الفصل العشرون
لم أنَم من الليل شيئًا بعد أن انصرف عني الرجلُ صاحبُ الذَّنَب، ولكني كنت مطمئن القلب مبتهجًا. فلما مضى الليل وأطلَّت عليَّ بوادر أشعة النهار الضئيلة من وراء قضبان سجني سمعت صرير المفتاح في باب حجرتي، ثمَّ رأيت الباب يُفتح ودخل منه السجَّان حاملًا في يده صرة. فتبسم في وجهي أول بسمة منذ رأيته، ثمَّ ألقَى إليَّ الصُّرَّة وقال: «هذه خلعة مولاي.» فنظرت إليه ولم أفهم ما يقصد من قوله، فأعاد كلماته وهو يزيد في ابتسامته اتِّساعًا وقال متلطِّفًا: «خلعة مولاي تيمور العظيم، لكي تلبسها ثمَّ تمضي إليه مع الأمير صاحب الذَّنَب الذي ينتظرك عند الباب.» فدار بي رأسي وحسِبت أنني في رؤيا، وتحرَّكت في موضعي ولمست بلاط الحجرة بيدي فوجدته باردًا قاسيًا كعهدي به، ثمَّ قمت ومشيت وتكلمت لأتأكد من أنني لست نائمًا، ثمَّ خررت لله ساجدًا. ولم أنظر إلى الصرَّة وتركتها ملقاة على الأرض، وخرجت أتلمس الطريق والسجَّان يرشدني كلما أخطأته حتى بلغت الباب، فرأيت صاحب الذَّنَب الذي كان عندي بالأمس واقفًا مقطِّب الوجه، فلم أنظر إليه وخرجت إلى الطريق بعد أن مكثت في سجني شهرين وعشرة أيام وساعتين. وهبَّت عليَّ نسائم الصباح الباردة؛ تلك النسائم الرطبة التي تحمل عطر الفضاء الفسيح ولا تلوِّثها جدران السجون. ووقفت حينًا أملأ صدري منها وأنظر إلى السماء الصافية اللامعة، وأنوار الصباح الرفيقة الباسمة، وامتلأت عيناي بالدمع. ثمَّ سِرت وقلبي يهتف بالشكر لله الذي له الأمر كلُّه، والذي يلطف في الخَطْب الجسيم، ويُنعِم بما لا يُحصى من الآلاء.
وسمعت الأميرَ صاحبَ الذَّنَب بعد حينٍ يناديني من ورائي: «إلى أين؟» فلم ألتفت إليه لأنني كنت منصرِفًا إلى تسبيح قلبي، فأسرع حتى صار إلى جانبي وأمسك بذراعي وقال معبسًا: «أما تعرف أن تيمور ينتظر؟» فرفعت بصري إليه، وكان رجلًا طوالًا، وقلت له مترفِّقًا: «أما تعفيني؟» فقال وهو يقلِّل من عبوسه: «وهل هو أمري حتى أعفيك؟ إنه أمر مولاي.» فتنبَّهت إلى نفسي وزالت دهشتي، فتمثَّلت لي حقيقة الحال، وعلمت أنني مطلوب إلى مجلس تيمور. وماذا كان تيمور يبغي مني؟ فتلطفت في القول وخاطبت الرجل خطابًا ليِّنًا، فقلت له: «إذا تكرَّمت عليَّ بساعة أذهب فيها إلى داري لأصلي، سألت الله لك العافية.» وما قلت ذلك حتى سمعت صوتًا يصرخ من ورائي يناديني باسمي، فالتفتُّ فإذا السجَّان يشتد مسرعًا نحوي وهو يحمل صُرَّة في يده. فوقفت حتى صار إلى جانبي ومد يده بالصرة قائلًا وهو يلهث: «أتريد أن تذهب إلى البادشاه بهذه الملابس؟» فنظرت إلى ملابسي التي كانت من قبلُ ملابسَ السيد القاضي، فرأيتها في الحق زرية لا تليق إلا أن تُلبسَ في السجون. فأخذت الصرة من السجَّان وشكرته على ما تكلَّف من المشقة، ثمَّ نظرت إلى الأمير الذي إلى جانبي فوجدته ينظر إليَّ باسمًا، فاستبشرت وتبسَّمت إليه مستعطفًا فقال: «لا بأس عليك أن تذهب إلى دارك ساعة، ثمَّ أحضرُ إليك لأسير بك إلى مولاي، فإنه يريد أن يراك في ساعة الغداء.» وكان هذا القول مدهشًا في الحقيقة، ولكني لم أقف لأندهش، بل أسرعت قاصدًا إلى دار صديقي كمال الدين، فما كان أشوقني إليه، وما كان أشوقني إلى طلعةِ أخته الصالحة المباركة «نجوى»، ما كان أشد شوقي إليها. فلما بلغت الدار طرقت الباب ووقفت أنتظر متلهِّفًا، فأبطأ عليَّ الجواب حينًا، ثمَّ سمعت صوتًا يسأل: «مَن هذا؟» وكان صوتًا حبيبًا، فقلت بصوتٍ متهدج: «أنا جحا.»
