الفصل التاسع عشر
كانت الليالي بطيئةً كأنها تزحف زحفَ الدَّبَى، وكانت النجوم تلمع من وراء القضبان الحديدية الغليظة كأنها قد سُمِّرَت في مواضعها من السماء. وكنت أُقفقف من البرد في سجني المظلم، ولولا الصلاةُ وقُرَّة عيني فيها لتمزَّق صدري من غيظه وتطايرت عنه أضلاعي. قُذِفَ بي في السجن كما تُرمى الهرة في البئر أو كما يُخبَط الحجر فيتدحرج إلى الهاوية. وقد حاولت أن أعرفَ ما الذي دعا إلى سجني وأنا رجل قد كفيتُ الناسَ كلَّ أمري فلم أستطِع أن أهتدي إلى شيء؛ لأن السَّجَّانَ الفظَّ كان يأبى أن يكلِّمَني، وكنت لا أرى سواه إلا بعض رفاقٍ كانوا مثلي لا يعرفون لهم جريمة.
وبقيت كذلك إلى أن أحسست يومًا على جدارٍ حجري حسًّا، فنظرت حولي ورفعت رأسي فإذا وجهٌ يطلُّ عليَّ من بين القضبان، فبرَّقت فيه لأعرفه فلم يسعفني الضوء الضئيل، ثمَّ رأيته يفتح فمه الأهتم ويهمس يناديني، فصعَّدت بصري فيه حتى بلغت رأسه الأصلع وصِحت فرحًا: «طوطاط!» فهزَّ رأسه وهو صامت، وكان يحاول في مشقةٍ أن يلفَّ ذراعه اليمنى حول القضبان ليتعلق بها، ثمَّ رمى إليَّ حزمةً بيده اليسرى وقال هامسًا: «كيف حالك؟ تشجَّع!»
فصحت به: «قل لي لِمَ جيء بي إلى هنا.»
فقال متأثِّرًا: «ألم أقُل لك؟ إنك لا تسمع النُّصح. كيف تجرَّأت على تزوير القدور؟»
وعند ذلك ثقُل جسمه على ذراعه فاختلَّ تماسكه ووثب إلى الأرض بعد أن قال لي: «تصبَّر.»
فعُدْت إلى وحدتي حزينًا أفكِّر فيما مضى بي من أيامي في جانبولاد، وأقبلت على نفسي ألومها على الخروج من الوطن، ولاحت لي ماهوش عند ذلك جنةَ نعيم. حقًّا لقد خرجت منها حانقًا لأنني لم أجد بها مكانًا، ولكني كنت أتكلم فيها، وكنت أضحك وكنت أسخر، وما كنت أرى فيها أحدًا خيرًا مني. بل لقد ذهبت يومًا لأسطو عامدًا على أموال الناس لآخذ حقي من أرزاق ماهوش غصبًا، وعُدْت أحمل ما أخذته عن رضًا. أيها الوطن العزيز، كنتُ أجدُ فيك الحب فجحدتُ نعمتَك، وها أنا ذا أذوق عقوبة الجحود. لقد كاد قاضي جانبولاد يحدني في جُرمٍ لم أرتكبه، ولولا أنني لبست ملابسه لأصابني العذاب والعار. ثمَّ أغلق تيمور مدرستي مُدَّعيًا بأنني أذيع فيها الفساد وأتَّخذها مسرحًا للهو، وهذا هو يلقي بي في السجن لأنني زوَّرت القدور. أي قدور هذه التي زوَّرتها! إن الطغاة لا تُعوِزهم الحجج إذا شاءوا التماسها. ويا ليتهم إذ أرادوا البطش اتجهوا إليه كما يتجه الضبع إلى فريسته مكشِّرًا صريحًا لا يعرف مواربة ولا رياء. ليتهم يفعلون ذلك فيبلغوا العذر؛ لأن هذا هو قانون الغابة، ولا بأس فيه على القوي إذا سطا بالضعيف. ولكنهم يأبَون إلا أن يتستروا وراء ما يقيمونه من القواعد ويسمُّون ذلك عدلًا.
