الفصل السابع عشر
عاد تيمور إلى جانبولاد بعد أن قهر الملوك وقتل الجيوش، وأتى معه بِعدوِّه بايزيد العثماني في قفصٍ من الحديد؛ ليراه الناس ويعتبروا ويمجِّدوا في الأرض اسمَ تيمور.
ولم تطاوعني نفسي على الخروج مع الناس لرؤيته؛ فما حاجتي إلى رؤيةِ منظرٍ شهدتُ مثلَه في الغابة من قبل! وزاد من زهدي في رؤيته ما سمعت عن منظره؛ فقد قيل إنه أشلُّ اليد والرجل، تعترض وجهه ضربةُ سيف تركت فيه جرحًا غائرًا يجعل نظرته كنظرة الفهد. فآثرت الذَّهاب إلى دار صديقي كمال الدين لأقضي عنده اليوم؛ لأن مدرستي كانت خاوية؛ إذ خرج أكثرُ تلاميذي كما خرج الناس لرؤية موكب المنتصر. ولست ألوم أحدًا منهم على ذلك فإنه من طبع الإنسان. كان الإنسان منذ القِدَم يعبد الأقوياء القساة.
ولم يكن كمال الدين وحده في الدار، بل كانت معه أخته الصالحة الكريمة «نجوى»؛ نجوى الطاهرة البتول التي كانت لأخيها كلَّ ما في الحياة.
كانت شابة في البضع والعشرين، وإن كنت كلما حدَّثتها رأيت من عقلها كمالَ الخمسين، وكنت كلما نظرت إليها تذكَّرت علية ابنة علاء الدين.
كانت لها عيناها الواسعتان وجبينها الوضَّاح وصفحة وجهها الوضَّاء، حتى لقد كان يُخيَّل إليَّ أحيانًا أنها هي التي رأيتها في الهودج المزركش في موكب السلطان في ماهوش.
قضينا اليوم معًا وكان يومًا من الربيع. والربيع ما زال منذ الصبا يهزُّني ويطربني، ويعتريني فيه خشوعٌ وتشملني فيه رِقة، كأن زهره يتفتح في قلبي، وكأن طيره يتغنَّى في حنايا صدري. كان الربيع دائمًا يجمعني بالخليقة، ويمزجني بالوجود ويوحي إليَّ أسمى المعاني. ولكن الربيع في ذلك اليوم كان أكثرَ سحرًا ونشوةً.
سِرتُ في الحديقة الصغيرة أنقلُ طرْفي من عُودٍ إلى عود، ومن زهرة إلى زهرة، على حين جلس صديقي في ركنٍ منها يصلي ويقرأ الأوراد. وذهبت «نجوى» إلى شئون البيت كعادتها إذ تمهن لأخيها. وقد وجدت في تأمُّل المخلوقات عبادةً أسمى من كل عبادة؛ إذ كانت كلُّ ورقة تملأ صدري سلامًا وشُكرًا، وكل حشرة أفحص بنظري أعضاءها وحركتها تملأ عقلي علمًا وخضوعًا. وقضيت في جولتي حول الحديقة الصغيرة ساعاتٍ كنت فيها أحلِّق في الآفاق وأهيم في الوجود من الأزل القديم إلى الأبد المقيم إلى ما شاء الله، وكان أقل ما يقع عليه بصري يفتح لي عالَمًا لا يقل عن الفضاء الفسيح في روعته وجلال أسراره.
رأيت عنكبوتًا ضئيلَ الجسم لم أكد أتبيَّنه في ضوء الصباح، ورأيت بيته الواهي وقد انعقدت عليه قطرات من الندى تلمع عليها أشعة الشمس بألوانٍ لا حصر لها ولا يستطيع اللسان وصفَها، ورأيت المخلوق الصغير يتحرَّك ويُلقي من فمه خيطًا لا تبصره العين إلا إذا لمع عليه شعاع من الضوء، فمددت إليه أصبعي فعلق به، وإذا بالعنكبوت يتعلَّق بخيطه في طرَف أنملتي ويهتزُّ في الهواء مترجحًا، ثمَّ رأيته يتسلق الخيط حتى كاد يلمس أصبعي، فهززت يدي فإذا به يسرع فيمدُّ من فمه غزلًا رقيقًا تطاول حتى صار على أكثر من ذراع مني، فملأني هذا الخلق البديع عجبًا. هو آلة دقيقة الصنع عجيبة التركيب، لا تكاد العين ترى لها جِرمًا، ومع ذلك فله أرجل وأطراف، وفيه حواسُّ لا أدري عددها، وله أهداب وأجهزة وفم ومعدة وآلة لإفراز هذا اللعاب الدقيق الذي لا يخونه إذا امتد ولا ينقطع به إذا تسلَّقه. كل هذا قد اجتمع متناسقًا في نقطةٍ ضئيلة لا تكاد العين تبصرها، فسبحانك يا ألله!