فسمعتُ صيحةً مكتومة، ثمَّ فُتح الباب وظهرت «نجوى» من ورائه تنظر باسمةً بعينيها الواسعتين وقالت في حماسة يغالبها الحياء: «مرحبًا بك!» ولمحتُ تحت جفنيها ماءً يترقرق.
ثمَّ احمرَّ وجهها، فأصبح مثلَ لون الوردة في الصباح إذا بللها الندى، فأسرعت أنفاسي ودقَّ قلبي ومددت يدي أصافحها، وغالبت نفسي التي كانت تدفعني إلى ضمها إلى صدري. ويعلم الله أن ذلك لم يكن من شوق هذه الأرض، بل كان رحمة ورقة في صفاء نور السماء. وقلت كلامًا وقالت كلامًا لا أذكر منهما شيئًا؛ إذ كنت أنطق بما لا أعي، وأعي ما لا أنطق به. ولما هدأت سألتها عن أخيها، فقالت إنه خرج في الصباح الباكر، ودعتني إلى الدخول. ولكني اعتذرت وشكرتها واستأذنتها في الذَّهاب وأنا أنازع نفسي نزاعًا شديدًا، فألحَّت عليَّ في الدخول لأستريح، وألحَّت معها خلجات قلبي، ولكني حرَّكت نفسي قسرًا ومضيت في سبيلي، ولم ألتفت إلى ورائي خوف أن تحملني رجلاي جريًا إلى الباب الذي لم يُغلَق بعد ذَهابي.
سِرتُ في طُرُق جانبولاد، وكان بصري كلما وقع على شيءٍ من بيوتها أو عطفة من عطفاتها رأيته باهر الحسن، كأنني لم أنظر إليه قطُّ، وخُيِّلَ إليَّ أنني أسيرُ في مساربِ جنانٍ خلع عليها ضوءُ الصباح ألوانًا فاتنة. وما زلت أهيم حتى بلغت قريبًا من داري، فقلت أذهب إليه لألبس خلعة تيمور، وجررت نفسي جرًّا لأنني كرهت جدران البيوت من أجل جدران سجني. ولكني لمحت عند باب بيتي شيئًا يشبه أن يكون جمعًا. فترددت وداخلني الوهم من أن يكون تيمور قد بدا له رأيٌ فبعث بعض جنده من ورائي ليعودوا بي إلى حيث كنت، وخطر لي أن أُطلِق ساقي للريح وأنجو من المدينة، ولكني آثرت أن أتحقَّقَ، فتقدَّمت في حذرٍ أتدارى في ظل البيوت. فلما قربت من الجمع لم ألمح فيه خيلًا ولا ريشًا، بل لاحت لي عمائمُ بيضاء وقفاطين فضفاضة، فاطمأننت وذهبت نحو الجمع ثابتًا حتى بلغت أوَّله، وملتُ أسأل أقرب الواقفين عن سر الزحام. فنظر إليَّ وما كاد يتبين وجهي حتى صاح صيحةَ فرح: «خواجه نصر الدين! جحا!» وإذا بالسيل الجارف يردِّد الصيحة، ويتدافع نحوي في ضجيجٍ وعجيج حتى أحاط بي، وجعل كلُّ مَن استطاع منهم أن يصل إلى يدي يقبِّلها، وكلُّ مَن يصل إلى ثيابي يمسح عليها كفَّه، ومال بعضهم نحو قدمي يلمسونها حتى كِدت أتزعزع وأسقط لولا أن الزحام لم يترك لي فسحة من فراغٍ أتزعزع به أو أسقط فيه. وبعد لأي انشق الزحام عن رجلٍ يجاهد في الوصول إليَّ حتى صار عندي وأخذني بين ذراعيه، وجعل يقبِّلُ كتفي وعنقي، وصِحت عندما رأيت وجهه: «صديقي!» فقال لي كمال الدين: «لم ندركك في السجن، ولم نجدك في المسجد فجئنا إلى هنا.» فقلت