الفصل الثاني
هكذا يسقط الإنسانُ من السماء إلى القرار السحيق فجأةً. فقد بلغتُ داري ورأيتُ امرأتي ريمة أمامي. وما رأيتها يومًا إلا وقع في نفسي أن صاعقةً تريد أن تنقضَّ عليَّ، أو أن الأرض تريد أن تنهار من تحتي، أو أن الدنيا شعلةٌ من النار، أو أن نورها قد انطفأ ولفَّها الظلام. أين هذه الزوجةُ من علية التي فُجِعتُ فيها؟ المسكينة علية! أهي قد ماتت حقًّا؟ أم إنها هي التي رأيتُها في الهودج والموكب العظيم يحرسُها؟ وماذا يعنيني إذا كانت هي هذه أو تلك؟ فإنما تصاحبني صورةٌ في قلبي لا تتغير ولا تتبدَّل. وسواء عليَّ أكانت الصورة ذلك الجسد أو ذاك. أين ريمة امرأتي من تلك الصورة؛ صورة علية أو صورة ابنة السلطان، أو هي صورة علية ابنة السلطان في آنٍ؟ إن ريمة امرأتي لا تَدَع فرصةً إلا انتهزتها لتنكيد عيشي وتسويد أيامي؛ فلا أراها إلا مخالفةً مُعاندة، لا يعرف السلامُ سبيلًا إلى قلبها. ما قلتُ لها يومًا: «هذا شرقٌ»، إلا كان جوابها: «بل هو غرب.» وإذا قلت: «هذا أبيض.» قالت: «بل هذا أسود، أليس لك عينان؟» وقد أقول لها يومًا مُخادِعًا: «هذا يومٌ سعيد إذ أصطبح على وجهك.» وأحسب أني بذلك أداهنها وأسُلُّ خبثَها، فتأبى إلا أن تجيب: «أما إنه ليومٌ أغبرُ منحوس.» وهي تخالفني في كل شيء وفي كل معنًى؛ فأنا رجل نحيف الجسم، وهي مثل فَرس البحر كأنها تأكل مع عميان، وأنا خفيض الصوت، وهي إذا نطقت كأن في حلقها بوقًا، وأنا أحبُّ الصمت، وهي تتكلم بلسانٍ ذي ثلاثِ شُعَب، وأنا أحبُّ النور، وهي تهوى الظلام، فإذا فتحتُ نافذةً أغلقتها، وإذا أوقدتُ مصباحًا أطفأتْه، وإذا سكتُّ ثرثرت، وإذا تكلَّمتُ التوت عني فما تنطِق.
وهي فوق هذا كلِّه تتعمَّد أن تكون الحياةُ على غيرِ ما أرضى، وتتعمَّد أن تحبَّ كلَّ ما أكره، وتكره كلَّ ما أحب.
كنت عائدًا إلى بيتي بعد صلاة العصر، فمررت بحانوتِ فاكهاني، ورأيت عنده برتقالًا كأنَّ لونه من الذهب، وكأن رائحته عطرُ المسك، وكانت الواحدة منه مثلَ الرمانة الكبيرة. فحدَّثت نفسي أن أشتري منه لأولادي، ومددت يدي إلى جيبي فلم أجد درهمًا. فسِرتُ في طريقي أحدِّثُ نفسي بذلك البرتقال، ولو كان معي دراهم لاشتريت منه بعشرة. ولما بلغتُ الدار كان همي عظيمًا؛ إذ دخلتُ إلى عيالي بغير تلك الفاكهةِ الحلوة، وأردت أن أخفِّف من ثِقَل الهم على نفسي فقلت لامرأتي: لقد رأيت اليوم برتقالًا لم أرَ مثلَه في حياتي.
فأجابت في فتور: وأين نحن من البرتقال؟
ثمَّ تنهدتْ.
فقلت: وكنت أحبُّ لو اشتريت منه بعشرة دراهم، لولا أنني لم أجدها في جيبي.
فصاحت في غضب: عشرة دراهم؟ أكنت تريد أن تبدِّدَ دراهم عشرة في شراء برتقال؟
فقلت: أما إنه لبرتقالٌ عجيب.
وشرعتُ أصِفُ لها لونه وريحه وحجمه، ولكنها صاحت بي: لقد عرفتُ أنك أحمق الرجال.
فغضبتُ وقلت لها: وما ضرك لو تفكَّه الأطفال مرة؟
فأخذت تصيح بي وتسبُّني حتى جاء أبو النور من بيته على صياحها، وأقبلتُ عليه أقصُّ عليه القصة، وكانت امرأتي تقاطعني وتسفِّه رأيي. فأراد الرجل الطيب أن يطفئ نيرانها، فقال لي يلومني: الحق مع امرأتك؛ فإن عشرة دراهم لا تُبذَل في شراء البرتقال لأمثالنا.