ذكرتُ ما كان من حوادث الأيام الماضية، وأيقنت أن القدور كانت سببَ بليتي، فإنني ما كدت أضع العَلَم فوق بيتي حتى رأيت الناس يجتمعون حوله منذ الصباح وينظرون إليه متهامسين، فحسِبت أنهم يعجبون بلونه ورشاقة خفقاته. ثمَّ أتى الليل فجاء إليَّ رجلٌ من هؤلاء أصحاب الريش، فأخذ يسألني عن عَلَمي وعن قِدْري، وزعم أنه لا بدَّ له من الاطِّلاع عليها حتى يختمها بنفسه. هكذا زعم، وقال لي إن أعلام جانبولاد لا تُرفَع إلا إذا ختم القدور بيده، وتحقَّق من أنها مملوءة. فذهبت معه إلى القِدْر ففضَّ ختامها ودسَّ يده فيها، فصِحتُ به حانقًا: «ماذا تفعل؟» ولكنه كان قد سبق صيحتي وأخرج يده من القِدْر مملوءة بالحصى. فنظر إليَّ ضاحكًا وقال لي: «ما هذا؟» فلم أجد بُدًّا من أن أشرح له الأمرَ كلَّه، وهو يهزُّ رأسه حتى فرغتُ من قولي بعد أن أوضحت له كلَّ ما قد يبهم عليه. فذهب عني صامتًا بعد أن نظر نحوي نظرةً عجيبة. فلم أعبأ بنظرته لما علمته من غرابة أطوار أصحاب الريش، وعُدت إلى غرفتي لأهيئ عشائي، وما كدتُ أفعل حتى جاءني جماعة من الشُّرَط يأمرونني أن أسير معهم، ولم تُجْدِني فيهم مساءلة ولا مدافعة، فقادوني إلى هذا السجن بغير أن يتكلموا كلمة واحدة.
ومرَّت بي الأيام بسجني في بطء، لا يقطع ظلامَها إلا شعاعٌ ضئيل من النجوم الوامضة الباردة، التي لا تفتأ تحدِّث حديث الأجيال الفانية. ولم يكن أحدٌ يقطع عليَّ وحشةَ الوحدة إلا صورة «نجوى» التي كانت تلازمني، ثمَّ صاحبي «طوطاط»؛ إذ يتسلق الجدار من خارج، ويتعلق بالقضبان حينًا ويهمس لي بكلمات قصيرة، وكان في كل مرة يرمي إليَّ ربطةً فيها ما يتفق له من طعام أو ملبس، وكان أحيانًا يطرفني ببعض الفاكهة أو الحلوى، فكانت إلمامته القصيرة تبعث في قلبي أُنسًا يقيم فيه أيَّامًا؛ جزاه الله من صاحب كريم.
وكانت آخر مرة جاء فيها طوطاط لزيارتي في ليلة من رمضان، وكنت أستعد للصلاة قبل الإفطار، فقذف إليَّ ربطته قائلًا: هي سنبوذجة لسحورك، صنعتُها بيدي.
فخفق قلبي عندما تذكَّرت طعامه الذي صنعه بيده على جانب الغابة، فما كان أشهاه من طعام، كان القمر يضيء الفضاء، وكان هواء الربيع طلقًا لا يشبه في شيء هواء سجني. وهممت بأن أشكره على برِّه وكرمه، ولكنه قاطعني هامسًا: «تشجَّع، إن تيمور قد ذكرك.»
فصحتُ به: «ذكرني؟ وهل كان ذكره إيَّاي إلا شؤمًا؟»
فهمس قائلًا: «هذا شيء آخر، كنت عند ذلك طليقًا حُرًّا.»
فصحتُ: «ألا يكون شؤمه إلا على الأحرار؟»
فهمس في رعب: «صه! ألجم ذلك اللسان. اسمع، نسيت أن أخبرك أن لك رسالةً مع السنبوذجة. خطاب. أسمعت؟»
ثمَّ قهقه وقال: «لقد صِرتُ لك عامل بريد.»
فاضطرب جسمه في ضحكه وثقُل على ذراعه فخلَّصها من بين القضبان ووثب إلى الأرض.