له: «لقد عرَّجتُ على بيتك …» وقبل أن أتمَّ كلامي علت صيحةٌ من الجمع الزاخر: «إلى المسجد!» ثمَّ وجدت نفسي أتحرَّك كما يتحرَّك العود على التيار القوي. ولما بلغنا المسجد صلينا ركعتين، ثمَّ جلست عند العمود الذي كنت من قَبلُ أجلس عنده. وما كان أشوقني إلى أن أعاود لذة أحاديثي! وفتح الله عليَّ بما شاء، ولا أدري كيف تحدثت؛ فقد كان الجَنَان يملي واللسان يهدر والقلب يجيش مليئًا. وما زلت في درسي لا أحسُّ للوقت مرًّا حتى أُذِّنَ للصلاة، فقمنا للجماعة والمسجد يضيق بمَن فيه. ثمَّ أردت الانصراف، فأخذت صُرَّة تيمور تحت إبطي وقمت أسير في مشقةٍ بين الجموع حتى بلغت الباب وهممت بالخروج فإذا بي أرى الأمير صاحب الذَّنَب يُقبِل عليَّ مترفِّقًا باسمًا ويسألني أن أذهب إلى مولاه.
فقلت له: «أنا متعب وبي حاجة إلى الإغفاء.»
فقال باسمًا: «إن مولاي ينتظرك على الغداء.»
فكدتُ أنصرف عنه بغير جواب لولا أن غمزني كمال الدين في ذراعي، ففهمت قصده وسرتُ إلى جانب الأمير، وسار كمال الدين عن يساري، وأبى الناسُ إلا أن يشيِّعوني حتى أبلغَ القصر، فساروا في موكبهم الصاخب يجهرون بذكر الله حتى بلغنا الساحة الفسيحة.
وأشار إليَّ الرسول أن أدخل. فنظرت إلى كمال الدين ثمَّ نظرت إلى الأمير وقلت له: «أما يدخل معي صديقي؟»
فقال الأمير وهو يحني ذَنَبه: «كما تشاء.» وتقدَّم راشدًا.
فنظرت إلى الأمير وإلى الصرة التي في يدي وقلت: «ولكني لم ألبس خلعة البادشاه.»
فقال وهو ضَجِر: «لا بأس عليك، فادخل في ثيابك.»
فلم أجد بُدًّا من الطاعة، وأعطيته الصرة قائلًا: «احفظ لي هذه معك.» فمدَّ يده كارهًا وأخذ الصرة وقال لي في شيءٍ من العنف: «هلمَّ إذن.» فأخذت بيد كمال الدين ثمَّ نظرت إلى الجمع فسلَّمت عليهم ودعوت لهم بالخير، وانطلقت في سبيلي إلى ما بين عُمُد القصر. وكانت دعوات الناس تشقُّ الفضاء وتلاحقني حتى دخلت، وشعرت برهبةٍ عندما رأيت مطالع الأبهاء، وفكَّرت فيما أنا صانع في حضرة العظماء، فما تعودتُ أن أجالسهم، وما كنت لأعرف كيف أحدِّثهم أو أؤاكلهم، ولم أجد مَن يرشدني غير صديقي كمال الدين. فهمست في أذنه: «كن إلى جانبي، فإذا رأيت مني خطأً فاجذب جُبَّتي.» فهزَّ رأسه منعمًا، وسِرنا حتى دخلنا البهو. وكان فيه خوان فسيح لا يدرك البصر مداه، ولا تحصر العين ما علاه: ألوان من زهر، وصِحاف من فضة وذهب، وأكواب من البلور، وفوط من الكتان الناصع، وطنافس من الصوف الوثير، وزينة أخرى لم أرَ مثلها ولا أعرف أسماءها، وكراسي كأنها رُصِّعَت بلؤلؤ عليها رجال كالتماثيل، يلمع فوقهم الحرير ويفوح من لحاهم العبير، وقد توسَّط تيمور الصدر