ثمَّ أراد إرضائي فقال: أما كان يكفيك أن تشتري بخمسة دراهم؟
فأردتُ أن أهدِّئ المرأة فقلت: لا بأس يا صديقي، كانت الخمسة تكفي، ولن أردَّ لك قولًا.
فخجلتْ ريمة من عنْفها، وانتهزتِ الفرصةَ لترجع عن عنادها وقالت تخاطب صديقي: قلْ له يا أبا النور، أما كانت الخمسة تكفي؟
فقال لها أبو النور: صدقتِ، وقد اتفقنا جميعًا.
وهكذا سكنتِ العاصفة، ولكنها سكنتْ لكي تهبَّ مرةً أخرى أشدَّ عنفًا؛ ففي ذلك اليوم جاء وقتُ العَشاء ورأيتها تَقلي بيضًا، وأنا أحبُّ البيض المقلي إذا كان الزُّبد جديدًا. فقلت في نفسي لعلها تريد أن ترضيني وتستسمحني بعد ما كان منها، وكدتُ ألوم نفسي على غلظتي في مخالفتها. فلما أعدَّت السُّفرة ودَعتِ الأولادَ للعَشاء نظرت إليَّ في خبثٍ، ثمَّ مدَّت يدها إلى علبةٍ فيها بهار وفلفل، وأهوت على طبق البيض حتى طمسته، فصار لونُه أغبرَ كريهًا.
وهي تعلم كراهتي للأفاويه، فلستُ أطيق حرقتَها ولا أقوى على حرارتها؛ بل إني لا أحب ريحها وأكره النظر إليها، وأعتقد أن الله لم يخلقها لخيرٍ أبدًا، وأنه لا يبارك في زراعتها ولا في تجارتها، وأن الأرض التي تنبتها لن تصيب إلا الذل، وأن القوافل التي تحملها لا يبارك الله في دابتِها.
فلما أردتُ أن أردَّها عن خبثها قلت لها: إن هذا البهار يحرق حلوق الأطفال.
وبدأتُ أزيحه بلقمةٍ عن وجه البيض، فصاحت بي قائلةً: قلتُ لك دعه، فلا طعم لهذا البيض إلا بفضله.
فصحت قائلًا: أما تشفقين على هؤلاء الصغار؟
وأشرت إلى الأطفال وكانوا يأكلون ولا يبالون شيئًا.
فضحكت ساخرة وقالت في قسوةٍ بالغةٍ: دعِ الأطفال، فما تشفق إلا على حلْقِك.
فلم أجد بُدًّا من القيام وأنا أغلي غيظًا.
هذه هي ريمة امرأتي التي سوَّدت أيامي؛ فلم يكن لي من حيلةٍ إلا أن أخرج إلى فناء البيت لأبترد في هواء الليل من همي. وكان ضوء القمر يلفُّ الأرض في غلالةٍ رقيقة فيجلو أرجاءها في رفق، لا يقسو عليها ولا يتدسس إلى خفاياها. هناك يستطيع الإنسان أن يهيم في عوالم الآفاق والسموات في النور الخافت، فيرى في شعاعه الضئيل رقْص الجان وعربدة العفاريت ومحاورة الأشباح، وزيارة الأرواح؛ إذ تهبط كلُّها إلى الأرض تحت أضواء القمر، وتعبث وتنساب في الأفق الغامض آمنة من النور الباهر الفاضح. وفي ذلك الليل الساجي رقدتُ مستلقيًا على ظهري ناظرًا إلى الفضاء الذي لا نهايةَ له، فكأنني انمحيت فيه وفنيت، أو كأن الوجود كلَّه قد انمحى وفنيَ فيَّ، فلم يبقَ من الوجود إلا ما بين جنبي، أو لم يبقَ مني إلا هذا الوجود الصافي.