وانتهى صديقي من أوراده وجلس ينتظرني. وكانت «نجوى» قد جهَّزت طعامًا للإفطار — أتمَّ الله عليها نعمته وأسبغ عليها فضله — فدعتني إلى الطعام. وما كان أطيبه! ثمَّ قضينا سائرَ اليوم في درس وتأمُّل وحديث طيب وصلاة، وكان مجلسنا يفيض بنور الله، لم أحسَّ فيه أنني معلِّم ألقي الدروس، بل كنت أتعلَّم من صاحبَيَّ أكثر مما كنت أعلِّمهما. كانت «نجوى» إذا تحدَّثت فتحت في قلبي ينابيعَ من الفيض فأغرق في تأمُّلي حينًا ثمَّ أطفو وقد امتلأ قلبي يقينًا. ولست أدري ما ذاك الذي كانت تحدِثه فيَّ بنظراتها الوديعة. كانت تستمع لما أقول وتنظر إليَّ بعينيها الواسعتين الحالمتين، ثمَّ تنطق بكلمة أو بكلمات فإذا بي أسمع معنًى لم يَجُل من قبلُ بخاطري. وقد تنظر إليَّ صامتةً فإذا بي أرى عالَمًا خفيًّا من الأسرار ينفتح أمام عيني.
كانت نفسها الصالحة تتصل بالملأ الأعلى، فإذا هي نطقت أنفذت بصري الكليل إلى طرفٍ منه، فألمح لمحةً سريعة تكفي لأن تفيض عليَّ من النور القدسي فيضًا غامرًا.
ولما ذهبت إلى بيتي مع وسط الليل كنتُ أحسُّ أنني لا أسير فوق الأرض، بل تحملني أجنحة الملائك على متن الهواء، حتى كأن السُّحُب قد صارت تحت مسراي، وكأن تيمور وشيعته وبطشه وخوفه كانت كلها تحت مواطئ قدمي.
ذهبت إلى منزلي وجلست على كرسيٍّ كبير لم يكن في غرفتي سواه إلى جوار النافذة المطلة على الفِناء، وأشعلت المصباح ولم يكن به سوى القليل من الزيت، فجعل يتراقص ويطقطق ولا يكاد نوره يبلغ زوايا المكان. فبدت الأركان بعيدةً كأنها تنتهي إلى الأفق في طرَف السماء. وأغمضت عينيَّ وأنا جالس على الكرسي لا أريد نومًا، ولكني وجدت في الغمض راحةً أنِسْت إليها. فأخذتني سِنةٌ من النوم فتحت عيني بعدها على صوتٍ سمعته يناديني. فتلفتُّ حولي ثمَّ نظرت إلى النافذة ورائي فرأيت شخصًا واقفًا قد وضع مرفقيه على حافة النافذة واتَّكأ بذقنه على كفَّيه، فوسعت عينيَّ لأتبينه في الضوء الخافت فإذا به صاحبي «طوطاط» وبادرني قائلًا: «أين كنتَ بالأمس؟»
فقلت له منكرًا: «وما سؤالك عن هذا؟»
فنظر إليَّ مُعاتِبًا وقال: «لم تذهب إلى لقاء تيمور. وقد سأل عنك.»
فصِحتُ في فزعٍ: «تيمور يسأل عني؟»
فقال جادًّا: «وما تعجُّبك من هذا؟»
فقلت: «إنه لم يرني.»
فقال ضاحكًا: «ولكنه يعرفك. ألا تفهم؟ إن تيمور لا يخفى عليه عِلمٌ بأحد.»
فأزعجني قوله وداخلني منه همٌّ زادني قلقًا، فأطرقت صامتًا أفكِّر فيما عساه ذكرني به. فقرُب «طوطاط» مني وهمس في أذني: «احذر!»
فقلت له مبادرًا: «مِمَّ أحذر، وما بي ما أحذر منه؟»
فقال جادًّا: «ألجم لسانك هذا. كفاك ما صنع بك.»