في عمامةٍ ذات زخرفة وجوهر، وثياب وهَّاجة وحُلي متلألئة برَّاقة، وكان ينظر نحوي بعينه وجرحه، من تحت جبهةٍ ناتئة، وحاجبين مائلين صُعُدًا. وكانت لحيته سوداء خفيفة، وفمه أشدق يكاد اللعاب يسيل من جانبه، فوقفت أنظر إليه حينًا وأعجب من قدرة الله الذي جعل هذا سيِّدًا للناس. وجذبني كمال الدين من جُبَّتي، فالتفتُّ إليه فوجدته يومئ إليَّ أن أسير لأجلس حيث كان تيمور يشير. فذهبت إلى الكرسي الذي أشار إليه في جواره وجذبت كرسيًّا آخَر وأشرت إلى كمال الدين أن يجلس عليه. ولم أدرِ ما الذي حمل صاحبي على أن يجذبَ جُبَّتي عند ذلك، ولكنه جلس عندما أشار إليه تيمور، وقد كنت أتمثَّل تيمور كبعض النمور أو الفهود، له أنياب ومخالب وزئير وزمجرة، ولكني لم أجده في الحق إلا رجلًا أو نصف رجل، فلم ألبث أن حللت عقدة وجهي، وفككت حبسة لساني، ووجدت نفسي أكلِّمه كما أكلِّم الناس، بل لقد جعل يؤنسني بقوله، ووجدته يضحك أحيانًا، ويدرك من المعاني ألوانًا. ولست أنكر أنني لم ألبث أن نسيت حنقي عليه وسوء ظني به، وأقبلت عليه طيِّب النفس منشرحًا. وتلطَّف بي، فكان يمدُّ يده إليَّ بقِطَع مختارة من طُرَف الطعام، وكنت في الحق جائعًا، فوجدت في الأكل لذةً لم أعهدها ولم أعرفها. وكان حياله طبقٌ فيه فاكهة تأخذ العين بجمال منظرها، ولست أعرف لعلها كانت من بعض ما حُمِلَ إليه من أطراف الصين أو من غوطة دمشق، فمدَّ يده إليَّ بواحدةٍ كانت لها رائحةٌ لا يشبهها ريح المسك والعنبر، ولا يدانيها لون الورد الأنضر. فرفعتها لأمتِّعَ نفسي من شميمها، ثمَّ قضمت منها قضمةً كأنها الشهد في مذاقها، وكدت أقضم منها أخرى لولا أن جذبني كمال الدين من جُبَّتي، فأمسكت على مضضٍ، ونظرت نحوه بمؤخر عيني، فهمس لي قائلًا: «هدية الملوك لا تُؤكل …»
فعجبت من قوله؛ لأن الله إنما خلق هذه الفواكه اللذيذة لنأكلها ونشكره على جزيل نعمه، ولكني لم أجد حيلةً في نصيحة صاحبي؛ فهو أعلم بما كان ينبغي لي أن أفعلَ في مجالس الملوك. فوضعت الفاكهة في حجري وانصرفت إلى بقية طعامي، وشعرت بارتباكٍ كاد يفسد عليَّ غدائي. ولكن تيمور مدَّ يده إلى وَرِك ديك سمين فقدَّمها إليَّ وهو باسم، فأخذتها من يده وشكرته في أدب مقلِّدًا حركةَ مَن حولي في تحاياهم، ثمَّ أمسكت الوَرِك بيميني في سكون، ولم أستطِع أن أمدَّ يديَّ إلى شيءٍ آخر. فجذبني كمال الدين من جُبَّتي فالتفتُّ إليه مستفهِمًا، ولكني قبل أن أسمع همسته سمعت تيمور يسألني: «لمَ لا تأكل ما أعطيتك؟» فالتفتُّ إليه في أدبٍ وقلت معتذرًا: «أيها البادشاه، ما كانت هدايا الملوك لتُؤكَل، وهذا صديقي يجذبني من جُبَّتي.»
