الفصل السادس عشر
اتَّسعت بعد ذلك حلقةُ دروسي، وضاق بها المسجد حتى كادت تمتنع على الناس الصلاة، فدعاني هذا إلى أن أتَّخذ دارًا خاصة جعلتها مدرسة أعلِّم فيها الناس كِبارًا وصِغارًا.
وكنت قرأت فيما قرأت عن أرسطو أن غاية التعليم أن يعرف المرء كيف يستخدم وقته إذا خلا من العمل. ولست أدري لعمري ما الذي حَمَل هذا المعلِّم الأول على أن يدَّعي مثل هذا الزعم؟ إن الناس إذا خلَوا من العمل لم تُعْوِزهم الحيلةُ في استخدام وقتهم الفارغ؛ فالطبائع توجِّههم وتحتال لهم وتميل بهم وتَشرُد. أما أنا فقد رأيت أن السعادة والخير لا يكونان إلا في العمل؛ العمل الدائم وإن تغيَّر وتنوَّع. ولا خير فيمن يخلو من عملٍ إلا إذا دخل في سواه. وقد جعلت هذا المعنى شعاري، وأذعته في دروسي وأحاديثي.
جعلت أُعلِّم تلاميذي أن أقلَّ مراتب الإنسان أن يبذلَ وقته فيما يعود عليه بالمسرَّة وحده، وإن كانت مسرَّةً مُباحة بريئة. فالذي يقضي وقته في نزهة إنما يبلغ أدنى مراتب الإنسان، والذي يسلِّي نفسه إنما يبلغ هذه المرتبة عينَها، إلا إذا كان في نزهته وفي ترفيهه إنما يتحفَّز إلى خيرٍ أو يساعد عليه من بعد. وعلَّمتهم أن الذين لا يعملون بل يجدون أوقاتهم فارغة فيحتالون على قتلها هم الطفيليون على مائدة الحياة. هؤلاء يطردهم الله من رحمته وإن كانوا لا يقارفون شرًّا؛ لأنهم لا يعرفون السلام ولا يُعينون على الخير.
وقد بدا لي بعد حينٍ من مقامي في جانبولاد أن التعليم وحده لا يُجدي إذا لم تصحبه الأعمال؛ فإن أسمى اللذة في الخير لا يجدها مَن يتأمله بعقله، بل مَن يباشره بعمله. فأقبلت على ذلك القصد مع تلاميذي، وتحاملت فيه على نفسي مع ضعف حولي وقلة ذات يدي، ولو كنت من أصحاب الأعلام لما احتجت إلى معونةٍ من غيري، ولكن ما حيلتي ولم يكن لي في جانبولاد قدور؟ ففكرت أن أتكفف الناس أطلب منهم المعونة على مقصدي. ولكن الله يعلم ما قاسيت في سبيل ذلك من عنت؛ فقد عجزت مرةً بعد مرة، ولم تُفِدْني ملابس القاضي شيئًا في جمع المال. وقد يجود الناس بالتحية وحلو القول، ولكن حلو القول لا يعين على ما كنت أسعى فيه. فأطلت التأمُّل في هذا الأمر وتحدثت فيه كثيرًا مع تلاميذي. فقال لي كمال الدين يومًا: «إنه من التعسُّف أن تكلِّف الناس ما تأباه الطباع. فهل تطمع في جانبولاد أن يَحرِم الناسُ أنفسَهم بعض مسرَّاتهم في سبيل إطعام الجائع الذي لا يجد لقمة، أو كسوة العاري الذي يرتعد من شدة البرد، أو مداواة المريض الذي يقع في الطريق من الإعياء؟ ما كان ينبغي أن نطلب من النار أن تُطفأ بالرجاء، أو أن نطلب من الماء في القاع أن يعلو صعدًا إلى القمم.» فكانت تلك كلمة صريحة صارمة ألقت اليأس في قلوبنا. ولكنه أردف قائلًا: «مَن شاء الخير فليتدسس إلى الشهوات.»
فنظر تلاميذي بعضهم إلى بعض وتصايحوا: «نتدسس إلى الشهوات؟ هذا مستحيل. وما جدوى الخير إذا كانت الشهوات سبيله؟» فقال كمال الدين مترفِّقًا: «أقصد أن نتدسس إلى المسرَّات!» فقال التلاميذ: «نعم، أمَّا هذه فلا بأس بها.» وأخذنا ندبِّر الخطة المحكمة.
بالاختصار جعلنا نعقد في المدرسة كلَّ أسبوعين مجلسًا للهو ندعو إليه عِلْية جانبولاد وأوساط أهلها، وكُنَّا نحشد فيه المغنِّين وصُنَّاع اللهو والمضحكين، وجعلنا لذلك أجرًا، فكنا نأخذ من البعض ذهبًا ومن البعض الفضة، كلٌّ على قدْر وجاهته. وكُنَّا نميِّز أصحاب الذهب بمقاعدَ في الصدر، فكان هذا كافيًا لأن يبذل الجميع ذهبًا حتى صارت القاعة كلُّها مقاعدَ صدر.
وكان نجاحنا منقطعَ النظير؛ فإن عِلية جانبولاد أسرعت إلى التلبية، ولم يَرُدَّ أحدٌ منهم دعوتنا، وانهال علينا المال انهيالًا، فأمكننا أن نطعم الفقراء ونكسو المساكين ونعين المرضى على الدواء، ولكنني مع هذا النجاح كنت أحسُّ في قرارة نفسي أنني أخطأت سبيلي، وأنني أحيي ألف سيئة في سبيل حسنة واحدة. وما قيمة الخير إذا لم يفعله صاحبه متَّجِهًا إليه؟
وكنت أحسُّ أن الله لن يرضى عن عملي ولن يقبل خيري. ولم ألبث أن وجدت عقوبةَ الله أمامي، فما كان الله ليبارك في خيرٍ جاء عن سبيل الشهوات.