فنظرت إليه في دهشة وقلت: «لساني أنا؟»
فقال لي في رفق: «نعم، فما هذه الدروس التي تلقيها؟ وما هذه الكرامة الإنسانية التي تتحدث عنها؟ ثمَّ ما هذه الأغاني التي توسع لها صدر مدرستك؟ وماذا عليك إذا شئتَ الغناء أن تجعله في بيت رجل مثلي ليكون طربك في سترٍ وتجمُّل؟»
ثمَّ غمزني في ذراعي هامسًا: «لا تذهب إلى المدرسة منذ اليوم؛ فقد أمر تيمور بإغلاقها.»
قال هذا ومضى عني مسرعًا.
كانت كلمته هذه مثل الصاعقة تنقضُّ عليَّ، واسودَّت الدنيا في عينيَّ ولم أدرِ ماذا أصنع. وشعرت عند ذلك أول مرة أنني واقف وجهًا لوجه أمام تيمور، وتمثَّلت لي كلُّ قوَّته وكل سطوته وأحسست الخوف يملكني. لقد كنتُ من قبل أتأمل جبروته بالفكر وأسمع عن بطشه بالأذن، وأمقت كلَّ هذا وأنا بعيدٌ عنه، ولكني عند ذلك رأيت نفسي وضعفي أمام سلطانه الهائل، فخيَّم اليأسُ عليَّ وشلَّ حركتي.
فقمتُ منتفِضًا عن مقعدي، وقد شعرت بأنه لم يبقَ لي في جانبولاد مقام؛ فإني لا أستطيع البقاء فيها إلا إذا رضيت بأن أذهب إلى تيمور وأتمسَّح عند أقدامه.
وقمت إلى الصلاة، واتَّجهت إلى الله أن يسدِّدَ خطاي وأن ينقذني من الوساوس، فلما فرغت منها عُدت إلى نفسي أحاسبها حِسابًا عسيرًا. فهي التي زيَّنت لي اتخاذ دار العلم مسرحًا للهو، وهي التي جعلتني أفرِّط وأسِفُّ في سبيل الذهب. وامتلأ قلبي سخطًا على ذلك المَعدِن الخسيس الذي أضلَّني؛ فإن الله لم يجعل سبيلًا إلا على مَن ظلم وأخطأ. وأقبلتُ على صلاتي أستغفر فيها ربي من ذلك الإثم الذي وقعت فيه. وجعلت أناقش نفسي وأحاجُّها في الهجرة، وترجَّحت بي الميول بين المشقة وبين الكرامة، ولم أستطِع أن أهتدي إلى رأي بينهما؛ إذ كان أحلى الخطتين مُرًّا. وفيما كنت في حيرتي برقت لي بارقةٌ من الأمل، فأُلقيَ في روعي عزمٌ رأيت فيه فرصة الخلاص مما كنت فيه. بدا لي أن الهجرة نوعٌ من الهروب، وأنني لا ينبغي لي أن أهربَ حتى أُبلي في سبيل الحق بلاءً ألتمس فيه العذر لنفسي، فإذا اضطررت بعد ذلك إلى الهجرة لم أجد على نفسي سخطًا أو لومًا. فعزمت على أن أقيم في جانبولاد وأن أجاهد في سبيل الحق ما استطعت، وأن أقابل الجبروت بالتحدي، وأرفع رأسي كريمًا لا أحنيه لقوةٍ ظالمة، فإذا أصابني من ذلك ما يصيب الشهداء كنت قد بلغت عذري. وامتلأ قلبي يقينًا بأنني لن أخشى قوة الطغاة. فوالله إن الحق ليصرعهم لو نطق به مَن ملأه الإيمان.
وعزمت بعد ذلك على أن أصحِّحَ مكاني في جانبولاد، وأن أضع نفسي حيث كان يليق بها أن تكون. فإني لم أكن أقلَّ من أصحاب الريش والأعلام. بل إنني كنت لا أرضى بأن أكون مُساويًا لهم. فإذا كان سادة جانبولاد قد تواضعوا على أن يجعلوا الأمرَ كلَّه لأنفسهم، فلن أسمح بأن أكون دونهم في شيء. عزمت على أن أُدخِل نفسي قسرًا إلى المكان الذي يليق بي. وما كان لمثلي إلا أن يكون في المحل الكريم. وما كدتُ أستقر على هذا الرأي حتى أخذت في الاستعداد له، واجتهدت فيه اجتهادًا كبيرًا.