فضحك تيمور حتى بدت نواجذه، ومال على ظهره حتى اهتزَّت لحيته، وأغمضت عينه. وسمعت كمال الدين يهمس: «هذه وَرِك تُؤكل.» فرفعت بها يدي فأكلتها وأنا في حيرةٍ شديدةٍ لا أعرف ماذا يطلع به صاحبي عليَّ مع كل لقمة. ولكن تيمور تبسَّط في محادثتي، واشترك مَن حول المائدة في التلطُّف بي، حتى سُرِّي عني، وتركت النظر إلى مشورة صديقي، وأقبلت على المائدة آكل كما يريد الله للناس أن يأكلوا حتى امتلأت، وأمتعت نفسي بكل الطيبات. وقضيت عند تيمور بعد الغداء ساعاتٍ في شجون الحديث، كأنني لم أكن في صباح ذلك اليوم مُلقًى في سجنه.
أيتها الأقدار العجيبة!
وكان الشعراء عند الباب ينتظرون الدخول، فلما صلَّينا العصر أذِنَ لهم تيمور بالدخول وجلس في البهو الأعظم، وجلس الأمراء والأعيان مِن حوله في وقارٍ وقد وضعوا أيديهم على الصدور، وأمالوا رءوسهم على النحور، حتى مسَّت لحاهم أحزمتَهم الحريرية أو الذهبية. وأقبل الشعراء واحدًا بعد واحدٍ، وجعلوا يتغنَّون بالسيد الأعظم ويصفون جمال هيئته وشدة هيبته، وسيفه ورمحه، وقوة ساعده ورقة قلبه، وكان منظرهم في الحق مسليًا؛ إذ كانوا يتمايلون ويهتزُّون، وينظر كلٌّ منهم بمؤخر عينيه إلى الناس ليرى أثرَ قوله على الوجوه. مساكين هؤلاء! جعلت كلما سمعت من أحدهم معنًى أتأمله لأرى صدقه، فإذا سمعت وصف جمال تيمور نظرت إلى وجهه، وإذا سمعت وصف قوَّته صوَّبت بصري في جسمه وصعَّدته، وإذا سمعت وصف سيفه ورمحه التفتُّ إليه لأرى هل معه من ذلك آلة، فلم أجد من كل ذلك إلا كَذِبًا حتى فرغ الشعر، وهزَّ تيمور رأسه مرتاحًا، وأذِن للشعراء أن ينصرفوا، ثمَّ أشار إلى رجلٍ قائمٍ عند رأسه، فانصرف وراءهم، ولا أدري بِمَ أمره، أبعقابهم على الكذب أم بثوابهم على الرياء. ولأمثال تيمور حِرصٌ على مثل هذه الأقوال المنمَّقة والصور المخترَعة؛ فهي تستقر في العقول لا يزعزعها من بعدُ شيء، ومثل هذه الأقوال قد زيفت على الناس معنى العظمة، وأفسدت معنى الكرم والعدالة، وجعلت من العقلاء الأبرار عبيدًا في الأغلال. وليست هذه أول مرة رأيت فيها أثرَ الألفاظ في الناس؛ فقديمًا كان الإنسان أسيرها.
ومهما يكن من الأمر فقد جلست أتأمل ما كان، وأوازن بين المحاسن وأضدادها، ثمَّ تنبَّهت بعد حينٍ إلى جذبةٍ في جُبَّتي، فالتفتُّ فإذا كمال الدين يغمزُني بعينه مشيرًا نحو تيمور، فالتفتُّ إليه فوجدته يبسم ويقول: «لقد أبعدَتْك عَنَّا تأملاتك أيها الشيخ الجليل.»
ولمحت في مظهره ورنين صوته شيئًا كثيرًا من العطف حتى رققت له، ولُمت نفسي على سابق ظلمي إياه، وعراني ارتباكٌ فلم أستطِع جوابًا.
فقال لي متلطِّفًا: «كُنَّا نتحدث في أمرٍ نُحبُّ أن نسمع فيه رأيك.»