ورأيت النجومَ الصغيرة تومض بشعاعها الضئيل وكأنها ترسل حديثها الصامت من وراء الفضاء في جوف العماء، تُحدِّث بأسرار الكون الأزلي وتخبر عن سِيَر القرون الخوالي حديثًا قصيرًا لا يزيد على لفظ «كانوا». فإذا ما سألتُها عما وراءها وما يحيط بها، وعن حقيقتها وهل بها أحياء مثلي أم فيها ملائكة لا تعرف هموم الإنسان، وإذا سألتُها عن الكرسي الأعظم الذي يسَعُها، لم أجد منها جوابًا إلا لمعة تلمعها كأنها تجيب قائلةً: «اخسأ.» فلا يسعني إلا أن أقول: «أيها العقل، قف مكانك ولا تُقلِق هذا الكون السرمدي بثرثرتك.» وطرقتْ أذني أصواتٌ منبعثة من الساقية الصغيرة التي في فِناء داري، فتذكرتُ ذلك الفِناء الذي كان في أيام أبي بُستانًا يانِعًا. لشد ما تغيَّر البستان على يديَّ، فأنا لا أُصلِح شيئًا ولا أَصلُح لشيء. كانت هذه الساقية تدور كما تدور الآن، وكانت ترفع الماء من قرار البئر فتروي به الشجر والزهر، ولكنها عَقَمَت فهي الآن لا تُخرِج ماء. أيها الثور الناعس المستسلم امضِ في دورانك فليس كله عبثًا، أليس هذا الصوت الذي يَدوِي في سكون الليل لحنًا يحيي هذا الفضاء الرهيب؟ ماذا يعنيك إذا كانت الساقية ترفع ماء يروي النبات أو لا ترفع من الماء شيئًا؟ حسبك من الدوران هذا النَّعير الذي يتردَّد في سكون الليل فيُكسِبه جلالًا ويملؤه خشوعًا، حسبك هذا الغناء الذي يشبه الترتيل والتسبيح، ولا تكن أيها الثورُ أحمقَ مثل هذا الإنسان الذي لا يتحرَّك إلا لمطمعٍ في الحياة، إنك لن تصيب من الحياة إلا ملء مِذْوَدك من التبن أو الحشيش. كان كلُّ شيءٍ هادئٍ في ذلك الليل يبعث على السلام والسمو، فأحسست وأنا مستلقٍ على أرض الفِناء الواسع أن بالحياة أنغامًا متناسقة، ونسيت كلَّ ما مرَّ بي من الهم. الحياة حلوة لمن استطاع أن يكشف ما فيها من حلاوة، ولو لم يكن فيها سوى أن تستلقي على ظهرك في ضوء القمر كما فعلتُ وتتأمل صور الكون الذي حولك أو التي في حنايا صدرك لكان هذا حسبك. هناك يستطيع الإنسان أن يجد السعادة في السلام الشامل.
وذهب خيالي إلى ابنة السلطان — أو هي علية ابنة السلطان. نعم هي علية؛ لأنني لم أعرف اسمها، ولا بأسَ عليَّ إذا مزجتُ اسم علية الحبيب بشخصها. وهناك استطعت أن أعيش حينًا معها لا تفرِّق بيني وبينها تلك الفوارق التي تحجبها عني إذا ما طلعت الشمس، هناك لم أشعر بقوة السلطان ولا عظمته، هناك عند السماك التقيت بعلية ابنة علاء الدين بعيدين عن الأرض الضيقة وجهلها وسخفها.
لقد سمع الناس عن حبي وضحكوا مني وسخروا، نعم سمعوا به وسمعوه مني، وهل عليَّ من بأس إذا جهرتُ بحبها وسمعت أصداء ترديدي لاسمها؟ إن كلَّ ما عندي كريم نبيل صريح، فقلت وتحدَّثت وسبَّحت، وسمع الناس قولي وسخروا مني. ولكن ماذا يعنيني منهم إذا هم سخروا وضحكوا، وقد أفضى صديقي أبو النور إليَّ بما يقولون، وعنَّفني على مجاهرتي بحبها، وقال إنِّي أعرِّض نفسي للهلاك إذا أنا تماديت في ذكرها.
يَعجب الناس مني، ويقولون إنِّي صعلوك أتطاول على مقامٍ لا ينبغي لي أن أتطاول إليه. حقًّا إنِّي فقير ولستُ أدَّعي الغِنى، وضعيف الجاه ولست أدَّعي القوة، ولكني مع ذلك أدرك ما يفوت عقول هؤلاء. إن الأسرار تتفتح لي وينابيع الآيات تتدفق في صدري، ولست أعبأ بشيءٍ مما يرغب الناس فيه، ولا أرهب مما يرهبون، فما الذي يمنعني أن أتطلع إلى ما أريد؟ وما الذي يلومني الناس فيه من حب علية ابنة علاء الدين؟ أيلومني الناس على أنني أسبِّح الله في حبها؟ لست أتطلع إلى شيءٍ غير صورتها، ولن يستطيع أحد أن يحجب عني العوالم التي أكشفها من تأمُّل حبها.
إنني أسمو بذلك الحب كما يسمو العابد في صلاته. وهل الحياة كلُّها جسد ومادة؟ إن روحي تهيم وتستطيع أن تقضي الأيام والليالي في الأفق الأعلى، تتغذَّى من ذلك الشجن الطاهر الذي يشملها، وتتصفى من ذلك الهيام الحار الذي يصهرها … يا علية ابنة علاء الدين!
لن أكفَّ عن التطلُّع إليكِ والتسبيح باسمك، والتماس الحياة العليا من محبتك، وإن لم تقع عيني عليك مرة أخرى.