعة، فضمَّني إلى صدره ضمَّةَ مودة، وترك كلَّ مَن حوله وأقبل عليَّ فأجلسني عن يمينه، وأخذ يحييني ويؤنسني حتى هدأ روعي وذهب عني وجَلي، وصاح في حُجَّابه أن يسرعوا في خدمتي، وأمرهم أن يُعِدُّوا لي قهوةً وماءَ ورد لأستروح وتذهب عني بهرة السير. وما زال بي حتى شرح صدري وفكَّ عقدة لساني، وبدأت أقصُّ عليه قصتي في قولٍ مُبينٍ وحُجَّةٍ ظاهرةٍ، وأظهرت له الحق كلَّه فلم أخفِ عنه شيئًا، ولم أحاول أن أعتذر ولا أن أستتر، حتى أفضيت إليه بكل ذات نفسي، فتبسم — حرسه الله — وأخذني من تحت إبطي وانتحى بي جانبًا وجعل يسألني عن تفصيل أحوالي، فلان قلبي له وزالت حفيظتي عليه، وهممت أن أعتذر إليه من أخذ ثيابه وأعِدُه بإرجاعها إليه. ولكنه لم يمكِّني من المُضي في حديثي، بل عانقني عناقَ الصديق، ومدَّ يده فدسَّ في كفي كيسًا ثقيلًا فتحته فيما بعدُ فوجدت فيه مائةً من الدنانير صافية وافية. ولما استأذنته آخرَ الأمر في الانصراف سألني هل جئتُ إليه راكبًا، وهل حملني جواد أم سعت بي إليه أتان، فنظرت إليه في خجلٍ وقلت: لقد كنت دائمًا أسير على قدمي منذ بِعت صديقي.
فضحك حتى كاد يهتز عن وقاره وقال: أكنت تركب الصديق؟
فقلت له باسمًا: هذا صديقٌ كان لي في وطني ماهوش، وكان الناس يسمُّونه حماري، وكنت أسميه البطل الصامت حتى لا أشارك الناس في شتمه.
وخفق قلبي عند ذلك خفقةً شديدة؛ إذ تذكَّرت الصديق المسكين الذي اضطرتني الحاجة في وطني إلى بيعه ومفارقته، وأطرقت حزينًا.
فقال لي السيد: لا عليك أيها الشيخ المبارك؛ فما كان مثلك ليسير في جانبولاد راجِلًا.
ثمَّ أسرع إلى ظاهر المجلس ونادى حاجبه، وأمره أن يُعِدَّ لي بغلته الشهباء، ثمَّ نظر إليَّ في عطفٍ وقال: هي بغلة فارهة، مباركة الخطوات، ميمونة الروحات والغدوات، بارك الله لك فيها، ولا تنسَ أن تختلف إلينا عليها، وأن تذكرنا في صلاتك.
فسرَّى عني كلَّ ما كان من همي، وأحسست للسيد — حرسه الله — شكرًا يملأ قلبي، وسِرت عنه راكبًا بغلته، لابسًا ثيابه وعمامته. وكنت على طول الطريق أدعو الله له ليجزي عني فضله، ويغفر له ذنبه.
وكان أهل جانبولاد ينظرون إليَّ وأنا سائر، فإذا قربت منهم تواثبوا لتحيتي، وأشار البعيد منهم إليَّ بالبنان. وقضيت سائر اليوم في داري عاكِفًا على الصلاة أشكر الله، وأسبِّح له تسبيحًا.