الفصل الثامن عشر
كانت الأعلام في جانبولاد لا تُرفَع طبعًا إلا إذا ملأ الناس قدورًا من الذهب بعددها، ولكن ما لي وللذهب؟ قد رسم السادةُ خطتهم على أن يجعلوا الذهب وقفًا عليهم، فكانت النتيجة أن الذكاء والعلم والأدب والخير والفضل لم يصبها منه شيء؛ إذ لم تُجعَل لها قيم في خطتهم المرسومة. وما كنت لأقيِّدَ نفسي بقواعدهم منذ عزمت على أن أطيع الحق وحده، ولا أنظر إلا إلى جوهر الأشياء، فلو أنصف الناس لجعلوا المكان الأول في القيم كلها للذكاء والفضل وأمثالهما مما ضاع قدْره في جانبولاد.
ومهما يكن من الأمر فقد استقرَّ رأيي على أن أستغني عن الذهب وأتَّخذ لنفسي معيارًا رمزيًّا أجازي به الأفعالَ بما تستحقه. والذهب بعد التفكير لا يزيد على أنه معدن مثل كل معادن الأرض؛ فهو كالحجر لا يزيد على أنه من عناصر الطين، وهو لا يستحق كلَّ هذه العناية التي يحيطونه بها؛ إذ هو لا يُؤكل ولا يُشَرب ولا يُلبَس، وشربةٌ واحدة من الماء في الصحراء تكون أغلى من كل ذهب الأرض. وإذا كان المقصود إنما هو وضعه في القدور وختمها بعد ذلك، فلن يضير القدور شيء إذا مُلِئَت بشيء آخر كالحصا أو الحجارة، ولن تكون قِدْر من الخزف خيرًا من أخرى لأن واحدة مختومة على ذهب والأخرى مختومة على حجارة.
فعمدتُ إلى قرطاسٍ كتبت عليه أنواعًا من العمل، وكتبت أمام كلٍّ منها ما يستحقه من وزن الذهب لو أنصف الناس، ثمَّ عمدت إلى قرطاسٍ آخَر كتبت عليه أنواعًا من النقص أو الظلم أو أعمال السوء، وجعلت ما يقابلها من العقوبة مُقدَّرًا بوزن الذهب. وعزمت على أن أحاسب نفسي على أعمالها جميعًا، فأقدِّر ما قدمت من خير وأجعل لكلِّ عمل من ذلك وزنًا ألقيه في قِدْر — أقصد وزنًا من الحصى بدلًا من الذهب. فإذا ما امتلأت قِدْر ختمتها ورفعت على داري عَلمًا، وكلما ملأت أخرى وختمتها رفعت عَلمًا آخر. ولم أنسَ محاسبةَ نفسي على ما تجترم من الذنوب، فعزمت على أن أنقص من القدور ما يعادل قيمةَ عقوبتها على آثامها، حتى لا يبقى فيها إلا وزن ما هو باقٍ لي من الحسنات الخالصة. وكنت في ذلك متحرِّجًا متأثِّمًا؛ فإن الله قد وعدنا — معاشرَ البشر — لما عَلِم من ضعف الطبيعة الإنسانية أن نُجزَى على الحسنة بعشرة أمثالها، وألا نُجزَى على السيئة إلا بمثلها، فبالغتُ في الحيطة، وجعلت الحسنة والسيئة سواء في الأجر والعقوبة.
ولأضرب مثلًا مما وضعت من القيم لأبيِّن أنني لم أغالِ في التقدير؛ فقد جعلت لإطعام الفقير وزن حبةٍ من الرمل، ولعيادة المريض وزن حصاة صغيرة؛ فإن هذه من الواجبات التي لا ينبغي لأحد أن يطلب عليها الأجر. وجعلت لكتابة رسالة في الأخلاق وزنَ حصاة كبيرة، ولكتابة رسالة في التاريخ وزن درهم؛ لأنه سِجل الأمم، وهو يعلِّم الناس أن الحياة تفنى ولا يبقى على الدهر إلا الخير، وأن الظلم مرتعه وخيم، وأن العسف لا يقيم الدول إلا إلى حين. وجعلت لكتابة القصة وزن أقة؛ لأن القصة لا يقدِر عليها إلا من وهب الله له من فضله. ولم يكن في تقديري مبالغة؛ فإن الخلفاء العظماء كانوا فيما مضى يجيزون الشعراء بمئات الألوف من الدراهم على أبياتٍ في المدح الكاذب، أو في وصف الخمر واللهو، فإذا أنا جعلت للقصة وزن أقة واحدة من الذهب لم أكن مغاليًا. وجعلت لتعليم الناس قِدْرًا كاملة. نعم! قِدْرًا كاملة؛ فالتعليم يطهِّر النفوس ويبني أساس المستقبل ويُفهِم الناسَ معنى الإنسانية. فإذا خرَّج المعلِّمُ رجلًا كاملًا أضاف به إلى الأمة ثروةً لا تُقدَّر بمال. وما كنت لأبخس التعليم حقَّه وأنا أعرف قيمته، ولن يضيرني أن تيمور وعِلية جانبولاد لا يعرفون له قدْره؛ فإن الحقائق لا يستطيع إدراكها إلا مَن يسمو بذكائه إلى المعاني العليا.