فأسرعتُ إلى الربطة ففككتها وتلمست الرسالة من طيَّاتها، ولكني تذكَّرت الظلام، فألقيت بها حانقًا، وقضيت الليلة مفكِّرًا مهمومًا لم أذُق طعامًا، وكانت همومي لا تفارقني إلا إذا قمت للصلاة. كانت الأفكار تشرد بي دائمًا إلى جانب الغابة، فأذكر ما رأيت فيها وما سمعت، وتمثَّلت لي قوانين الإنسان في مجتمعاته أشدَّ قسوة من القانون الطليق الذي يسري في الغابة. وبدا لي في ظلمة سجني أن قانون الأُسود والفهود أقربُ إلى الرحمة من تلك القيود التي يضعها تيمور؛ فالأسد لا يقتل لأنه يحب القتل بل لأنه يريد أن يُشبِع جوعه. وليس في قانون الغابة مثل هذه السجون المظلمة التي يزيد عذابها على عذاب ساعةٍ تعانيها الفريسة قبل أن تنزلق إلى بطن الوحش المفترس.
هكذا قضيت الليلة في تفكيري الحانق حتى طلع الصباح، وكنت أترقَّب دخول الشعاع الضئيل من النور لكي أستطيع أن أقرأ الرسالة. فما كدت أتبيَّن الحروف حتى أقبلت عليها أقرؤها مع ما أصاب عيني من الألم في قراءتها على النور الضئيل. ولكني لا أذكر سرورًا كان أعظم عندي في يومٍ من أيام حياتي مما أحسسته بعد أن مضيت في قراءتها. لقد تحرَّك المساكين الذين كنت أعلِّمهم وأواسيهم؛ تحرَّكوا من أجلي وعزموا على النزوح من جانبولاد. هكذا أخبرني صديقي كمال الدين في رسالته — جزاه الله خيرًا. ولم ينسَ أن يبعثَ إليَّ في خطابه تحيةً من أخته الصالحة. كتبت نجوى إليَّ تحيَّتها تشدُّ من عزيمتي وتدعو لي بالفرج القريب. إنني لم أزل منذ حللت في ذلك السجن أراها أمام عيني، ولكن أفكاري السوداء كانت تجعل لصورتها إطارًا من الأحزان والآلام. أما صورتها التي ملأت قلبي عندما قرأت تحيتها فقد كان إطارها من السلام والسعادة.
دبَّ الأمل إلى قلبي وصار يرفِّه عني أثرَ ضيق السجن وظلامه. وما أكرم مساكين جانبولاد! ليس لبلدٍ أملٌ في الحياة إذا فقد مساكينه؛ فهم الأيدي وهم الأرجل وهم القلوب والأحشاء. لا قوام لأمةٍ بدونهم، ولن يستقيم أمرُ أمة إلا إذا ساوت بين رأسها وبين سائر أعضائها فيما يجب لكلٍّ منها من الرعاية والحرمة والكرامة.
ولكن الطغيان أعمى، ولا سبيل إلى فتح عينيه إلا بأن يُظهره المساكين على أنه لا حياة له من غيرهم. يستطيع المساكين أن يعيشوا في الأرض الفسيحة؛ فإن عندهم الأيدي والأرجل تعمل وتسعى، وهم يجدون وطنًا حيث يحلُّون لأنهم في كل وطن يخدمون، ولن يضرهم أن تزولَ الحروب بين الأمم وأن تكون بلاد الله كلها للإنسان.
لم أشكَّ في أن تيمور قد فزِع واضطرب من هؤلاء المساكين الذين أرادوا الخروج من جانبولاد. أيها الأشقياء، لو اطَّلعتم على ما في قلوب الطغاة وهم يدوسونكم بأقدامهم لسرَّكم ما تطَّلعون عليه. إنهم يخشونكم وأنتم صرعى، ويعرفون ضَعفَكم وقوَّتكم.
ولقد صدق ظني فيما ذهب إليه، فما أتى عصرُ ذلك اليوم حتى سمعت السجَّان يعالج فتح باب جحري، ثمَّ سمعت صراخ المصراعين وهما ينفرجان، ثمَّ رأيت ذَنَب السيد الذي انحنى وهو داخل من الباب المطأطئ. كان الذَّنَب يضطرب فوق قلنسوةٍ حريرية صفراء عندما فُتح الباب. ولما دخل الذَّنَب دخل وراءه السيد، وكان مثل الببغاء كسائر أصحابه، حتى كدتُ أقهقه من رؤيته، ولكني أمسكت نفسي ونظرت إليه صامتًا.