فقلت وقد سُرِّي عني: «فيمَ كان الحديث؟»
فقال: «كُنَّا نتمنَّى لو استطاع الإنسان أن يعرفَ حقيقة قدْره في أعين الناس.»
فقلت مبادرًا: «هذا شيء يسير، لقد عرفت قدْري في أعين الناس دائمًا.»
فقال باسمًا: «ولكني جرَّبت ذلك فلم أجده كما وجدته.»
فقلت له: «لعل الناس يخشونك، أمِّنْهم خوفك تعرفْ ما تشاء أن تعرفه.»
فضحك وقال في لهجة التحدي: «أتقدر أن تخبرني كم أساوي من المال؟»
فقلت ناظرًا إلى مَن حولي في ارتباك: «أظنُّ أن هؤلاء السادة أقدر مني على جواب مثل هذا السؤال.»
فقال ضاحكًا: «لم أجد عندهم ما يشفيني، قُل ولا تخشَ شيئًا.»
فنظرت إليه متردِّدًا، ثمَّ تجرَّأت وجعلت أفحصه ببصري وقلت: لا أظنُّك تساوي أقل من ألف دينار.
فضحك حتى استلقى على ظهره وضحك مَن معه وراءه، ثمَّ قال: إنك لم تبلغ في جوابك شيئًا. إن ملابسي وحدها تساوي ذلك المقدار من الدنانير.
فقلت وقد امتلأت سرورًا من صدق حدسي: «لقد صدق ظنِّي إذن. فما كنت أنظر في تقدير ثَمنك إلا إلى هذه الملابس.»
فعاد إلى الضحك حتى كاد نفَسه ينقطع، وضحك أصحابه مثله حتى لم يبقَ في المجلس أحدٌ لا يضحك غيري أنا وكمال الدين، ونحن ننظر إليهم ونتعجب مما يضحكهم.
وبعد حينٍ هدأ تيمور وظهر عليه النشاط وانشرح صدره، ثمَّ نظر إليَّ جادًّا وقال: «أيها الشيخ المبارك، إننا نحبُّ أن نسمع وعظك.» فوقعت كلمته عليَّ وقعًا ثقيلًا، وزادت حيرتي عندما نظرت حولي، ورأيت مَن كان هناك من حرسٍ وأتباعٍ ومن لِحًى شهباء وعمائم مكوَّرة بيضاء. فماذا كان لي أن أقول بين هؤلاء؟ وما خرجتُ من سجني لكي أعظ تيمور، ولعل تلك العظة تعيدني إلى ما كنت فيه من ظلام جحري. وترددت طويلًا وأطرقت حائرًا وكِدت أنطق معتذِرًا، ولكني لم أجد لنفسي عُذرًا، وسمعت تيمور يقول لي: «لقد سمعت عن ورعك وعلمك فأحببت أن أراك وأن أسمعك، فلا تحرمنا من بركة مواعظك.» فشعرت كأن روحًا جديدًا يسري في أعماق قلبي، ونسيت إشفاقي وخوفي، وقمت كأنني أنشط من عقال. فأحسست جذبةً في طرَف جُبَّتي، ولكني لم أبالِ صاحبي، وانطلقت أتكلم، فقلت ناظرًا إلى تيمور: «لا تصدِّق حرفًا واحدًا مما يقوله هؤلاء الذين يمدحونك؛ فإنهم إنما يبيعون لك سلعةً يعرفون أنك تحبها.»