ولما انتهيت من ذلك أخذت في إعداد القدور والحصى، واستطعت أن أملأ لنفسي قِدْرَين كبيرتين، ثمَّ عمدتُ إلى ثوبٍ فقددت منه ما يكفي لصنْع عَلمَين، فما أتى العصر حتى كان علمان أصفران بديعان يخفقان في الهواء فوق داري.
ثمَّ أسرعت إلى دار صديقي كمال الدين لأقضي معه ساعاتٍ في الدرس والعبادة؛ إذ قضيت اليوم كله لاهيًا عن عبادتي، وأحسست شوقًا إلى مجلس العلم، وحمدت الله إذ بقيَ لي في جانبولاد صديق أتذوَّق معه لذة الدرس. فلما طرقت الباب فتحت لي «نجوى» الكريمة الصالحة، فهشَّت إليَّ وبشَّت، ونظرت إليها وكأن نورًا يشعُّ منها إلى قلبي. وخفق قلبي فأسرعت داخلًا وأغضيت حتى لا أطيل النظر إليها. ولست أدري لِمَ كانت صورتها تنطبع في خيالي وتعاودني في خلواتي وتلازمني في سيري، حتى كادت تنافس الصورة التي طويت عليها جوانحي، وجعلتها رمز الكمال والأمل؛ صورة علية ابنة علاء الدين.
وبعد قليل جاء أخوها، فجلسنا ثلاثتنا نتدارس ونتعاطى أطيبَ الحديث، وصلينا وقرأنا الأوراد حتى مضى صدرٌ من الليل، وأخبرتهما بما كان من أمري، فاختلفت فيه الآراء، وراجعني كمال الدين في رأيي مراجعةً شديدة، ولكنني ما كنت لأرجع عن أمرٍ تبيَّن لي فيه وجهُ الحق، ولم يراجعني كمال الدين إلا لأنه خشي عليَّ من عواقبه. ولكن ما هذه العواقب التي يخشاها؟ إن الحق واضح ولا يليق بنا أن نتردَّدَ فيه.
ثمَّ قمت عائدًا إلى داري والسرور يملأ قلبي، والأمل يضيء لي سبيلي، ولم أنسَ أن أذكر نظرة «نجوى» عندما ودَّعتها. لقد خفق قلبي خفقةً شديدةً عندما نظرت إلى عينيها الواسعتين، ولست أستطيع أن أعبِّر عن أثر نظراتها في نفسي؛ فإن الألفاظ تتضاءل عن وصفه؛ تلك الألفاظ التي لم يتخذها الناس إلا مطيةً لما اعتادوه من معانيهم. حقًّا أنِّي لم ألبث أن غضضت من بصري وسِرت عنها مُسرِعًا، ولكني جعلت ألوم نفسي، فما كان ينبغي لي أن أستبيح تلك المتعة من النظر إلى جمالها البارع وملء عيني منه. ومضيت في سبيلي وصورتُها ماثلة في قلبي حتى غلبت على صورة علية ابنة علاء الدين. ما لي وعلية! إنها ليست إلا خيالًا، وهذه «نجوى» الطاهرة التي كنت أسمع حديثها وأستوحي العلا من نظرتها. «نجوى» التي كنت أراها حقيقة أمامي. وما يدريني إذا أنا رأيت علية وحدَّثتها كيف أجد حقيقتها؟ ألا أراها ترفع حاجبيها استعلاءً وتَزورُّ عني ولا تهشُّ لي كما تهشُّ نجوى الكريمة إذا لقيتها؟
بلغت منزلي أخيرًا ولم أنسَ أن أحاسب نفسي على نظرتي التي نظرتها، فأخذت حفنة من الحصى من إحدى القدْرين وقذفت بها إلى جانب، ثمَّ قمتُ إلى أحد العَلَمين فحططته عن داري ريثما ييسِّر الله من الحسنات ما يعوِّض ذلك النقص. وأطلت في ليلتي من القيام بالصلاة لعل الله يتجاوز عن خطيئتي، وعزمت على أن أمسك قلبي من بعدُ فلا أنظر إلى «نجوى» إلا كما نظر موسى إلى النور المقدَّس.