فنظر إليَّ مبتسمًا وقال بعد أن حيَّا: «أنت رجل طيب؛ هكذا يقول الناس عنك. وليس السجن بالمقام اللائق بك.» ثمَّ نظر حوله مشمئزًّا.
فقلت له: «لا شك فيما تقوله أيها السيد، إنني أحب السيرَ في ضوء الشمس والتنفس من الهواء الطلق، وأحب أن أذهبَ حيث شئت، وأتكلم مع مَن أحببت، وأقول ما يدور في نفسي إذا أردت. أحب كل ذلك وأحسُّ تلك الجدران التي أقيم بينها تكاد تنطبق عليَّ وتزهق أنفاسي بركود هوائها وظلمتها.»
فهزَّ رأسه موافقًا وقال: «وإذن فأنت ترى مصلحتك في التخلُّص منها.»
فصحتُ: «مصلحتي! إنما هو حقي.»
فقال الرجل متراجعًا: «حقك! ليس من حقك أن تسير الأمور حسب أهوائك.»
فقلت في حنق: «بل أقول إنه حقي، وليس لأحد أن يسلبَني إياه.» فاحمرَّ وجهه ونظر إليَّ نظرةً بشعةً وقال: «أهذا ما تعلمته في سجنك؟»
فقلت مبتسمًا: «نعم، تعلمت من السجن أشياءَ كثيرة.»
فقال ساخرًا: «تعلمتَ مثلًا أن توجِّه ألفاظًا جافيةً إلى مَن جاء يحسن إليك.»
فأخذ الغضب مني مأخذه وصحتُ به: «تُحسن إليَّ! إنني لا أقبل منك إحسانًا. إن من حقي أن أكون حُرًّا، ولو كنت مجرمًا لما كان هذا السجن عقابًا جديرًا بإنسانيتي. اقطع يد السارق واتركه حُرًّا، واقتل القاتل ودع روحه حرة. إن الحريةَ أثمنُ من اليد ومن الجسد كلِّه.»
فنظر إليَّ صامتًا والدهشة تعقل لسانه، ثمَّ حاول أن يهدئ نفسه وقال: «دعنا من هذا القول الحانق، كن هادئًا وافهم فيمَ أتيت إليك.»
فقلت له هادئًا: «ها أنا ذا تراني هادئًا. ولكني أنطق بالحق. قد علَّمني السجن ألا أمانع نفسي من قولِ كلمةٍ أراها حقًّا. كنت أحيانًا أتردَّد في قولها من خوف هذا السجن، فلما دخلته وتحمَّلت ضيقه، وجدتُ أن كلَّ ما فيه من عذاب وألم أقلُّ قسوة من الشقاء الذي يسببه الامتناع عن قول الحق.»
فقال الرجل متكلِّفًا العطف: «لسنا نخشى الحق، قُل ما شئت من الحق الصحيح.»
فضحكت مقهقهًا، وكانت تلك فلتةً لُمت نفسي عليها، ولكني لم أقدر على الامتناع منها، ثمَّ قلت: «هناك إذن حق صحيح وآخر غير صحيح؟ إنما أعرف الحق واحدًا، فإذا لم يكنه كان باطلًا.»
فتحرَّك الرجل في قلق، ولكنه تكلَّف الهدوء وقال باسمًا: «قله إذن، قل الحق.»
فقلت مسرعًا: «لقد قلت ما ثار في نفسي، وهذا حسبي الآن.»
فقال في عطف متكلَّف: «أنت مخطئ في تقديرك كلِّه. لستَ من هؤلاء الأغرار الذين يليق بهم أن يخطئوا وأن يُعاقبوا؛ فأنت رجلٌ عالِم، لستَ من السوقة الرعاع.»