وما نطقت بهذه الكلمات حتى رأيت الجمع ينتفض كأن نارًا لذعتهم، ورأيت لِحاهم تخفق، ونظروا إليَّ ثمَّ نظروا إلى تيمور ليروا ما هو صانع بي. ولكني لم أنظر إلى أحدٍ وقلت مستمرًّا: «وإذا أردت أن تسمع عِظةً فلا شيء يعظك خيرٌ من الحقيقة، فتأمل وفكِّر والتمسها. لقد خلقك الله كما خلق مَن قبلك، وكما هو خالق مَن بعدك، وجعل لك أيَّامًا على هذه الأرض لن تعيش أكثر منها. ولقد كنت قبل أن تُخلَق نسيًا منسيًّا، وستمضي بعد حينٍ وتذهب عن هذه الأرض لا تأخذ منها شيئًا، فلا تجعل هذه الأيام القصيرة تغطي على الحقيقة الخالدة، ولا تجعل هؤلاء الذين يمدحونك يسخرون من حكمتك. قد خلقك الله كما خلق هؤلاء الناس جميعًا، وجعل لكم الحياة ميدانًا وامتحانًا لكي تؤدُّوا الواجب الذي ألقاه جل وعلا على الإنسانية عندما خلقها منذ قال: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. وما عبادته إلا السعي إلى الكمال الذي قدَّره للخلق، وجعله قصد حياتهم. كان مِن قبلك ملوكٌ بلغوا من السلطان ما بلغت، ثمَّ أضلتهم الحياة فمضَوا عنها وصاروا نسيًا منسيًّا، فهم اليوم صِوَر وأسماء مجرَّدة معطَّلة من كل مجدٍ وهيبة، لا فرق فيها بين فرعون وبين العبد الذي كان يسجد عند قدميه، فالملوك الذين لم يخلفوا إلا آثار العسف والطغيان لم يكونوا أهلًا للإنسانية، بل كانت حياتهم على الأرض لعنةً لأنهم جحدوا الله الذي وهب لهم الحياة. كان المجد عند الطغاة أن يذلُّوا الأعزاء، وأن يسفكوا الدماء، وأن يجعلوا أهل الأرض عبيدًا ليتملَّقوا كبرياءهم وغرورهم. فلما مرَّت أيامهم ذهبوا بعد أن دمغهم اليقين، فعلموا ولاتَ حين عِلم أن كلَّ ما اضطربوا فيه لم يكن سوى غرور من الغرور، وليس فيه شيء سوى الغرور، وبقيت الأرض بعدهم باسمةً كأنها تسخر من جهالتهم العمياء.»
«لقد مررت يومًا بغابة، ورأيت فيها تنازع الحيوان والحشر، وهناك استطعت أن أدرك الرسالة السامية التي أعدَّها الله للإنسان، أن يعيشَ على قانون الرحمة والحب لا على القانون الطليق الذي يحكم الغابة. ولكني كلما تأملت بدا لي أن مِن بني الإنسان مَن يريدون أن يطفئوا نور الله، وأن يمسخوا الرسالة السامية ويعودوا إلى قانون الغابة طمعًا فيما يصيبونه من وراء ذلك من مجدٍ حيواني وحشي. وهؤلاء ليسوا سوى نكسةٍ من نكسات الحياة، وفلتة من فلتات أقدام الإنسانية في صعودها نحو العلا. الأرض لا تضيق بالناس جميعًا إذا أرادوا أن يعيشوا فيها لما أراد الله لهم، بل هي تتسع للجميع وتفتح ذراعيها للجميع، وتدعو الجميع إلى الحياة السعيدة. فهنيئًا لمن استطاع أن يكون من رسل الرحمة، ومن أكبر الإنسانية وأعظمها، فلم يسفك دماءها، ولم يدنِّس كرامتها، وسعى في تحقيق الخير، وأعان على تحقيق السعادة للجميع.»
ولما انتهيت إلى آخر قولي تنفَّست عميقًا وشعرت بأن حِملًا أُزيحَ عن كاهلي، ونظرت حولي حتى وقعت عيني على تيمور.
وما كان أشد عجبي إذ رأيته يبكي. نعم كان يبكي وهو مُطرِق والدموع تنحدر على لحيته. وكان الجمع كلُّه مُطرِقًا يشارك في البكاء، إلا صديقي كمال الدين فقد كان ينظر إليَّ مأخوذًا وصدره يعلو ويهبط في اضطراب. فلما رآني قد أمسكت قام نحوي ولم يعبأ بأحد، حتى صار أمامي وضمَّني إلى صدره، قائلًا في صوتٍ متهدج: «لقد عرفتُ أنك لن تخشى في الحق أحدًا، وأحمد الله إذ لم تطعني عندما جذبتك من جُبَّتك.»
ولما عزمت على الخروج بعد ذلك صافحني تيمور متأثِّرًا، وأمر لي بخلعة أخرى، فذهبت إلى داري عند الغروب بخلعتين كريمتين من البادشاه كأنني لم أكن عند شروق الشمس مُلقًى في سجنه، فسبحانك يا ألله!