فقلت مندفعًا: «السوقة الرعاع؟ مَن هؤلاء؟ لا أعرف سوقةً ولا رعاعًا إلا هؤلاء الذين يملئون الأرض فسادًا. وأمَّا رجل الحقل الذي يلوِّث يديه بالطين ويسير عاري القدمين ممزَّق الثياب، ويذهب آخِرَ اليوم إلى أهله بحزمةٍ من الفجل ورغيفين؛ أما هذا فرجلٌ وهبَ نفسه للعمل ووهب ماله إلى الآخرين. فإذا كان من السوقة الرعاع فما أحب إليَّ أن أكون منهم.»
فقال السيد متأفِّفًا: «أوه! أقصد أنك رجل عاقل لا ترضى بالفوضى.»
فقلت: «لست أرضى الفوضى لبلدٍ من بلاد الله.»
فقال مرتاحًا: «إذن قد اتفقنا. وأنا آتٍ إليك موفَدًا من مولاي تيمور العظيم، إنه يمد يده إليك.»
فصحتُ في دهشة: «أنا؟ يمدُّ يده إليَّ أنا؟ أنا هنا أسيرٌ، ويد الأسير مغلولة.»
فقال معاتبًا: «أنت تتجنَّى، هذا كرمٌ لا ترفضه.»
فقلت وأنا أغص بريقي: «كرم؟ ما الذي حمله على القذف بي إلى هنا؟ أليس هذا بغيًا؟ وهل إزالة البغي تَكرُّم؟»
فصاح في حنق: «أنت تصدُّني وتمعن في جرح كرامتي، وتستهين باسم مولاي.»
فقلت له هادئًا: «لست أفهم.»
فتحرَّك ضجِرًا وقال: «إذن أنت ترفض السلام.»
فقلت: «الذي يريد السلام لا يستشير فيه.»
فصاح وقد نفد صبره: «هذا تعنُّت، هذا عناد.»
فقلت وقلبي يدمى: «أنا هنا في سجني كأنني لست شيئًا. لقد سلبتم حقي في الحياة حُرًّا وأنتم أصحاب الحول والقوة، ردُّوا عليَّ حريتي فهذا حقي.»
فقال وقد ثار: «لقد علمت أنك لا تجيب إلى السلام، فلتتحمل العقبى.» فلم أتمالك أن قهقهت مرة أخرى وقلت: «تهددني؟ وماذا يأخذ الريح من البلاط؟»
فجعل الرجل يشتم ويهدر بألفاظٍ لم أفهم معناها، وكان منظره مسليًا، فوقفت أنظر إليه حتى سكن، ثمَّ قلت له: «إذا كانت الحقيقة تغضبك، فما ذلك من ذنبي.»
فأخذ يرعد ويبرق وقبض يده فرفعها نحوي صائحًا: «اخرس!»
فنظرت إليه هادئًا ولا أزال أضحك وقلت: «أهكذا تخشى لساني؟»
فدفعني دفعةَ غيظ كدتُ أقع منها، ولكني لم أشأ أن يخرج بغير أن أُسمِعه آخِرَ كلماتي، فقلت: «ستقف معي أنت وسيدك وجهًا لوجه أمام الأبد. ستقفان وجهًا لوجهٍ أمامي والعار يقطر من وجهيكما، وتتردَّد أصداء هذا الحديث جيلًا بعد جيل إلى يوم القيامة. وستشهد الأجيال قوَّتي وضعفَكم، وثباتي وهروبَكم، وحقي وظلمَكم. وليس فوق الظلم ما يمكن أن يُسبَّ به صاحب السلطان.»
فصاح الرجل صياحًا عاليًا لم أفهم منه لفظًا، وخرج يخبط الأرض في عنف، ثمَّ تضاءلت أصداء خطواته في السراديب بعد حين، وعاد السكون العميق. ثمَّ أتى السجَّان إلى حجرتي فأعاد المصراعين إلى إغلاقهما، وكان الليل قد أخذ يرخي سدوله، واختفى الشعاع الضئيل من الضوء وأقبل عليَّ الظلام الكثيف يلفُّ ما حولي، ولكن قلبي كان يشتعل ويضيء. وقمت أصلي لله شكرًا؛ فقد نصرني في سجني على تيمور وجبروته.